الترابي والكتابات المتعددة في الفكر التحديثي في الإسلام" مقالات مختارة"

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 03:29 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-28-2006, 11:39 AM

القلب النابض
<aالقلب النابض
تاريخ التسجيل: 06-22-2002
مجموع المشاركات: 8418

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الترابي والكتابات المتعددة في الفكر التحديثي في الإسلام" مقالات مختارة"

    الترابي والكتابات المتعددة في الفكر التحديثي في الإسلام

    سعيد محمد عدنان

    لندن (المملكة المتحدة)
    [email protected]

    الكتابات المتعددة في الفكر التحديثي في الإسلام، وأخَصّها كتابات الدكتور الترابي، حدثُ في غاية الأهمية وبركة أتانا بها عهد التقنية والسرعة لعلاج مرض قرون في فترة وجيزة إن شاء الله، وهذه نعمة من عند الله تعالى ألحقها لنا لنجدتنا بعد غينا وإخفاقنا الذي كاد أن يصبح لعنة كامنة لا خلاص منها، و أملي وأنا أدعو الله عزّ و جل لتوسعة الصدور وشحذ العقول لتناولها موضوعياً بعيداً عن التكفير والترهيب. وأورد هنا إنني لست من علماء أصول الفقه ولا أجد، ما لم أكن راغباً في التبحر في البحث في القانون ومصادره، لا أجد ما يدعوني لأن أكون عالماُ أو أحتاج لعالم لأتحدث عن ديني ولأفهمه أو لأن أدعو له، بل وأستطيع أن أساعد في فض الغشاء من العيون فيما تعرض له الإسلام من تشويهات تسبب بها البشر، في الإبتعاد عن البساطة التي أنزل بها الله تعالى الرسالة الإسلامية والتي أوصى بتحريها من لغط يقود للإبتعاد عنها ولإضاعة معجزتها التي أنزلها تعالى للبشر لهديهم للإيمان، و أعتقد أن العلماء استرسلوا في حمى الخلافات و التبارز العرقي و الطائفي و الشخصي، وانفلتوا إلى الجدل و التعقيد، وأسوأ ما فيه الإنجراف في المصدرية، وأن ما آل إليه الدين الإسلامي من عراكٍ داخلي وتحارب صار لعنة على المسلمين و عائق للدعوة للإسلام.

    إنني معجب جداً بما جاء به الدكتور الترابي من تحرر من هيمنة التسلط القداسي كما أسماه الأخ بابكر القاضي في مقالته - الحداثة .. وكوابح القداسة في موقع "حركة العدل والمساواة" في الأسبوع الحالي وأسهم أيضاُ في العطاء في هذه المعضلة، وأشيد بقدرة الترابي العالية في التحليل والتفرس. وهذا الإتجاه لرفض الوصاية في الدين هو في نظري أبعد مما عالجه الدكتور الترابي، والحمد لله قد تطور خط إصلاحي أكثر جرأةً في رفض تلك الوصاية ومصادرها، ولكن هذا التطور التكنولوجي في سرعة المعلومة و تقريب العالم أكثر وأكثر يجب ألا يفلت من يدنا لتنقية خلافاتنا في دين هو أدق و أوضح و أبلغ حِكماً وخِطاباً، و فيه حماية إلهية من التعديل و التبديل، فلا نعجز في الإعتداد به والثقة في كماله و حجيته، فنتعثر و يتقدم غيرنا، فنصبح إما دليلاً على إخفاق معجزته و ادعائنا مصدريته الإلهية، أو مثالاُ على غوغائيتنا و عجزنا كقوم.

    واضطلعت أيضاً علي البحث الفضفاض الذي جاد به الأخ محمد بن المختار الشنقيطي في سودانايل بتأريخ 8 يونيو 2006 تناول فيه ما أفرده الدكتور الترابي من نقاط واستياءه من الترهيب له و المهاترة منه، وأشيد بعقليته المتفتحة في النقاش الهادئ والتقبل للرأي الآخر، ورغم عدم قناعتي بتشعب الجدال و ضرورة الغوص في جدليات الفقه كما أفاض هو، إلا أنني أعتقد أنني أستطيع فرد نظرتي لتأييدهما أو مخالفتهما بالبساطة اللازمة وحسبي أن رأيي ربما يؤكد قوة دعواي بعدم ضرورة التعقيد في فهم الرسالة الإسلامية.

    ففي حكم المرأه والمسيحى بكل بساطة كان رأي الدكتور الترابي أجلى بالحق من وقفته بجانبه، فقد أفتى هذه الفتوى الشجاعة المتفحصة، ولكن في تراجع اعتذاري في شرطه ظرف استنفاد فرصة وجود رجل وأن يكون مسلماً، في قوله: (لا لكى أقول ان المسيحيه منهجا فى الحياه – كذلك اذا وجدت المرأه أصلح سأصوت لها وهكذا المسيحى) وإشارته للإضطرار إلى "سيلفاكير" كضرورة تمليها الظروف (فقه الضرورة؟). وأعتقد أن تردد الدكتور الترابي في الفصل في هذا الأمر (كما هو مطابق لتردده في المصدريات وفي تسييس الدين)، يرجع إلى أنه لا زال أسيراُ لبعض المسلمات في التسلط الموروث للعلماء و أنه لم يتب بعد التوبة النصوح و كأنه يتوب في مراحل بعد محاولة الإسراف وبعد فشلها، وسأغطي هذه النقاط فيما يأتي، ولكنني ولحين ذلك سأوضح بمثال الآن للنقطة آنفة الذكر حتى لا يبدو الحديث كأنه إهانة، فمثلاً دكر الدكتور الترابي في مقالٍ سابق أنه أتى بالإنقاذ فعاقبه الله، ويفهم من ذلك جلياً أن عقاب الله هو لتسييسه الديانة، ولم يخطر ببالي أنا شخصياً أن العقاب لاختياره غير الموفق لمن أولاهم الحكم. أما ما عدا ذلك، بما في ذلك استلام السلطة بالقوة وبدون استفتاء كل المواطنين المالكين الحقيقيين للسلطة، فإن كان هو سبب تنويهه بعقاب الله، فإن في ذلك إقرار بأن الحاكمية للشعب في السياسة وليس لله، فالله لا يطلب تفويضاُ ولا دست الحكم الدنيوي و هو مخير في عباده ولا يحتاج من يمثله، والحساب لما كسبت كل نفس عنده في الآخرة. ورغم هذاالوضوح في رأي الدكتور الترابي في عدم تسييس الدين كما يبدو لي، إلا أنه لا يزال يشير إلى "المنهج" و "النموذج" الإسلامي. وبما أن الإسلام ليس له في الحكم فلا جدوى من مناقشة من له الحق في الحكم. فمن الخطأ أن يُمارس تحريك المسلمين بإسم الإسلام حتى لينافسوا العالم سياسياً بمنهج ونموذج فى الحياه، فالمنهج الأخلاقي موجود في القرآن الكريم وأغلبه منفذ الآن في العالم بالأديان السماوية الأخرى ومن الجهود العلمانية المأخوذة من الحضارة الإغريقية، و الإسلام مغيب. فعلينا تنقيته أولاً من عبث السلطويين وحث العالم على قبوله. أما النماذج فهي مهمة الفلاسفة والسياسيين ونجاحها هو نجاحهم وليس الإسلام، فلا حزن على فشل، ولا انبهارٍ بنجاح. كذلك في مجال آخر في مقالته تجد إقراره بعدم وجود نصوص للحكم في النصوص الإسلامية لسبب في جملة سببية وفي نفس الجملة تجد جملةً هي المسبَّب مرجع ذلك السبب وهو وجود فجوة، في قوله: "هناك فجوه، فالكتب الاسلاميه لايوجد بها اى شئ عن الحكم". لا! بل ولن يكون لأن الحكم الإسلامي هو من صنع العلماء . فالدين لبناء سقف الأخلاقيات التي تمثل الحدود في صلاحيات السلطة وفي حماية حقوق الآخرين من أناس وحيوان و حماية البيئة، وأما الحكم فهو شورى وليس للدين له إلاّ إلزام فردي أمام ربه، زائداً الإلتزام بسقف الأخلاقيات المبنية منه بحدودها التي أنزلها الله تعالى في مسئولية الفرد نحو الجماعة. وعندما يقدر الله لأحدٍ أن يكون خليفةَ له في الأرض، يبيّن ذلك واضحاً، مثال الحال لداؤود وسليمان عليهما السلام في الآية 26 من سورة ص"يا داؤود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب"، وهي حجّة أيضاً بأنّ دولة الله في الأرض لايلزم لها دستور إذ أنّ الله يديرها هو --- ومثال آخر سليمان عليه السلام طلب من الله الملك وتفويض منه تعالى كما ورد في نفس السورة في الآيات 35 إلى 40 "قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب ﴿﴾ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءاً حيث أصاب ﴿﴾ والشياطين كل بناءٍ وغواص ﴿﴾ وآخرين مقرنين بالأصفاد ﴿﴾ هذا عطاؤنا فامتن أو أمسك بغير حساب ﴿﴾ وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" صدق الله العظيم، ولم يأت أحداُ غيرهما الملك مع الرسالة.

    أما أهل الكتاب من هودٍ ونصارى فلم ينعتهم الله تعالى بالإجمال بأنهم كفار، أو مشركين، فالكفر والشرك لهما مميزاتهما من سواهما، وينطبق أي منهم على من تميز بذلك، بما في ذلك المسلمين، فمن يتقرب لغير الله ويلوذ له لحمايته فهو مشرك، و ينطبق هذا على من وضع الثالوث وضعاً إلاهياً، أو من اتخذ الأولياء أو قبورهم أو ماء وضوئهم أو إشاراتهم وعداً لهم بحسن الجزاء أو رفع العذ اب عنهم في الآخرة، وهو مقام الله وحده لم يشرك فيه أحداً. كذلك المتعبد رياءاً، فالذي يسارع للصلاة في حضرة المدير أو الحاكم بما لم يعتد عليه أو يسارع إليه بنفس الدرجة فهو منافق وعبادته تلك لغير الله، و الذي لا يصلي النوافل أو يواظب عليها، ولكنه يواظب عليها في صلاة الجماعة رياءاً، أو يحج عدة مرات ليشهر إسمه بأنه كثير الحج، أوفي الصيام بأنه صائم الدهر، والذين يصنعون في جباههم علامة الصلاة، و طالقي اللحى للرياء و حاملي المسبحة للوجاهة التعبدية، كل هؤلاء، والأمثلة كثيرة يعتيرون متعبدين لغير الله منافقين، وقد حذر الله عزّ و جل منهم في سورة الكهف (قل هل أنبّئكم بالأخسرين أعمالاً ﴿﴾ الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ً) S18:103/104 وقوله تعالى في سورة فاطر الآية 8 ﴿أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا؟ فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون﴾. أما الهود والنصارى الذين التزموا بالحق ولم يشركوا بالله فكما وعد الله أن لهم رزقهم و رضاء الله عنهم كما في الآية 69 في سورة المائدة "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، والآية 121 سورة البقرة "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فاؤلئك هم الخاسرون" صدق الله العظيم – فمالم يجهر بالشرك لا يحسب بهودية أو نصرانية. كم من نصراني تجادلت معه أقر باختلافهم عنا بعدم الإيمان بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فقط، وأما الثالوث فكثير منهم يفسره كالآتي: أن الله هو الإله لا سواه، وأن عيسى عليه السلام يدعونه ولده ليس ولداً عضوياً إنما إشارة إلى أنه رباه كما عندنا في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، ولذا يحملون هذا اللقب نفسه بأن البشر جميعاً "هم أطفال لله" و استعمل أيضاً بواسطة جماعة دينية إسمأً لها، أما الروح القدس فيفهمون أنها الوسيط بين الله و عيسى وما يميز عيسى من البشر، وكل ذلك لا شرك فيه. هنالك أيضاً جماعة "جوهافاز ويتنسسز" أي جماعة "شهود يهوا" وهو إسم الله لديهم، وهم يوحدون الله كما نحن، و يجدون قواسم مشتركة كثيرة بيننا حتى أنهم في كتبهم ومنشوراتهم يستدلون مع آياتهم من إنجيلهم بآيات من القرآن الكريم بانتظام. فالشرك ليس لنا أن نرسمه نمطياً خاصة وأنه يعزل الإسلام من مصداقية الحق لدى هؤلاء، وقد أنزل الله تعالى كمية من الآيات يدقق فيها في تصنيف اليهود والنصارى في كل ما يعملون، ويخاطبهم كجماعة لها مقاييس خاصة.

    ثم هنالك ما أفرد الدكتور الترابي الكثير فيه، وهو من أهم ما أختلف معه فيه ويختلف معه فيه غالبية مخالفيه، ولكنني أعتقد أنه تأخر منه بالإقرار كما ذكرت آنفاً عن التوبة المرحلية مما يجعلني أعشم في أن يكون رأيي فرصة له للإستدراك، لا للعلم، لاحترامي لوسع علمه الشاسع، خاصةً فوق علمي، ولكن لا أظن أغلب المختلفين معه لهم نفس اعتقادي. فالدكتور الترابي يحمل صورة مًرة عن الغرب، ولا ألومه لو كان ذلك ليس تعميماً عنده عن الغرب، فالصورة النمطية القبيحة التي انطبعت في ذهنه للغرب ما كان يجوز لها ذلك في عقلٍ متدبر مثل عقله، ووقع بذلك فريسة دسمة لمهندسي ذلك الإنطباع. فالغرب أكثره غير دينيين، وليست ثقافتهم لا دينية، فهجرهم للدين في السياسة ثم تكريس العلمانية كان درءاً للتناحر والتحارب الطائفي الديني، ولكن السقوف الأخلاقية لم يتنازلوا عنها واستقوها من أديانهم و حكم القدماء الإغريق، وما على الإسلام إلا الإدلاء بدلوه معهم وهم يريدون ذلك. أما الذين رفضوا ذلك وفضلوا الحرابات و متابعة الثأر القديم من المتصلبين في تلك الديانات هم الذين ينشرون الكراهية و الإضطهاد و يتقوون بالحروب، وهم المتطرفون المسيحيون واليهود وكذلك المسلمون، أما عموم المجتمع الغربي، فما عدا ما رسخه الإعلام المخترق بهؤلاء المتسلطين، مجتمع سهل تعامله في الحق و خشية الله، و هم أسهل من يمكن إلحاقه بالإسلام و أنفع.

    إن الإسلام لم يضعف ولكن صورته شوهها السابقون بزجه في الحكم الإستعماري في الفتوحات الإسلامية رغم حضاريته في نموذج التعامل وحرية الأديان كما لم يعرفها البشر حتى الآن، أما الآن فالغرب لا يرفضه كدين، بل العكس هو الصحيح، فقد كان منتشراً بشكل مدهش، وهناك من كَتَب وأشاد بالإسلام في وضعه سقوفات أخلاقية لم يوجد لها مثيل حتى الآن، وكنت أتابع برامج يومية لشرح الإسلام وتغطيات لانتشاره على وجه الخصوس في بريطانيا وأمريكا وفي أوروبا عامةً منذ رجوعي للملكة المتحدة في عام 1996 تبث لمدة ساعة في الفجر الباكر كل يوم على محطة البي بي سي مع العلوم الدراسية لطلاب المدارس، وبالتالي تنتهي مسجلة عند كل طالب ينهل من تدريس البي بي سي، وهم تقريباُ كل الطلاب بالمملكة المتحدة، ومن خلال تلك البرامج وضح لي مدي المد الإسلامي خاصة في أمريكا، حيث بلغ آنذاك المسلمون هناك مليوني مسلم. إلاّ أن كل ذلك توقف وانقلب الإعجاب إلي تشكك، و الإعتناق إلى اضطهاد ونفور، والفضل في ذلك لدعاة التسلط باسم الدين من العلماء و المتسلطين. أذكر عندما سطع نجم الإسلام غار تجار الدين من الأديان السماوية الأخري (وهم الذين يحاربون الإسلام الآن لأن أغلبية الشعب في أوروبا علمانيين)، عقدت ندوات في التلفزيون لمناقشة أمور حساسة وضعت شركاً للعلماء، فتحدث أبو حمزة المصري مرةً، و عمر بكري السوري الأصل مرةً أخرى، وعكسا صورة قبيحة للإسلام، بينما الرابي المشترك في الندوات أبدع في شرح كيف دينه دين الحق و الحرية و السلام، ومنذ ذلك الوقت تخصص بعض الصحفيين في رصد تصرفات هؤلاء المتشنجين و لم يكن صعباً لحب هؤلاء تسليط الأضواء عليهم، فا نكشف كيف عاش أبو حمزة في الماضي، وسكنه في بيت من الدولة ويستلم إعانة من الدولة لعدم عمله بينما ينشط في حرابتها، ويصورون بالفيديو عمر البكري يشتري الصور الفاضحة بالكميات الهائلة ويقول إنه يفعل ذلك لنزع الصور ووضع آيات قرآنية مكانها، فيروج لتلك التجارة الفاجرة ببدعة، فالقرآن للقراءة والتفكر وليس للزينة و الرياء. ثم يصرحون هذه هي الصور القبيحة التي تفضل بها علماؤنا، وها هو نتاجها: توقف المد الإسلامي، لأننا نصر أن يكون مداً سياسياً.

    و صحيح أنه هناك بتر في الأخبار، في الغرب عامة وبالذات في بريطانيا وأمريكا، وطبعاً ليس كما هو الحال في أوطاننا العربية والإسلامية، وحظر وتكميم في التعبير، وترهيب بسبب الإسراف في كبح الحريات المدنية من أجل الأمن، منذ زمن بسبب المحافظة، فالمجتمع الإنجليزي بطبعه محافظ ومنغلق على نفسه، ولكنه بدأ في مجهود الخروج من ذلك، وقبل أن يتثنى له ميلاد جديد إرتد راجعاً للتحفظ و زيادة عليه نزع كثير من الحريات المدنية بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، والمجتمع الغربي رغم اختراق المتطرفين في مواضع اتخاذ القرار فيه، إلا أنهم يتحركون بتريث تام و سرية متقنه لتصحيح ما يرون من ابتعاد عن الحق كما فسروه من مصادره كما شرحت سالفاً و ساووا الإختراقات لتبقى السقوف الأخلاقية ثابتة، ومعافاتهم متوقعة قبل معافاتنا.

    أعود الآن إلى ما تحدثت عنه في بداية هذه المقالة، بالبساطة و وعدي بأن أشرح لماذا. قال تعالى في سورة البقرة الآية 213 "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا ً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط ٍ مستقيم" كما قال تعالى في سورة آل عمران الآية 19 " إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغيا ً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب"، فالإختلاف بعد مجئ البينات وهي الآيات القرآنية يكون بغياً أي تسلطاً نهى عنه الله تعالى، فالإسراف في الجدل والتفسير والتأويل مصدر للخلاف، وفي النهاية يحاسب الله العبد في يوم الحساب بالكتاب حجة عليه ولا يدخل معه علماءه لتثبيت الذنب عليه أو رفعه عنه، ولكنه يدخل الرسل دليلاً على البلاغ حجة على العبد.

    ثم نأتي إلى ما أضاف إلى بل وتسبب أساساً في التعقيد، ومصدر الفتنة الكبرى وانشقاق المسلمين حتى اليوم، ألا وهى المصدريات التي أتى بها العلماء من السنة والاجماع والقياس والاستنباط والاجتهاد ورأي الصحابة وغيرها من المصادر، ووضعها في قـِران مع القرآن الكريم، تماماً كما زل النصارى واليهود، رغم أنه تعالى جعل في القرآن الكريم الطريق الذي اختاره للبشرية حتى نهاية الزمن، وهو الأقدر على ذلك، فأضفى هؤلاء تلك القدرة الإلهية على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وجُل حجتهم تنبني على تفسير خاطئ لمدلول كلمة "الرسول" كما وردت في القرآن الكريم و اختلافها من كلمة "النبي"، وهم يعلمون في ما جمعوا من أحاديث أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد منع تدوين الحديث، كما ورد ذلك من الصحابة رضي الله عنهم، وحتى إقرارات من الشيخ البخاري رضي الله عنه بمنع الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إياه من التدوين وعقابه عليه. وما جمع تم جمعه بعد زهاء القرنين من وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويقفز أصحاب تلك الحجة فور مواجهتهم بسؤالك: وكيف علمنا عن كيفية الصلاة إذا لم نأخذ مصدراً آخر؟ ويكون الرد بسؤالٍ لهم هو: وكيف صلى السلف الصالح منذ وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحتى بدأ التدوين بعد مائتي عام؟

    إضافة للأحاديث الكثيرة التي أوردها كأمثلة الأخ الشيخ الشنقيطي في مقالته تلك، و أحاديث كثر أخرى في الصحاح تسئ إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإلى نسائه رضي الله عنهم، وإلى الإسلام كله، هذا خلاف ما أسموه بالأحاديث الضعيفة، و كل هذه الأحاديث من صحاح وأحاد وضعاف هي قطرة في بحر الأحاديث المدونة بما فيها المدسوس. هذا قبل أن نعرج على مدونات الشيعة و المنشقين الآخرين، على أن نتذكر أن تلك الإنشقاقات كلها ليس للرسالة فيها ضلع بتاتاً، و لم يقف أمر المسلمين عند ذلك، بل أصبحوا عرضة للقذف وعرضوا الرسالة لرشق مستباح من أعداء الإسلام، وما "الآيات الشيطانية" إلا نتاج لتهاون المسلمين ومشاركتهم الله عزّ و جل في تقنين الرسالة ومنطوقها.

    ونسال الله الغفران والهدى وهو أعلم .

                  

06-28-2006, 12:49 PM

Gafar Bashir
<aGafar Bashir
تاريخ التسجيل: 05-02-2005
مجموع المشاركات: 7220

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الترابي والكتابات المتعددة في الفكر التحديثي في الإسلام" مقالات مختارة" (Re: القلب النابض)

    شكراً الأخت القلب النابض لهذا المقال

    دكر الدكتور الترابي في مقالٍ سابق أنه أتى بالإنقاذ فعاقبه الله، ويفهم من ذلك جلياً أن عقاب الله هو لتسييسه الديانة، ولم يخطر ببالي أنا شخصياً أن العقاب لاختياره غير الموفق لمن أولاهم الحكم.
    أما ما عدا ذلك، بما في ذلك استلام السلطة بالقوة وبدون استفتاء كل المواطنين المالكين الحقيقيين للسلطة، فإن كان هو سبب تنويهه بعقاب الله، فإن في ذلك إقرار بأن الحاكمية للشعب في السياسة وليس لله، فالله لا يطلب تفويضاُ ولا دست الحكم الدنيوي و هو مخير في عباده ولا يحتاج من يمثله، والحساب لما كسبت كل نفس عنده في الآخرة.




    لم افهم ماذا تعني (الكتابات المتعددة في الفكر التحديثي في الإسلام،) فلم اقرا قبلا مصطلح الكتابات المتعددة ولكن ربما فهمت من سياق الحديث ان المصطلح خاص بمسالة التعددية السياسية او الدينية او حتي الثقافية.

    اذا كان الأمر كذلك فليس هنالك جديد فما قاله الترابي (ضمن الحوار علي قناة دبي) حيث تحدث حول مسالة الحكم والتعددية لايمثل (فقها تحديثيا) ولا هم يحزنون فالترابي في كتاب منشور منذ الثمانينات يتحدث عن الديموقراطية باعتبارها (عقيدة) بنص الكلمة وكتاباته في تلك الفترة لم تتحدث عن دولة شمولية.
    اذن ما يفعله الان الترابي ليس سوي اعادة انتاج مقولاته قبل تجربته الاسلامية الفاشلة والتي راح هو ومن معه ضحايا لها بينما لازالت قائمة تعيث في السودان فسادا وتمزيقا.

    ثم يا تري أي فكر تحديثي الذي يقوده الترابي وهو يعتبر ان الماساة القائمة في السودان بكاملها .. ملايين الموتي وملايين اللاجئين وملايين المهاجرين ليست سوي مجرد (أنه أتى بالإنقاذ فعاقبه الله) ... وكأنما هو محور الكون حتي يعاقبه الله بملايين القتلي والمشردين والجوعي ....

    أين الفكر التحديثي الذي قدمه الترابي تجاه مشروعه الاسلامي؟؟؟

    علي الكاتب ان يراجع كتابات الترابي ليجد ان المسالة في جوهرها ليست سوي اعادة انتاج لما قبل التجربة الاسلامية السودانية وليس تحديثا ولا علاقة لها باية تكنولوجيا ولا عولمة وبالتالي فان المقال بكامله ينبني علي فرضية غير صحيحة ربما لعدم المام الكاتب بكتابات الترابي ما قبل الانقاذ ... وكل هذه الدهشة والاعجاب المتدفق لا أساس له.

    ولربما السبب الوحيد في طواف الترابي واعادة انتاج افكاره القديمة لانه ليس لديه ما يفعله بعد ان لفظه الجميع بمافيهم مشروعه الاسلامي ...

    وأكثر العبارات التي تلخص ما تحدثنا عنه هو التعليق الختامي لمحاور قناة دبي فقد قال:

    اسمع كلامك اصدقك
    اشوف عمايلك استعجب

    وكانت ملخصا جميلاً لكل ما دار من (( هرطقة وهراء من حسن الترابي )) ...

    ------
    ما تحته خط ليس رأي المحاور

    (عدل بواسطة Gafar Bashir on 06-28-2006, 12:51 PM)
    (عدل بواسطة Gafar Bashir on 06-28-2006, 12:53 PM)

                  

06-28-2006, 01:01 PM

القلب النابض
<aالقلب النابض
تاريخ التسجيل: 06-22-2002
مجموع المشاركات: 8418

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الترابي والكتابات المتعددة في الفكر التحديثي في الإسلام" مقالات مختارة" (Re: Gafar Bashir)

    الأخ جعفر بشير

    سلامي وتحياتي

    شكرا لمشاركتك بالرأي

    ويبدو أنك مضطلع على كتابات الترابي قبل الإنقاذ, وبعد الإنقاذ هلا شاركتنا في تحليل هذه الكتابات ومقارنتها ..ومقاربتها للتجربة العملية.

    تحياتي واحترامي
                  

06-28-2006, 01:19 PM

القلب النابض
<aالقلب النابض
تاريخ التسجيل: 06-22-2002
مجموع المشاركات: 8418

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الترابي والكتابات المتعددة في الفكر التحديثي في الإسلام" مقالات مختارة" (Re: القلب النابض)

    وهذا هو مقال الشنقيطي الذي تحدث عنه المقال أعلاه

    آراء الترابي .. من غير تكفير ولا تشهير

    محمد بن المختار الشنقيطي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    لا تزال الآراء التي أفصح عنها الدكتور حسن الترابي مؤخرا تثير عاصفة من الردود. وقد وجدت من خلال تتبعي للجدل الدائر حولها شيئا من التساهل في النقل، والتسرع في الحكم، واتهام النوايا، ونقص الاستقراء، وصياغة المسائل الفرعية صياغة اعتقادية، والظاهرية التجزيئية في التعامل مع النصوص، وتداخل الأهواء الشخصية والسياسية مع الآراء الشرعية.

    وهذه نظرات على معظم آراء الترابي المثيرة للجدل، نضع من خلالها هذه الآراء ضمن سياق التراث الإسلامي، آملين من خلال ذلك أن يرتفع الحوار حول آراء الترابي إلى مستوى الحوار المعرفي، بديلا عن خطاب التكفير والتشهير. فلست أشك أن لدى كل من الترابي ومخالفيه من أهل العلم ما يثري الحوار وينفع الأمة، إذا ساد الجِدُّ العلمي وخلصت النية لله رب العالمين..

    ولست بالذي يفاجأ إذا أحاط بآراء الترابي الكثير من اللبس وسوء الفهم، فقد كنت أشرت في مقدمة كتابي عن "الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي" إلى ما اتسمت به كتابات الترابي من "التجريد في الأفكار والمصطلحات"، مؤكدا أنه "ليس من السهل على شباب الصحوة الإسلامية غير المتمكنين من ناصية اللغة العربية، المتمرسين بالمفاهيم الفلسفية والأصولية، أن يستوعبوا جميع كتابات الترابي بعمق، وهي كتابات تجمع بين تجريدات (هيجلْ) الفلسفية ولغة الشاطبي الأصولية".

    ومما يحسن بيانه هنا أيضا أن هدف هذه الملاحظات ليس الدفاع عن شخص الترابي، فأنا –بنعمة من الله- ممن يؤمنون بقدسية المبادئ وأرجحيتها على مكانة الأشخاص، بمن فيهم الصحب الكرام رضي الله عنهم، وكتابي المعنون: "الخلافات السياسية بين الصحابة: رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ" رسالة تأصيلية في هذا السبيل نسأل الله قبولها ووصولها.. كما يحسن التأكيد على أني لم ألتق الدكتور الترابي قط، ولا وطئت قدمي أرض السودان الطيبة. ويوم كان الترابي ذا جاذبية سياسية عظيمة وحضور وطني ودولي لم أحضر مؤتمراته، ولا اشتركت في "مؤتمره الشعبي العربي الإسلامي".. أما اليوم فإن الترابي فقدَ الكثير من بريقه السياسي الذي اكتسب به أنصارا وأتباعا في الماضي، ولم يعد ممن يخشى الناس لهبَه أو يرجون ذهبَه كما يقال.
    فلست إذنْ بالذي تجمعه مع الترابي علائق شخصية أو سياسية تؤثر سلبا أو إيجابا على رأيي فيه وفيما يطرحه من آراء مثيرة، وإنما أنا طالب علم أهتم بتجارب الحركات الإسلامية وفكر قادتها وعلمائها، وقد دفعني البحث في تجربة الحركة الإسلامية في السودان إلى تتبع فقه الترابي عن كثَب، والبحث في سياق أقواله ضمن رؤيته الفكرية العامة.

    فهدف هذه الملاحظات حصرا هو دفع داء التكفير والتشهير الذي يستسهله البعض اليوم، والحث على أخذ المسائل الشرعية بمأخذ الجد دون تعجل، والعودة إلى منهج العلم والعدل وحسن الظن بأهل العلم، مهما أغربوا أو خالفوا المتعارف عليه من النقول والفهوم، كما أوصى فقيه الأندلس أبي بكر بن عاصم في "مرتقى الوصول":

    وواجبٌ في مشكلات الحكمِ *** تحسيننا الظن بأهل العلمِ

    وأرجو من الله عز وجل أن تعين هذه الملاحظات على تبصرٍ أكثر بالمسائل المطروحة، وعدمِ استسهال البتِّ فيها بتسرع، وإمساكِ أهل العلم والعدل بزمام المبادرة فيها، وهم الذين يستطيعون أن يقدموا للأمة ما يفيدها في هذه المسائل، بدلا من تركها منبرا مفتوحا لمتتبعي العورات، المسترخصين تكفيرَ أهل التوحيد وتضليلَهم وتبديعَهم. ورحم الله إمام الحرمين الجويني إذ يقول: " فإن قيل: فَصِّلُوا ما يقتضي التكفير وما يوجب التبديع والتضليل. قلنا: هذا طمع في غير مطمع، فإن هذا بعيد المدرَك ومتوعر المسلك"[1].

    *****

    لقد وجدت قسما كبيرا مما أنكر على الترابي أمورا اعتقادية أو فقهية منسوبة إليه تحاملا أو سوء فهم، وهي: القول بالفناء الحلولي في ذات الله، وإيمان أهل الكتاب، وإباحة الردة والخمر، وإسقاط الخمار. فلنستعرض هذه الأمور بإيجاز:

    الفناء في ذات الله

    قال بمقولة الفناء الحلولي في ذات الله بعض ملاحدة المتصوفة والفلاسفة في الماضي والحاضر. ولم أجد في موضع من مؤلفات الترابي –على مراسي بها وطول اصطحابي لها- استعمال مصطلح "الفناء في الله" ولا "الفناء في ذات الله"، وإنما وجدته يستعمل مصطلح "الفناء في سبيل الله"[2] وأحيانا يستعمل مصطلح "الفناء في أمر الله" فيقول مثلا إن التوحيد "يحرر المؤمن من كل ما يستعبده في النفس والمجتمع ويخلصه لربه، فيلتزم من تلقاء نفسه بأمر الله ويتحد به ويفنى فيه، ولا يستشعر مجانبة ولا حرجا"[3]. وهو قطعا لا يقصد باستعمال هاذين المصطلحين أكثر من استهلاك النفس والمال في نصرة الإسلام، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"[4]. كما وجدت الترابي يتحدث عن "مرحلة الفناء" ضمن حديثه عن التطور التنظيمي للحركة الإسلامية، ويقصد به فناء الحركة في المجتمع وذوبانها فيه بعد نضجها وصلابة عودها، مقابل مرحلة التمايز والانحياز عن المجتمع التي تصاحب فترة التأسيس.

    وإحسانا للظن بخصوم الترابي أرى أن اللبس قد دخل عليهم من شَبَه الاصطلاح هذا، وهم لا يدركون –على ما يبدو- أن استعمال مصطلحات الحلولية الملحدة ليس مرادفا للإيمان بمضمونها، وأن لا مشاحة في الاصطلاح ابتداء، فهذه ألفاظ عربية كانت موجودة قبل أن تظهر عقيدة الفناء الحلولي في الثقافة الإسلامية. ولغة الصوفية واصطلاحاتها سائدة في السودان وغيره من البلدان التي دخلها الإسلام على أيدي المتصوفة، فالدكتور حسن مكي مثلا يتحدث عن "فناء" الجيوش المعاصرة في الدولة[5].

    فاستعمال اصطلاحات "القوم" من طرف الترابي أو غيره لا يعني بالضرورة إيمانا بمدلولها عند غلاتهم. وحتى الصوفية الذين يستعملون مصطلح "الفناء في الله" لا يقصد أغلبهم به الحلول، وإنما استعار أغلبهم هذا التعبير المنحرف من فلسفة الأوائل ودرجوا على استعماله من غير علم بمدلوله الأصلي، ولو سألت أغلبهم اليوم عن معناه لما استطاعوا جوابا.

    وقلَّ أن يطلع الباحث على تشخيص أدق لانحرافات بعض المتصوفة أو تعبير أعمق عنها مثل تشخيص الترابي وتعبيره وهو يصف ما في "واقع الصوفية من بدعيات وجهالة في الاعتقاد والعمل، ومن كثافة طقوس تكاد تستنزف طاقات التدين في المراسم والأشكال، ومن رخاوة شرعية تقعد بصاحبها ساكنا عاجزا، ومن فرْط ولاء واتباع يكاد يحجب عن الله..."[6].

    إيمان أهل الكتاب

    ومن أكثر الأمور إثارة قول خصوم الترابي إنه يقول بإيمان أهل الكتاب، مما يوحي بأنه يسوي بين المسلمين وأهل الكتاب في الاعتقاد، وهذا مثال آخر على التحامل وسوء الفهم. فلم يقصد الترابي يوما أن دين أهل الكتاب في حالته الراهنة صحيح مقبول عند الله تعالى، ولا أنهم غير مطالبين باعتناق الإسلام، ولا هو يسوي بين توحيدنا وتثليثهم، كيف وهو الذي كتب أحد أعمق الكتب وأجملها عن "الإيمان: أثره في حياة الإنسان"، وبين فيه بمنهجه التركيبي البديع أنواع الانحرافات التاريخية التي دخلت على منهاج التوحيد. وهو يُرجع أغلب أمراض التدين لدى المسلمين إلى اتباعهم سنن أهل الكتاب في فهم النصوص وفي تنزيلها على الوقائع.

    لقد وصف القرآن الكريم أهل الكتاب بالكفر في آيات عديدة يعسر حصرها. كما وصفهم بالشرك في بضع آيات، منها قوله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون"[7] وقوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار"[8].

    وكلام الترابي صريح بكفر أهل الكتاب وبشركهم. والذين يظنون أن الترابي المتضلع بمعاني القرآن الكريم يجهل ذلك أو لا يقول به مخطئون من دون ريب. ففي كتابه: "السياسة والحكم" وهو آخر ما كتبه من كتب (صدرت طبعته الأولى عن دار الساقي عام 2003) يصم الترابي أهل الكتاب بوصمة الشرك ثلاث مرات في صفحة واحدة، مستشهدا بنصوص القرآن الكريم، فيقول: "فقد كان الكتابيون بعد الدين الحق قد ارتدوا إلى إشراك... وكانوا يحملون على دين التوحيد المتجدد وهم مشركون... وفي شمال الجزيرة العربية تحالف الإشراك كافة كتابيا وعربيا، وأخذ يعدو على المسلمين"[9]. كما وصم الترابي أهل الكتاب بوصمة الكفر أكثر من مرة في نفس الكتاب فتحدث عن "الكفر الكتابي"[10] ضمن وصفه لحال يهود المدينة أيام النبوة.

    أما تمييز الترابي لأهل الكتاب عن المشركين أحيانا فهو تمييز اصطلاحي، وله أصل في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين..."[11]. قال ابن تيمية: "إن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب وإنما يدخلون في الشرك المقيد قال الله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) فجعل المشركين قسما غير أهل الكتاب"[12]. وقال: "فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به وجب تمييزهم عن المشركين، لأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد لا بالشرك"[13].

    وكذلك تمييز الترابي بين أهل الكتاب والكفار تمييز اصطلاحي، وله أيضا أصل في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا"[14]. وإذا كان كثيرون لا يرون التباسا في التمييز الاصطلاحي بين أهل الكتاب والمشركين، لكثرة ما تردد في القرآن الكريم، فإن بعضهم يستشكل التمييز الاصطلاحي بين أهل الكتاب والكفار. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ممن انتبهوا إلى وجود هذا التمييز في الكتاب العزيز، فقال: "مع أن الكفار قد يُميَّزون من أهل الكتاب أيضا في بعض المواضع كقوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) فإن أصل دينهم هو الإيمان، ولكن هم كفروا مبتدعين الكفر"[15].

    ومما يثير الإشكال لدى خصوم الترابي استعماله مصطلحات غربية لم يعتدها جل الدارسين بالجامعات الإسلامية، مثل مصطلح Monotheistic Religions الذي يترجم عادة بعبارة "الديانات التوحيدية"، ومصطلح Abrahamic faiths ويترجم عادة بعبارة "الديانات الإبراهيمية" ويراد بهاذين المصطلحين في الجامعات الغربية اليهودية والمسيحية والإسلام. وهي ترجمة غير دقيقة، لأن اليهودية والمسيحية لم تعودا ديانتين توحيديتين ولا ملتين إبراهيمتين، ولكن الترابي ومالك بن نبي وغيرهما من كتاب الإسلام المتضلعين بالثقافة الغربية يستعملونها اصطلاحا، وإن لم يعنوا معناها المتبادر في أصل الوضع اللغوي العربي، أو في الاصطلاح الشرعي الإسلامي. وقد رأينا كيف ميزت آيات من القرآن الكريم بين أهل الكتاب والمشركين وبين أهل الكتاب والكفار تمييزا اصطلاحيا، دون أن ينفي ذلك صفة الشرك والكفر عن أهل الكتاب.

    ويتحدث الترابي أحيانا عن التراث المشترك بين المسلمين والمسيحيين. وقد أثار هذا النوع من أحاديث الترابي حفيظة البعض، رغم أنه كلام لا غبار عليه، ففي الإسلام والمسيحية –رغم الخلاف في مسائل أساسية من العقيدة- مشتركات كثيرة، اعتقادية وأخلاقية وعملية. ويكفي تصفح العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) الموجودان الآن –على تحريفهما- لترى أوجه الشبه الكثيرة مع النص القرآني. فقصة آدم ونوح ويوسف وعدد آخر من الأنبياء عليهم السلام تتشابه كثيرا في القرآن الكريم وفي العهد القديم وأحيانا بنسبة لا تقل عن السبعين بالمائة. وهنالك مشتركات كثيرة في مجال الإيمان بالمعاد والجزاء. كما أن الدعوة إلى فضائل الأخلاق من الصدق والأمانة والإنصاف وحسن الجوار...الخ متشابهة في القرآن الكريم وفي "العهد الجديد".

    لكن الترابي لم يقصد في يوم من الأيام مساواة بين الإسلام وديانات أهل الكتاب الحاليين في التوحيدية أو في الإبراهيمية، بل تواتر كلامه نافيا لذلك. فهو يقول مثلا نافيا عن النصارى صفة التوحيدية: "انقطع النصارى عن الرب الواحد بالواسطات الكنسية، وعن أصل دينهم بالمقولات العقدية لمؤتمرات القديسين"[16]. ويؤكد أن اليهود والنصارى "أشد كفرا بالرسالة المحمدية، غيرة من أصالتها الإبراهيمية"[17]. فهل يقول منصف بعد هذا أن الترابي يسوي بين الوحي الإسلامي الأصيل والمحرَّف الكتابي الدخيل؟!

    لقد جاء القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وهو ما يقتضي بقاء شيء من الحق يصدقه القرآن، ولكنه جاء أيضا مهيمنا عليهما، وهو ما يستلزم رد ما يخالف القرآن في نصوصهما المحرفة الحالية. وثنائية التصديق والهيمنة هذه تختصر العلاقة الدينية بين المسلمين وأهل الكتاب. وقد تحدث ابن القيم عن المشتركات مع أهل الكتاب، فقال: "قالوا [أي العلماء الذين يخصون أهل الكتاب بدفع الجزية دون غيرهم من الكفار]: ولا يصح إلحاق عبدة الأوثان بأهل الكتاب، لأن كفر المشركين أغلظ من كفر أهل الكتاب. فإن أهل الكتاب معهم من التوحيد وبعض آثار الأنبياء ما ليس مع عباد الأصنام ويؤمنون بالمعاد والجزاء والنبوات، بخلاف عبدة الأصنام. فعبدة الأصنام حرب لجميع الرسل وأممهم من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء والمرسلين. ولهذا أثر هذا التفاوت الذي بين الفريقين في حِلِّ الذبائح وجواز المناكحة من أهل الكتاب دون عباد الأصنام"[18].

    وماذا سيكون يا ترى رد فعل المنكرين على الترابي هنا إذا قرأوا هذا الكلام لابن القيم، وهو يعزو فيه إلى "طائفة من أئمة الحديث والفقه والكلام" منهم الإمام البخاري وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الرازي قولهم بأن التوراة الموجودة في أيدي اليهود اليوم غير محرفة أصلا، وأن التحريف وقع في تأويل النص، لا في النص ذاته. قال ابن القيم: "فصل: وقد اختلفت أقوال الناس في التوراة التي بأيديهم هل هي مبدلة، أم التبديل والتحريف وقع في التأويل دون التنزيل على ثلاثة أقوال: طرفين ووسط. فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة، ليست التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، وتعرض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعض، وغلا بعضهم فجوز الاستجمار بها من البول. وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام فقالوا: بل التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل، وهذا مذهب أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري قال في صحيحه: (يحرفون: يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى، ولكنهم يحرفونه، يتأولونه على غير تأويله). وهذا اختيار الرازي في تفسيره. وسمعت شيخنا [ابن تيمية] يقول: وقع النزاع في هذه المسألة بين بعض الفضلاء فاختار هذا المذهب ووهَّن غيره، فأُنكِر عليه، فأحضر لهم خمسة عشر نقلا به... وتوسطت طائفة ثالثة، وقالوا: قد زيد فيها وغُيِّر ألفاظٌ يسيرة، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه، والتبديل في يسير منها جدا. وممن اختار هذا القول شيخنا [ابن تيمية] في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)... ونحن نذكر السبب الموجب لتغيير ما غير منها، والحق أحق ما اتبع. فلا نغلو غلو المستهينين بها المتمسخرين بها، بل معاذ الله من ذلك، ولا نقول إنها باقية كما أنزلت من كل وجه كالقرآن"[19].

    والتوراة الموجودة في أيدي اليهود منذ مجيء الإسلام إلى اليوم هي الأسفار الخمسة الأولى مما يعرف اليوم بالعهد القديم (أسفار: التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية) وليس من ريب أن العلماء القائلين إنها لم تنلها يد التغيير والتبديل قد أخطأوا خطأ جسيما، إذ يكفي تصفح سريع لتلك الأسفار للتوصل إلى استنتاج قاطع بتحريفها. ولو كان الترابي اليوم يقول إن التوراة الحالية لا تزال طرية كما أنزلت من عند الله لاستبيح دمه. رغم أن هذا الخطأ الفادح وقع فيه في الماضي علماء أعلام من حجم الإمام البخاري والإمام الرازي. ورغم ذلك فلا تزال الأمة تجلُّهم، وحق لها ذلك، فهم أهل للإجلال والإكبار.

    والخلاصة أن ما قيل من قول الترابي بإيمان أهل الكتاب مجرد سوء فهم لتمييزات اصطلاحية يستخدمها أحيانا لدواع لغوية أو لمناورات سياسية. وأن تكفيره والتشهير به بسبب ذلك ينافي العلم والعدل الواجبان في مواطن الخلاف.

    إباحة الردة والخمر

    ومما نسبه إلى الترابي خصومه تحاملا أو سوء فهم قولهم إنه يبيح الردة، وهو لم يبحها قط وما يستطيع مسلم أن يبيحها، وإنما يقول الترابي – شأن العديد من العلماء المعاصرين وبعض المتقدمين- إنه لا عقوبة دنيوية قانونية على الردة ما لم تتحول إلى خروج سياسي وعسكري على الجماعة. فالردة تبقى أعظم الذنوب في الإسلام، لأنها هدم لأساس الدين، ولا ينكر الترابي ولا غيره من المسلمين ذلك، لما ورد فيه من آيات محكمات، مثل قوله تعالى: "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"[20].

    وغاية ما يقول به الترابي إن عقوبة الردة –إذا لم يصحبها خروج على الجماعة- محصورة في العقوبة الأخروية، وفي ذلك يقول: "وللمجتمع بمشيئته أن يؤمن أو يكفر بالرسالة الحاملة للشريعة، متروكا لأجَل القيامة وحسابها في مواقفه"[21] "ويخلِّي الشرع للإنسان أن يصرف رأيه تثبتا أو تعديلا أو تبديلا، ولو في أصل مذهبه مؤمنا، قد يؤاخَذ على ذلك غيبا في الآخرة، ولكن لا يؤذيه أحد في الدنيا بأمر السلطان"[22]. فالذي يدعي أن الترابي بهذا يبيح الردة، كالذي يدعي أن القرآن يبيح الردة بقوله تعالى: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"[23] وما أفدحه من خطإ وأعرجَه من فهم!!

    إن هنالك فرقا شاسعا بين الذنب الواقع بين العبد وربه، وبين الجريمة بالمعنى الجنائي الذي يعاقب عليه الشرع عقوبة قانونية دنيوية، فعدد الكبائر في الإسلام حسب ما يروى عن ابن عباس يناهز السبعين، والشرع لم يجعل لأكثرها عقوبة قانونية دنيوية، ولم يقصد الترابي في حديثه عن الردة أكثر من ذلك.. لكن الذين لا يميزون بين القانون الخلُقي (حق الله) والقانون الحقوقي (حق العباد) في الإسلام يخلطون في هذا الأمر خلطا عظيما. وسنتحدث عن قول الترابي في عقوبة المرتد لا حقا في هذه الملاحظات، لأن ما يهمنا في هذه الفقرة هو بيان التحامل والتأويل السيء الذي لابس الجدل بين الترابي وخصومه.
    وفي إطار التحامل وسوء الفهم يأتي اتهامهم للترابي بإباحة الخمر، وهو لم يبح الخمر قط، بل جاهد عقودا من الزمن لمحو الخمر من المجتمع السوداني المسلم الذي ابتلي بهذا الداء العضال منتصف القرن العشرين، حتى تحدث الدكتور عبد الوهاب الأفندي عن أن "ثقافة الجيش [السوداني]... كانت محكومة بقواعدها الخاصة التي تعتبر تعاطي الخمر وممارسة الزنا عنوانا للرجولة"[24].

    ومرد سوء الفهم هنا هو الخلط بين القانون الخلُقي والقانون الحقوقي في الإسلام مرة أخرى. وهو لبس حاول الترابي في كثير من كتاباته إزالته، وبين أن تعاليم الإسلام أوسع كثيرا من أحكام الشريعة بالمعنى القانوني، فهي تشمل سلطة الضمير، وسلطة المجتمع، وسلطة القانون، أو بحسب تعبيره: "الوجداني الخاص للفرد، والاجتماعي الأخلاقي للمجتمع، والقطعي السلطاني للشريعة"[25]. وهو يؤكد ضمن هذه الرؤية أن القانون لا يطال شارب الخمر إلا إذا بلغت فعلته السلطان، فأصبحت بذلك أمرا عاما. وهذا قول صحيح، ولا يقصد به االترابي أكثر من كون استتار المذنب يجنبه العقوبة القانونية، وهو لم يقل إن ما فعله ذلك المذنب مباحا عند الله عز وجل. فعدم وجود عقوبة دنيوية على الذنب أو عدم إيقاعها لا يجعل الفعل مباحا، وكم من معصية شرعية نصبت لها الشريعة عقوبة أخروية، لكنها لم تعتبرها جريمة جنائية ولم ترسم لها عقوبة قانونية دنيوية. ومن المعلوم أن الشرع يأمر بالستر، ولا يبيح للحاكم التجسس على الناس وتتبع عوراتهم وذنوبهم، وإنما يأمره أن يأخذهم بما يجاهرون به. وقد ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله عز وجل، فإنه من يبد لنا صفحته نُقمْ عليه كتاب الله"[26] وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم"[27].



    إسقاط الخمار عن المرأة

    ومن هذا الصنف القول بأن الترابي لا يرى وجوب الحجاب (بمعنى غطاء الرأس)، في حين أن الرجل لم يقل سوى أن القرآن الكريم لا يستعمل لفظ الحجاب بمعنى الخمار، وهو يقصد أن الواجب على عامة المؤمنات هو الخمار أي غطاء الرأس، وليس الحجاب بالمصطلح القرآني الذي يراد به الساتر المادي بين الرجال والنساء، وقد استُعمل في القرآن الكريم ضمن الحديث عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. فكان كلام الترابي في هذه المسألة تحليلا لغويا لا فتيا شرعية، وهو كلام صحيح ودقيق. لكن المتحفزين لتتبع عورات الرجل حملوا كلامه على أنه إسقاط لوجوب الخمار، وكلام الرجل صريح بأنه لا يقصد ذلك ولا يؤمن به. فكتاب الترابي عن "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع" طافح بالدعوة إلى العفاف والستر بما في ذلك الخمار، وفيه يقول الترابي: "وهديُ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبدو من المرأة إلا الوجه والكفان"[28]. وقد بين الترابي المحامل السيئة التي حمل عليها خصومه كلامه عن الحجاب والخمار، فقد سألته صحيفة الشرق الأوسط يوم 21/4/2006: "أثار حديثكم عن الحجاب جدلا واسعا، باعتبار أنه تغطية الصدر من دون الرأس.. فما حقيقة هذا الأمر؟" فرد الترابي: "هذه أكاذيب بعض الصحافيين الذين لم يحضروا الندوة التي تحدثت فيها عن بعض قضايا المرأة المسلمة. فهناك كلمات كُتبتْ لم أقلها، فبعض الصحافيين يستهويهم اسم الترابي فينسبون إلي ما لم أقله. فأنا في تلك الندوة ما كنت أتحدث عن أحكام أصلا، بل كنت أتحدث عن أن لغة القرآن نفسها اختلفت جدا في مصطلحات الناس. فالقرآن تحدث عن الحجاب أنه في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نساء الرسول عليهن أحكام خاصة عن غير النساء وعلى الرسول نفسه أحكام خاصة من دون الرجال المؤمنين... فالحجاب هو ستار عام ليس هو زي في لبس المرأة. فهو حجاب عام قد يتخذ استعارة في اللغة كأن تصف أن بين الناس وبين القرآن حجابا... قلت في المحاضرة إذا تحدثنا عن زي المرأة لا تتحدثوا عن حجاب والمعركة حول الحجاب والمحتجبة، لكن تحدثوا عن الخمار، تحدثت هكذا بيانا للغة لا الأحكام... ولكن يطير بعض الناس بالأخبار (الترابي أنكر الحجاب) (الترابي يقول إن الحجاب للصدور فقط) كأني أريد أن يكون كل ما تحت الصدر أي من البطن كله يكون كاشفا!! ولكن هذا غباء عظيم وتزوير في الروايات عن الناس. ليت الصحافيين فقط يأخذون سماعة الهاتف ويسألونني ليتثبتوا من مثل هذه الأخبار... أنا لا أسميه أصلا حجابا، أسميه خمارا، لأن القرآن سماه لنا خمارا وسمى لنا الستار في الغرفة حجابا"[29]. ولولا ولع الترابي بالتدقيق اللغوي والاصطلاحي لما اهتم أحد بهذا الأمر أصلا. وعموما فهو لم يفعل هنا سوى أنه آثر استعمال الاصطلاح القرآني على الاصطلاح الفقهي السائد.
    *****
    القسم الثاني من المآخذ على الترابي قضايا فقهية فروعية يصلح الاختلاف فيها، وفيها خلاف قديم طمره تراكم الجهل وطول العهد وانبتات الأمة عن تراثها الزاخر، مثل قتل المرتد، وإمامة المرأة الرجال، وبقاء المسلمة في عصمة زوجها المسيحي، وتنصيف شهادة المرأة بشهادة الرجل في الأموال. وآراء الترابي فيها –في تقديري- منها ما هو مقبول ومستنده قوي رغم إغرابه وقلة القائلين به اليوم، مثل رفضه لقتل المرتد المسالم، وتسويته بين الرجل والمرأة في الشهادة، ومنها ما هو ضعيف المستند، لكنه يبقى من موارد الاجتهاد، وقد قال به علماء أعلام من قبل، فلم يجعلهم ذلك كفارا، ولا حتى أخرجهم شذوذهم عن دائرة "السنة والجماعة"، وهي دائرة أضيق كثيرا من دائرة الإسلام الواسعة. فتحويل هذا الأمر اليوم إلى قضية كفر وإيمان غلو وتهويل، وهو يدل على الروح السياسية والطائفية التي سادت هذا الجدل أكثر من الروح العلمية النزيهة.

    إمامة المرأة الرجال

    وخذ مثلا قضية إمامة المرأة الرجال. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل جوازها في بعض الظروف فيقول: "جوَّز أحمد في المشهور عنه أن المرأة تؤم الرجال لحاجة، مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين، فتصلي بهم التراويح، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنا. وتتأخر خلفهم وإن كانوا مأمومين بها للحاجة. وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة"[30] ويقول ابن تيمية: "قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد. وفي سائر التطوعات روايتان"[31]. وهذا الإمام النووي يقول: "قال أبو ثور والمزني وابن جرير تصح صلاة الرجال وراءها حكاه عنهم القاضي أبو الطيب والعبدري"[32]. وهذا ابن رشد يقول: "اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال، واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك. وشذ أبو ثور والطبري فأجازا إمامتها على الإطلاق"[33]. فحديث قول الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة في السودان عن "إجماع الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على أن المرأة لا تؤم الرجال" تعميم لا يصلح، وتجاهل لقول الإمام أحمد وغيره في هذا الباب.

    لقد تمنيت لو أن خصوم الترابي تحدثوا في هذا الأمر بلغة فقهية مثل لغة ابن رشد إذ يقول: "وشذ أبو ثور والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق". فلم لا نقول: "شذ الترابي فقال بإمامتها على الإطلاق"، بديلا عن لغة التكفير والتشهير؟!؟ فليس من علماء الإسلام المعتبَرين إلا وله أقوال شاذة وغرائب، والشذوذ يسمى شذوذا ولا يسمى كفرا أو فسوقا. وكم من رأي فقهي كان شاذا في عصر ثم تلقاه الناس بالقبول في عصر آخر، فابن تيمية رحمه الله لقي عنَتا كثيرا من علماء عصره والعصور الخالفة من بعدهم، لقوله بعدم إيقاع الطلاق ثلاثا في لفظ واحد، لكن أغلب الفقهاء اليوم يقولون بقوله هذا.

    وبالطبع فإن مستند الترابي في قوله بإمامة المرأة، هو ذاته مستند أبي ثور والطبري والمزني ممن قالوا بإمامة المرأة الرجال في الفرائض، ومستند الإمام أحمد في قوله بإمامتها في التراويح، وهو حديث أم ورقة رضي الله عنها أنها "كانت قد جمعت القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، وكانت تؤم أهل دارها"[34] وفي رواية: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها"[35] وفي رواية ثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا بنا نزور الشهيدة. وأذِن لها أن يُؤذَّن لها، وأن تؤم أهل دارها في الفريضة، وكانت قد جمعت القرآن"[36].

    وقد تضمن حديث أم ورقة تعيين مؤذن لها مما يرجح صلاة رجل واحد على الأقل خلفها.. كما أن رواية ابن خزيمة تتحدث عن كونها " تؤم أهل دارها في الفريضة" وهو ما ينفي حصر إمامة المرأة الرجال في النوافل أو التراويح فقط.

    فالذي أراه في هذا الأمر -والله أعلم بالصواب- أن إمامة المرأة الرجال في صلاة الفريضة بالمساجد لا تجوز قطعا، إذ الأصل في الشعائر التوقف، ولم يرد نص بإمامة المرأة الرجال في الفريضة بالمسجد، فيجب القول بتحريمه رغم أنف القائلين بالإطلاق، مثل أبي ثور والطبري والترابي.. وكل ما سوى ذلك -مثل إمامتها أهل بيتها رجالا ونساء في الفريضة، وإمامتها غير أهل بيتها من الأميين وهي قارئة في النوافل والتراويح- فهو من موارد الاجتهاد التي لا ينبغي التحريج فيها، فضلا عن التكفير والتشهير..
    وقد بين الفقهاء القائلون بإمامة المرأة الرجال أنها إذا أمتهم فلا تكون أمامهم، بل خلفهم أو محاذية لهم، بل حتى لو أمت المرأة النساء فإنما تقف وسطهن لا أمامهن. وهذا الذي يدل عليه فعل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: ففي الحديث أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أمَّتا نساء فقامتا وسطهن[37].

    وقد احتجت "الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة في السودان" على الترابي بضعف حديث أم ورقة، وهو احتجاج في غير محله. فقد حسن الألباني هذا الحديث كما رأينا، واعتبره ابن القيم مثالا على "السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعة لا منفردات"[38]. كما احتج مفتي المملكة العربية السعودية على الترابي بحديث "ألا لا تؤمَّنَّ امرأة رجلا"، وهو احتجاج غريب منه، لأن جمعا من جهابذة علم الحديث صرحوا بضعف هذا الحديث، منهم البيهقي[39] والنووي[40] والمزي[41] والذهبي[42] وابن الملقن[43] وابن القيم[44] وابن كثير[45] وابن حجر[46] والشوكاني[47] والألباني[48]... وآخرون غيرهم.

    قتل المرتد وقتاله

    مثال آخر من مسائل هذا القسم من المآخذ التي أُخذت على الترابي، هو رفضه قتل المرتد. ومن حق الترابي أن يجتهد في موضوع عقوبة القتل على الردة، وله في ذلك مستند من آيات القرآن الكريم، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين. فقد أجمع الصحابة على قتل المرتد المحارب، كما هو واضح من حروب الردة التي قادها الصديق ضد المرتدين عن الإسلام الخارجين على سلطة الخلافة الراشدة. أما المرتد غير المحارب، فقد صح عن بعض الصحابة منهم أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ما يفيد قتل المرتد المسالم. ففي البخاري:"... زار معاذ أبا موسى، فإذا رجل مُوثَق، فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه"[49]. وفي المقابل صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يفيد عدم قتل المرتد المسالم، وهو واضح من قول عمر عن رهط من بني بكر بن وائل ارتدوا والتحقوا بالمشركين وقتلهم المسلمون في المعركة: "لأن أكون أخذتهم سِلْما كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء، قال:[أنس بن مالك] فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتَهم سلما؟ قال [عمر]: كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه، فإن أبوا استودعتهم السجن"[50].. والسؤال هنا هو: هل من الوارد أن يتأسف عمر على قتل مرتدين لو كان يؤمن بأن قتل المرتد حد من حدود الله؟ وهل سيتحدث عن إيداعهم السجن لو كان يؤمن بأن حد الردة القتل وهو من هو في الشدة والصرامة في الحق؟!؟ وهل يدرك المسارعون إلى المناداة بإهدار دم المرتد مغزى قول عمر: "لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء"؟!؟

    فإذا أضفنا إلى ذلك أن اثنين من أعلام التابعين هما الثوري والنخعي أنكرا حد الردة وقالا بالاستتابة أبدا.. وأن بعض علماء الأحناف لا يرون قتل المرأة بالردة لأنها ليست محاربة.. ترجح لدينا ما يقول به الترابي وغيره من المعاصرين من التمييز بين الردة الفكرية، والردة السياسية-العسكرية، فالأولى لا عقوبة عليها في القانون الجنائي الإسلامي، والثانية لها عقوبة تعزيرية تترواح ما بين القتل والسجن وغير ذلك مما تقدره السلطة الشرعية العادلة. وعلة العقوبة هنا تفريق صف الجماعة والخروج على نظامها الشرعي، فهي عقوبة على الجريمة المصاحبة لتغيير الدين لا على تغيير الدين. أما تغيير الدين فعقوبته عقوبة أخروية عند الله تعالى، وهي أغلظ من أي عقوبة دنيوية يتخليها البشر. ومما يرجح التمييز بين الردة الفكرية والردة السياسية-العسكرية أن لفظ الردة في عهد النبوة كان يستخدم استخداما واسعا لا يقتصر على معناها الاعتقادي الذي شاع في كتب الفقه فيما بعد، ومن ذلك: "قال رجل أما سلمة فقد ارتد عن هجرته"[51].

    والتمييز بين قتال المرتد المحارب وقتل المرتد المسالم ليس بجديد، فقد عزاه ابن حزم إلى طائفة من أهل العلم، وشرحه بموضوعية فقال: "ومنهم من قال‏‏ بالاستتابة أبدا وإيداع السجن فقط،‏ كما قد صح عن عمر مما قد أوردنا قبل‏.‏ ووجوب القتال‏‏ هو حكم آخر غير وجوب القتل بعد القدرة‏,‏ فان قتال من بغى على المسلم‏,‏ أو منع حقا قِبَله‏‏ وحارب دونه،‏ فرض واجب بلا خلاف، ولا حجة في قتال أبي بكر رضي الله عنه أهل الردة‏,‏ لأنه حق بلا شك‏,‏ ولم نخالفكم في هذا‏,‏ ولا يصح أصلا عن أبي بكر أنه ظفر بمرتد عن الاسلام غير ممتنع باستتابة‏ فتاب‏ فتركه‏,‏ أو لم يتب فقتله، هذا ما لا يجدونه‏"[52].

    وغاية ما يقال في موضوع قتل المرتد المسالم أن فيه تعارضا لظواهر النصوص، وتباينا في فعل الصحابة رضي الله عنهم، فالذين يتمسكون به من العلماء مستمسكون بظواهر أحاديث صحيحة تأمر بقتل المرتد، مثل قوله صلى الله عليه عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"[53] والذين يرفضون قتل المرتد مستمسكون بظواهر آيات محكمات تنهى عن الإكراه في الدين، ومنها قوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"[54] وقوله تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"[55]. أما القول بأن الإكراه المنهي عنه في الآية محصور في الإكراه على دخول الدين ابتداء، وأن الإكراه على الرجوع إلى الدين تحت طائلة السيف غير داخل في عموم الآية.. فهذا تكلف بارد، خصوصا وأن الآية وردت بصيغة من أقوى صيغ العموم في اللغة العربية وهي النكرة في سياق النفي والنهي: "لا إكراه".

    وأما قول ابن حزم: "لم يختلف مسلمان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من الوثنيين من العرب إلا الاسلام أو السيف الى أن مات عليه السلام فهو إكراه في الدين"[56] فهذا تعميم بعيد عن الدقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الجزية من مجوس هجر، وهم عرب وثنيون يعبدون النار. كما وادع النبي صلى الله عليه وسلم قبائل عربية كثيرة، وتوفي صلى الله عليه وسلم وبعضها لمَّا يدخل الإسلام بعد[57].

    فإذا كان للمتمسك بأحديث آحاد ظنية الورود والدلالة في موضوع الردة عذرُه الشرعي وثوابه على اجتهاده، فالمتمسك بنصوص القرآن المحكمة أوْلى بالعذر وأحق بالأجر. وإذا كان لنا أن نستسيغ تأويل الآيات المحكمات لتتوافق مع أحاديث الآحاد، أفليس الأوْلى أن نستسيغ تأويل أحاديث الآحاد لتتواءم مع نصوص الآيات؟ لقد تمسك الترابي –ومثله في ذلك كثيرون- بمنطوق الآيات الناهية عن الإكراه في الدين، فقال: "من ارتد عن دينه فلا إكراه في الدين، ولا استتابة أو عقوبة بالسلطان، وإنما التكليف على المؤمنين أن يلاحقوا المرتد بالدعوة والمجادلة، حتى يتوب ويستقر أشد إيمانا، ويخلص صدقا لا مراءاة وخوفا من العقاب العاجل"[58]. وتأولوا الأحاديث الواردة في ذلك بأن المقصود بها فقط الردة الحربية.
    ويبقى للقاضي المسلم النزيه أن يوازن هذا الخلاف في عقوبة الردة، ويعتبره شبهة كافية لدرء العقوبة كما يراه الترابي ونؤيده فيه، أو يلغي الخلاف ويتمسك بالنظرة الفقهية السائدة دون تدقيق.

    تنصيف شهادة المرأة

    ومن مسائل هذا الباب تسوية الترابي بين شهادة الرجل وشهادة المرأة مطلق، خلافا لما يدل عليه ظاهر آية الدَّين في سورة البقرة من التمييز بين شهادتيْهما في المال: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما فتُذكِّر إحداهما الأخرى"[59]. لكن وضع الآية ضمن سياق أعمَّ يظهر أن الأمر من موارد الاجتهاد. فالقول بأن تنصيف الشهادة حكم مُعلَّل بظروف الزمان والمكان في عصر النبوة، يوم كانت المرأة عديمة الخبرة في عالم التجارة والمال قولٌ وجيه.

    وقد نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية كلاما يميل فيه إلى هذا التعليل، إذ قال: إن "استشهاد امرأتين مكان رجل واحد إنما هو لإذكار إحداهما للأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما فيه الضلال فى العادة، وهو النسيان وعدم الضبط.. فما كان من الشهادات لا يُخافُ فيه الضلال فى العادة لم تكن فيه على نصف الرجل"[60]. صحيح أن ابن تيمية لم يسوِّ شهادة المرأة بشهادة الرجل في الأموال فيما نعلم عنه، لكنه فتح الباب للاجتهاد في ذلك إن دعت لذلك مصلحة أو اقتضته ظروف الزمان المتبدلة، إذ يقضي كلامه هنا أن زوال الخوف من النسيان وعدم الضبط -كما هو الحال في شهادة امرأة خبيرة بالمحاسبة وإدارة الأعمال مثلا- يجعل شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل أو تفوقها.

    وقد رفض الإمام محمد عبده ما ذهب إليه أكثر المفسرين الأقدمين من القول بالنقص في خِلقة المرأة ذهنيا وعاطفيا، وأن ذلك هو السبب في تنصيف شهادتها، فقال: "تكلم المفسرون فى هذا، وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات"[61]. فالشيخ عبده ربط الحكم بالظروف الاجتماعية المتغيرة، ولم يجعل علته أبدية.
    والذي يتتبع أبواب الشهادة في الفقه الإسلامي باستقراءٍ متوسِّعٍ، يجد أن مدار الأمر كله على حفظ الحقوق، وآية ذلك عدالة الشهود وخبرتهم، دون اعتبار لذكورة أو أنوثة. لاحظْ مثلا قبول شهادة الصبيان فيما يقع بينهم من جراح في المذهب المالكي، رغم أن الأصل رفض شهادة الصبي. ولاحظ قبول شهادة القابلة في قضية استهلال الوليد الدالة على ولادته حيا، حتى قال الإمام أبو حنيفة فيما نقله عنه ابن القيم: "تجوز شهادة القابلة وحدها، وإن كانت يهودية أو نصرانية"[62].

    وقد سوَّى القرآن الكريم بين شهادة الرجل والمرأة في اللعان، فطالب أن يشهد كل منهما خمس شهادات تثبت صدقه وكذب خصمه، ولم يجعل على المرأة ضعف ما على الرجل من شهادات، ولا جعل شهادتها نصف شهادة الرجل. فتخصيص المال بتنصيف الشهادة في القرآن الكريم إذن مما قد يكون معللا. كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة المرضعة الواحدة: "عن عقبة بن الحارث: أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل. ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره"[63]. وقد علق ابن القيم على هذا الحديث بالقول: "ففي هذا قبول شهادة المرأة الواحدة وإن كانت أمَة"[64].

    وقد تواتر قبول علماء الحديث رواية المرأة الواحدة للحديث النبوي، سواء بسواء مع الرجل. وما من ريب أن الشهادة على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كذا) أهم وأعمق أثرا على الملة والأمة من الشهادة على أن فلانا استدان من فلان بضعة دراهم أو دنانير.

    فما ذهب إليه الترابي من أن تنصيف شهادة المرأة في آية الدَّين حكم معلَّل بعدم خبرة النساء حينها بالتجارة والتوثيق، وأنه يزول بزوال علته حينما يتعلم النساء ويتمرسن بالتجارة قول وجيه واجتهاد مُعتَبر، وليس هو مما يُنكَر. وكم من حكم معلل غير هذا في الكتاب والسنة زال بزوال علته، مثل أمر القرآن الكريم للمسلمين بإعداد الخيل لمواجهة عدوهم لما كانت الحرب على ظهور الخيل هي السائدة، وقد زال الحكم وأصبح إعداد الصناعات الحربية الحديثة هو المطلوب. ومنها أحكام كثيرة في باب الرق والحرب زالت بزوال موضوعها.

    فلا أحد من علماء الإسلام اليوم يقول بأن أسرى الحروب يمكن استرقاقهم وبيعهم، واستحلال نسائهم سبايا، وغير ذلك من تقاليد الحروب القديمة التي كانت سائدة قبل الإسلام وفي صدر الإسلام. وإنما يتفق الجميع على أن تلك الأمور محدودة بحدود زمانها. فليس في القول بزوال الحكم بزوال علته نقض للنص الشرعي ولا خروج عليه، لأن الذي تغير هو موضوع الحكم وواقع الحال، وليس الحكم الشرعي ذاته. ومثل هذا النوع من الاجتهاد هو اجتهاد في النص، وليس اجتهادا في محل النص.

    زواج المسلمة من الكتابي

    ولعل المسألة الوحيدة التي أغرب فيها الترابي جدا هي قوله بزواج المسلمة من الكتابي ابتداء. وهو هنا يتعلق بأدلة نفي أكثر من تعلقه بأدلة إثبات، ويرى أن آية سورة البقرة التي تحرم تزويج المشركين والزواج منهم: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ... ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا..."[65] لا تنطبق على أهل الكتاب، لأن القرآن الكريم لا يسمي أهل الكتاب "مشركين" في الغالب. كما يرى أن آية الممتحنة: "فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن"[66] من العام الذي أريد به الخصوص لأنها جاءت في سياق الحديث عن الكفار الوثنيين من أهل مكة، ولا يدخل أهل الكتاب في مدلولها.

    ولم أجد للترابي مستندا قويا في هذه المسألة تبرر مخالفته الفهم المتعارف عليه بين أهل العلم في هذا الباب. بل لا أشك في خطئه في استدلاليْه كليهما: فتعلقه بالتمييز في الاصطلاح القرآني بين المشركين وأهل الكتاب، وبين الكفار وأهل الكتاب لا يسعفه هنا، لأنه تمييز اصطلاحي فقط، والأصل اشتراكهم في صفة الشرك والكفر كما يقرُّ الترابي بذلك. وكذلك اشتراكهم فيما يترتب على ذلك من أحكام، إلا ما دل الدليل على اختلافهما فيه، مثل زواج الرجل المسلم من المرأة الكتابية. وقصر "الكفار" في آية الممتحنة على كفار قريش أو غيرهم من غير أهل الكتاب ادعاء يحتاج إلى برهان، وهو يقتضي أن تكون "ال" في لفظ "الكفار" هنا عهدية لا استغراقية، ولا دليل على ذلك من اللغة حسب ما أعلم.

    ولا أعلم خلافا بين أهل العلم في تعميم قوله تعالى :"لا هن لهم ولا هم يحلون لهن" على جميع الكفار من وثنيين وأهل كتاب. وهو تعميم جدير أن يؤخذ به، خصوصا وأن الآية كررت التحريم مبالغة وتأكيدا. قال البيضاوي: "والتكرير للمطابقة والمبالغة، أو الأُولى لحصول الفُرقة والثانية للمنع عن الاستئناف"[67]. ومثله قول الألوسي: "قوله تعالى: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)... تعليل للنهي عن رجْعهن إليهم. والجملة الأولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول، والثانية لبيان امتناع ما يُستأنَف ويُستقبَل من النكاح"[68]. ولم تعلل الآية التفريق باحتمال الاضطهاد والفتنة في الدين، رغم أنه احتمال شبه متحقق. وهذا ما يؤكد عموم الآية في كل الكفار، وثنيين وأهل كتاب، محاربين ومسالمين.
    فمجمل القول هنا أن ظواهر القرآن تقضي بتحريم زواج المسلمة من الكافر عموما، والتمسك بظواهر النصوص حتى تدل القرائن على صرفها عنها أمر لا زم شرعا، دفعا للتسيب ومنعا للقول في دين الله بالأمزجة والأذواق. والذي أراه وجوب التمسك بظواهر هذه الآيات المانعة من زواج المسلمة من الكتابي ابتداء، حتى ولو اعتبرنا بقاءها مع الكتابي الذي تزوجته قبل إسلامها من موارد الاجتهاد، لأنه ورد عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وبه يقول الشيخ القرضاوي الآن، عملا بأنه "يغتفر انتهاء ما لا يغتفر ابتداء".

    ولست أشك في أن الترابي مخطئ خطأ جسيما في فهم آية الممتحنة، وهو خطأ تترتب عليه أمور جسام لها صلة بالأسرة المسلمة، وتربية النشء على الإسلام. لكن تبقى هذه الفروع فروعا، فمخالفة الفقيه الفقهاء السابقين في فرع من الفروع، تأولا منه للنصوص، لا يخرجه من ربقة الإسلام، بل لا يجعله مذنبا وهو يقول ما يدين الله تعالى به مما أدى إليه جهده واجتهاده، بل يبقى مجتهدا مأجورا في حال الخطإ والصواب كليهما. وأغلب ما نظن أنه مخالف للإجماع ليس فيه إجماع أصلا، وإنما نحن نجهل الأقوال المخالفة فيه. وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سمعت أبي يقول: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه، فليقل لا نعلم الناس اختلفوا"[69]. وهذا كلام أهل التحقيق والتدقيق، أما أهل التعميم والتهويل فلا يترددون في نقل الإجماع فيما لم يعلموا فيه مخالفا، فيضيقون واسعا من دين الله.

    أما محاولة الترابي تبرير زواج المسلمة من الكتابيّ بالمصلحة في قوله: "علينا أن نترك للأقليات المسلمة التي تعيش مع الكتابيين، والذين تهمهم هذه القضية أن يقدِّروا الأمر حق قدره، وأن يزوجوا بناتهم للكتابيين، لعل هؤلاء البنات يأتين بالكتابيين من خلال العلاقة الزوجية إلى الإسلام"[70] فالوقائع لا تعضّده كذلك. ولأني أقمت ولا أزال أقيم في الولايات المتحدة منذ أعوام مديدة، فقد عرفت عن كثب ما يعرفه كل المسلمين في هذه البلاد من أن المصلحة تكمن في منع زواج المسلمة من الكتابي. فقد رأينا رجالا كتابيين كثرا دخلوا الإسلام بإقناع من نساء مسلمات عزيزات الأنفس، رفضن الزواج منهن من دون ذلك. وقد أسلم في مركزنا الإسلامي بولاية تكساس الأميركية صحفي أميركي شاب منذ شهور، بعد أن أقنعته بذلك فتاة تركية مسلمة أراد الزواج منها. أما المسلمات اللاتي تزوجن كتابيين من غير أن يسلموا –وهي حالات نادرة جدا- فقد ضيعن دينهن وأطفالهن، وذُبْن في الثقافة السائدة ذوبان الجليد في النار.



    رد الأحاديث الصحيحة

    ومما أثار حفيظة البعض على الترابي رده بضعة أحاديث في البخاري ومسلم، وأكثر هؤلاء ممن اعتادوا الأجوبة السهلة على الأسئلة الصعبة، فأغلب أحكام الشريعة عندهم معلومة من الدين بالضرورة، وجلُّ النصوص محكمة، وجميع أحاديث الصحيحين ثابتة، ولم يترك المتقدمون للمتأخرين من قول. ولقد سمعت أحد هؤلاء يرد على الترابي قائلا: "إذا قال مسلم إن الماء حرام فهو كافر، لأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة"، فتعجبت من البون الشاسع بين هذا القول وبين قول الله تعالى: "ولكن من شرح بالكفر صدرا"[71]. كما سمعت آخر يقول: "إن من رد حديثا واحدا صحيحا فهو كافر" وهو لا يدري –على ما يبدو- أن العلامة ابن دقيق العيد جمع مجلدا من الأحاديث الصحيحة، التي لم يعمل بها هذا الإمام أو ذاك من أئمة المذاهب الأربعة.

    فليس رد حديث آحاد صحيح لاعتقاد مخالفته القرآن، أو مخالفته ما هو أصح منه من الأحاديث، بكفر ولا ذنب، بل هو عمل اجتهادي يلجأ إليه كل المجتهدين في معرض تعارض الأدلة وتواردها على نفس المحل. كما أن هناك فرقا شاسعا بين راد الحديث النبوي إنكارا للرسالة وتكذيبا بحاملها، وبين راد الأحاديث اعتقادا بانتحالها وضعف نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    وليس من ريب أن صحيحي البخاري ومسلم هما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وأن مجمل أحاديثهما صحيحة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال صحة كل حديث أخرجاه، فقد رد عدد من الحفاظ أحاديث في صحيحيْ البخاري ومسلم، منهم أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبو داود، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والترمذي، والعقيلي، والنسائي، وأبو نعيم، والدارقطني، وابن منده، والبيهقي، وابن الجوزي، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن تيمية، وابن القيم، والألباني..الخ. وقد ضعَّف البخاري نفسه أواحدا أو اثنين من الأحاديث الواردة في صحيح مسلم.

    وفي البخاري ومسلم حوالي أربعين حديثا ردها هذا العالم أو ذاك من هؤلاء الجهابذة. وأكتفي هنا ببضعة أمثلة منها:

    حديث أبي الزبير في صحيح البخاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار البيت ليلا"ً. قال الذهبي: "هو عندي منقطع"[72]. وقال ابن القيم: "وهذا الحديث غَلَط بيِّنٌ، خلاف المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك فيه أهل العلم"[73].

    حديث أبي سفيان في صحيح مسلم الذي طلب فيه من النبي صلى الله عليه الزواج من ابنته أم حبيبة رضي الله عنها. قال ابن القيم بعد مناقشة ضافية: "فالصواب أن الحديث غير محفوظ، بل وقع فيه تخليط والله أعلم". ونقل عن ابن حزم قوله: "هذا حديث موضوع لا شك في وضعه"[74]. وقال ابن تيمية: " "غلَّطه [أيْ مسلماً] في ذلك طائفة من الحفاظ"[75].

    حديث مسلم حول صلاة الكسوف ثمان ركعات. قال الألباني: "ضعيف، وإن أخرجه مسلم"[76] وقال ابن تيمية: "ضعّفه حُذّاق أهل العلم"[77].

    حديث مسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة". قال الألباني: "كان الأحرى به أن يحشر في زمرة الأحاديث الضعيفة"[78].

    وقد أفرد بعض علماء الحديث كتبا لنقد أحاديثَ في البخاري ومسلم وبيان عللها في السند أو في المتن، أشهرها كتابا الدارقطني: "الإلزامات" و"التتبع". ومنها كتاب: "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأسانيد المقطوعة" للعطار، وكتاب :"علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم" لأبي الفضل بن عمار. وضعَّف العلامة ناصر الدين الألباني -وهو شيخ علوم الحديث والأثر في عصرنا- عشرات الأحاديث الواردة في أحد الصحيحين. ولا غرابة أن كان أكثر المطعون فيه من صحيح مسلم لا صحيح البخاري. قال ابن تيمية: "جمهور ما أُنكر على البخاري مما صحّحه، يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجّاج، فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه"[79]. وعموما فإن التعميم والتهويل حول صحة كل حديث في الصحيحين ونقل الإجماع على ذلك إنما شاع حينما انحطت علوم الحديث، وساد فيها التقليد.

    لقد رد الترابي بضعة أحاديث مما أخرجه البخاري ومسلم، استنادا إلى فهمه من تعارضها مع نصوص القرآن، لا تشكيكا في السنة ولا طعنا في حجيتها. ولأهل العلم أن يناقشوه في ذلك، وأن يطالبوه بالدليل فيما ادعاه من انتحال تلك الأحاديث، لكن الأمر كله يجب أن يظل نقاشا علميا من غير تكفير أو تشهير من جهتهم، ومن غير تبجح أو استهتار من جهته.


    رجوع المسيح وظهور الدجال

    القسم الثالث قضايا اعتقادية خالف فيها الترابي الفهم المتعارف عليه، وأهمها إنكاره رجوع المسيح عليه السلام وظهور الدجال، وكلامه في عصمة الأنبياء. أما مسألة رجوع المسيح فإنكار الترابي لها تعلق منه بظواهر آيات قرآنية مثل قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: "ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد"[80] فهو يرى أن البعدية المذكورة في هذه الآية تنفي ما ذهب إليه الجمهور من أن عيسى بن مريم لا يزال حيا، وسيرجع في آخر الزمان. كما أن قوله تعالى على لسان عيسى: "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا"[81] يثير إشكالا حول دفعه للزكاة إذا كان حيا يرزق في السماء اليوم!!

    واعتمادا على ظواهر الآيات رد الترابي أحاديث البخاري ومسلم حول عودة المسيح وظهور الدجال، وألح على أن هذه الأحاديث أثر من آثار الثقافة المسيحية على التراث الإسلامي، تسربت إلى كتب الحديث دون وعي من أهلها، فقال في مقابلته مع الشرق الأوسط يوم 21/4/2006: "الأحاديث تقول يوشك أن ينزل عليكم عيسى ويفعل كذا، فأنا أصرف هذه الروايات إلى أثر الثقافة النصرانية، وأنها نسبت خطأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم". وبمثل ما يقول الترابي قال العلامة المجدد محمد رشيد رضا من قبل، وكان أكثر تحديدا وتفصيلا فقال: "فنزول عيسى عقيدة أكثر النصارى وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام بثها في المسلمين، وممن حاولوا ذلك بإدخالها في التفسير وهب بن منبه الركن الثاني بعد كعب الأحبار في تشويه تفسير القرآن بما بثه من الخرافات" وزاد: "ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب وكان يصدقه... ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب ، وكان يصدقه"[82]. وبمثل ذلك قال من المعاصرين محمد أبو زهرة ومحمود شلتوت والشيخ المراغي من علماء الأزهر. أما محمد الغزالي فقد نبه إلى نقطة مهمة، وهي أن القول بأن عيسى عليه السلام لا يزال حيا في السماء، تحمل شيئا من "شوائب الألوهية" في المسيحية[83].

    وقد توصل الشيخ رشيد رضا إلى أنه "ليس في الكتاب والسنة نص قطعي الثبوت والدلالة على نزول المسيح يوجب على المسلمين الاعتقاد بذلك، وإنما ورد في نزوله أحاديث اشتهرت لغرابة موضوعها وتخريج الشيخين لها، وأكثرها عن أبي هريرة، وهذه المسألة من المسائل الاعتقادية التي يُطلب فيها النص القطعي المتواتر"[84].

    أما كعب الأحبار الذي يتحدث عنه رشيد رضا هو الذي قال فيه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في صحيح البخاري: "إن كان من أصدق هؤلاء المحدِّثين الذين يحدِّثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب"[85]. ونقلُ أبي هريرة عن كعب معروف في الأخبار الصحيحة، ومنها الحديث التالي: "عن أبي هريرة أنه قال: خرجت إلى الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[86].

    وأقل ما يقال في أحاديث البخاري ومسلم حول عودة المسيح ابن مريم وظهور المسيح الدجال أنها غريبة ومثيرة للريبة، وقد أشكلت على علماء أعلام في الماضي، منهم البيهقي وابن حجر وغيرهما، لمعارضة بعضها ليقينيات الوقائع، ومناقضة بعضها لبعض. ففي صحيح البخاري أحاديث توحي بأن الدجال هو الشاب اليهودي الغريب الأطوار صاف بن صياد الذي عاش في المدينة على عهد النبوة. فقد أخرج البخاري "عن محمد بن المنكدر: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصياد الدجال، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم "[87]. وورد عن ابن عمر وأبي ذر بأسانيد صحيحة أنهما كانا يحلفان على ذلك[88]. كما ورد في صحيح مسلم عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما شكهما في أن ابن صياد هو الدجال[89]. وقد حاول ابن حجر بتكلف شديد أن يتغلب على الإشكال بالقول إن "ابن صياد هو شيطان تبدّى في صورة الدجال في تلك المدة"[90] وليس هو بالدجال الحقيقي الذي يأتي في آخر الزمان، ونسي أن أحاديث البخاري تدل على شك النبي صلى الله عليه وسلم في أن ابن صياد هو الدجال الحقيقي، ولذلك قال لعمر: "إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله"[91]. فهل استيقن ابن حجر أن ابن صياد مجرد شيطان وليس هو الدجال الأكبر، وغاب ذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب وحفصة بنت عمر وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبي ذر الغفاري وأبي سعيد الخدري!؟

    ومن أمثلة هذا الاضطراب في أحاديث المسيح ابن مريم والمسيح الدجال حديث في صحيح مسلم يصرح بأن ظهور الدجال ونزول المسيح يكون بعد رجوع الجيش الإسلامي إلى الشام من فتح القسطنطينية مباشرة: "...فيفتتحون قسطنطينية، فبينماهم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل. فإذا جاءوا الشام خرج. فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة. فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم. فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء. فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته"[92]. والمشكلة في هذا الحديث أن القسطنطينية تم فتحها منذ أكثر من خمسة قرون، وعادت منها الجيوش الإسلامية ظافرة، فما وجدت المسيح ولا الدجال!!!
    إن أحاديث رجوع المسيح ابن مريم وظهور المسيح الدجال فيها اضطراب وتناقض كبير، أثارا حيرة العلماء الأعلام على مر العصور. فلم يك الترابي أول من شك في صحتها ولن يكون آخرهم. فطالب الثانوية المسلم اليوم يدرك أنه أن الإنسان المعاصر قد وصل إلى كل موطئ قدم من اليابسة، بل اطلع على الكثير مما في باطن الأرض، وصوَّر طبقاتِها الجيولوجية ومعادنَها وكنوزَها، ورحل إلى القمر، وهو الآن يخطط للرحيل إلى المريخ. فهل نلزم هذا الشاب المسلم أن يؤمن بما رواه لنا مسلم في حديث تميم الداري الطويل المشهور أن الدجال موثق بالحديد في جزيرة وصل إليها بحارة عرب ضلوا طريقهم، تحرسه دابة عجيبة الخلق تتحدث اللغة العربية بطلاقة!! قال تميم الداري ضمن خبره الطويل الذي ينسب الإمام مسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تصديقه فيه: "...حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية. فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأَنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر، لا يُدري ما قبُله من دبُره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا وما الجساسة؟ قالت: اعمَدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق... قال....إني مخبركم عني، إني أنا المسيح [الدجال]، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج. فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتا"!![93] .

    وهذه الغرائب غيض من فيض مما ورد في نزول المسيح وظهور الدجال. ويبقى السؤال: أين تلك الجزيرة اليوم بعد أن مسح الإنسان سطح الأرض مسحا؟! وأين الدجال الموثق فيها بالحديد؟! وهل هو الشاب اليهودي ابن صياد الذي عاش في المدينة وحج أو اعتمر إلى مكة كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري[94]؟ أم هو ذلك الرجل الموثَق في تلك الجزيرة النائية الذي تمنعه الملائكة من دخول المدينة ومكة كلتيهما كما في صحيح مسلم أيضا من حديث تميم الداري!؟

    ليس مما يخدم الإسلام في شيء –وهو دين العلم والبرهان- أن يتم إلزام الناس بالإيمان بمنقولات مضطربة فيما بينها، مناقضة لبدائه العقل ومدرَكات الحس، بل ذلك فتنة للمسلمين عن دينهم الحق، كما فتنت الكنيسة أتباع المسيح عليه السلام، بتحريفاتها وتأويلاتها المناقضة للعلم والعقل. وليس من العلم والعدل النكير على المشككين في تلك الأخبار المضطربة، مثل الشيخ رشيد رضا ومحمود شلتوت ومحمد الغزالي وحسن الترابي. أما تكفيرهم بذلك فلا يستساغ أصلا، خصوصا عند المطلعين على جملة تلك الأحاديث، وما ذكره فيها أهل العلم من الغرابة والإشكالات. ولولا تكلف التأويل ونقص الاستقراء لدى هؤلاء المكفِّرة لما كفَّروا أحدا بهذا، ولسلكوا سبيل العلم والتحقيق.

    ومما يحسن التذكير به مقارنةً في هذا المقام أن الإمام البخاري نفسه أنكر حديث مسلم عن أبي هريرة حول الخلق في سبعة أيام، وردَّه إلى مصدره المسيحي، كعب الأحبار. ففي صحيح مسلم "عن أبي هريرة رضي الله عنه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل"[95]. قال ابن تيمية: "وهذا [الحديث] طعَنَ فيه من هو أعلمُ من مسلم، مثل يحيى بن معين، ومثل البخارى وغيرهما، وذكر البخارى أن هذا من كلام كعب الأحبار"[96]. ثم أيد ابن تيمية ذلك الطعن "لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام"[97].

    فإذا كان الإمام البخاري قد رد هذا الحديث الذي رفعه الإمام مسلم –أو أحد رواته- خطأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واكتشف البخاري أنه من كلام كعب الأحبار، فهل يُستغرَب –بعد تراكم المعرفة الشرعية والإنسانية أكثر من ألف عام على عصر البخاري- أن يرد علماء مسلمون بضعة أحاديث أخرى وجدوا بالدليل أن البخاري أو مسلم رفعها خطأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويكتشفوا أنها من كلام تميم الداري الذي "كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم"[98] كما في صحيح مسلم، أو من كلام كعب الأحبار وهو نصراني آخر أسلم؟!؟

    أليس أقل ما يقال في هذا السياق هو قول شيخ الأزهر السابق علي جاد الحق رحمه الله: "ولما كانت أسس العقيدة الإسلامية إنما تثبت بالدليل القطعي الثبوت والدلالة من القرآن والسُّنَّة، فإن مَن جَحد نزول عيسى عليه السلام وعوْدتَه إلى الأرض لا يخرُج عن الإسلام، ولا يُعتبر كافرًا، لأن ما جَحده غير ثابت بدليلٍ قطعيٍّ مِن القرآن أو السنة"[99]؟

    عصمة الأنبياء عليهم السلام

    ويدخل في هذا الباب كلام الترابي عن عصمة الأنبياء، فالذين يردون على الرجل لا يبدو أنهم يفرقون بين "عصمة البلاغ" و"عصمة التأسي"، ولا يميزون بين العصمة من الكبائر والعصمة من الصغائر. فلا ريب أن الأنبياء معصومون فيما يبلغون عن الله عز وجل، وبدون اعتقاد ذلك تسقط الثقة في الوحي، وعلى هذا القدر من العصمة لم يختلف اثنان من علماء الأمة، ولم يثر الترابي يوما كلمة حول هذا الأمر. وأما عصمة التأسي، أي هل هم معصومون من فعل الذنب ابتداء، أم معصومون من الإقرار عليه فقط، فهذا فيه جدل قديم منذ صدر الإسلام بسبب ظواهر الآيات الدالة على أن بعض الأنبياء ارتبكوا أخطاء أو أصابوا ذنوبا. قال الشوكاني: "وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء واختلاف مذاهبهم في ذلك مدون في مواطنه"[100].

    والقدر المتفق عليه من عصمة التأسي أنه لا يتم إقرار الأنبياء على الذنب. قال ابن تيمية: "إن الله سبحانه وتعالى لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر توبته منه، ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين: إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها [أي الذنوب]، وإما أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليها، لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإن الأمة متفقة على أن ذلك معصوم أن يُقرَّ فيه على خطأ، فإن ذلك يناقض مقصد الرسالة ومدلول المعجزة"[101].

    ويرى الباقلاني من الأشاعرة، وبعض علماء المعتزلة، أن الأنبياء غير معصومين، لا من الصغائر ولا من الكبائر، بينما يرجِّح ابن تيمية أنهم معصومون من الكبائر لا من الصغائر، ويقول إن ذلك ما يقول به جلُّ علماء المسلمين من مختلف المشارب والمذاهب. قال ابن تيمية: "القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام... وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء يقولون أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول" وزاد ابن تيمية أن "أول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقا وأعظمهم قولا لذلك الرافضة [يقصد الشيعة]"[102].

    وقد رد ابن تيمية على المتكلفين في القول بعصمة الأنبياء من كافة الذنوب صغيرِها وكبيرِها، واتهمهم بتحريف كلام الله عز وجل، فقال: "وإن كان كثير من الناس المتكلمين فى العلم يزعم أن هذا ليس بذنب وأن آدم تأول... وهذا القول يقوله طوائف من أهل البدع والكلام والشيعة وكثير من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم ممن يوجب عصمة الأنبياء من الصغائر، وهؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو أعظم منه فى تحريف كلام الله عن مواضعه. وأما السلف قاطبة من القرون الثلاثة الذين هم خير قرون الأمة، وأهل الحديث والتفسير، وأهل كتب قصص الأنبياء والمبتدأ، وجمهور الفقهاء والصوفية، وكثير من أهل الكلام، كجمهور الأشعرية وغيرهم وعموم المؤمنين، فعلى ما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) وقوله: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)... وهذه نصوص لا تُردُّ إلا بنوع من تحريف الكلم عن مواضعه"[103].

    فقول أحد الرادين على الترابي: "في شرعنا –عند أهل السنة– الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله، وعن الشرك، والكبائر، والصغائر، قبل وبعد البعثة" تعميم وتهويل في غير محله. وليت الذين يكفِّرون الترابي بقوله في عصمة الأنبياء يقرأون ما كتبه ابن تيمية: "إن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات... اتفق علماء المسلمين أنه لا يُكفَّر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء""[104]. أما قول "الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة في السودان" إن الترابي ينكر عصمة البلاغ، فكلام الترابي صريح بعكسه، بما في ذلك الكلام الذي نقلته عنه الرابطة في بيانها. فهي إذن دعوى من خصم على خصمه دون دليل، وتعميم في موطن يحتاج إلى تدقيق وتفصيل.

    ومهما يكن من أمر، فليست أي من أقوال الترابي هذه بأشد مخالفة لظواهر النصوص وما تعارف عليه أهل العلم، من أقوال شاذة قال بها علماء أعلام في الماضي، فخرجوا بها عن القول السائد. وكم من علمائنا الأقدمين خالفوا ما اعتقد أنه إجماع، ليس في الفروع فقط، بل في العقائد، وتعرضوا للمحن بسبب ذلك، ومع ذلك انتشر قولهم واشتهر بعد ذلك وأصبح مقبولا، بعد أن تكشفت مداركه من النصوص وسوابقه في تراث الأمة، أو تم عذرهم فيه لما يُعلَم من عمق إيمانهم وحبهم لله ورسوله. وقول ابن تيمية وابن القيم بفناء النار في الآخرة، وهو ما يترتب عليه عدم خلود الكفار في العذاب، يدخل في هذا الباب. وقد رد عليهما بعض العلماء الأقدمين مثل تاج الدين السبكي في كتابه: "الاعتبار ببقاء الجنة والنار"، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني في كتابه: "رفع الاستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار"، واهتموهما بمخالفة الإجماع. وبسبب اجتهاداتهما المخالفة لما تعارف عليه فقهاء عصرهم "نودي بدمشق من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله، خصوصاً الحنابلة. فنودي بذلك وقرئ المرسوم"[105]. ولم يكن الخطأ خطأ ابن تيمية أو ابن القيم رحمهما الله، فهما من أعلام الإسلام، وقد قالا بما أداهما إليه اجتهادهما واطلاعهما الواسع. بل كان ثمرة مريرة من ثمار التعصب المذهبي وضيق الأفق عند الطرف الآخر، واستخدام السلطة القاهرة في صراع الأفكار. فما أشبه الليلة بالبارحة، ونحن نقرأ بيان مجمع الفقه التابع لرئاسة الجمهورية السودانية حول الترابي!!

    ورغم أن مسألة القول بفناء النار قضية كبيرة وخطيرة، حتى قال ابن القيم في "حادي الأرواح" إنها أكبر من الدنيا وما فيها بأضعاف مضاعفة، ورغم أنها تخالف ظواهر آيات عديدة من القرآن الكريم، فقد قال الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي في فتوى له إن كلا من القائلين بخلود النار أو بفنائها مجتهد مأجور: "لا يُنكر عليه ولا يضلَّل ولا يبدَّع، لأن السب والتجريح و تضليل الآخرين وهم ليسوا كذلك فيه إثم ومعصية ويترتب عليه الاختلاف والفرقة التي نهى الله عباده عنها". واعتبر العلامة المحدث ناصر الدين الألباني ابنَ تيمية وابنَ القيم مجتهدين مأجورين في ذلك رغم خطئهما، وهذا الذي يجب القول به. بل دافع عن القول بفناء النار أحد المعاصرين في كتيب بعنوان: "القول المختار لبيان فناء النار".

    نحو التثبت والتأصيل

    في عام 1998 أصدر محدِّث اليمن الشيخ العلامة مقبل الوادعي رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته محاضرة في شريطيْ كاسيت بعنوان: "البركان لنسف جامعة الإيمان"، يهاجم فيه جامعة الإيمان في اليمن، وهي صرح من صروح العلم والتقوى والدعوة. وكان الشريط صدمة لرئيس الجامعة، الشيخ العلامة الورع عبد المجيد الزنداني، كما كان صدمة لجميع مدرسي الجامعة وطلابها، ولأغلب العاملين للإسلام في اليمن. ولم يكن مصدر الصدمة محصورا في التحامل الذي بلغ حدا عجيبا، بل في التساهل في الرواية من شيخ محدث متمكن. فقد قال الشيخ مقبل رحمه الله في إحدى شريطيه: "أخبرتني أم مالك وهي أوثق عندي من جميع الإخوان المفلسين" (يقصد الإخوان المسلمين) .. ثم أورد قصة عن أم مالك مفادها أن الشيخ الزنداني تحرسه النساء، ثم علق الشيخ مقبل على ذلك قائلا: "لقد أصبحت قذافيَّ اليمن يا زنداني"!!!

    تعجبت غاية العجب لما أعلمه من حياة الورع والحيطة السائدة في جامعة الإيمان، والفصل الصارم بين الرجال والنساء، إلى حد منع الأساتذة من دخول قاعات طالباتهم، ونقل الدرس بالبث التلفزيوني إلى قاعات الطالبات.. ومع ذلك يأخذ شيخ محدث برواية كذابة حول أمر على هذا القدر من الخطورة، ويطعن في أعراض أئمة المسلمين ومنابرهم العلمية بناء على تلك الرواية المنحولة.

    بل كان عجبي أكثر وأنا أعرف أن الشيخ مقبل رحمه الله عالم مبرَّز في علم الجرح والتعديل. فتساءلت بألم: هل يعجز من أفنى حياته منقِّبا في علم الرجال وتوثيق الرواة وتضعيفهم عن الاتصال بالهاتف على جامعة الإيمان أو على الشيخ الزنداني للاستبيان عن صحة ما قالته الكذابة "أم مالك"؟ وهل الشيخ الذي طالما حدَّث طلابه عن الرحلة في طلب الحديث، عاجزا عن السفر بضعة عشرات من الأميال إلى مقر الجامعة، أو التعريج عليها في إحدى زياراته لصنعاء، ليتحقق بنفسه مما نقل إليه عن جامعة الإيمان ورئيسها ومدرسيها. وكان من طرائف ما ورد في الشريطين هجوم الشيخ مقبل رحمه الله على المدرسين الموريتانين في جامعة الإيمان، وقوله إن منهم "الرافضي والأشعري والمعتزلي والمرجئ...الخ" ولأني كنت أحد أولئك المدرسين يومذاك، وأعرف المدرسين الآخرين حق المعرفة، فقد كانت دهشتي عظيمة.

    تذكرت شريط" البركان لنسف جامعة الإيمان" وأنا أتابع بحزن ما آل إليه الخطاب الشرعي في التعاطي مع قضية الترابي وآرائه المثيرة، وآلمني حقا أن يتحول الحوار في قضايا شرعية على هذا القدر من الخطورة والأهمية إلى تراشق بالكلام، وولوغ في الأعراض، ومحاكمة للضمائر والسرائر، وتعجل في إصدار الأحكام دون تثبت في النقل أو تأصيل للرأي. لقد ورد في بيان مجمع الفقه في السودان ردا على الترابي: "إن كفر اليهود والنصارى يعد من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الاسلام، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى أو شك في ذلك فهو كافر". وهذا غلو في الصياغة، لأن لازم القول ليس منه، وقائل الكفر ليس بالضرورة كافر. فضلا عن أن الترابي لم يقل كفرا، ولم يتجاوز أن ميز تمييزا اصطلاحيا بين أهل الكتاب والمشركين، وبين أهل الكتاب والكفار، له أصل في القرآن الكريم، وكلامه متواتر بكفر وشرك أهل الكتاب، كما بينا من قبل. لكن المجلس الموقر لم يكلف نفسه عبء التثبت في ذلك. كما وصف بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي ومنهج السلف في السودان الترابيَّ بالدجل والكفر والردة والنفاق والزندقة والضلال... وغير ذلك من ألفاظ قاموس التكفير والتشهير.

    وقد ارتكب الترابي نفس الخطإ فجاءت لغته استفزازية مستهتِرة، ومن ذلك قوله مبررا فتواه بزواج المسلمة من الكتابي: "منع التزاوج بين المسلمات والكتابيين أقاويل لا أساس لها من الدين، ولا تقوم على ساق من الشرع الحنيف، إنما هي أوهام، وتضليل، وتجهيل، وإغلاق، وتحنيط، وخداع للعقول.. والإسلام منها براء". وقوله عن تنصيف شهادة المرأة في الأموال: "ليس ذلك من الدين أو الإسلام، بل هي مجرد أوهام، وأباطيل، وتدليس، أريد بها تغييب وسجن العقول في الأفكار الظلامية التي لا تمت للإسلام في شيء..." وهذا إطلاق لا مبرر له، وتنكر لآراء سائدة وفهومٍ فقهية متراكمة للنص الشرعي، وحشد لألفاظ مستهجَنة لا يصلح استخدامها من طرف أهل العلم وهم يتحدثون في دين الله. وكان الأوْلى بمن استشكلوا أقوالا للترابي أن يردوها إلى سياقها في فكره وكتبه، أو يستفسروا منه عن مقصوده بها، ومصادر رأيه التي اعتمد عليها. كما كان الأوْلى بالترابي أن يسلك سبيل الحكمة والتأصيل وتقديم الدليل، ويترفع عن المهاترات والمراء.

    ليس من الصعب على المطلع على مجمل الإنتاج الفكري للدكتور الترابي منذ الستينات إلى الآن، أن الرجل يمتاز باطلاع واسع على مختلف العلوم الشرعية، وعقل تحليلي تركيبي نادر، قادر على سبر المسائل الشرعية، والغوص على أصولها، والتنقيب عن أسسها وفحصها بدقة دون خوف من انهيار البناء. لكن ليس من الصعب أيضا إدراك أن الترابي تنقصه الحكمة في الطرح والرزانة في الأسلوب.
    والذي يبدو لي أكبر خطإ ارتكبه الدكتور الترابي في حق نفسه أولاً، ثم في حق مستمعيه وقرائه بعد ذلك، هو أنه يقدم نتائج قراءاته الواسعة واجتهاداته الجريئة دون بيان لمقدماتها، فيلقي المسائل إلقاء من غير توضيح لمواردها ومصادرها، ويقذف بالآراء الجريئة المثيرة للجدل دون توثيق لها من كتب التراث الإسلامي، رغم أن أكثر آرائه التي تبدو للقارئ غير المطلع بدَعا مستحدثة لها أصول في نصوص الشرع ، وسوابق من آراء المتقدمين من علماء السلف، ممن لهم هيبة في العقل المسلم المعاصر، المولع بتقديس اجتهاد الأموات واحتقار اجتهاد الأحياء.

    ولو أن الترابي خاطب حملة الثقافة الفقهية الحاضرة بلغتهم الأثرية السائدة، ووثق آراءه من التراث الفقهي والفكري المتراكم، لنآى بنفسه عن سهام الاتهام، ولوجد من يتفهم مقولاتِه وإن لم يتبنَّها، ومن يقبلُ بها رأيا اجتهاديا مشروعا، وإن لم يوافقه عليها. لقد جنى الترابي على نفسه وعلى الخطاب الشرعي عموما حينما قدم آراءه واجتهاداته مجردة عن الإسناد والتوثيق، فبدت للقارئ غير المطلع إرسالا للكلام على عواهنه، وخروجا على المرجعية الشرعية.

    ولو سلك الترابي وخصومُه مسلك العلم والعدل، وتحلَّوْا بأدب الخلاف، وتجردوا من صراع السياسة وأهواء التحيز، والتزموا البرهان والدليل المجرد، لكان الجدل الحالي مثمرا، يستفيد منه المسلمون تحريرا لمسائل شرعية على قدر من الأهمية، وحفْزًا لطلاب العلم على مزيد من البحث والتنقيب، وأخذا للمسائل الشرعية بقوة، وعدم استسهال الخوض فيها من غير دليل وتأصيل.

    من أجل ذلك جاءت هذه الملاحظات دعوة للتثبت والارتفاع بالجدل الراهن إلى مستوى الخطاب الشرعي، الذي يحسن الظن بالمسلمين، ويتنزه عن محاكمة الضمائر، ويفتح الباب لحوار الأفكار في وضَح النهار...

    فما كان في هذه الملاحظات من حق فهو من الله المتفضل، وما كان فيها من خطل أو زلل فهو مني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم منه. والله الموفق لكل خير، وفوق كل ذي علم عليم..

    السلام عليكم
    أخوكم/ محمد بن المختار الشنقيطي
    مدير المركز الإسلامي في ساوث ابلين
    تكساس- الولايات المتحدة
    هواتف: 18067994785
    18067978026
    الموقع: www.fiqhsyasi.net
    [email protected]

    ________________________________________
    الهوامش:
    [1] الجويني: غياث الأمم في التثياث الظُّلَم 1/137
    [2] الترابي: الحركة الإسلامية في السودان ص 151
    [3] الترابي: قيمة الدين رسالية الفن ص 31
    [4] الألباني: صحيح سنن ابن ماجه، الحديث رقم 1414
    [5] مكي: الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) تاريخها وخطابها السياسي ص 85
    [6] الترابي: الحركة الإسلامية في السودان ص 151
    [7] سورة التوبة، الآية 30
    [8] سورة المائدة، الآية 72
    [9] الترابي: السياسة والحكم.. النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع ص 177
    [10] الترابي: السياسة والحكم ص 210
    [11] سورة البينة، الآية 1
    [12] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 35/213-214 وابن القيم: دقائق التفسير 2/14
    [13] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 32/178
    [14] سورة النساء، الآية 50
    [15] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 31/180-181
    [16] الترابي: السياسة والحكم ص 30
    [17] الترابي: السياسة والحكم ص 44
    [18] ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1/95
    [19] ابن القيم: إغاثة اللهفان 2/351-361
    [20] سورة البقرة، الآية 217
    [21] الترابي: السياسة والحكم ص 114
    [22] الترابي: السياسة والحكم ص 166
    [23] سورة الكهف، الآية 29
    [24] EL-Affendi : Turabi's Revolution p. 102
    [25] الترابي: السياسة والحكم ص 116
    [26] الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 663
    [27] الألباني: صحيح سنن أبي داود، الحديث رقم 4888
    [28] الترابي: المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع ص 43
    [29] من حوار الترابي مع صحيفة "الشرق الأوسط" يوم 21/4/2006
    [30] ابن تيمية: القواعد النورانية 1/78
    [31] ابن تيمية: "نقد مراتب الإجماع" مطبوع ملحقا بكتاب ابن حزم "مراتب الإجماع" ص 290
    [32] النووي: المجموع شرح المهذب 4/223
    [33] ابن رشد: بداية المجتهد 1/153
    [34] قال الألباني في إرواء الغليل 2/255 "إسناده حسن"
    [35] الألباني: صحيح أبي داود، الحديث رقم 592 وقال عن إسناده "حسن"
    [36] الألباني: صحيح ابن خزيمة، الحديث رقم 1676، وقال: "إسناده حسن"
    [37] حسن إسناده النووي في المجموع 4/296
    [38] ابن القيم في إعلام الموقعين 2/274
    [39] البيهقي: السنن الكبرى 3/90
    [40] النووي: الخلاصة 2/695
    [41] المزي: تهذيب الكمال 10/522
    [42] الذهبي: المهذب في اختصار السنن الكبير 3/1103
    [43] ابن الملقن: البدر المنير 4/433
    [44] ابن القيم: زاد المعاد1/410
    [45] ابن كثير: إرشاد الفقيه 1/174
    [46] ابن حجر: تلخيص الحبير 2/531
    [47] الشوكاني: نيل الأوطار 3/199
    [48] الألباني: إرواء الغليل، الحديث رقم 524
    [49] انظر صحيح البخاري، الحديث رقم 3444
    [50] رواه عبد الرزاق والبيهقي وصححه ابن حزم عن عمر، انظر: المحلى، المسألة رقم 2199
    [51] حسَّن ابن حجر إسناده في فتح الباري 12/284
    [52] ابن حزم: المحلى، المسألة رقم 2199
    [53] صحيح البخاري، الحديث رقم 6922
    [54] سورة البقرة، الآية 256
    [55] سورة يونس، الآية 99
    [56] ابن حزم: المحلى، المسألة رقم 2199
    [57] لاستقراء أوسع حول هذه الموادعات طالع كتاب د. محمد حميد الله: "مجموعة الوثائق النبوية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"
    [58] الترابي: السياسة والحكم ص 167
    [59] سورة البقرة، الآية 281
    [60] ابن القيم: إعلام الموقعين 1/90
    [61] محمد عبده: الأعمال الكاملة 4/732
    [62] ابن القيم الطرق الحكمية ص 117
    [63] صحيح البخاري، الحديث رقم 88
    [64] ابن القيم: إعلام الموقعين 1/96
    [65] سورة البقرة، الآية 219
    [66] سورة الممتحنة، الآية 10
    [67] تفسير البيضاوي 5/329
    [68] الألوسي: روح المعاني 28/78
    [69] ابن القيم: إعلام الموقعين 1/30
    [70] من حوار الترابي مع صحيفة الشرق الأوسط السابق الإشارة إليه
    [71] سورة النحل، الآية 106
    [72] سير أعلام النبلاء 5/385
    [73] زاد المعاد 2/275
    [74] انظر ابن القيم: "جلاء الأفهام" ص 245 وما بعدها
    [75] ابن تيمية: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 87
    [76] الألباني: إرواء الغليل 3/129
    [77] ابن تيمية: مجموع الفتاوى/18/18
    [78] الألباني: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/91
    [79] ابن تيمية: قاعدة جليلة ص 86
    [80] سورة الصف، الآية 6
    [81] سورة مريم، الآية 30
    [82] مجلة المنار، المجلد 28، ص 756
    [83] عن أقوال هؤلاء المعاصرين انظر دراسة د. أحمد شلبي: "المسيح في نظر المسلمين" المنشور على موقع "البلاغ"
    [84] من فتوى الشيخ رشيد رضا منشورة على موقع إسلام أون لاين
    [85] صحيح البخاري، الحديث رقم 2679
    [86] صححه ابن حجر في نتائج الأفكار 2/432 والبغوي في شرح السنة 2/553
    [87] صحيح البخاري، الحديث رقم 7355
    [88] انظر ابن حجر في فتح الباري 13/341 وفي الأسئلة الفائقة 1/34 والنووي في في شرح مسلم 18/47
    [89] انظر صحيح مسلم، الحديثان رقم 2932 و2927
    [90] فتح الباري 13/328
    [91] صحيح البخاري، الحديث رقم 1354
    [92] صحيح مسلم، الحديث رقم 2897
    [93] انظر: صحيح مسلم، الحديث رقم 2942
    [94] انظر صحيح مسلم، الحديث 2927
    [95] صحيح مسلم، الحديث رقم 2789
    [96] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 18/18
    [97] نفس المصدر والصفحة
    [98] صحيح مسلم، الحديث 2942
    [99] من فتوى لشيخ الأزهر السابق علي جاد الحق، منشورة على موقع "إسلام أون لاين"
    [100] الشوكاني: فتح القدير 1/68
    [101] كتب ورسائل ابن تيمية في التفسير 15/147
    [102] انظر فتاوى ابن تيمية 4/319
    [103] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 20/88
    [104] مجموع الفتاوى 35/100-102
    [105] ابن حجر: الدرر الكامنة 1/147
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de