|
الوطني ومأزق احتكار الوطنية - بقلم يوسف الجلال
|
هبوط اضراري
في مثل هذا اليوم (19 ديسمبر) من العام 1955م، انتصب النائب البرلماني عن دائرة نيالا الغربية "عبد الرحمن دبكة"، ممشوق القامة، عالي الهامة، ودفع بمقترح لإعلان الاستقلال من داخل البرلمان. وما هي إلا هنيهات تلا فيها مقترحه، حتى صدع النائب عن دائرة دار حامد غرب "مشاور جمعة سهل" بتأييده وتثنيته لمقترح "دبكة". فكان ذلك إيذانا بانعتاق السودان من براثن الاستعمار.
ذاك هو مشهد تأسيسي، انبنى عليه تحرر الوطن من ربقة المستعمر، بعد أن تآخى السودانيون في جلسة (19 ديسمبر) الشهيرة، وبعد أن ركلوا الخلافات السياسية والمفاهيمية وراء ظهورهم، ويمموا جميعهم ناحية هدف واحد نبيل، هو تحرير بلادهم. لكن ذلك التآخي سرعان ما شابته التصدعات، وطغت عليه الكثير من الخلافات، التي بدأت مع بزوغ الحرية والانعتاق. حتى أوشك الاستقلال الذي وصفه صانع الانعتاق الزعيم إسماعيل الأزهري بـ"صحن الصيني" أن يتهشّم. إذ تبدّل التخوين مكان المنافسة السياسية الشريفة. وتجاسر التشكيك في الآخر على الثقة التي كانت ديدن التكوينات السياسية التي تشكلّت مع فجر الاستقلال. ومضى الأمر لأبعد من ذلك، لدرجة أن الأحزاب أصبحت تكيد لبعضها بصورة مقززة، وأضحت تغالي في المكر السياسي، وتتعامى عن مصلحة الوطن إذا تقاطعت مع مصالحها. فكان أن انهار الاستقلال، إلى أن وصل المرحلة التي نحن فيها الآن، بحيث تراجع الإحساس بالوطنية، وتأخر الوطن نفسه إلى ما وراء الصفوف الخلفية للحزب الحاكم. فلم تعد "القومة" للوطن بل أصبحت "القومة" لـ"الوطني"، لجهة أن أكثرية قواعد المؤتمر الوطني الحزب الحاكم، لا تفرّق كثيراً بين الحزب والدولة، بعد أن ادغمت الوطن في "الوطني". وهذا بدورّه صعّد لغة التجريم والتخوين إلى مرحلة متقدمة.
الشاهد أن قادة الحزب الحاكم تباروا في استتفاه الأحزاب الأخرى، من خلال حرمانها من صكوك الوطنية التي اختصوا بها منسوبي حزبهم فقط. لهذا جنحت بعض التشكيلات الأخرى إلى عدم التفريق بين معارضة الوطن ومعارضة "الوطني"، تحت ذريعة أن قادة الحزب الحاكم اختزلوا الوطن في "الوطني". وقد يبدو هذا موقفاً مبرراً عند كثيرين، في ظل التشريد ولغة التخوين وإقصاء الآخر التي انتهجها المؤتمر الوطني تجاه المكونات السياسية الأخرى. فلو أن قادة الحزب الحاكم استغلوا رغائب القوى السياسية في تسوية الأزمة السودانية، لما وصلنا إلى هذه المرحلة المتأخرة من العداء والخصومة السياسية.
صحيح أن الأحزاب كلها مُدانة بدرجات متفاوتة، لكن من المنطقي أن يُقال عن المؤتمر الوطني الذي احتكر الحياة السياسية لربع قرن من الزمان، إن حظه في الإدانة مضاعفاً، لجهة أنه ظل يهدر الفرص الثمان، ويبدد السوانح العظيمة الساعية إلى وجود توافق وإجماع سوداني من أجل وضع حد للأزمة السودانية التي برزت طلائعها مع الاستقلال. وتحديداً بعد أن فرّطت النخبة السودانية في حالة الإجماع التي تأسس عليها الانعتاق من المستعمر. فلو اهتبل المثقفون تلك السانحة وتواضعوا على دستور دائم لحكم البلاد لما كنا قد وصنا إلى هذا الشتات والتشظي.
|
|
|
|
|
|