|
الحلقة الشريرة السودانية: لا لهلاميات الصادق المهدي المربكة والمثبّطة للهمم! الفاضل عباس محمد علي
|
بسم الله الرحمن الرحيم الحلقة الشريرة السودانية: لا لهلاميات الصادق المهدي المربكة والمثبّطة للهمم!
الفاضل عباس محمد علي
والحلقة الجهنمية المعروفة عن بلاد السودان هي: إنقلاب عسكري يذيق الشعب الأمرين، ويفلس البلاد حتي النخاع، ويخلق طبقة من القطط السمان...تمتص رحيق الوطن علي حساب الكادحين،...ويتحول في آخر الأمر لنظام حكم الفرد الدكتاتور غير النبيل......تعقبه انتفاضة شعبية سلمية تلقي به في مزبلة التاريخ......ثم ديمقراطية كسيحة مأزومة، لا تجني ثمارها جماهير المدن والطبقات العاملة والوسطي الحضرية التى أطاحت بالدكتاتورية...والمناط بها التقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي،.....ولكن ترثها الأحزاب الطائفية بنفوذها وسط بروليتاريا الريف الرثة والمطوطمة التي تعيش خارج التاريخ...ويأتي ممثلو تلك الأرياف بأغلبية في الجهاز التشريعي المنتخب تضعها في الجانب الغالب من توازن القوي بالحكومة المنبثقة عن ذلك الجهاز، وتجعلها عضداً للإتجاهات الطائفية والرجعية بالأحزاب الحاكمة....فتتواري الأصوات الراديكالية والمستنيرة، وتتباعد الحركة السياسية بمجملها عن الروح الثورية التى صاحبت الانتفاضة...وتتصاعد الاتجاهات اليمينية المحافظة الداعية لاستدامة الوضع الراهن...ذلك الوضع الذى يضمن استمرار الجهل وغسيل الدماغ لجماهير الريف السوداني....وبما أن الولاء الطائفي هو ولاء ديني في حقيقة أمره، فإن القيادات الطائفية تستمر في الارتهان للشعارات الإسلامية، وتزايد عليها، بل وتتبناها في اللحظات المناسبة؛ وكثيراً ما يصبح التقارب بينها وبين جماعات الإسلام السياسي أمراً منطقياً مفروغاً منه، وقد يأخذ شكل أحلاف تكتيكية فاعلة (بحكم الاستراتيجية المشتركة)....كما حدث أيام حل الحزب الشيوعي عام 1966... وعند صياغة مسودة الدستور الإسلامي عام 1968... وكما يحدث الآن بأواخر أيام الإنقاذ....إذ استشعرت كل القوي الرجعية السودانية أن الثورة القادمة أكثر راديكالية من سابقاتها...وأنها تهدد ليس حكم الإسلاميين فقط، إنما كل الشعارات الإسلاموية والطائفية التى ظلت تكبل السودان وتجره للخلف....وأنها تنطلق من نفس البؤر النائية التى كانت تغذي الأجهزة التشريعية بالنواب الطائفيين المرتهنين للقيادات اليمينية بأحزابهم...فكأنها ضربت الطائفية في مقتل قبل أن تنتصر وتستلم السلطة في الخرطوم. ولكن، يبدو أن حكم الإخوان المسلمين الذى استمر لربع القرن المنصرم قد أحدث شروخاً في جدار الطائفية، بوعي أو بدون وعي منه، كما تسبب في زحزحات وارتجاجات اجتماعية وديموغرافية هائلة...من خلال عمليات تهميش وتجفيف للأرياف حتي الثمالة، تقابلها عمليات ترييف للمراكز الحضرية جعلت مدن السودان الكبري مكتظة ببروليتاريا الريف المنبتة ... وما انفكت تأتزر في أطرافها بغابات مترامية الأطراف من بيوت الكرتون shanty towns sprawling المأهولة بالنازحين والمهجرين الذين تقطعت بهم السبل...والذين، علي كل حال، أصبحوا أكثر قرباً من مراكز الاستنارة والوعي...وأكثر بعداً عن الدجل والخرافة والانصياع "للسادة" و"الكجور".. ومن مظاهر التحولات الإيديولوجية والفكرية التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة....أن المثقفين الموجودين بالأحزاب الطائفية، بما في ذلك الحزب الإخواني الحاكم، ما عادوا يقادون كالسوائم،... وصاروا يتكتلون في مجموعات متجانسة تروم التغيير والإصلاح، علي مستوي أحزابهم وعلي مستوي الوطن برمته،...وأخذوا ينحازون لقضية الحرية والديمقراطية والشفافية والحكم الرشيد...من أجل إنقاذ البلاد قبل أن يحل بها الطوفان الذى أودي بالصومال وزائير وليبريا وكثير من الدول الإفريقية المتشظية و الفاشلة. ومن هذا المنطلق، انفضّ السامر من حول السيد الصادق المهدي، وهجره الوطنيون والمفكرون الراسخون...مثل البروفيسور فيصل عبد الرحمن علي طه... والمناضلون الأشاوس...مثل الأنصاري "الكلس" الشجاع والوفي المحنك محمد عبد الباقي...ولم يبق معه إلا الرهط الأقربون، مثل إبنيه عبد الرحمن وبشري، وزمرة الطبالين والمفتونين بشخصه ورسمه... والمناصرين له ظالماً أومظلوما...وشراذم المرتشين غواصات المؤتمر الوطني......واعترف شخصياً بأن السيد الصادق فيه من الكاريزما والتواضع والعلم وموسوعية الإطلاع ومحبة السودان ما يستقطبك... مهما كان الإرث الأنصاري التاريخي الضاغط الذى قسّم السودان إلي فسطاطين منذ أيام المهدية...ومروراً بأيام النضال ضد الاستعمار البريطاني المصري.....: قطب يدين بالولاء للمهدي وخليفته كولاء الشيعة للإمام علي كرم الله وجهه ولآل بيته...وقطب يمقت الأنصار (الجهادية) الذين فتكوا بجدوده وطغوا وبغوا فى الأرض أيام مهديتهم...وأدخلوا البلاد في حروب جهوية ومحلية وإقليمية بلا طائل......ثم تواطؤوا مع الانجليز أيام الحكم الثنائي، وكنزوا الكنوز وتوسعوا في المشاريع الزراعية الضخمة، وأصبح أمراؤهم كولاكات ومهراجات مترفين علي حساب أنصار شُعْث غُبْر مساكين... يستجلبون من أعماق الريف الغربي ليخدموا بالسخرة في تلك المشاريع...وهم يعانون التهميش والفقر والتخلف الذي ظل ملازماً لهم حتي يومنا هذا.....وأوشك إمامهم السيد عبد الرحمن أن يتربع علي عرش السودان ملكاً مثل فاروق بمصر والسنوسي بليبيا وعبد الله بن الشريف حسين بشرق الأردن Transjordan بالتواطؤ مع الانجليز... لولا المقاومة التى وجدها من الحركة الوطنية والاشتراكية والنقابية...ومجمل قوي الوسط واليسار السوداني. وما قرّب الصادق من المثقفين السودانيين بالذات هو مساهمة لا بأس بها فى مقاومة الأنظمة الدكتاتورية، رغم أنه لا يثبت علي موقفه لآخر المشوار،... ولكنه، مثل أنور السادات، يهدم الصف ويدلف نحو النظام الخصم متهافتاً ومهادناً ومصالحاً فى الزمن الخاطئ....مثله مثل البرجوازية الصغيرة التى عندما تتسلم زمام الأمور...لا تسير بالثورة في خط مستقيم...وتعرضها لكبوات ونكبات متتالية...لأنها بطبعها متردة ومتهافتة ومكبلة بأجندتها الأنانية الخاصة...بعيداً عن مصالح الوطن...وهذا ما فعله السيد الصادق أيام نظام مايو... حينما ترك قادة المعارضة بلندن عام 1977 وذهب لبورتسودان وأجري محادثات مشبوهة مع الرئيس جعفر نميري توصل بموجبها لمصالحة فردية... لم يكن الإتحاديون بقيادة الشريف حسين الهندي جزءاً منها،...ولكن رحب بها فصيل آخر بالجبهة الوطنية المعارضة - الإتجاه الإسلامي بقيادة الشيخ حسن الترابي – صهر السيد الصادق - وهو فصيل كان من الهزال وضعف الشأن بمكان فى تلك الأيام....باحثاً عن بقعة تحت الشمس. وهذا ما فعله السيد الصادق مرة أخري في سنة 1999 حينما ترك التجمع الوطني الديمقراطي المعارض خلف ظهره، ويمّم وجهه شطر جنيف فى شهر مارس من ذلك العام ليلتقي بعرّاب النظام آنئذ - الشيخ حسن الترابي -... ويتفق معه علي صلح انفرادي بين حزبه والحزب الحاكم...ثم ذهب لجيبوتي في شهر نوفمبر ليستكمل ذلك الاتفاق ويعلنه علي رؤوس الأشهاد...ويعود بموجبه للسودان، في معية فلول حزبه المنسلخة عن التجمع الوطني الديمقراطي. فماذا كانت النتيجة فى كلا الحالتين؟ وماذا جني حزب الأمة...والمعارضة... من الإتفاقيتين المذكورتين؟ ما هي إلا بضع شهور أيام النميري حتي اكتشف الصادق وأنصاره أن مايو نظام دكتاتوري منغلق، ليس فيه مكان للرأي الآخر،...وأن الغنائم قد تم توزيعها سلفاً، ولم يبق شيء يذكر لفلول حزب الأمة العائدة المتعطشة....فانقلبت المصالحة إلي مماحكة ومخاشنة... وانتهي الأمر بالسيد الصادق في سجن كوبر بالخرطوم بحري. ولما جاءت الانتفاضة في أبريل 1985 وأطاحت بنظام النميري، كان البديل المطروح في الشارع هو حزب الأمة بزعامة الصادق...بسبب معارضته للنظام في السنوات الأخيرة....وبسبب الضعف الذى اعتري الحزب الغريم الآخر: الإتحادي الديمقراطي، ذلك أنه كان مهادناً لمايو حتي رمقها الأخير، وكان ممسكاً بالعصا من منتصفها...بعد أن اختفي من المسرح المناضل الجسور الشريف حسين الهندي الذي غيبه الموت في أوائل 1982...والذى لو كان حياً لتوارت حيات كثيرة في جحورها...ولأصبح الاتحادي الديمقراطي الممثل المؤهل للطبقة الوسطي والكادحين الحضريين السودانيين،...والأمل في استقرار ومستقبل السودان السياسي، علي غرار ما ظل حزب المؤتمر الهندي يفعل بشبه القارة الهندية منذ استقلالها عام 1947. وكاد أن يتكرر نفس الشيء مع النظام الراهن - نظام الإخوان المسلمين وحزبهم الحاكم، المؤتمر الوطني - أي: كاد السيد الصادق أن يخاصم النظام لما اقترب موعد الانتفاضة الجديدة....لو لا أن الشيخوخة قد أدركته (79 سنة ما شاء الله تبارك الله)، وأصبح أمره في يد بعض من أولاده الذين ألقوا السلاح تماماً، وانبطحوا أمام السلطة متهالكين... يلتقطون الفتات، وراضين من الغنيمة بالإياب. بيد أن كثيراً من المراقبين للشأن السوداني يرون أن التقارب بين السيد الصادق والإخوان ضاربة جذوره في تاريخ السودان المعاصر... بل إن ما يربطهما في حقيقة الأمر هي علاقة إيديولوجية متأصلة مع تنظيم وفكر الإخوان المسلمين...ويستدلون بالشواهد التالية: • لقد كان الصادق وصهره حسن الترابي بطلي معركة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان عام 1966...أيام الديمقراطية الثانية في أعقاب ثورة أكتوبر 1964. وعندما قضت المحكمة ببطلان ذلك القرار عرقلت حكومة حزب الأمة تنفيذ الحكم،...في الوقت الذي كان الصادق يزور الشيوعيين في دارهم ويحاول أن يتنصل من ذلك القرار ويرمي باللائمة علي آخرين بحزبه. • في عام 1968 أصدرت لجنة الدستور المنبثقة عن الجمعية التأسيسية (البرلمان) مسودة "الدستور الإسلامي" الذى من المفترض أن تجيزه الجمعية...ثم يطرح للاستفتاء ليصبح دستور البلاد الدائم، رغم رفض الجنوبيين له (الذين غادروا وقاطعوا لجنة الدستور)؛ وكانت تلك بداية الفتنة اللاحقة بين الشمال والجنوب التى قادت لانفصال الجنوب في آخر الأمر. وكان مهندسا تلك المسودة الصادق المهدي وحسن الترابي. • في أغسطس 1983 أعلن الرئيس جعفر نميري نفسه أميراً للمؤمنين، وأصدر حزمة من القوانين القمعية الفظة بغرض ترويع الجماهير المتململة...وسمي تلك القوانين "الشريعة الإسلامية". ولقد شجب السيد الصادق تلك القوانين وقال عنها ما لم يقل مالك في الخمر....وبني حملته الإنتخابية عام 1986 بعد انتفاضة أبريل التي أطاحت بالنميري علي رفض وتفنيد تلك القوانين...ووعد بأنه سيلغيها فور تسلمه الحكم بعد الانتخابات....ولكنه حنث بوعده، وظلت تلك القوانين سارية إلي يومنا هذا، مروراً بالأربع سنوات التى كان الصادق رئيساً للحكومة خلالها (يونيو 1986- يونيو 1989)... • حتي هذه اللحظة، ليس للسيد الصادق موقف واضح من "علمانية" الدولة...بل تجده علي الدوام قادحاً في قناة الداعين لفصل الدين عن الدولة، محاولاً تشويه موقفهم بكافة الفري واللولبيات الديماجوجية والسفسطائية....مثل قوله المتكرر: "إن أصحاب هذه الدعوي يريدون أن يطردوا الدين من حياتهم ومن المجتمع". وهو يعلم تمام العلم إن الولايات المتحدة هي الدولة العلمانية الأولي التي فصلت الدين عن السياسة تماماً عبر دستورها في 1776، رغم أن آباءها المؤسسين كانوا متدينين للغاية (مسيحيين بالطبع)، ورغم أن ذلك لم يمنعها من أن تصبح أكبر وأقوي دولة مسيحية في العالم، وهي، حسب تصنيف جماعات الإسلام السياسي، الدولة الراعية والمتزعمة الحالية للحملة الصليبية التى ما فتئت تجتاح العالم، لتحل محل الاستعمار التقليدي الذي أفل نجمه منذ نهاية الحرب الكونية الثانية عام 1946. • ما برح السيد الصادق يساهم في إطالة عمر الدكتاتورية الحالية بالدخول معها في سلسلة اتفاقيات وتحالفات لا تنتهي، وبالحديث عن تغيير النظام بالطرق السلمية، كأنه يملك مفاتيح الحل النهائي للأزمة السودانية...وهو في حقيقة الأمر سمسار يشتري الزمن للنظام حتي يخرجه من ثمة كبوة... ليدخله في محنة أخري...ولقد انكشف أمره تماماً إبان انتفاضة سبتمبر الماضي، إذ جمع الناس بدار حزب الأمة بأم درمان، وألقي علي مسامعهم خطبة طويلة ممجوجة بعيدة عن الروح السائدة في الشارع الملتهب...مكرراً حديثه المعتاد عن الإنزال السلمي للسلطة ....ففاجأته جماهير حزبه بالهتاف ذى المغزى: "موقف حاسم يا إمام! الشعب يريد إسقاط النظام"....غير أنه حتي هذه اللحظة لم يتعلم شيئاً من ذلك الدرس البليغ الذى لقنته له جماهير أم درمان....وما زال يعيش في أحلام اليقظة التي تصور له أن الأمور كما كانت عام 1986...علي إثر الإنتفاضة التي أزاحت جعفر نميري...وجاءت به لرئاسة الوزارة....أي إن التاريخ يعيد نفسه بلا استثناء....وإن التكرار لا يعلم الحمار! • لقد كشف الصادق عن مكنوناته الحقيقية عندما كال السباب للعدل والمساواة التي اجتاحت أم درمان في صيف 2008...وحذر منهم قائلاً إنهم فلول ومرتزقة...إلخ...وما كان يدري إن أهل السودان لهم رأي آخر...فكما جاءت الإنقاذ للسلطة عن طريق حركة عسكرية نفذتها مليشيا لا يتجاوز عددها المئتي ضابط وجندي...فما الغرابة في أن تتم الإطاحة بها بنفس الطريقة؟ وجماعة الراحل الدكتور خليل ابراهيم سودانيون ووطنيون وحلفاء وجزء من الحركة الوطنية المعارضة...بينما جاءت الإنقاذ بالكوادر العسكرية والاستخباراتية من إيران وغزة وليبيا وموريتانيا...إلخ...والجنجويد خير دليل علي ذلك....بالإضافة لما قال الشاب مبارك أحمد عمر الباندير بقناة "العربية" قبل بضعة أيام...وموقف الصادق لا يكشف فقط جهله بالواقع السياسي السوداني، رغم أحاديثه وكتاباته الصحفية التى لا تنقطع...بل يفضح بعد الشقة بينه وبين أبناء الريف الغربي الأنصاري الذين كانوا عظمة الظهر backbone لحزب الأمة وكيان الأنصار...وهم الآن اللحمة والسدي للنظام الديمقراطي "العلماني" القادم....بعد أن مرت مياه كثيرة تحت الجسر.
مهما يكن من أمر، فإن التغيير القادم بالسودان لن يشهد بعثاً جديداً للطائفية....وستذهب إلي غير رجعة الشعارات الإسلاموية وكل مستلزمات التخلف التى غيبت وعي جماهير الريف ردحاً طويلاً من الزمن...كالطائفية والجهوية والقبلية...فلقد تنامي الوعي في السنوات الأخيرة...محلياً وإقليمياً ودولياً....وانحسر المد الإخواني في ليبيا (كما أثبتت انتخابات العام المنصرم بذلك البلد)...وفي العديد من الدول العربية المؤثرة...والفكر والتنظيم الإخواني يلفظ أنفاسه الأخيرة بمصر أم الدنيا...وستكون مقبرته النهائية في الخرطوم بإذن الملك العلام. ولكن، رغم أنا في السودان بصدد الاتفاق علي دستور للمرحلة الانتقالية يسد الباب علي سرقة الانتفاضة وعلي رجوع الإسلام السياسي وحليفته الطائفية بشكل أو بآخر، فإن الرؤيا غير واضحة تماماً في هذا الصدد...وما زال هناك من يرتعدون خوفاُ من كلمة "علمانية" بحكم الرواسب الطائفية المتأصلة في دواخلهم...فتجدهم يلتفون عليها بكلمات مثل "الدولة المدنية الديمقراطية."....وأذكر أن هذا الموضوع أخذ أكثر من حقه من الجدل المضني والنقاش الطويل في مؤتمر "الجبهة الوطنية العريضة" المنعقد بلندن في أكتوبر 2010، وكان مندوبو حركة العدل والمساواة من أكثر الناس حماساً ضد "العلماني"... وتفضيلاً للإكتفاء بالمدنية الديمقراطية...وكنت شخصياً من المناصرين لرأيهم حتي لا نتصدع قبل أن نبدأ مشوارنا الجديد...وكان مجدي الجزولي يصر علي العلمانية بلا أي مضغ للكلمات....وها هي الدنيا تعيدنا للنقطة التى كان مجدي يقف عليها...فإن الرضوخ لتلاعب اليمين بالألفاظ يفتح الباب علي مصارعيه لسرقة الثورات... ولعودة شعار الدستور الإسلامي بهذا التجلي أو ذاك...والناس يعرفون من تجاربهم المرة أن الحكم الثيوقراطي الإسلامي في بلد متعدد الثقافات والديانات كالسودان لا يقود إلا للفتن والحروب وانكماش الدولة وتمزيق لحمتها...فها هو الجنوب قد ذهب..وستتبعه جنوب كردفان موطن النوبيين (وبهم كثير من المسيحيين) ودارفور وجنوب النيل الأزرق...ثم إن الحكم الثيوقراطي يأتينا ب"أمير للمؤمنين" تجلب معارضته القتل والصلب من خلاف...و لا يعرف شيئاً إسمه الرأي الآخر أو الصحافة الحرة. وبما أن النظام الدكتاتوري الحالي يترنح، بانتظار الانتفاضة القادمة التى ستودي به لا محالة،... وبما أن الفصائل المسلحة ستقوم بدعم تلك الانتفاضة بلا شك، إذ كما قال أبو تمام:
السيف أصدق إنباءاً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
فإننا نحتاج منها ومن كافة قوي المعارضة أن تكون واضحة وقاطعة حول مسألة "علمانية" الدولة، بمعني (الدين للإله والوطن للجميع)،... وبمعني الفصل التام بين الدين والدولة...(و لا يعني ذلك طرد الدين من الحياة...إنما يعني طرد الزعامات الطائفية التى تزايد بالشعارات الإسلامية وتسايرها حيث أنها تصب في مصالحها الدنيوية)...ويجب أن تتوقف ظاهرة المثقفين الذين "يركّون" علي ظهر الطائفية ك"القراد" علي ظهر البعير...ويتوجهون حيثما يتوجه البعير...فذلك تغييب مقصود للوعي، ...وإذا تفهمنا ذلك فيما يختص بجماهير الريف التي تتحرك بروح القطيع لأنها ضامرة الثقافة والوعي...فإنه غير مفهوم فيما يختص بالمتعلمين رواد التقدم والاستنارة وبناء السودان الجديد... الذين أصبحوا حاشية وتنابلة وتبعاً مطأطئي الرؤوس، فأطالوا عمر الطائفية وعمر الاعتقال الذى تعرض له تقدم السودان. إن التاريخ قد تجاوز القيادات الطائفية التقليدية التى استفادت من شعارات الإسلام السياسي، كالسيد الصادق؛ وسيمضي الشعب السوداني، بما فيه جماهير الدوائر المغلقة للأحزاب الطائفية، نحو فجر جديد يتبين فيه معالم التقدم الإقتصادي والتحول الاجتماعي: البنية التحتية والتعليم الجيد المجاني، والعناية الصحية، والانسجام الإثني في إطار التعاون والتجارة المشروعة...ورفع مستوي الحياة الثقافية والرياضية، وتحقيق الرفاهية والسعادة لسواد الشعب...ولن ينجح أي سمسار سياسي مستهبل بعد اليوم في استغلال الدين لفرض إرادته علي الناس، كما ظلت الكنيسة تفعل خلال القرون الوسطي، قبل عهد التنوير.
ألا هل بلغت...اللهم فاشهد!
والسلام.
|
|
|
|
|
|