|
الحرب الكونية على الأبواب بقلم محمد علي طه الملك
|
10:01 PM Feb, 20 2015 سودانيز أون لاين محمد علي طه الملك - مكتبتي في سودانيزاونلاين
بقلم / محمد علي طه الملك مدخل : قال المؤرخ الفرنسي ( بروديل) في كتابه الشهير / المتوسط والعالم : ( الحضارات فردوس البشر وجحيمهم ). الكائن البشري كائن مجبول على هدم ما بناه ، تلك خصلة يتدرب عليها منذ نعومة أظافره ، وهي جبلة مثلها مثل نواة أي مادة تختزن داخلها السالب والموجب ، فهذا الإنسان الذي يضع حجر الأساس لقوائم حضارته بجهد جهيد خلال أجيال متتابعة من نسلة ، هو نفسه الأول في هدمها والعودة لبدايات جديدة ، تستمر متعثرة لردح من الزمان قبل أن تنمو وتزدهر مرة أخرى . تلك هي السمة المشتركة بين كافة الحضارات التي بناها الكائن البشري ثم أسهم في هدمها ، حتى بات يعنى مصطلح حضارات بائدة ، العنوان الأبرز في تاريخ مسيرته الوجودية . لقد أبدى الفلاسفة والمؤرخون وعلماء الآثار القديمة أسبابًا كثيرة لقيام الحضارات وانهيارها . منهم الفيلسوف الألماني (أوزوالد سبنجلر) ، الذي نظر للحضارات ككائنات حية تولد وتنضج وتزدهر ثم تموت ، ويرى الفيلسوف (أرنولد توينبي ) في كتابه (دراسة التاريخ ) أن نشأة الحضاراة مرتبطة بتحدي البيئة ، ويعطي مثالا لذلك بالحرارة والجفاف اللذان يفقدان الأرض صلاحيتها للانتاج الزراعي ، فإن لم يستجيب الناس ويتحدون الجفاف بتحسين أنظمة الري ، فلن يمكنهم تجاوز الخطر ، فالحضارة في رأيه لا تنهار إلا إذا فقد الإنسان القدرة على الابتكار . لعل المتتبع لحركة الحضارا ت البشرية ، عبر أحداثها من النشأة إلى الأفول ، يكاد يلمس رسما بيانيا بتعرجات حظوظها من الصعود والهبوط ، بحيث يمكن قراءة واستشراف الظواهر الدالة على الاضمحلال ، بين مشاهد وظلال قادم جديد في طور التشكل ، تستمر تلك المشاهد في التكاثر والحلول حتى تكتمل بإحالة القديم إلى أضابير التاريخ . يرجع معظم علماء الآثار بزوغ الحضارات إلى مجموعة من الأسباب تشمل (البناء السياسي والاجتماعي للحياة ، والطريقة التي يكيف بها الناس البيئة المحيطة بهم ، والمتغيرات التي تطرأ على السكان ، وفي كثير من الحالات يمكن أن تظهر الحضارات لأن رؤساء القبائل المحليين اتخذوا خطوات متعمدة لتقوية نفوذهم السياسي) . هذه مسببات منطقية تلائم طبيعة تكوينات تلك الجماعات الأولية ، غير أنها ليست بمفردها ، فلابد من شرط آخر يوفر أولوية السبق ، كما يلاحظ أن العديد من الدراسات والبحوث ، تعتمد الحروب والكوارث الطبيعية كأحداث فاعلة وظواهر مباشرة في اضمحلال الحضارة ، وعلى الرغم من الدور الحاسم الذي تلعبه الكوارث في ذلك الشأن ، غير أنها ليست وحدها ، فهنالك عامل آخر قليلا ما يلتفت إليه ، و ذاك ما أنا بصدده هنا. جاءت أولى الطفرات البشرية نحو مدارج التحضر باكتشاف النار وتأنيس الحيوان ، ذلك الاكتشاف الذي أحدث ثورة قادت لظهور الحياة الجماعية ، بعد أن كان الإنسان بمفردة يدير شؤون معاشه معتمدا على الصيد البري والتقاط الثمار ، هذا الاكتشاف كان دافعا للاستقرار وتكوين الأسرة التي تكاثرت مكونة نواة الحياة الجماعية ، ومن ثم ظهور المستوطنات البشرية الأولى حول الوديان ومجاري الأنهار، وبقدر ما وفرت الحياة الجماعية سبل النماء والتكاثر ، أفرزت بدورها الصراع حول الثروة ، تلك الثروة التي ظهرت بفضل تأليف الحيوان واستكثاره عن طريق الرعي ، والانتفاع به في التبادل التجاري والمواصلات ، فتقاتلت الجماعات وتفرقت عن بعضها تنشد الأمن والاستقرار. تلك المقاتل التي تشتت بسببها الجماعات ، هي نفسها التي قادت لاكتشاف الزراعة ، ومن ثم انتهاج نمط جديد للحياة الاجتماعية ، أدت لظهور القرى والمدن ، والضوابط التشريعية الأولى كالأعراف والتقاليد الكفيلة بضبط ايقاع الحياة داخل تلك التجمعات البسيطة . باكتشاف الكتابة نمت وتقاربت العلاقات ، وتيسر التفاهم بين الجماعات البسيطة ، فتكونت مراكز أو عواصم لتلك الجماعات ، كانت النواة الأولى لظهور المجتمع المركب والتساكن الجماعي في المدن وما تبع ذلك من نظم سلطانية . بظهور الحياة المدائنية بنظمها وضوابطها السلطانية ، انتقلت الحياة البشرية لعصور الحضارات المدنية القديمة التي يؤرخ لها قبل الميلاد ، فكانت الحضارة الفرعونية في شمالي أفريقيا ، والحضارة البابلية والسومرية والفارسية والهندية والصينية في آسيا ، والهيلينية اليونانية في شرق أوربا ، وبدأت دورات التطاحن والاحتراب بين تلك الحضارات ، منذ أن راجت الصناعات اليدوية وطوعت استخدام المعادن والأخشاب ، فتكونت الجيوش وسادات الامبراطوريات الكبرى العالم القديم ، كالامبراطورية الرومانية وامبراطورية هان الصينية والامبرطورية الفارسية . يلاحظ أن كل الامبراطوريات التي سادت في العصور السابقة للميلاد ، كانت ذات نزعة سلطوية طاغية ومتجبرة ، همها تسخير البشر لخدمة أنظمة دكتاتورية قابضة ، فنمت وترعرعت بينهم بذرة الصراع على اكتناز المال وتجيش الجيوش والقهر والتسلط ، تلك السمات كانت بدورها مفاتح لظهور الرسالات السموية الكبرى ، بنزعتها الروحية ودعوتها للسمو الاخلاقي وتوجيه الولاء والخضوع المطلق لإله واحد أحد. بنجاح وتفوق الفكر الديني التوحيدي ، ظهرت أمبراطوريات القرون الوسطى ، أشهرها وأبعدها أثرا على تاريخ البشرية الحضاري ، الامبراطورية الرومانية بعد اعتناق امبراطورها للمسيحية والخلافة الإسلامية بعصورها المتتالية حتى الخلافة العثمانية ، ثم ممالك اسبانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية ، في العصور الوسطى المتأخرة . لعل أهم مميزات حضارة القرون الوسطي العقدية ، لا تقف عند حد فلسفتها الإصلاحية والأخلاقية ودعوتها لتكريم الإنسان لأخيه في العقيدة ، بل عملت على تحوير قواعد التنافس والتغالب بين حضارات الأمم السالفة ، من دافعها المادي وأطماعها التسلطية ، إلى التنافس الفكري المستبطن للتغالب من أجل إنتشار وتوطين مبادئ الفكر ، أشهرها حروب الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية ، ثم الثورات الشعبية الكبرى ضد الامبراطورية الرومانية ، والثورة الفرنسية . منذ ذلك الوقت أخذ الصراع الحضاري بين الأمم طابعا فكريا حتى يوم الناس هذا ، ولعل المتأمل لنظريات الفلاسفة المحدثين حول صدام الحضارات ، منذ أن أطلق عقال فكرتها العالم المغربي المهدي المنجرة ، ثم تبعه ( صامويل هنتنجتون / صراع الحضارات ) و(فرانسيس فوكوياما / نهاية التاريخ ) ، يجدها تدور في ذات المنحى الذي خطه التحوير الذي طرأ على قواعد الصراع ، منذ بزوغ شمس الديانات الكبرى القروسطية . لقد ولّد الصراع الفكري أعنف الحروب وأشرسها في العصور الوسطي ومداخل العصر الحديث وبقدر ما دمر وأهلك من نسل وحرث ، قاد لظهور مدارس الفكر الفلسفي التنويرية التي مهدت لظهور مفاهيم عصر النهضة الأوربية ، كالحرية و القومية والاشتراكية والرسمالية ، ثم الدولة الحديثة في الغرب الأوربي. ظهور الدولة الحديثة وفر لشعبها الاستقلال السياسي من ربقة النظم الامبراطورية القابضة ، فمارست حقها في اختيار نظام الحكم وكيفية اختيار الحكام ، فكان لعاملي الاستقرار والحماية التي وفرتهما الدوله ، أثرهما في تطور العلوم التطبيقية والنظرية ، فتعبّدت الطرق لمسيرة ظافرة من الاختراعات والاكتشافات المتتالية فيما عرف بالثورة الصناعية ، ومثلما كان اكتشاف النار مدرج الإنسان الأول نحو التطور ، كان اكتشاف الفحم الحجري والبترول المدرج الأهم للثورة الصناعية فحضارة إنسان القرن العشرين مدينة لعصر الثورة الصناعية ونظم الدولة الحديثة ، غير أن كل ما تحقق من نجاحات في مختلف ضروب المعرفة ، لم يقيد أطماع الدول ، ولا غل يد الصراعات على الموارد ، حتى غدت حروب حضارة القرن العشرين هي الأعظم خطرا على مر التاريخ ، لا على الوجود البشري فحسب بل على البيئة والمحيط الحي . موت حضارة القرن العشرين . منذ عشرينات القرن المنصرم تنبأ الفيلسوف الألماني (أوزوالد سبنجلر) في كتابه (انحدار الغرب /1918 - 1922م) باضمحلال الحضارة الغربية وموتها ، وحلول حضارة آسيوية جديدة . ربما كانت ارهاصات الحرب العالمية 1935م ، دافعا ليطلق ذلك الفيلسوف رؤيته المتشائمة المبكرة تلك ، فالحضارة العالمية وقتها لم تكن قد عبرت واستكملت حلقات الثورة الصناعية ، حيث تسربت عقود منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية 1945م أوزارها ، ومضت من بعدها حضارة القرن العشرين في تصاعد متسارع وازدهار ، ذلك لغياب أحد الشروط الضرورية الدالة على بدايات الانهيار ، فالانهيار لا يقع إلا في وجود نواة فعلية لقادم جديد ، والقادم هو الذي يدفع عجلة القديم إلى الوراء ، مستفيدا من القانون الطبيعي وما يخلفه من كوارث طبيعية ، تدفع بدورها للتطاحن والاقتتال بين البشر ، لتأتي النهاية الحتمية للحضارة السائدة ، تلك قواعد من فرط تكرارها غدت ظاهرة يمكن ملاحظتها عبر تاريخ بزوغ وموات الحضارات . لقد شبه الفيلسوف الألماني (جورج و. ف. هيجل ) حراك المجتمعات بالفرد الذي ينقل شعلة الحضارة من واحد إلى الآخر، بذلك سوف يتواصل نمو الحضارات ، حيث بدأ حكم الإنسان لأخيه فرديا استنادا على مميزات ذاتية كما يقول علماء الاجتماع ، منها تم الانتقال لحكم طبقة أو فئة في المجتمع اجتمعت بيدها أسباب القوة ، وأخيرا حكم كل الناس ، حيث الحرية كاملة لجميع الناس. نبوءة هيجل هذه لم تصلها بعد مجتمعات حضارة القرن العشرين ، حتى في الدول التي استكملت بنائها اللبرالي ، وإن كانت ارهاصات بلوغها في المستقبل ، بدت معالمه التقنية . لقد أسلفت القول بأن الحربين العالميتين لم يعيقا استمرار حضارة القرن العشرين في الازدهار ، لغياب شرط ضروري ، هو بذرة الحضارة الجديدة القادمة ، ظهور هذه البذرة بمثابة إعلان عن بداية العد التنازلي للحضارة القائمة ، وقلت من قبل أن عنوان حضارة القرن العشرين هو الثورة الصناعية وقد ظهرت بذورها في الحضارة التي سبقتها ، في شكل ذلك الرواج للصناعات اليدوية ، حيث أفلح الناس في تسخير المعادن والصناعات الخشبية وتشكيلهما لخدمة أغراضهم سلما وحربا. بدورها مهدت الثورة الصناعية لبزوع فجر تقني جديد ، هو ثورة تقنية المعلومات ، هذه الثورة التي نشهد مفاتحها هي عنوان حضارة الإنسان القادمة ، التي تحيل حضارة القرن العشرين إلى أضابير التاريخ . ولإن جاز لي مجارات أدب الخيال العلمي ، لحدثتكم عن أحفادنا أو أحفاد أحفادنا وهم يتخاطرون بقرون استشعار اللكترونية ، لن يكون بينهم كلام فالتواصل بين العقول ، وسوف تفقد القراءة والكتابة دورهما التاريخي ، ولن يكذب عليك أحد لأنك تلتقط بمجساتك الالكترونية حتى الأفكاره القابعة بين تضاعيف الفؤاد ، يومها لن يكون بين الناس سوى الأمان والاحترام المتبادل وباختفاء الكذب و عدم معاقرته سوف يأمن الناس على أنفسهم وممتلكاتهم ، ومن ثم فلا تقوم الحاجة لسلطة أو حكومة ، عندها تكون نبوءة هيجل عن حكم كل الناس قد تحققت. هذه الصراعات والحروب المباشرة والباردة ، الحال منها والقادم ، سواء كان منطلقها فكريا أو اقتصاديا ، والكوارث الطبيعية من زلازل ومتغيرات مناخية واعاصير مدمرة ، كلها مجرد احماءات تصب في معية المعركة الكبرى ، الحرب الكونية التي تدفع حضارة القرن العشرين إلى نهايتها الحتمية ، وتؤسس لأنماط جديدة للحياة البشرية القادمة ، رُب ظان يظن أنها ستعود بالحياة الشرية إلى عصورها البدائية ، غير أن ذلك لن يحدث ، لإن أوار وخوار قوتها المدمرة لن تقع على رؤوس من يديرونها ، بل على رؤوسنا نحن ، وماذا يضير حضارة القرون القادمة لو فقدت البشرية نصفها أو أكثر ، بين المفقودين أصلا في مضمار الانجازات البشرية ؟ مع ذلك ربما تحسبوا مثلما تحسب السابقون عند الطوفان العظيم. مراجع : المتوسط والعالم / بروديل. انحدار الغرب (1918 - 1922م / أوزوالد سبنجلر. دراسة التاريخ1 (1934ـ 1961م/ ارنولد توينبي . فلسفة التاريخ / هيجل تعريب د. إمام عبد الفتاح إمام. قراءة في تاريخ وحضارة اوربا العصور الوسطى/ أشرف صالح محمد سيد.
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- الوثبة التي جددت (للريس) ركبتيه هل تجدد للنظام مفاصله المتآكلة؟ بقلم الأستاذ محمد علي طه الملك 19-08-14, 01:31 AM, محمد علي طه الملك
- قراءة في ملف الأزمة الوطنية بقلم / الأستاذ محمد علي طه الملك 20-07-14, 00:46 AM, محمد علي طه الملك
- ( خطاب الوثبة ) أقل ما يقال عنه تلفيقي بقلم / محمد علي طه الملك 03-02-14, 03:56 PM, محمد علي طه الملك
- قادة الحكم والعفوية في قراءة وتقدير المخاطر بقلم محمد علي طه الملك 05-01-14, 06:02 PM, محمد علي طه الملك
- التهديد الأمريكي بضرب سوريا هل يفتح الباب أمام تعاظم الدور الروسي في 07-09-13, 02:57 AM, محمد علي طه الملك
|
|
|
|
|
|