رجل يحب السياسة ويخاف عواقبها . يخوض فيها بشوق وحذر . لا يفصح عن رأيه الا بعد أن يطمئن لمحدثيه ..إذا تحصل على معلومة جديدة لايستطيع كتمانها كأنها تضايقه كالعطسة يكون حريصا ومتسرعا لنشرها على من يثق بهم . في أولى حياتنا العملية بالمنطقة الصناعية كسلا .. تعودنا أن نتجمع شلة من أبناء كسلا بجامعة الجزيرة تحت ظل النيمة أمام مطبعة كباشي في فسحة الافطار . نتناول الشاي والقهوة .. ونحكي عن ذكريات حياتنا الطالبية والتي لازالت صورها تجري في دمائنا طازجة بذات ألقها .. بما أن حوار الطلاب والخريجين عادة فيه كثير من السياسة .. جذب حديثنا عم عمر .. كان عم عمر شائب ربما في الستين من عمره أو يزيد يرتدي بنطلون و بصورة أدق نصف بنطال ( ردا ) وفنلة نصف كم ( تي شيرت ) . أحد عينية تالفة تحل محلها عين زجاجية . قصير القامة مقوس الساقين كبير الرأس واسع الجبهة أصلع صلعة تشبه البحيرة يحيط بها شعر أشيب من ثلاث نواح عدا الواجهة بطبيعة الحال . في الأول أقترب منا مستمعا للحوار ثم مستمتعا .. ثم مشاركا .. ومدخله للحوار دائما يكون بمغالطة مثال (أمريكة شنو البتحاربوها أنتو . كنت مره في بيت مناسبة في واحد عقيد سوداني حكى لينا .قال لامن زار بوش نائب الرئيس الامريكي ريقان السودان في سنة خمسة وتمانين ومعسكر المجاعة في ود شريفي . بوش سأل واحد من معاونية عن شئ .ياخ قاليك الراجل دا دق جهاز في يده جاب البيت الابيض صوت وصورة بالله شوف واشنطون وين وود شريفي وين .. تقول لي نحارب أمريكا) .. مرة وفي أحد حواراتنا الساخنة وكان عم عمر مستلما الجلسة والحديث . و حتى يسخن هو في الحوار كنا ندافع له عن الحكومة كمؤيدين .. وهو كان يأخذ راحته على الآخر معارضا وشاتما الحكومة مطمئنا لنا .. فجأة تقف أمامنا سيارة لاندكروزر من النوع التي يستخدمها جهاز الأمن .
فجأة تقف أمامنا سيارة لاندكروزر من النوع التي يستخدمها جهاز الأمن . نحن كنا معتادين عليها لأنها كانت سيارة لصديق وزميل الجامعة الذي .كان يعمل بأحدى المنظمات الأجنبية بمنطقة خشم القربة وكان عادة يزورنا في الصناعية كل خميس أو مرتين في الشهر ليكمل اللمة الجميلة .. نزل الصديق من السيارة مع سائقه الخاص .. سلم علينا ..أما عم عمر فقد سكت عن الكلام المباح وغير المباح تماما . وكان في الأول ينظر للصديق بريبة و وجل . لاحظت لنظراته وهمست للصديق قلت له .. (خلي بالك عم عمر خاف منك ) فهم الدور وبدأ يلح على عم عمر ليواصل حديثه بأسلوب تهديدي زاده رعبا ( كنت قعد تقول في شنو أنت؟ أتكلم ...كمل كلامك) عم عمر في الاول نظر الينا مستنجدا بنظراته فقط ثم بدأ ينسحب بظهره بخطوات بطيئة مواجها لنا ثم أسرع الخطى بعد أن استعدل في المشي .. ثم مهرولا ناحية الورشة التي يعمل بها .. نحن بعدها ضحكنا . والصديق أصر يكمل التثميلية .. قال لي أرح نزوره في ورشته .. وفعلا وصلنا كان هو جالس في كرسي أمام الورشة قربه عامل يلحم في الحديد .. بعد ما شاهدنا قادمين نحوه دخل الى الورشة مذعورا .. وقف الصديق و بدأ يسأل عن أشياء لا غرض له فيها مثل ( الباب تعملوه بكم والشباك يكلف كم وهكذا) وكل مرة يرفع رأسه ينظر ناحية عم عمر وعليه ما عليه من حالة .... ثم عدنا أدراجنا .. لكن بعدها الأسف أنقطع عن زياراتنا تماما ويبدو أنه فقد الثقة فينا .. ظل عم عمر منقطعا عن زياراتنا. لكن بعد فترة سمعنا أنه تم العثور عليه في موجة برد ضربت المدينة ميتا في أحد البيوت المهجورة .. الله يرحمه . هو نموذج من النماذج لناس في الحياة التي يطلون عليها بصمت ويغيبوا عنها بهدوء دون أن يتركوا أي أثرا أو يلعبوا دورا في حياة أحد .. فارق عم عمر الدنيا دون وداع كما تقول حياته الكئيبة أيضا أنه دخلها دون أستقبال أو فرح من أحد .. لا أدري هل أحد من ألاصدقاء يذكر عم عمر السياسي بلا سياسة والثوري بلا ثورة ... لا نملك الا أن نتمنى من الله أن يتغمده بواسع رحمته بقدر ما حرمته الدنيا والمجتمع من رحمتهما .
ونقول له يا عم عمر نحن عاصرنا الزمن الذي تدق فيه جهاز واتساب أو أسكايب وتجيب والدتك تعوس في الكسرة في ظل راكوبة في بيتكم في كسلا ونحن في الرياض .. الرياض وين والراكوبة وين يا عم عمر .. والله ما ندمت على شئ الا عدم خوض حوار طويل مع عم عمر هذا بعيدا عن السياسة .. عن حياته الخاصة .. وتحس أنه مطلع مثقف .. خلفه سر كبير .. كيف درس وأين وصل في التعليم .. أين اهله كيف عاش طفولته وشبابه ..هل تزوج وهجر ابنائه .. بإختصار كيف عاش الستين عاما هذه .. قاتل الله السياسة حرمتنا من متعة حكي كان يصلح ان يكون اساس لحكايات لم تروى من قبل عم عمر واحد من الشخصيات الدرامية والروائية النادرة التي لن يستطع كاتب أن يؤلفها من خياله مهما شحذه بخصوبة وعبقرية .. ببساطة لأن حياته مختلفة ليست عبارة عن قصاصات تشبه حياة الآخرين .. حياة لا يستطيع أن يحكيها أحد دون أن يعيشها . الكاتب البريطاني الشهير كولون ويلسون ليكتب روايته ضياع في سوهو .. تفرغ تماما للحياة في حي سوهو لمدة أربعة عشر يوما .. وهو حي للفقراء معظم من يعيش به من الفنانين والرسامين والشعراء لكنهم فقراء لا يملكون قوت يومهم .. ولكي يعرف الشخص كيف تخرج هذه العبقرية من ركام الفقر لا بد أن تعيش حياتهم .. والحصاد كانت رواية أحداث اربعة عشر يوم ألفت كتابا تتجاوز صفحاته الخمسمائة صفحة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة