تلك كانت قصة التأميم والمصادرة استعرضناها في سلسلة من ثلاثة عشر مقالة وآخرها هذه الخاتمة. بدأت فصولها بقرارات عاصفة بعد أشهر قلائل من انقلاب 25 مايو 1969م، وتتابعت حلقاتها في الذكرى الأولى لثورة مايو واستكملت بعد ذلك بقليل. نعتناها بالقرارات العاصفة "المزلزلة" لأنها كانت ثمرة للاندفاع الثوري الطائش الذي أعشى البصائر، وفي ظروف مشحونة بالقلق والتوتر. جاءت تلك القرارات مباغتة واتُخِذَت على عجل مريب، وهزت الاقتصاد السوداني هزا عنيفا، وأحدثت تغييرا كبيرا في بنيته الهيكلية ومكوناته القطاعية، وأضرت بعلاقاته بالأسواق المحلية والخارجية، وأربكت تعاملاته التجارية والمصرفية، وتركت جراء كل ذلك آثارها السالبة لسنوات طويلة. ولئن كان مقصد نظام مايو، إن أحسنا الظن به، هو الإصلاح الاقتصادي فقد أخطأ ذلك الهدف بدرجة كبيرة وتجاوز مرامي الإصلاح بتلك القرارات المتعجلة الملتبسة. والدليل على ذلك أن نظام مايو أدرك فداحة ما أقدم عليه وبدأ التراجع عن تلك القرارات في الفترة التي أعقبت انقلاب 19 يوليو 1971م مباشرة. وفي رأينا ومما عايشناه في ضوء التجربة العملية، ولخصناه في المقالين الأخيرين عن حصاد تجربة التأميم والمصادرة، أن الاقتصاد السوداني ربما كان سيزداد عافية لو أن نظام مايو أهتم بالتنمية في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية كالزراعة والصناعة والانتاج الحيواني والتعدين إلخ، وسعى لتطوير البني التحتية وتوفير الطاقة والخدمات وغيرها، وفتح الباب واسعا للمستثمرين وللشركات والمصارف الأجنبية وحفزها لتسخير إمكاناتها وخبراتها وعلاقاتها الدولية لهذا الجهد التنموي، وفق سياسات اقتصادية متكاملة وتشريعات قانونية ملائمة، وضوابط وترتيبات إدارية تضمن تشجيع ومشاركة القطاعين العام والخاص السوداني. ومهما يكن من شيء فقد مرت تجربة نظام 25 مايو في التأميم والمصادرة وفيها الكثير من العبر والدروس. ولم يكن الذي أوردناه في هذه السلسلة من المقالات عن تلك التجربة، وقد بذلنا فيه ما وسعنا الجهد، إلا لمحات لبعض جوانبها. ولا ندعي أننا بما كتبناه عنها استقصينا التجربة وأتينا على كل تفاصيلها وبلغنا بما أوردناه عنها الكمال، فما زال في الأضابير الكثير المثير الخطر! ويبقى الأمل من بعد هذا أن يتوفر ذوو الاهتمام والاختصاص على الموضوع وأن يستكملوا دراسته وبحثه. ولعله من المناسب أن نختم هذه المقالات بملاحظة عن "تجربة الإصلاح الاقتصادي" في السودان بشكل عام في ظل نظامي مايو والإنقاذ. ففي رأينا ورغم اختلاف توجه النظامين وفلسفتهما السياسية ودوافعهما للإصلاح الاقتصادي إلا أنهما اشتركا - كنظامين عسكريين - في التسرع والعجلة في اتخاذ القرارات المؤثرة على التركيبة القطاعية للاقتصاد السوداني، وعدم تدبر العواقب السالبة والمشكلات التي ترتبت على تلك القرارات بصورة كافية في الحالين. ولا بأس من تكرار ما أوردناه في المقال الأخير من هذه السلسلة حول مقارنة التجربتين. فبمثل العجلة والجرأة السياسية التي أقدم بها نظام مايو إثر الانقلاب العسكري في 25 مايو 1969م على اتخاذ قراراته المزلزلة بالتأميم والمصادرة، أقدم نظام الانقاذ إثر الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989م، على اتخاذ قرارات التحرير الاقتصادي وخصخصة المؤسسات العامة، وأفرز تجربة في الاصلاح الاقتصادي كانت لها الكثير من الآثار السالبة على الاقتصاد السوداني ما زالت آثارها ماثلة. وتجربة نظام الانقاذ بسياساتها وأساليبها، مثلها مثل تجربة التأميم والمصادرة في عهد نظام مايو، أثارت وما زالت تثير جدلا واسعا بين ذوي الاختصاص والاهتمام، وتحتاج إلى كثير من التقصي والبحث والدراسة، وتلك قصة أخرى! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة