|
رياحين عند مرقد جون قرنق !
|
رياحين عند مرقد جون قرنق !
فى صيف عام 1988 ، كنت بصدد إعداد بحث حول "العنف السياسى ومآلاته فى السودان" . وقد أسعدنى الظرف بأن ألتقى الدكتور جون قرنق دى مبيور فى محل إقامته فى أطراف أديس أبابا . عدت من تلك الرحلة سعيداً وغانماًً بالكم الهائل من المعلومات والإنطباعات التى أتاحها لى ذلك اليوم . وقد كان دكتور جون ، كما يناديه رفاقه وأبناؤه تحبباً ، هاشاً وحفياً أدخل الدفء والطمأنينة والإلفة إلى قلبى . وأحسست حينها بأننى أحادث شخصاً أعرفه من قبل . ويبدو أن هذا الإنطباع قد ترسخ لدى العديد ممن تثنى لهم الحديث إلى هذا القائد السياسى والعسكرى السامق مثل "نجم الشمال" . حدثنى دكتور جون عن سنى إقامته فى مدينة "دار السلام – تنزانيا" فى منتصف ستينات القرن الماضى . عندما كانت دار السلام "مكة" المفكرين الإشتراكيين الذين جذبتهم إليها تجربة الإشتراكية الإفريقية ، القائمة على مبادىء الإعتماد الذاتى والعدالة واليمقراطية الجماعية ، التى يسمونها بالسواحيلى "او يا جماعة" . وقد تضمن هذه الأفكار "إعلان أروشا" التاريخى . وأضفى الزعيم الإفريقى جوليوس نيريرى وقاراً وبهاءاً على تجربة الإشتراكية الإفريقية . ومعلوم أنه والزعماء الخالدون جمال ونيكروما تحولوا إلى منارات سامقة للتحرر الوطنى ، والوحدة الإفريقية ، ومناهضة مشاريع الإستعمار الحديث فى إفريقيا .
وخلال سنى دراسته فى الولايات المتحدة (كلية جرينل) وقف جون قرنق على تجارب حركة الطلبة الأمريكيين المناهضين للحرب ضد فيتنام . وحينها أخذت نداءات السلام ، وحق الشعوب فى إختيار نظمها الإجتماعية تخترق حاجز الصمت والتعتيم المضروبة على ما يحدث خارج أسوار الولايات المتحدة الإمريكية . ومن حسن طالعه أن جون قرنق عاد إلى تنزانيا بعد إتمام دراسته و تعرف عن كثب على مفكرين ومناضلين شامخين ، أمثال وولتر رودنى ، وأندرى غوندر فرانك ، وروث فيرست صاحبة كتاب "فوهة البندقية" ، والنجم السامق كريس هانى من زعماء المؤتمر الوطنى الأفريقى فى جنوب إفريقيا ، ومحمود ممدانى الكاتب اليوغندى المرموق ، وعيسى تجيفجى من تنزانيا وغيرهم . فى حمية الإنفعال بأفكار التحرر الوطنى والوحدة الإفريقية ، عاد جون قرنق إلى جنوب السودان والتقى اللواء جوزيف لاقو قائد حركة الأنيانيا ذات الأهداف الإنفصالية . وفى مناسبة لاحقة وقف اللواء لاقو أمام أعضاء برلمان جعفر نميرى لإلقاء الضوء على شخصية دكتور جون . وتطرق إلى الحوار الذى دار بينهما عندما زارالأخير معسكرهم فى عام 1970 . قال لاقو "سألت جون قرنق آنذاك : لقد جئت إلينا ، وشاهدت مانقوم به ولكنك لم تفصح لنا عن إنطباعك؟ فأجابنى بأنه لا يرغب فى الإنضمام إلى حركة هوجاء ، تسعى إلى تقسيم بلد إفريقى . وبعدها قفل راجعاً إلى دار السلام " . وبعد إنقضاء بضعة أشهرعاد جون قرنق وأنضم إلى حركة الأنيانيا باعتبارها حسب قوله قد تحولت إلى حركة ذات قاعدة شعبية عريضة . "كان من الحكمة أن نسارع للإنخراط فيها والعمل من داخلها لإنتزاع المبادرة من أيدى دعاة فصل جنوب السودان" . وخلال حديثى مع دكتور جون سالته : هنالك بعض الآراء خاصة بين مثقفى شمال السودان تذهب إلى أنكم لا تفصحون عن هدفكم الحقيقى وهو فصل جنوب السودان ، وبأنكم تمثلون رأس الرمح لإستراتيجية عالمية "شيوعية" ، تسعى لتكملة "الحزام الأحمر" الممتد من اليمن الجنوبى ، إلى إثيوبيا (منقستو هيلامريام) ، وصولاً إلى الجماهيرية الليبية ، فى نطاق ما كان يعرف آنذاك "بحلف عدن" . كذلك يقول البعض بأنكم تضمرون عداءاً دفيناً للإسلام والثقافة العربية وإنتماء السودان العربى .
والحق يقال أن الراحل العزيز لم يبد ضجراً ، وكان إنطباعى ، بأنه رجل وهبه الله نعمة الإصغاء . أنيساً ، يتحدث معك ، ولا يتحدث إليك ، يحاور ولا يجادل "بظنطياً"ً . يعرض ماعنده بموضوعية وإعتدال وحصافة . وقد حباه الله بقدر من الدعابة الذكية ومتانة الحجج . كتب عنه الصحفى المصرى جمال نكروما ، بعد لقائهما للمرة الأولى ما يلى "لقد إنتابنى إحساس غريب ، وكأننى إلتقيت هذا الرجل (قرنق) من قبل . كل شىء فيه كان معهوداً لدى . وفى نظرته الثاقبة وفكره كنت ألمح شيئاً من كوامى نكروما . فقد ترك كل منهما وراءه إنطباعاً على القارة (الإفريقية) بكاملها ."
كان العقيد قرنق من جيل القادة الأفارقة الناهض من أمثال يورى موسفينى ولورنس كابيلا وغيرهم . لم يكل ولم يمل من شرح أهداف الحركة الشعبية لتحرير السودان . ودعوتهم لبناء "السودان الجديد" حيث يتحقق التآخى بين قومياته المتعددة ، على أساس عدالة المشاركة فى توزيع الثروة والسلطة . وتحقيق هدفهم بصهر هذه القوميات فى "بوتقة" سودانية تسع لكل خصائص المجتمع السودانى وتعدد ثقافاته ودياناته ومعتقداته وأنماط إقتصاده . والعمل بمبدأ "الدين لله ، والوطن للجميع" ، وفصل كريم المعتقدات عن السياسة باعتبارها نشاطاً بشرياً يخطئون ويصيبون بشأنه . وفى حديثه عن إستيعاب التعدد أعجبنى إستحداثه لمفهوم "السرادق الكبير" الذى يتسع لكل القوميات . وكما قال ، كل ما كبر السرادق تتهيىء أمامنا فرصاً أوسع لتمتين وحدة السودان ومنعته .
وقد أسهم دكتور جون فى تعميق مفهوم المناطق "المهمشة" . ونبه إلى ضرورة التعجيل بازالة مظاهر التطور الإقتصادى غير المتوازى بين أقاليم السودان . وإنعدام العدالة فى توزيع الثروة . والهيمنة على السلطة بواسطة المنحدرين من مناطق الإنتاج الحديث فى وسط السودان . وللمرة الأولى لمحت رنة حزن فى حديث دكتور جون ، عندما تطرق إلى ردود الفعل تجاه الحركة الشعبية ، وإحجام السواد الأعظم من الناس فى شمال السودان عن أخذ ما أعلنته حركتهم على محمل الجد . "لقد بحت أصواتنا بأننا لانسعى لإنفصال جنوب السودان، وبأن المعارك التى خضناها فى الستة أشهر الأولى كان الغرض منها إجتثاث دعاة الإنفصال . وقد نجحنا فى ذلك . وقلنا مراراً وتكراراً أن الثقافة العربية والدين الإسلامى من مكونات الشخصية السودانية . ولكن لا أحد فى شمال السودان يأبه لما يصدر عنا . وربما اختلف الحال إذا قدر لحركتنا أن تنطلق من إحدى المدن فى شمال السودان مثل شندى أو كسلا" . وفى حديثه عن إنتماءاته الفكرية بين الراسمالية والشيوعية ، إستحدث دكتور جون مصطلح "السودانوية" Sudanism أى النظرية المستنبطة من الواقع السودانى . وفى سؤالنا عن مدى إستعداده للمساومة لبلوغ أهدافهم المعلنة . ذكر بأنه قد وطن نفسه على السعى بكل الوسائل المتاحة لبناء جسور العمل المشترك وعقد التحالفات "النجيضة" ليس مع أعدائه فسب ، بل مع حلفائه داخل الحركة الشعبية . وكشأن القادة السياسيين المحنكين قال بأنه يؤمن بالحكمة القائلة "أبق على صديقك قريباً منك ، وعلى عدوك أكثر قرباً!"
ظل دكتور جون وفياً لإفكاره حتى لحظة موته المفاجىء ، عصر ذلك اليوم المشئوم لكل السودانيين جنوباً وشمالاً ولأنصار السلام والعدالة فى أنحاء العالم . وكانت خاتمة أعماله توقيع إتفاقية "نيفاشا" التى فتحت آفاقاً للسلام ، والحكم الذاتى ، وحق تقرير المصير لمواطنى جنوب السودان . وكان على يقين بأن الحرب مهما طال أمدها ستؤدى إلى طريق مسدود . وبأن ميزان القوى ، لن يتغير فى المدى المنظور لصالح حركته ، وبنفس الدر لن يرجح تماماً لصالح الطرف الآخر . وقد راهن على أن "قوى الطبيعة" ستدفع عملية السلام إلى غاياتها ، وتفتح آفاقاً أفضل "لبناء السودان الجديد" . وكما قال هذا الرهان ، هو "ترجمتى العملية لمنهج البراغماتية" التى تأخذ بعين الإعتبار أن هذه الحرب تدور رحاها على إمتداد عشرات السنين فى جنوب السودان . ومن الطبيعى أن يتسرب التعب واليأس والشيخوخة فى صفوف المحاربين . بينما تتطلع الأمهات والأبناء والأرامل إلى عودة أعزائهم ، وعودة الحياة إلى مسارها .
فقد السودان بموت جون قرنق أحد أبنائه المخلصين ، وفقد جنوب السودان بفقده أميز قادته السياسيين والعسكريين . وفقدت إفريقيا رمزاً من رموز الحرية والتضامن والسلام . لقد كانت أبلغ الكلمات فى نعيه ما قالته أرملته وسنده الأعظم ، السيدة ربيكا مياندينج "لقد كان جون بالنسبة لنا مثل نبينا موسى فى التوراة . أتم مهمته ، ومن ثم حان الوقت لرحيله ." وبمثل يقينه وثباته هدأت من روع ملايين السودانيين الذين هزمتهم الفاجعة الكبرى . "لقد منحنا الرب جون . وها هو الرب يسترد وديعته ." لقد رحل جون قرنق دى مبيور والوطن وأبنائه جنوباً وشمالاً فى أشد الحاجة إلى حكمته ، وشجاعته ووفائه . فطوبى له فى الأعالى !
|
|
|
|
|
|