|
الأبوات التنظيمية الفلسطينية
|
د. مصطفى يوسف اللداوي
كثيرةٌ هي الأسماء الوهمية، والكُنى التنظيمية، والأبوات النضالية التي تدير الملف الفلسطيني، وتتحكم في القررات الوطنية، وتسيطر على مقاليد السلطة والحكم، وتملك مفاتيح الخزانات المالية، والتعيينات الإدارية، فتغلق دائرة المناصب على نفسها، وتتبادل الوظائف فيما بينها، وتمنع غيرها من الصعود، أو تولي مهامٍ تنظيمية أو إدارية.
بعضهم يحمل أكثر من اسمٍ وكنية، تناسباً مع المهمة والوظيفة، أو انسجاماً مع المرحلة والتاريخ، يعرفهم البعض بكنية، ويرونهم في مكانٍ آخر بغيرها، فلكلِ وظيفةٍ اسماً وكنية، وكل وقتٍ وزمانٍ يفرض التغيير وحمل الاسم الجديد، دون اعتبارٍ لأمنٍ أو تحسباً من عدو، الذي يعرف أسماءهم الحقيقية، وأرقام هواتفهم الخاصة، ويملك صورهم، ويحيط علماً بسفرياتهم وتنقلاتهم، ومكان إقامتهم، وبيوتهم وأسرهم، وأسماء أطفالهم ونسائهم، ومدارسهم ودراستهم.
ويعرف أصدقاءهم ومعارفهم، وأماكن ترددهم، والمطاعم التي يرتادونها، والمناطق التي يزورونها، فهم لدى العدو معروفين، وإن كانوا عند أهلهم وبين شعبهم مجهولين أو متنكرين، إذ يتعمدون أن يخفوا أنفسهم، ويعموا دورهم، ويغلفوا أعمالهم بسريةٍ وغموضٍ، ويحيطوا أنفسهم بهالةٍ لافتة من الأهمية والجدية.
قد مضى على بعضهم ربع قرنٍ كاملٍ في مناصبهم، يجدد العهدة لهم أصحابهم، ويحتفظ لهم بالوظيفة رفاقهم، ويأتي بهم فريقهم، وإذا غابوا لسببٍ أو لآخر، فإنهم يقربون ويسمون مستشارين، أو تخلق لهم مناصب ووظائف جديدة، تتناسب معهم، وتكون لهم ولأمثالهم، ولا يصلح لها غيرهم، ولا تكون بأي حالٍ لسواهم، وإن كلف خلق الوظيفة الجديدة لهم أموالاً طائلة، ومبالغ كبيرة، وميزانياتٍ جديدة، الأمر الذي يجعلهم في الصورة سنيناً، وفي واجهة العمل عمراً، لا يتغيرون ولا يتبدلون.
الكثير من هذه الشخصيات مجهولة الأصل، وغير معروفة التاريخ، تحمل أسماءً غير حقيقية، وتتحرك بجوازات سفرٍ مختلفة، وتحمل أكثر من جنسية، تتسكع في شوارع العواصم العربية، وتجول على الدول الأجنبية، وتتنقل في كل مكانٍ حيث شاءت، وعندها من التسهيلات والمساعدات ما يذلل أمامها الصعاب، ويرفع من طريقها العقبات، تتنقل بالطائرات، وتنفق على السفر بلا حساب، بحجة التمويه والتضليل، وقد ثبت أن بعضهم يعمل لدى أجهزةِ أمنٍ عربية، وأنهم ضباطٌ في مؤسساتها، وقد نجحوا في اختراق بنى التنظيمات الفلسطينية، واطلعوا على أسرارها التنظيمية، ومؤسساتها الإدارية، وعرفوا آلية اتخاذ القرار وصناعه.
هؤلاء هم أكثر الناس هذراً لمال، واستغلالاً للسلطة، وإساءةً للآخرين، يتقاضون أعلى الرواتب، ويتمتعون بأفضل الامتيازات، ويمنحون أكثر الهبات والمكافئات، إذ يستندون إلى جدرٍ تحميهم، ومراكز تقويهم، ووظائف تحصنهم، فلا يقوى على الوصول إليهم أحد، ولا يستطيع مساءلتهم آخر، ولا يحاسبهم على أخطائهم قانونٌ أو سلطة.
وإذا سقط أحدهم، وفضح أمره، وانكشف سره، ولم يعد من بقائه فائدة، ولا يرجى من وجوده منفعة، فإنه يعود أدراجه إلى بلده، أو إلى دولةٍ أخرى، يتمتع بإقامتها أو بجنسيتها، حاملاً اسمه الحقيقي أو اسماً جديداً، ليبدأ مرحلة عملٍ أخرى، ويباشر مهمةً مختلقةً له، منفصلة عن سابقتها أو على صلةٍ بها، لكن يبقى راتبه مدفوعاً، يؤدى إليه في الوقت والميعاد، وتبقى حقوقه محفوظة، وامتيازاته قائمة، فلا يحرم من شئٍ كان له، ولا يحجب عنه عطاءٌ كان مفروضاً له، فلا يعاني في بيته من ضائقة، ولا تشكو أسرته من فاقة.
وقد تبين أن الكثير ممن أقصوا لأسبابٍ عديدة، وأبعدوا نتيجة أخطاء أو جرائم، يعودون إلى العمل بسرعة، لكن من بواباتٍ أخرى، وبعناوين مختلفة، لا لأنهم أصحاب كفاءة وطاقة، وأهل خبرة ومعرفة، ولكن لأن أكثرهم يحمل أسراراً، ويطلع على عيوبٍ ومخازي، ما يجعل خير وسيلةٍ لكسب صمتهم، وضمان سكوتهم، أن يبقوا في الصف فلا يبتعدون، وأن يبقوا في التنظيم فلا يقصون، ةأن تبقى رواتبهم سارية فلا تقطع، وإن كان في وجودهم مضرة للتنظيم، وفي بقائهم مصيبة للجميع، وهؤلاء دوماً لهم ظهرٌ يسندهم، وقوة خفية أو معلنة تحميهم.
أما غيرهم من أصحاب الحقوق، وأهل الفضل، السابقين الأولين، الذين ضحوا وأعطوا، وقدموا وبذلوا، ممن لم تكن عندهم كنىً ولا أسماء وهمية، ولديهم سجلٌ حافلٌ بالعطاءات والمكرمات، نضالاً ومقاومة، وسجناً واعتقالاً، وصبراً وثباتاً، فإن حقوقهم تهدر، ورواتبهم تمنع، ويعاقبون وأهلهم، ويحرمون وأولادهم، ويحاربون ويضيق عليهم، ويشوهون ويساء إليهم، ويتركون لمصيرهم، بقراراتٍ شخصية ناقمةٍ خاقدة من أعلى الجهات التنظيمة، والمؤسسات القيادية.
إنه قدرٌ وقضاء، أُبتلي به شعبنا قديماً، وما زال يعاني منه إلى أيامنا هذه، فالأبوات المجهولة الأصل، والمريبة الدور، القادمة من بعيد، والآتية على قدر، الخالية الكفاءة، والمعدومة القدرة، المحمية بقوة السلطان، وحصانة ولي الأمر، ما زالت تحكمه وتتحكم فيه، وتسوقه وتقوده، وتحركه وتوجهه، ولا يوجد من يمنعها أو يردعها، أو يخيفها ويوقفها، بل تمضي بثقةٍ واطمئنان، وتسير بتؤدةٍ وإصرار، فهي تعرف أنها ثبات الأقوى، وسبب وجود الأول، الذي لا يقوى على حرمانها، ولا يستطيع عقابها، ولا يسمح لأحدٍ بمساءلتها، أو حجب راتبها، أو اغتصاب حقوقها، أو تجاوز أدوارها ومهامها، إنه داءٌ في الأمة يسري، ما زال صناعه يحلمون بالبقاء، ويتمنون في مناصبهم التجديد والخلود.
|
|
|
|
|
|