يوم أمس وفي محكمة الصحافة والمطبوعات انشغلت قليلا بشيء ما..... وما إن رفعت رأسي حتى وجدت رجلا مسنا" يرتدي (جلابية) بيضاء ويعتمر عمامة بوضعية سودانية صرفة ، لا هي ربطة حزب أمة ولا أنصار سنة ولا اتحادية إنما عمامة تقول فقط: أنا سوداني أنا.
ظهر وبوضوح شعر رأسه الأبيض من تحت العمامة ، كان الرجل يقف بزاوية لا أكاد أتبين معها ملامحه كاملة ، ولكني تبينت أدبه الجم وصوته الهادئ وهو يستمع للقاضي الذي أخبره بموعد جلسة المحاكمة القادمة.
ما إن تحرك الرجل مغادرا حتى صرخت في نفسي : يا للهول ! إنه أستاذنا الهرم الصحفي وشيخ الصحفيين محجوب محمد صالح، ودون أن أشعر وجدتني أغادر القاعة خلفه، وقفت وناديته: "أستاذنا"، التفت إليَّ وصافحني بابتسامة طيبة ووجه وضيء بمعارك الكلمة وحرب المصادرات وحرائق الإيقاف.
قلت لأستاذ محجوب: وصلتني دعوة من مجموعة دال لحضور تكريمك مساء اليوم بفندق كورنثيا ولم أتوقع قط مقابلتك في المحكمة ، أأمثالك يؤتى به إلى المحاكم؟، فردَّ: بابتسامة كبيرة: هذا تكريم وذاك تكريم.
للحظة وأنا أتحدث إليه استغربت وتعجبت في الذين يجرجرون الصحفيين إلى ساحات المحاكم . لا اعتراض أبداً على أخذ حقوقهم وتحقيق العدالة لهم ومرحّباً بالجرجرة والتلتلة، ولكن بأي ضمير يؤتى بالشيخ محجوب محمد صالح إلى ساحات المحاكم....!!؟
هل هذا جزاء الرجل الذي كافح وناضل ضد الاستعمار؟ هل هذا جزاء الرجل الذي جاهد وقاوم لإعلاء كلمة الحق وسط جبروت الأنظمة وتسلطها وصلفها ولم يسلم من البطش والتنكيل والتهديد والاعتقال؟ فُصِلَ من كلية غردون لمشاركته في مظاهرة ضد المستعمر، وتعرضت صحيفته (الأيام) لعشرات الإيقافات والمُصادرات وتعليق الصدور والتأميم.
حرب الإعلانات القذرة على صحيفته لم تتوقف ، ولم تجعله يستجدي سفارة أو منظمة أو أن يصبح عميلاً، وقد علمت من مصدر أمني رفيع قبل عدة سنوات أنه رفض مبلغاً مالياً كبيراً من إحدى السفارات التي حاولت استمالة قلمه وتطويعه وتدجينه لصالح أجندتها.
غادرت المحكمة وحاولت الاجتهاد لتلبية الدعوة الكريمة من مجموعة دال وربانها رجل الأعمال أسامة داؤود، ولكن لظروف خاصة لم أستطع حضور الحفل.
اعتذرت عن الدعوة وعلمت لاحقاً أن الاحتفال كان جميلا ً، وتم فيه تكريم محجوب محمد صالح والإعلان عن إطلاق جائزة للصحافة باسمه، عبارة عن مسابقة في فنون التحرير الصحفي بأقسامه المُختلفة، الجائزة سنوية وبرعاية شخصية من أسامة داؤود.
*خارج السور:*
اليوم يكمل أستاذنا محجوب عامه الـ 89 حيث وُلد يوم 12 أبريل 1928؛ رجل بهذا العمر والتاريخ الناصع المضيء "ناس يكرموهو وناس عاوزين يسجنوهو".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة