|
مسيرة تزوير (1)... هكذا كتبت رباح الصادق المهدي (مقال)
|
Quote: مسيرة تزوير (1) يختلف الناس كثيراً ولا يزالون مختلفين، وحول الانتخابات السودانية الأخيرة مورس ذلك الاختلاف بشكل عجيب، بدأ الطيف بأولئك الباصمين بالعشرة أنها نزيهة وحقيقية، وانتهى بأولئك القاطعين يقينا بتزويرها الفاضح، مرورا بالمتسائلين والمتشككين هل يمكن حقا أن يفوز المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب بهذه الأرقام الخرافية؟ وهل يمكن أن يجري تزوير كامل شامل هكذا في حضرة المراقبين؟ ونود أن نتتبع بنية التزوير لا بالدلائل والإحصائيات ولكن بمسيرة تقرأ منطقيا بنية التزوير منذ بدء عمليات الانتخابات. ولنبدأ بالقول إن السير في انتخابات نزيهة يقتضي عدة متطلبات في البنية السياسية والعدلية والإدارية. أما من الناحية السياسية فالنية لإجراء انتخابات ذات صدقية (وذلك مصطلح استخدم غربيا للحديث عن درجة من التزوير ليست فاضحة ويمكن قبولها) يتطلب موافقة الشركاء خاصة الأحزاب السياسية على كافة عتبات السلم الانتخابي وذلك حتى يتم القبول بالنتيجة، ويقابله أو يعارضه السعي في مراحل الانتخابات (بمن حضر)، أما البنية العدلية فتغيير الطاقم القانوني المقيد وإصلاح القضاء والشرطة المعنيين بالفصل في النزاع والتأمين الانتخابي وذلك لفك القيد الحزبي عليهما. والمتطلبات الإدارية متعلقة بمفوضية شفافة ونزيهة وكفؤة وغير منحازة لطرف. وغني عن القول إن هذه المتطلبات غابت جملة وتفصيلا في العملية الانتخابية مما يؤكد النية على التزوير، بيد أن تتبع مسيرة التزوير تؤكد شيئان: الأول أنه كانت هناك بنية هيكلية للتزوير أو «مشروع فساد كسياسة جامعة» بتعبير الشيخ الترابي وقد نفى في البداية وجود ذلك المشروع (حوار معه في أخبار اليوم بتاريخ الخميس 13 مايو 2010م)، والثاني هو أن العملية كانت بالفعل غريبة على التاريخ السوداني وربما الإنساني. وبتعبير الترابي في ذات اللقاء المذكور (كان ينبغي أن أعلم أن السلطة يمكن أن تفسد الإسلامي أو غير الإسلامي إلى هذا المبلغ، لكن كنت أظن ألا يصلوا إلى هذا المستوى) وقال إن الفساد الذي عايشناه من قبل لم يصل لهذا المستوى ولا في العالم كله وعقب (أخذوا وراء ظنوننا يعني تجاوزوا آفاق ظنون السوء وهذا معناه أن السلطة يمكن أن تفسد الإسلاميين لأن عصبيتهم شديدة، وهذا يجعلهم يتجاوزوا في الفساد). كانت هناك خطط للتزوير مختلفة ومتضاربة ولا يمكن اتخاذها سويا، فذهنية التزوير المتبعة اتخذت كل ما يمكن من تزوير وإن كان بعضه ينقض بعضا. وبرأينا أن هذا الدمج الأعرج بين وسائل تزويرية متضاربة لم يكن مقصودا فقد كان ناتج «شفقة» من جهة، وناتج «فشل» من جهة أخرى. وإن كان الدكتور حسن الترابي في لقائه المذكور عزاها لأن القائمين بالتزوير كانوا أهل الأمن لا أهل السياسة. دعونا نقفز فوق سيرة الانتخابات قفزا خفيفا متلمسين سيرة التزوير، وسنقف فقط في بعض المحطات مرتكزين على المنطق كما قلنا أكثر من الإحصائيات. أشارت تقارير كثيرة ومقالات لما جرى في الإحصاء السكاني باعتباره خرق أولي للنزاهة. وأهم ما قيل نقدا للإحصاء انعدام الشفافية فقد تم تجنيد العاملين بالإحصاء بشكل حزبي ينم عن نية سيئة، وجرى تكتم على عملياته، وبالفعل كانت نتيجته مصدر دهشة لجهات عديدة ورفضتها الحركة الشعبية لتحرير السودان وأخيرا اقتنع المؤتمر الوطني نفسه بحجة الحركة حول تلاعب الإحصاء بالنتائج في الجنوب وكان الاتفاق العجيب على الأربعين نائبا الإضافيين للحركة في الجنوب! ووجدت شكاوى واستغرابات بين أهل بورتسودان التي جاءت أقل في إحصائها من هيا، ثم ظلت شكاوى أخرى في الشمال معلقة مثل شكوى إهمال بعض الرحل، وقال البعض إن السجل يمكن أن يصبح أساسا لتعديل الإحصاء، ولكن السجل الانتخابي جاء حلقة أخرى من حلقات التلاعب كما سنرى. ترسيم الدوائر كان حلقة تلاعب وقد جرى على مرحلتين، في المرحلة الأولى تم التلاعب في بعض الدوائر وقد استلمت المفوضية شكاوى الأحزاب من ذلك وقبلت بعضها ورفضت أغلبها. أما المرحلة الثانية فقد كانت مرحلة النظر في الطعون، حيث تم تلاعب فيها بقبول بعض الطعونات وبالتالي التغيير في دوائر كانت مقبولة ومتسقة مع المعطيات السكانية والإدارية، هذا التغيير الجديد لم يكن الطعن فيه متاحا وقد مر عبره كثير من التلاعب كما أوضح الأستاذ محمد شريف علي رئيس لجنة ترسيم الدوائر بحزب الأمة القومي. أما التسجيل فقد سارت بتزويراته الركبان. وذكرنا في مقالات سابقة كيف أتيح للسجل أن يكون مزيدا بأسماء وهمية. ثم كيف حدث التواطؤ بين المفوضية القومية للانتخابات وبين أجهزة الإعلام وبين المؤتمر الوطني ليتم التعتيم على التسجيل فلا يحس به المواطن العادي، بينما قام بعض أعضاء المفوضية ومنهم الفريق الهادي محمد أحمد في لقاء معه بالإذاعة السودانية بإلقاء اللائمة على الأحزاب، وحينها، أي في مطلع نوفمبر 2009م توجسنا من حديث السيد الهادي واعتبرنا ذلك من ضلالات المفوضية، وفي ذلك الوقت كان مقالنا مستغربا وسط أجواء من الاحترام رفلت فيها المفوضية بفضل رئاسة مولانا أبيل ألير وعضوية بعض الشخصيات المرموقة، ولكنا لم نكن نصدق أن المفوضية التي تعرف خارطة البلاد جيدا وإمكانية الأحزاب بل التي يجب عليها أن تعرف أن التعليم والتثقيف الانتخابي هي مهمة رسمية في المقام الأول، لم نكن نصدق أنها تتنازل عن مهامها تلك وتلقيها على الأحزاب مع حالها المعروف بدون سوء نية. وبرغم الملاحظات على خروقات تسجيل القوات النظامية وعلى شهادات السكن المضروبة المعطاة بكرم حاتمي من قبل اللجان الشعبية والتي سمحت بتعدد التسجيلات للفرد وإضافة أسماء وهمية، وكل هذا وذاك مما رصده الراصدون، فإن السجل النهائي لم يظهر أبدا، وظل موقع المفوضية القومية للانتخابات خاليا من السجل مستضيفا لمراكز التسجيل بينما مسئولها الإعلامي السيد أبو بكر وزيري يكذب كذبا فاضحا داخل اجتماعات الآلية المشتركة لاستخدام الأجهزة الإعلامية ويقول إن السجل منشور بموقع المفوضية تابعا الكذبة بتقطيبة لا تنفك!! بل وحتى في الأسبوع الأخير قبل الاقتراع كان التسجيل يجري في جهات عديدة على قدم وساق وقد شكا مواطنو قرية أم سهيلة بالنيل الأبيض –كمثال- أن التسجيل كان يجري حتى عشية الاقتراع نفسها!. والنقطة التي نريد التركيز عليها هنا والتي تدل على نية التزوير المسبقة أن المؤتمر الوطني لم يجتهد حتى في إيصال صوت التسجيل في أماكن وجوده المحتملة، لقد لعب في المضمون ولم يتلاعب في المحتمل، وحينما أجرت اللجنة العلمية في الحملة لانتخاب الإمام الصادق المهدي للرئاسة خلاصا للوطن استطلاعا في أوائل أبريل الماضي في العاصمة الخرطوم وجدت أن نسبة الذين يؤيدون السيد عمر البشير بين العامة أكبر منها بين المسجلين، والعكس صحيح بالنسبة للإمام الصادق المهدي الذي ارتفعت نسبة مؤيديه بين المسجلين عنها بين جميع المستطلعين. وهذا برأينا راجع لما جنته براقش على نفسها، فالخرطوم هي أسوأ الولايات في الوعي السياسي وأكثرها تعرضا لدعاية المؤتمر الوطني وأجهزة إعلامه وتأثرا بها، ولذلك فإن تغييب الوعي بالتسجيل وسط سكانها دار على المؤتمر الوطني، ولو كان يريد حقا كسبا انتخابيا حقيقيا لكان عمل على رفع قيود التعتيم على التسجيل بدلا عن نصبها.. لكن المقصود لم يكن كسبا حقيقيا، كما أثبتت الحقائق التالية. لكن أفضح حلقات العملية الانتخابية فيما يتعلق بكشف التزوير ونيته كانت الطريقة التي أدار بها المؤتمر الوطني ترشحيات الولاة، وأول مصدر للريبة كان عزل الولاة الذين لم تتم تسميتهم كمرشحين، وهذا لضمان عدم عرقلتهم للخطة الموضوعة في الولاية بدافع الانتقام. وثانيها كانت طريقة الاختيار، فقد كانت المجالس الشورية الولائية تنتخب سبعة يرفعون للمركز وكان مجلس الشورى الاتحادي يختار خمسة من بينهم يرفعون لرئيس المؤتمر الوطني –رئيس الجمهورية- ليختار واحدا قد يكون بل غالبا ما يكون الحائز على أقل الأصوات من بين منافسيه الآخرين. كانت مهزلة بأية وجهة نظر ديمقراطية لم تركز على الأكثر شعبية أو قبولا وسط الجماهير بل الأكثر قبولا في الأوساط الأمنية. وهذا يعني بوضوح أنه لم تكن هناك أية نية للرجوع لتلك الجماهير حتى داخل الوطني ناهيك عن الشارع السوداني العام. لقد حولت عملية الترشيحات عددا غفيرا من عضوية المؤتمر الوطني لمعارضة صريحة لمرشح حزبهم ومؤيدين لمرشحين آخرين، حدث هذا في كل الولايات الشمالية، وحينما كان العادون يعدون للمنافسين الولائيين كان مرشح الوطني في الغالب يأتي في الدرجة الثالثة أو الرابعة بينما يتنافس على المقعد مرشحين آخرين. وكنا نستغرب من ذلك ونعده من دقسات الزمان المؤتمروطنجية إذ أن الانتخابات لها منطقها والأحزاب التي تخوض الانتخابات العامة تخوضها أولا داخل دهاليزها لتتعرف على أكثر المرشحين شعبية ليفوز، أما أن تجري الانتخابات داخليا ثم تلوي عنقها وتزيح جانبا الحائزين على الأصوات العليا وتقدم الذين ما نالوا أصواتا إلا بالمال كما رشح عن ارتفاع أثمان الأصوات داخل مجالس الشورى الولائية، فمعناها أنك لا تفهم منطق الانتخابات.. لكن اتضح جليا أن المسألة لم تكن إلا حلقة من حلقات الطبخ. وبذلك سار المؤتمر الوطني بمرشحيه الأضعف داخل حزبه لا يأبه بالتظاهر ضدهم أحيانا بل يطلق على المتظاهرين من حزبه الغاز المسيل للدموع الكاتم للأنفاس ذاته.. نتيجة ذلك أنه لم تكن هناك أية فرصة للفوز لمرشحي الوطني في أية انتخابات حقيقية. وصار المرشح الأقوى للوالي في البحر الأحمر هو السيد عبد الله ابو فاطمة المستقل اسما والشعبي فعلا والذي تنازل له كل المرشحين الآخرين، والمرشح الأقوى في نهر النيل هو دكتور البخاري الجعلي من الاتحادي الأصل ولا منافس له ولا منازع، والمرشح الأقوى في شمال كردفان هو د محمد المهدي حسن من الأمة القومي ولا منافس حقيقي له، والمنافس الأقوى في سنار هو الناظر مالك الحسن أبو روف وتنافسه الحركة الشعبية لتحرير السودان بل لقد ارتعدت فرائص الوطني من حركته الواسعة وحاول تقييد حملته التي كانت تحوز على نجاح منقطع النظير ذلك أنه شكل قيادة صاعدة حازت على احترام الجميع وشكل مكسبا لحزبه لا يفله أن الانتخابات ضربت، وفي النيل الأزرق كان المرشح الأقوى هو الفريق مالك عقار عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهكذا.. ولو جئنا لكسلا لوجدنا التنافس بين مرشح الاتحادي الأصل ومرشح الأمة القومي، وحتى مؤيدي المؤتمر الوطني ماتوا غيظا من (فوز الخاسر) في ترشيحات الولاية، وأيدوا مرشحين منافسين.. نعم إن الطريقة التي أدار بها المؤتمر الوطني الانتخابات داخل حزبه هي الدليل الأقوى على انه لم يكن يزمع إجراء انتخابات ولا يحزنون.. نواصل بإذن الله وليبق ما بيننا |
جريدة الاحداث 16 مايو 2010
|
|
|
|
|
|