كيف لا يصبح الإسلام عقبة في طريق الديمقراطية؟ (محاضرة)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 02:44 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-24-2006, 03:10 PM

أحمد محمد عرفة


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كيف لا يصبح الإسلام عقبة في طريق الديمقراطية؟ (محاضرة)

    هذا هو النص الكامل للمحاضرة التي ألقيتها في رواق ابن خلدون ليلة الثلاثاء 11/ 4/ 2006
    كيف لا يصبح الإسلام عقبة في طريق الديمقراطية؟
    من عنوان المحاضرة يتبين أن المحاضر لا يبحث في محاضرته مثلا موضوع موقف الإسلام من الديمقراطية، ولا موضوع مدى توافق الديمقراطية مع الإسلام، ولكنه يبحث موضوعا آخر هو : كيف لا يصبح الإسلام عقبة في طريق الديمقراطية؟ وكأنه قد اتخذ قرارا أنه ينبغي ألا يسمح لشيء أن يكون عقبة في طريق الديمقراطية. ولأنني ذلك الشخص فإنني أقول نعم: ينبغي ألا يُسمح لشيء أن يكون عقبة في طريق الديمقراطية، ولو كان ذلك الشيء هو الدين، ولو خيِّرت بين الإسلام والديمقراطية لاخترت الديمقراطية، ليس لأنها تغني عن الإسلام، فالديمقراطية ليست دينا، وإنما لأن الديمقراطية لا تعادي الدين بصورة عامة. ولأننا في الشأن العام بحاجة إلى الديمقراطية وليس إلى الدين فقد فضّلت أن يكون العنوان على هذا النحو: كيف لا يصبح الإسلام عقبة في طريق الديمقراطية؟ ولسبب آخر وهو أن الإسلام قد أصبح عقبة بالفعل، وَفقا لفهم قطاعات عريضة من الناس، وَوَفقا لممارسات من يتابعون السلف في طريقة فهمهم للإسلام.
    وسوف تتضمن هذه المحاضرة نظرة معرفية للإسلام والديمقراطية وطبيعة العلاقة بينهما، ونظرةً تاريخية لدولة الإسلام، لبيان موقفها من الديمقراطية، وكيف أصبحت بدءا من العصر العباسي دولة غير ديمقراطية، بل دولة تستخدم الدين للأغراض السياسية. مما أدى إلى أن أصبحت نسخة الإسلام التي وصلتنا- من حيث الفهم- نسخة معادية للديمقراطية، أو غير متوافقة معها في الحد الأدنى. وسوف نتعرض أخيرا للأزمة من جانبها الفكري، ونبين تصورنا لكيفية الخروج منها، لنمتلك نسخة أخرى من الإسلام، نظن أنها أقرب إلى جوهره، وأكثر تعبيرا عن نصوصه الأصلية، يكون من صفاتها أنها تتوافق مع حقوق الإنسان ومع الديمقراطية.
    تعريف الإسلام:
    الإسلام هو الدين الذي بعث الله به الرسول العربي محمد بن عبد الله، هذا هو تعريف الشائع عن الإسلام عند الناس، ولكن الإسلام في القرآن الكريم هو إسلام النفس لله، بمعنى أن تستجيب لدعوة الله، فتصدق ما أخبرك به، وتؤدي الشعائر التي شرعها للقرب منه، وتعمل صالحا. هذا هو الإسلام في القرآن، ولذلك أخبر الله في القرآن الكريم أن كل الرسل كانوا مسلمين، وأن أتباعهم كانوا مسلمين، وفي سياق تعريف الدين جاء قول الكتاب العزيز: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" آل عمران 19، والمعنى إن الدين المقبول عند الله هو إسلام النفس لله، وليس شيئا آخر، وجاء قوله: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ" آل عمران 85. والمعنى ومن يُرِد من دينا غير إسلام نفسه لله، فلن يقبل منه ذلك الدين وهو في الآخرة من الخاسرين، ورغم ذلك فإن القرآن لم يجد بدا من استخدام المسميات المتداولة عند أصحاب الأديان القديمة، فخاطب أهل الكتاب باسمهم الذي يسمون به أنفسهم: أهل الكتاب، أو اليهود، أو النصارى، أو الصابئين، أو المجوس.
    ولو سألت أي إنسان متدين بأي دين يعتقد أتباعه بإله واحد- لو سألته قائلا: ماذا تريد بالتزامك بهذا الدين؟ فإن جوابه لن يكون بعيدا عن هذه العبارة: أريد أن أسلم نفسي لله، فأصدقه فيما يقول، وأشكره على نعمه، وأنفذ أوامره، ومن يقول هذا يكون قد ابتغى الإسلام، مهما كان اسم الدين الذي يدين به، ومهما كانت تفاصيل الشعائر التي يمارسها، ومهما كان تصوره عن المعاملات من إباحة أو حظر، أو حلٍّ أو حرمة، وهذا الإنسان لا ينطبق عليه قول الكتاب (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، وإنما هو ممن عناهم الله في قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة 62، وقد قال تعالى في وصف القيامة (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) من 6 إلى 8، من سورة الزلزلة.
    الإسلام إذن هو عدم التمرد على الله، وإن اختلف فهم الإنسان للرسالة التي أرسلها الله إليه. ولا توجد رسالة دينية تدعو الناس إلى الشر والإفساد، فكل الأديان تدعو إلى الخير والإصلاح، وإنما تتفاوت في التفاصيل بسبب عوامل كثيرة منها اختلاف الأزمان والثقافات. وقد لخّص القرآن دين الله في قوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل 90.
    تعريف الديمقراطية:
    أما الديمقراطية، فهي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه، ومعنى أن يحكم الشعب نفسه، إلا يتسلط عليه حاكم منه أو من غيره، وإنما يكون الحكم للشعب، وأن يحكم بنفسه، أي من غير أن تتركز السلطة في شخص أو فئة تدعي أنها تمثل الشعب من غير اختيار حرٍّ من الشعب، ولنفسه، أي ليحقق الشعب مصالحه العامة، فلا يكون الحكم ديمقراطيا إذا حيل بين الشعب وبين معرفة مصلحته، فاتخذَ من القرارات ما يحقق بها مصالح شعب آخر أو شخصا بعينه أو فئة بعينها من نفس الشعب.
    ملاحظة على التعريفين:
    1- تعريف الديمقراطية ليس فيه أي مفردة (غيبية)، بينما الدين لا يخلو من غيب، فلا دين دون إله، والله لم يره أحد
    2- في الديمقراطية تتسع دائرة الحق في الحكم إلى أوسع مدى ممكن، ثم يقام توازن لتحقيق أكثر قدر من الرغبات المشتركة، أما في الدين فالسلطة مركّزة في يد الإله، فلا حكم في الدين إلا لله.
    3- تهدف الديمقراطية إلى تحسين حياة الناس عن طريق آليات تمارسها الجماعة، بينما الدين يهدف إلى تحسين حياة الناس عن طريق آلية فردية هي شعور الفرد بأنه ليس عبدا إلا لله الذي خلقه وأنعم عليه بكل النعم، وأنه محاسب أمام الله على كل ما يعمله.
    4- الحساب في الديمقراطية مرحلي عبر صندوق الاقتراع، وقد يكون لحظيا بخروج المظاهرات، بينما الحساب في الدين حساب على كل الحياة، بعد أن يموت الإنسان وتنتهي كل أعماله، ومكانه في العالم الآخر، وزمانه اليوم الآخر.
    تركيز السلطة في الدين:
    تركيز السلطة في الدين في يد الإله أمر طبيعي، لأن الدين التزام طوعي بطاعة الله، لأنه الذي خلق وأنعم ولأنه الذي سيحاسب الناس على كل ما صدر عنهم، ولم يكن الغرض من تركيز السلطة في الدين في يد الإله هو أن الإله يريد أن يقهر الناس لأنه أقوى منهم، وإنما الغرض منه تحقيق مصالح الناس، لأن مصلحتهم تقتضي ألا يتسلط على الناس إنسان أو فئة من الناس، فيحلون ويحرّمون باسم الله، فيصبحون آلهة أو أنصاف آلهة، وتقتضي ألا يُحاسِبَ الناس إلا الله لئلا يظلم إنسان واحد، ولو مثقال ذرة.
    الإسلام والعقل:
    1- إن التصديق بأمر من أمور الغيب لا يعني عدم احترام العقل أو عدم الاحتكام إليه، وإنما يعني أن ذلك الذي نصدّق به غائبا عن حواسّنا، وقد تضمن القرآن أدلة عقلية عديدة لإثبات أهم غيبين دعا إلى الإيمان بهما، وهما الوحدانية واليوم الآخِر.
    2- التحريم في الإسلام مبني على حكم العقل، فلم يحرِّم الإسلام أمرا فيه نفع للناس، ولذلك فقد أحل المحرّم عند الضرورة، وبعد بيان أصناف المحرمات من النساء قال لكتاب العزيز (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) النساء 26، أي إن سبب التحريم ليس مجرد الرغبة الإلهية، وإنما لأنها من السنن الطيبة التي سارت عليها الأمم السابقة. أي أنها سنة من سنن الاجتماع البشري، أن تُحمى العلاقات القوية لتظل قوية وسامية على الفعل الجنسي، وليضيف الإنسان إلى جوارها علاقة أخرى جديدة تتضمن الارتباط الجنسي، فهذا هو الجامع المشترك بين كل المحرمات من النساء.
    3- تحريم لحم الخنزير مبني على العقل هو الآخر، لأن المناط في تحريمه ليس اسمَه ولا لحمه، وإنما المناط هو تحريم صنف من اللحم الذي يُشتهَى عادة، تدريبا للإرادة على أن تكون قوية، إذ تمتنع عن بعض ما تشتهيه، تماما كما كان المناط بتحريم المفطرات من الفجر إلى الليل في نهار رمضان، فإنه قال عن علة الصيام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة 183، أي لا تفعلون ما يجلب لكم الضرر. فلو قُدِّم لي لحم خنزيز من خنزير غير مريض بأي من الأمراض ولم يكن يأكل إلا من أطيب المأكل، وطهي ذلك اللحم بأشهى طريقة وأطيبها فلن آكله ليس لأنه خبيث، ولكن لأن الله حرّمه عليّ، لأتعود أن أمتنع عن بعض ما أشتهيه. وعلى النقيض مما يشيع عن علّة تحريم الخنزير، لم يرد شيء من مادة (خ.ب.ث) في القرآن الكريم في سياق الكلام عن تحريم لحم الخنزير أو غيره من الطعام المحرّم، وقد وردت هذه المادة في القرآن ست عشرة مرة. وقد ورد في الذكر الحكيم (وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ) الأعراف 157، ولم يرد فيه (ولا يحرِّم عليهم إلا الخبائث). فتحريم الخنزير تحريم عارض لعلة تقوية الإرادة على الامتناع، تماما مثل علة تحريم كل الطعام والشراب في نهار رمضان، وليس لأنه خبيث.
    4- وكان الإيمان واحدا من سببي النجاة في الآخرة، ليس لأن معنى الإيمان هو التصديق بأفكار دينية معينة، وإنما لأن معنى الإيمان في القرآن هو منح الأمن للآخرين، فالفعل (آمن) يُحتمل أن يكون على وزن (فاعَل) أي أنه نتج من (فَعَلَ) عن طريق زيادة ألف بعد الحرف الأول فأصبحت (فَعَل) فَاعَل (آمن)، ويكون المعنى منح الأمن لمن منحه الأمن، لأن صيغة (فَاعَل) وضعت للدلالة على اشتراك طرفين في القيام بالفعل: نحو سامَر وشاتَم وقاتَل وسابَق، ويُحتمل أن يكون (آمَن) على وزن (أفعل) أي أنه نتج من (فَعَلَ) عن طريق زيادة همزة وليس ألف بعد الحرف الأول، وبسبب كون الأول همزة تم تسهيل الهمزة الثانية إلى ألف، فأصبحت الكلمة (آمن) بعد أن كانت (أأمن)، ويكون معنى (آمن) منح غيره الأمن، هذان هما الاحتمالان، ولكن الاحتمال الأول غير صحيح، لأنه لو صحّ لكان اسم الفاعل من (آمن) هو مؤامِن، ولكن اسم الفاعل من (آمَن) ورد في القرآن كثيرا وهو (مؤمن)، أي أن (مؤمن) مثل أعلم وأفهم وأكرم، وكما أن أعلم تعني جعل غيره ذا علم، فكذلك آمَن تعني جعل غيره ذا أمن، أي جعله يشعر بالأمن الذي هو ضد الشعور بالخوف.
    هذا هو معنى (آمن). وليس ذِكْرُ اسم الله أو الملائكة أو اليوم الآخر أو الرسل أو الكتب في صيغة (يؤمن بالله واليوم الآخر) مثلا، إلا بيانا لمتعلق الأمن، فمعنى آمن بالله، أعطى غيره الأمن من أجل الله، وكذلك الإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر، فقول الكتاب العزيز (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) معناه من منح الناس الأمن من أجل الله واليوم الآخر، ثم عمل صالحا وَفقا لثقافة البيئة التي يعيش فيها ووفقا لظروفه الخاصة، فله أجره عند ربه يوم القيامة ولا خوف عليه ولا حزن يصيبه.
    التداخل بين التمقرط والتدين:
    التمقرط إرادة شعبية غلابة، ففي الديمقراطية يتم تداول المعلومات ويتم انتخاب ممثلين للمجتمع من فترة إلى أخرى، دون أن يفقد المجتمع رقابته وسلطته العامة، حتى على نوابه الذين اختارهم بملء الحرية، فقد يقوم بمظاهرات ويطلب عزلهم قبل انتهاء المدة التي اختارهم لها، أو يسقط قانونا يشرعون في إصداره، أو يطالب بعزل الحكومة أو أحد أعضائها أو بعزل الرئيس.
    هذا عن التمقرط أما التدين فهو إرادة فردية حرّة مختارة، وهو قناعة داخلية، وهو حافز إلى العمل الصالح، والله وحده هو المحاسب عليه، ووقت الحساب هو اليوم الآخر، والحساب فيه ليس تبعا لمسمى الدين ولا لكثرة أداء الشعائر، وإنما تبع للإيمان والعمل الصالح، وهو حساب فردي ف (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) في عدة مواضع بالكتاب العزيز، ولو كان للشعب دين معين إلا فردا واحدا من أفراده، فإنه لا يجوز إكراه ذلك الفرد كي يغير دينه أو فهمه لذلك الدين، فالتمقرط موقف شعبي ضاغط يقاوم كل صور الاستبداد والظلم والفساد، بينما الدين وصية إلهية يقبلها المرء مختارا، ويفهمها بعقل نفسه، ويطبقها كيف شاء أو يخالفها متى شاء وحسابه على الله.
    ومن حق المتدين في البلد الديمقراطي أن يصوِّت ضد كل ما يراه مخالفا لدينه، وله أن يدعوَ الآخرين إلى التصويت بـ (لا)، ولكن ليس من حقه ألا يلتزم بنتيجة التصويت، لأنه يقال له: إذا كنت ترى الأمر أمرا دنيويا محضا، فإن عليك أن تنزل إلى رأي الأغلبية، وإذا كنت تراه أمرا دينيا أو ذا صلة بالدين فإنه لا إكراه في الدين، فلا يمكنك أن تكره المجموع الذي خالفك في الدين أو في فهمه أو في فهم أمر متعلق به. ومن حقه أيضا أن يبدأ فورا في إعداد وتنفيذ خطة لتغيير اتجاهات الناس في المستقبل كي يصوتوا ضد ما يراه مخالفا للدين. ولكن ليس من حقه أن يحوِّل القضية من إطارها السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي الذي يسع الجميع إلى إطار ديني أباح الله فيه للناس أن يختلفوا فيختارَ كل أحد الدين الذي شاء ويفهمه كما شاء ويطبقه كما شاء.
    فلا يجوز للمتدين أن يدعو إلى رأيه في مسجد أو كنيسة؟ ولا أن ينشر كتابا دينيا يفسر فيه آية أو حديثا أو سورة أو إصحاحا من الكتاب المقدس، ليقول لأتباع دينه ما لم تفعلوا كذا لتغيير ذلك الإجراء فأنتم آثمون وإلى جهنم ذاهبون؟ ولا أن يطبع شرائط كاسيت يبكي فيها ويبكي الناس بنصوص ومواعظ دينية توجه الناس إلى رأيه، ولا أن يحوِّل القضية إلى صراع أديان أو مذاهب؟ إن جميع هذه الوسائل وسائل غير ديمقراطية، لأن الديمقراطية شراكة في الوطن، وليست شراكة في الدين، فلا يجوز أن يتحول الحوار فيها من حوار يحتكم إلى العقل العام إلى حوار يحتكم إلى العقل الديني أو المذهبي. فهنا نقول لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين.
    وهنا ألفت النظر إلى أن خطبة الجمعة في عهد الرسول عليه السلام لم تكن مناقشة لقضية دينية أو سياسية أو اجتماعية من وجهة نظرٍ دينية معينة، مع دعم وجهة النظر تلك بنصوص دينية، وإنما كانت خطبة الجمعة في عصر الرسول عليه السلام تلاوة لآيات من القرآن الكريم، فليس في الكتب التسعة (البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبي داود وابن ماجة وأحمد ومالك) ليس فيها خطبة جمعة واحدة خطبها الرسول ولم تكن كلها قرآنا.
    نظرة تاريخية: (التحول من الديمقراطية إلى الاستبداد)
    كان العرب قبل الإسلام قبائل متفرقة، وكان الرسول عليه السلام ينتمي إلى قبيلة قريش، ولم يعش الرسول فترة من عمرة في ظل دولة إلى أن أصبح رسولا، ولكن الرسول نجح في تأسيس دولة، توفر الأمن لجميع رعاياها، وكان الرسول هو القائد الأعلى لتلك الدولة، وإن لم يطلق عليه لقب الملك، وتظهر ملامح تلك الدولة في تحالفات الرسول مع القبائل والتكتلات السكانية التي دخلت في حلفه، فكانت تسالم من يسالم، وتحارب من يحارب، وكانت تبعث إليه بالضريبة، وكانت تسمع وتطيع للعامل الذي يعينه الرسول عليها، غير أن سلطان ذلك العامل لم يكن يمتد إلى حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية، وإنما كان يقتصر دوره على جمع الضريبة التي سماها القرآن صدقات، وعلى القيام بالتنسيق السياسي بين أهل القبيلة أو المنطقة وبين الرسول عليه السلام، وكان مسموحا لأهل كل دين بالدعوة إلى دينهم، فليس في شيء من كتب السيرة أو التاريخ أن الرسول عليه السلام أمر بنفي أحد أو سجنه أو قتله لأنه كان يدعو الناس إلى دين آخر.
    ولم يكن جيش الرسول مؤلفا من المؤمنين به، حيث توجد روايات منسوبة إلى الرسول تتضمن توجيها منه لقادة الغزو أن يعرضوا على سكان المناطق التي يغزونها، خيارات متنوعة من الولاء، يرِدُ في بعضها: "وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ". رواه مسلم في صحيحه: الرواية رقم 1731، والترمذي في سننه: الرواية رقم 1617، وأبو داود في سننه: الرواية رقم 2612، وابن ماجة في سننه: الرواية رقم 2858، والدارمي في سننه: الرواية رقم 2442. ولا يحسن فهم ذلك إلا بأنه اتفاق مع أهل المنطقة كجماعة واحدة، وأنه تراضٍ على عدم أحقيتهم في الغنائم إلا إذا شاركوا في القتال، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية.
    ولا نعدم شواهد من التاريخ على قتال غير المؤمنين بالقرآن تحت راية المؤمنين به، ومن ذلك قول حسين مؤنس، في كتابه (فجر الأندلس) في وصف بعضِ حروب طارق بن زياد في القرن الأول للهجرة: "وكان جيش المسلمين يزداد عِدّةً في الطريق بمن كان ينضم إليه من الغاضبين على لَذريق وعهده، وانضم إليه كذلك عدد من اليهود الذين استقبلوا أخبار انتصار المسلمين على القوط استقبال الظمآن للماء" صفحة 77.
    ولم تكن فكرة الجزية قد أخذت صورتها المعروفة في الفقه الإسلامي، والجزية في القرآن جزاء على عقوبة، لا يتعدى المجرم إلى غيره، ولا يتأبد أو يتكرر.
    وكان الرسول يفاوض زعماء المناطق التي تدخل في سلطانه على مقدر ما يؤدونه كل عام لبيت المال، ومما يدل على ذلك أن أبْيَضَ بن حَمَّال "كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَةِ، ليعفي أهل سبأ منها، حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ له الرسول يَا أَخَا سَبَأٍ لَا بُدَّ مِنْ صَدَقَةٍ، فَقَالَ إِنَّمَا زَرَعْنَا الْقُطْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ تَبَدَّدَتْ سَبَأٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ بِمَأْرِبَ، فَصَالَحَه النَبِيُّ عَلَى سَبْعِينَ حُلَّةً بَزٍّ مِنْ قِيمَةِ وَفَاءِ بَزِّ الْمَعَافِرِ كُلَّ سَنَةٍ عَمَّنْ بَقِيَ مِنْ سَبَأٍ بِمَأْرِبَ فَلَمْ يَزَالُوا يَؤُدُّونَهَا حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وهذه الرواية عند أبي داود في سننه برقم 3028، وفي الأصل (فصالح نبيُّ الله) وهو خطأ، والصواب فصالح نبيَّ الله، أو فصالحه نبيُّ الله. والثاني أولى.
    والذي يمكن أن نستخلصه من هذا التصور العام للدولة التي أسسها الرسول عليه السلام، أنها كانت دولة تلتزم بالأعراف الدولية في ذلك العصر، فلم تَفرض على الناس أية أنظمة ذات مرجعية دينية، وتولى الرسول عليه السلام زعامة تلك الدولة كأي زعيم سياسي في عصره، إلا ما اتصف به الرسول من زهد في المعيشة وفي اتخاذ لقب يشير إلى تلك الزعامة.
    ولم يتلق الرسول أية توجيهات إلهيه تفصِّل معالم دولة مغايرة لسائر الدول في عصره، فلا نجد في القرآن مثلا توجيها إلى وجوب الفصل بين السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية، ولا نجد فيه أي تأطير لنظام الدولة، وإنما نجد فيه توجيها للأعراب ألا ينادوا الرسول من وراء الحجرات كما ينادون بعضهم، وتوجيها لأهل المدينة ألا يدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لهم إلى طعام غير منتظرين نضجه ولكن يدخلون قبيل تقديمه مباشرة، وينصرفون بعد تناوله، فلا يطيلون الجلوس في بيت الرسول وكأنهم في نادي القبيلة، وألا يدخلوا بيوته عليه السلام في حال غيابه، ولكي يقللوا من استئذان النبي لحوار جانبي لا يشهده سائر القوم، فرض الله لفترة على من يناجي الرسول أن يقدم صدقة قبيل المناجاة، وهي الحديث الجانبي، ثم أباح المناجاة بلا صدقة بعد أن استوعبوا الدرس، ومن هنا نستطيع أن تقول عن الدولة التي أسسها الرسول إنها كانت دولة مدنية لا دينية، كما نستطيع أن نقول إنها لم تأخذ كل أبهة الدولة وحشمها، مراعاة لحداثة النشأة، ولذلك لم يكن للرسول قصر ولا حرس شخصي يلازمه أينما توجه.
    وقد أمر الله رسوله أن يشاور الناس في الأمور العامة، وذلك في قول الكتاب العزيز (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران 159، وأمر المؤمنين أن يديروا أمورهم بينهم عن طريق التشاور وليس عن طريق الاستبداد، وذلك في قول الكتاب العزيز (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) الشورى 38.
    وقد نفذ الرسول أمر ربه بالشورى، فكان أكثر الناس استشارة وأكثرهم التزاما بالشورى، حتى إنه خرج في معركة أحد، لملاقاة العدو، عملا بالشورى، وكان رأيه أن يبقى متحصنا بالمدينة، ورغم أنه هُزم في أحد إلا أنه لم يوجِّه لوما لمن فضّلوا الخروج لملاقاة العدو، ولم يتخذ من ذلك مناسبة للطعن في الشورى أو ليقول إنها غير مُلزِمة للحاكم.
    ولما توفي الرسول عليه السلام، امتنعت بعض القبائل عن دفع الصدقات، وقد كانت الضريبة ولم تزل أهم مظهر من مظاهر المواطنة، فحاربهم أبو بكر وألزمهم بدفعها، ولولا ذلك لانهارت الدولة التي أسسها الرسول.
    وفي عهد عمر تطورت الدولة كثيرا بما اقتبسه عمر من أنظمة الدولة الفارسية، فأسس نظام الشرطة وديوان الجند ونظام البريد وديوان القضاء وديوان بيت المال، بل إنه لم يلتزم في العراق وفارس بنظام الصدقات المعمول به من عهد الرسول، وإنما أخذ بنظام الضرائب الذي سنّه كسرى أنو شروان. ورد ذلك في تاريخ الرسل والملوك للطبري: ج2/ 151، وفي الأحكام السلطانية للماوردي: 129.
    وكما أننا لا نجد في كتب السيرة والتاريخ أن الرسول نفى أو سجن أو قتل رجلا لأنه يدعو إلى دين آخر، فإننا لا نجد خبرا عن عمر بن الخطاب أنه أمر أهل البلاد المفتوحة أن يتحولوا عن عاداتهم في البيع أو الشراء أو القروض أو الأعياد أو الزواج أو الطلاق أو غير ذلك من الأمور إلى ما اعتاده المسلمون في عصره أو أمر به القرآن. وكل ما يمكن أن نأخذه على عمر أنه لم يتخذ شرطة تحرسه فمات قتيلا، وأنه لم يدعُ الناس إلى اتخاذ نظام للملك يتم عن طريقه انتقال السلطة بصورة سلمية من حاكم إلى آخر، بل إنه جعل الوصية في ستة أشخاص، لم يلتئم بهم الشمل.
    والذين يقولون إن الإسلام له منهج في الحكم، إن قصدوا أنه وصّى بالعدل والإحسان والأخذ بالشورى، وأنه يجب التزام هذه الوصايا في الحياة كلها، فهم صادقون، ويوافقهم غير المؤمنين بالقرآن في وجوب التزام هذه الوصايا، باعتبارها قيما إنسانية عامة، وتراثا بشريا مشتركا، وإن قصد الإسلاميون بقولهم (إن الإسلام له منهج في الحكم) أنه يتضمن نظاما تفصيليا للحكم ينبغي للمسلم أن يلتزم به، وإلا كان معرضا عن شرع الله، فإنهم واهمون.
    وإنما تغير الحال بدءا من الدولة الأموية حيث أصبح الحكم حكما عربيا استبداديا، تم تحول في الدولة العباسية إلى حكم يستخدم الإسلام لتأسيس مشروعية سياسية لنظام الحكم. وهذه النسخة الرديئة من الفهم للإسلام هي التي ورثناها، ويظن علماؤنا وعامتنا أنها تعبِّر عن الفهم الصحيح للإسلام، وأعني بتلك النسخة كلا من المذهب المسمى بأهل السنة والجماعة، والمذهب المسمى بمذهب الشيعة الإمامية. والفرق بين المذهب من ناحية المصادر، أن أهل السنة يرون الإسلام هو القرآن والروايات النبوية التي كتبت في العصر العباسي، بينما يرى الشيعة أن الإسلام هو القرآن والروايات المسندة إلى الرسول والأئمة الاثني عشر، وأولهم عليّ بن أبي طالب.
    ولئلا يكون مرورا على هذه النقطة الجوهرية مرورا عابرا، فإنني سوف أناقش أشهر خمسة أدلة يستند إليها الداعون إلى إسلام الروايات، لأبين أنها أدلة زائفة رغم شهرتها وتسليم الكثيرين بها:
    1- في موطأ مالك برقم 1661: وحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك أَنَّه بَلَغَه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ" ويرد هذا الخبر الخطير فيما يشبه الحاشية لخبر قبله، يتناول معنى قول الكتاب العزيز (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) الأعراف 172. وعلى الرغم من ذلك فإن الألباني يقول [رواه مالك بلاغا والحاكم موصولا بإسناد حسن] هكذا قال الألباني في كتابه منزلة السنة في الإسلام. دون أن يسأل نفسه عن سبب وروده في الموطأ، تابعا لخبر آخر وكأنه حاشية له، رغم أهميته لو كان خبرا صحيحا غير مختلق، ولم يقف عند حكاية مالك له بلاغا، أي دون سند، وبين مالك والرسول عليه السلام 168 سنة، فقد توفيّ مالك سنة 179، بينما توفي الرسول في أوائل سنة 11 للهجرة، ولم يقف أيضا عند اختلاف الضمير بين (تركت فيكم) وقوله (وسنة نبيه) فالضمير في الأولى يدل على أن الرسول هو الذي يتكلم، بينما الثانية تدل على أن المتكلم غير النبي. ولم يقف أيضا عند فقدان السند الذي يثبت خبرا خطيرا كهذا عند مالك المتوفى 179، ثم يكون له سند يثبته عند أبي داود المتوفى سنة 275 للهجرة.
    وعند الترمذي برقم 3788 رواية تطابق رواية الشيعة لهذا الخبر، تقول الراوي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَالْأَعْمَشُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ".
    وعند مسلم في صحيحة الرواية الثالثة غير المنحازة للسنة أو الشيعة، فعنده برقم 1218: وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ".
    2- وفي الكتاب العزيز في سياق الكلام عن الرسول (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) النجم من 1 إلى 10. وهو كلام يردُّ الله به مطاعن المشركين، إذ زعموا أن محمدا ضال يتلو عليهم كلاما يوافق هواه، ثم يزعم أنه وحي من الله، ولكن دعاة إسلام الروايات يقتطعون من السياق قوله (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ليجعلوها خبرا عن الرسول، بينما هي خبر عن القرآن، والذي لا شك أنه ليس شيئا إلا أنه وحي يوحى هو القرآن، وليس محمدا، فمحمد إنسان وليس وحيا. ولم يستدل الشافعي بهذا النص لإثبات وجوب العمل بالروايات.
    3- وفي الكتاب العزيز (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الحشر 7. ويليه قوله (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ) الحشر 8. ومن السياق يتضح أن الكلام في قوله (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ليس عن الأحكام أو الشرائع، وإنما هو عن الفيء الذي كانت عادة العرب في توزيعه أن يقسّم على المقاتلين وشيخ القبيلة، على أن يكون لشيخ القبيلة مميزات ليست لمقاتلين، كأن يأخذ ما يود أن يصطفيه لنفسه ويأخذ ما يصعب تقسمه بين المقاتلين فضلا عن حصته الأساسية.
    4- وفي الكتاب العزيز (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء 59، ولا شك في أنه يجب على كل مؤمن برسول أن يطيع ذلك الرسول، وإنما الإشكال في أن دعاة إسلام الروايات يزعمون أن الرسول توجه بأقواله وأفعاله وتقريراته إلى كل مؤمن به، ليس هذا فحسب بل إنهم يزعمون أن الرسول دعانا إلى أن نعدّ تلك الأقوال والأفعال والتقريرات جزءا من الدين يجب العمل به في كل زمان ومكان، حسب ما يفهم منها، من وجوبٍ أو استحباب أو إباحة أو حظر، وهنا تكمن المغالطة، لأن الرسول كأي إنسان كان يتوجه بكلامه إلى من يكلمه أو يستمع إليه ولا يتوجه بكلامه إلى كل إنسان آمن أو سيؤمن به، فضلا عن أن الدين رسالة بعث الله بها محمدا، وليس كل كلمة ينطقها محمد تكون جزءا من الرسالة، فالرسول كانت له أدوار عديدة غير دور الرسول، فقد كان إنسانا من الناس له أصدقاء وجيران وزوجات وأولا وأقارب وضيوف وخصوم يحكّمونه بينهم وناس يستشيرونه وسمّار يستأنسون بالحديث معه وأعداء يجادلونه ويجادلهم، وباعة ومشترون يتعامل معهم بيعا وشراء...إلخ ولا يعقل أن يكون ذلك كله جزءا من الرسالة.
    5- ويزعم دعاة إسلام الروايات أنه مما يدل على أن الروايات من الرسالة التي بعث الله بها محمدا، أننا لا نعرف كيف نصلي إلا من الروايات، لأن القرآن لم يفصِّل كيفية الصلاة، وكان قمينا بهم لو كانوا أتباع منهج علميّ أن يقولوا إن الروايات التي تبيِّن كيف نصلي والتي تبيِّن كيف نحج تكون جزءا من الرسالة، بسبب الضرورة وليس بسببٍ أصليٍّ، لا أن يتخذوا من اضطرارنا للروايات في هذين الأمرين سببا لإلزامنا بالروايات في كل الأمور، ونحن لا نخالفهم في أنه يجب علينا أن نصلي كما كان الرسول يصلي ويجب علينا أن نجد كما كان الرسول يحج، وإنما نخالفهم في أمرين اثنين: أننا نقول إن اتباع الرسول في كيفية أداء الشعائر التي أمر الله بها أمر واجب في كل دين، وأن الله لا يحدد طريقة معينة لأداء الشعائر، وإنما الناس هي التي تختار من الأقوال والهيئات ما ترى أنه يقرِّبها من الله، وحين يبعث الله رسول فإنه يقرّ تلك الشعائر إلا أنه يهذّبها ويمنع إقامتها لغير الله، لأنها أمور ارتبطت بوجدانهم ولن يقوم غيرُها مقامها، والأمر الثاني أن عادة الناس في شعائر العبادة، أن يقلّد فيها الأدنى من هو أكبر منه، فيقلد الناس الرسول في عصره ورجال الدين من بعده، ويقلد الأولاد آباءهم، فيتم التعلم عن طريق المحاكاة وليس عن طريق الشرح التفصيلي لما يجب أن يُفعل، ولذلك لا توجد رواية واحدة صحّحها أحد من خبراء الروايات يعلّم الرسول فيها عامة الناس كيف يصلون أو كيف يحجّون، ولكن توجد رواية فيها إرشاد لمن أساء في تأدية الصلاة، مما يعني أن القناة الأساسية لتعليم شعائر الصلاة والحج، كانت المحاكاة وليست التلقين.
    ومما يدل على أن الأمر كذلك، أننا لو أعطينا أعلم علمائنا اليوم مجموعة من الكتب التي تناقش كيفية الصلاة، مدعمة بما يراه مؤلفوها أدلة، وكان مؤلفوها ممن يحسن عاملنا الظن بهم، فإن طريقته في أداء الصلاة سوف تختلف في بعض الأمور، مما يعني أنه كان يصلي عن محاكاة وليس عن بحث علمي، بل إن ما سوف يتغير في طريقته لأداء الصلاة سوف لا يبقى بنفس هيئته مدة طويلة، وإنما سوف يعود تلقائيا ودون إدراك واعٍ منه، إلى ما هو أقرب إلى أداء الناس من حوله.
    كيف لا يصبح الإسلام عقبة في طريق الديمقراطية؟
    إن العقبة الأولى والوحيدة التي يمثلها الإسلام في طريق الديمقراطية، هي أننا مختلفون في فهمه الإسلام، وأن كل جماعة مهتمة بأمر تظن أنه يمثل الإسلام- تمنح نفسها صفة الإسلامية وتحرم غيرها من تلك الصفة، مثلما فعل بنو إسرائيل قبل عصر المسيح عليه السلام، حين قسموا الناس إلى يهود وأميين، ونعتوا اليهود بأنهم أبناء الله، ونعتوا الأميين بأنهم أبناء الناس، وقالوا ليس علينا في الأميين سبيل، فدعا المسيح بني إسرائيل إلى اعتبار كل إنسان صالحٍ أخا لهم، فقال ليهودي سأله عن قريبه الذي يحسن إليه: يهودي خرج عليه لصوص فأخذوا متاعه وثيابه وتركوه بين حيّ وميت، فمر عليه كاهن فنظر إليه ومضى، ثم مرّ عليه لاويّ فنظر إليه ومضى، ثم مرّ عليه سامريّ فتحنن عليه وعالج جراحه وأركبه على دابته، وأخذه إلى فندق وترك له رصيدا عند صاحب الفندق ليعتني بك؟ ووصاه أن ينفق عليه أكثر إن احتاج وأنه سيوفيه عند رجوعه، ثم قال السميح للرجل: فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟ فقال الرجل هو السامري الذي صنع معه رحمة، فقال له المسيح (اذهب أنت أيضا واصنع هكذا) أي اصنع رحمة مع كل أحد لتكون قريبه. وهكذا أقول أنا أيضا إن كل إنسانٍ هو أخ لي في الإنسانية، وهو جدير بأن أصنع رحمة معه بصرف النظر عن دينه.
    ومن الرحمة بأخي في الدين أن أحاول فهم وجهة نظره، وأن ألتزم بها إذا كانت صوابا، وأن أستفيد منها ولو كانت خطأ، وأن أحاول توصيل وجهة نظري إلى أخي في الدين بطريقة حسنة، وأن لا أعتبر وجهة نظري حكما دينيا، ولا أعتبر وجهة نظر مخالفي خروجا من الدين.
    ومن الرحمة بأخي في الوطن، أن أخاطبه بلغة وطنية، يفهمها العقل العام، ولا أخاطبه بلغة دينية لا يفهمها إلا العقل المتدين بدين معين ومذهب معين، وبناءً عليه فلا مكان للنصوص الدينية ولا لهيئة دينية في العمل السياسي؛ لأن العمل السياسي تحديد موضوعي للمشاكل وطرح حلول لها، ولا يكون تحديد المشكلة العامة موضوعيا ولا الحل المقترح موضوعيا إذا تم التعبير عنها أو الدفاع عنها بنصوص دينية أو عن طريق هيئة دينية، ولأنه كما أن الكلام الديني في المسجد أو الكنيسة يكون بالنصوص الدينية، لأن موضوع الكلام هو الدين، فكذلك ينبغي أن يكون الكلام في الشأن العام كلاما عاما غير ديني، لأن موضوع الكلام عام. ولأننا تعودنا وسوف نظل- كأمة- نحترم رجل الدين ونقبل كلامه بثقة تامة، فإنه ينبغي ألا تشارك في العمل السياسي أي هيئة دينية.
    ولكننا في مصر وفي العالم العربي لا نملك فيما يبدو إلا ثقافة دينية شبه ميتة، ولذلك نكثر العويل عليها واصطناع صور للدفاع عنها، ظانين أنها بذلك تبقى حية، أو تكتسب مظهرا من مظاهر الحياة.
    ولكي لا يصبح الإسلام عقبة في طريق الديمقراطية ينبغي أن:
    نتبع إسلام القرآن لا إسلام الروايات
    نفهم أن الإسلام دين من الأديان وليس منهج حياة، وأنه ليس في الإسلام نظام معيّن في الحكم، إلا أن يقال إن الإسلام بالأمر بالعدل والإحسان والشورى. وهذه الأمور ليست خاصة بالإسلام وإنما هي إرث إنساني مشترك.
    ندرس القرآن دراسة دلالية سياقية، حيث يُعرف معنى الكلمة أو الجملة أو النص من خلال أدوات سياقية وليس من خلال المعاجم أو كتب التفسير، لأنه ليس لدينا معجم عربي ولا كتاب تفسير التزم بألا يحدد الدلالة إلا من خلال السياق، أو غيره من نظريات البحث الدلالي.
    ننتج معجما تاريخيا يبين معاني المفردات القرآنية وقت نزول القرآن، معتمدين على نظرية السياق، لأنها أنسب نظريات الدلالة، لتحديد معنى كلمة وردت في نص.
    تلتزم الدولة بحماية التدين دون أن يكون لها دين معيَّن.
    يُحظر تحويل السياسي إلى ديني.
    تفرض الدولة ضريبة على كتب التراث وتستخدمها في دعم المعجم التاريخي.
    يقتصر على القرآن في خطبة الجمعة، فيقسِّم المصحف على خطب الجمعة، ليقرأ كاملا على المنبر كل 3 سنوات، وذلك بقراءة 21 آية في كل خطبة، وتكون الخطب موحدة على عموم الدولة. ويمكن تغطية هذا الجزء بالشرح والتفسير في جلسات الوعظ ودروس العلم في المساجد، وفي برامج الميديا (مواد صحفية وإذاعية وتلفزيونية وإنترنت) في نفس الأسبوع.

    (عدل بواسطة أحمد محمد عرفة on 04-24-2006, 03:14 PM)

                  

04-26-2006, 07:01 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كيف لا يصبح الإسلام عقبة في طريق الديمقراطية؟ (محاضرة) (Re: أحمد محمد عرفة)

    شكرا استاذ احمد عرفة


    ولي عودة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de