|
القسرية في كتاب نبوة محمد د.أمل الكردفاني
|
اطلعت على كتاب نبوة محمد ، وقرأته من الغلاف الى الغلاف ، وهو كتاب بذل فيه الباحث مجهوداً كبيراً للملمة المصادر وتجميعها وفق المنهج الوصفي ، ووضعها في قالب محكم ، ومحاولة تحليلها ، كما اتسم الكتاب بلغة عربية صحيحة ، تكشف عن ملكة الباحث للغته العربية كما هو الحال بالنسبة للغته الانجليزية . ورغم أنني لم أجد الكثير عما يمكنني قوله عن الكتاب فهو كتاب واضح في سرده منذ البداية وحتى النهاية ؛ إلا أنه قد لفتت انتباهي بعض الملاحظات: انطلق الكتاب من افتراض أولى مؤداه أن الإله الذي تتحدث عنه النبوة لم يحدثها وإنما النبوة هي التي أحدثت إلهها ، وهذا الذي أسماه الباحث افتراضاً هو في الواقع ما بني عليه الكتاب ، ولم يسع إلى تأكيده أو نفيه ، فهذه ليست فرضية ، فالفرضية تعني بالضرورة في منهج البحث أن منتهى الكتاب يجب أن يفضي إلى إثباتها أو نفيها ، وهذا ما لم يحدث ، بل انطلق الكتاب منها مما يحولها إلى مفهوم شرطي . فالافتراض هو أن نقول : س +ص= ك ، وعندما ننتهي من البحث إما أن نكتشف صحة هذا الفرض أو عدم صحته ، أما عندما نقول بأننا نشترط على القارئ فهم ك على أنها = س+ص ، فهذا يعني أن البحث لا يحاول إثبات هذه المعادلة وإنما الاستناد إليها . إذاً فما ساقه الكتاب في بدايته لم يكن إفتراضاً وإنما مفهوماً شرطياً. والحقيقة أن الفارق بين الأمرين هام للغاية ، فعندما بدأت قراءة الكتاب ، على أساس افتراضه توقعت أن يسير نحو وجهة إثبات أو نفي هذا الافتراض ، وهذا ما لم يحدث . فالكتاب كان قسرياً في هذا الافتراض ، واتسعت دائرة القسرية لتشمل مصطلحات نحتها الكاتب من تلقاء نفسه كالخيال النبوي والخيال الإسلامي وخلافه . وامتدت القسرية إلى التحليلات ، فهناك تحليلات كثيرة فرضت قسراً دون أن يكون لها سند منطقي نأخذ من ذلك شيئاً مما أتذكره ، (إن ما نرجحه هو أن الإسراء بدأ في الخيال الإسلامي كحدث منفصل عن المعراج) . وقوله :إن المسلمين قد أحسوا بضرورة (رفد مادة اللحظة التأسيسية بلقاء يتجاوز الأفق الجبريلي) ( ص 123) ومن ذلك الكثير مما لا دليل عليه ، سوى إحساس المؤلف ، أو رغبته ، أو خياله ، لكنه لم يعتمد على تركيب منطقي ، أو مصدر توثيقي ..الخ. والسبب فيما أعتقد أن الباحث عانى كما عانى غيره (نصر حامد أبو زيد ، سيد القمني ، أركون) من أن التاريخ الإسلامي كتبه المنتصر ، لكنه لم يفعل ذلك فقط بل دمر كل بقايا الآثار المناهضة له ، ولم يبق من ذلك المجتمع الشفوي إلا ما قبل المسلمون بقاءه ، أو ما أحتفظت به ذاكرة الكتابيين مما أسروا به لأنفسهم لتفنيد الأسطورة الإسلامية داخل الغيتو الخاص بهم ولم يجهروا به إلا في حالات معدودة كرسالة الكندي إلى الهاشمي . لذلك نرى الباحث وقد اعتمد هو نفسه على ما جاءت به المصنفات والسير الإسلامية ، ولكنه خلافاً لسيد القمني حاول أن يكون حيادياً فلم يأت بالأقوال المهجورة فقط ليكوِّن عبرها رؤيته للإسلام ، بل جمعها بغيرها ، ليتحدث عن تاريخ الإسلام . مفترضاً بذلك أنه سيكشف عن التاريخ المندثر وعن الوقائع الخفية من بين تلابيب اللغة . ولكن هل أسعفه ذلك؟ نعود إلى نقطة البداية ، وهي الافتراض ؛ والواقع أن سؤالاً ورد إلى ذهني بعد قراءة الكتاب ، وهو :( ما الذي كان سينقص الكتاب شيئاً لو أن الباحث لم يفترض منذ البداية أفتراضه الذي أشرنا إليه؟) في الواقع كان ذلك ليزيد الكتاب قوة ، فالكتاب في النهاية ليس سوى تجميع من هنا وهناك لتاريخ الإسلام ومعلومات معروفة أو متوفرة في مصادرها ، ولو أن الكاتب لم يستهل كتابه بذلك الافتراض لكان الكتاب عادياً جداً يلخص تاريخ الإسلام من أوجهه المتناقضة ، حتى بعد الفصل السابع والذي أعتقد –من خلال إنقطاع التسلسل- أنه والفصول التالية له كتبت أولاً ، وأن الفصول السابقة عليه كتبت مؤخراً ، أي أن الجزء المتعلق بالسرد التاريخي لمسيرة النبوة جاء تكملة للأجزاء التالية المتعلقة بالصناعة ، والتي لم نصل في نهايتها إلا إلى صفحة أخيرة تميزت هي نفسها بالقسرية دون أن يكون مجمل الكتاب مؤدياً لها حتماً. فالقول بأن : (الصورة الناصعة والكاملة التي قدمها المدافعون عن النبوة لأنبيائهم ولدت واقع تشوه وانقسام أخلاقي عانت منه المجتمعات...الخ) هذه هي الفقرة قبل الأخيرة لم تكن بأي حال سوى رأي الباحث دون أن تسنده فصول الكتاب السابقة أللهم إلا جملتي (الخيال النبوى والخيال الإسلامي) التان افترضهما قسراً أيضاً. لو محينا الافتراض الأول والفقرات الأخيرة لكان الكتاب مجرد كتاب عن تاريخ الإسلام أو كما أشار العنوان (مدخل) لقراءة ولكننا لم نر فيها نقداً إلا عبر افتراضات قسرية أو جمل مرسلة . ولذلك فإنني أميل إلى أن الغرض من هذا الافتراض (النبوة ظاهرة إنسانية صرفة وأنها صنعت إلها) والذي جاء في مقدمة الكتاب ليس المقصود منها سوى إثارة ضجة حول الكتاب من قبل الدينيين ، فبغير هذا الإفتراض يبق الكتاب كتاباً عادياً ومدخلاً بسيطاً عن تاريخ الإسلام ، ومن أراد الإستزادة فما عليه إلا الرجوع إلى مصادرها الأصلية والتي كتبها المسلمون بأيديهم .
|
|
|
|
|
|