بعد أيام ثمانية، يبدو من غير الوارد إقفال ملف الحدث الذي هز تركيا أو الحسم في نتائجه بمجرد فشله.. فهو لم يتوقف عند حدود تركيا وتفصيلات المكوِّنات التركية وإن كان هذا في حد ذاته يثير الدهشة ويمتلك من القدرة ما يكفي لإعادة تشكيل الأوضاع بصيغة مختلفة.. فهو لايزال يلقي بالتحدي على مستقبل العلاقات التركية الإقليمية، بل والدولية، وعلى دور الدولة التركية، وفي هذا كله لازالت سفينة تركيا متأرجحة سياسيا وأمنيا تتعرض لأمواج عاتية وامامها احتمالات عديدة، فالشامتون بها يتوقعون لها حربا أهلية ستحلّ في المجتمع التركي، والعاشقون لها يتوقعون أنها خطوات ما قبل اعلان السلطنة والخلافة العثمانية، فتهيج الأفكار على الجانبين وتتضاءل فرص التحليل العلمي والتبصُّر لما حدث وتوقُّع مآلاته.
من البداية يجب وضع الحدث التركي في سياق التطور التركي السياسي الاجتماعي والاقتصادي وتفاعل المكوِّنات السياسية والاجتماعية التركية، وذلك في اطار الارتباط بسياسات دولية واشتراطات استراتيجية وما دفعت اليه التطورات الدولية على صعيد الحلف الأطلسي وسياساته وبروز أقطاب دولية جديدة كروسيا والصين تطرح تحديات على خريطة تشكل دوائر النفوذ والتحالفات الدولية وكذلك التغيرات الحاصلة في الإقليم بعد اندلاع شرارة "الربيع العربي" في تونس وليبيا ومصر وسوريا وما تبع ذلك من فوضى، إذ كان الحضور التركي بفاعلية قادرا على رسم ملامح الدور التركي الإقليمي، ودخول معامل الاتفاق النووي الغربي الايراني والتفاهمات المرافقة بما لها من علاقة في ترتيبات في المنطقة.. كما يشير تغلغل الاختراق الصهيوني في المنطقة وقدرته على إحداث اصطفاف أمني وسياسي في المنطقة يعمِّق الشروخ بين مكوناتها، إلا ان هناك رهانات يمكنها اعادة ترسيم جديد للخريطة السياسية في المنطقة بعد ان استنفدت اتفاقية سايكس بيكو اغراضها ولم يعد مقبولا لدى صناع القرار الغربي ان تستمرّ الدولة الوطنية.
هذا هو الاطار العام الذي ينبغي ان يكون حاضرا فيما نحن نحاول الاقتراب من فهم الزلزال التركي والتبصُّر في سياق الأحداث وما يمكن أن يتبعه من ارتدادات على المنطقة كلها.. ففي تركيا بعد ان حسم كمال اتاتورك العلاقة مع الغرب ثقافة وسياسة، وقطع التواصل بين تركيا والأمة إلى درجة تغيير الحرف وترجمة أذان الصلاة، فكان ذلك كله الغطاء المطلوب لتفشي علمانية متوحشة في السياسة والثقافة والاقتصاد، وقد استبدلت كل القوانين والتشريعات حسب إرداة الغربيين الذين تحالفوا على اسقاط السلطنة العثمانية وتقطيع أوصال ممالكها.
لم تستسلم روح الانتماء الحضاري لهذه الهزيمة الواسعة فتحرَّكت طلائع النهوض الإسلامي من خلال علماء أفذاذ تعرَّض كثير منهم إلى إعدامات بالجملة، الا ان افكارهم لاسيما افكار المجدد العظيم سعيد النورسي استطاعت ان تسري في ارواح اجيال واسعة من الأتراك وعقولهم، وعليه تنامت الحركات والنشاطات المتعددة لإعادة الوعي في تركيا العلمانية المتوحِّشة، وظهر ذلك في حضور البروفيسور نجم الدين اربكان الذي استطاع ان يصل عن طريق صناديق الانتخابات إلى رئاسة الوزراء، الا ان العلمانية المستبدَّة، ومن خلال يدها الباطشة المؤسسة العسكرية، وضعت حدا لذلك..
تراجعت الحركة الإسلامية خطوات لكي تقفز أشواطا.. تم التحالف بين قوتين اسلاميتين كبيرتين: التيار الإخواني المتمثل بالعدالة والتنمية، وتيار صوفي "تيار الخدمة" بقيادة فتح الله قولن.. وبعد مغالبات تمكَّن أردوغان من الوصول بجماعته إلى سدّة الحكم وليكون هو القوة الرئيسية في البرلمان وذلك بفضل التحالف القومي بين الحركتين الاسلاميتين.
لم يكن ما يحدث بعيدا عن عين الغرب واحيانا تدخلاته.. فلقد كان اردوغان المتجرِّع غصص تدخلات العسكر في حياة الأتراك وقيامهم بحماية النظام العلماني فانصبَّت جهودُه لتقليص فعالية المؤسسة العسكرية في الهيمنة على الإعلام والاقتصاد، وكان هذا يتم في الوقت نفسه الذي يتقدم فيه بطلبات ملحاحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي كان يصرُّ على مدنية الدولة وانسحاب العسكر من المؤسسات المدنية، فاستعان اردوغان بهذا الموقف الأوروبي لينزع الشرعية والمرجعية من المؤسسة العسكرية..
وجدت تركيا نفسها في المعمعة الدامية، ولكن بعد زمن لم يكن قصيرا أدرك الأتراك أن الغربيين غير صادقين في تغيير الأنظمة الديكتاتورية، إنما هم يتاجرون بالموضوع وان لديهم سيناريوهات عديدة وهم غير أخلاقيين ولا يلتزمون باتفاق ويمكنهم بيع حلفائهم في أي لحظة.. ومن هنا بدأ التباين في الموقف بين الأتراك والأمريكان..
كان هدف اردوغان تحرير الدولة من سطوة العسكر، وكان هدف الغرب إضعاف عسكر تركيا وهزّ الثقة به في انتظار اضعاف مركزية الدولة التي تهددها أخطارٌ انفصالية يكون العسكر فيها ضمانة الوحدة لقمع الانفصاليين، حيث التقسيم والتجزئة أداة استعمارية دائمة يلعب بها المستعمرون الغربيون في بلداننا.. وخطوة بعد خطوة، تمكن اردوغان من تحجيم دور العسكر وعزز مدنية الدولة. وفي ظل هذا التوجه انتقل بالمجتمع التركي انتقالات واسعة نحو الرفاه والنمو والتنمية فكانت مرحلة ملهمة للقيادة التركية بضرورة التحرُّك للقيام بدور إقليمي، ولكن تركيا هنا تجد نفسها مكبَّلة بقيود عديدة أخطرها العلاقات السابقة المتجذِّرة بالكيان الصهيوني وبالدول الغربية وبوجود قواعد عسكرية استراتيجية للحلف الأطلسي وبقاء الجيش التركي جزءا فاعلا في نشاطات الناتو..
وبعد ان تحرَّكت تركيا حسب رؤية استراتيجية في الإقليم تقوم على قاعدة "صفر مشكلات" وانفتحت على الإقليم على روسيا وايران وسوريا والبلدان العربية جميعها.. وحقق لها ذلك ارتفاع معدلات النمو كما هيَّأ لها القيام بأدوار سياسية في الإقليم، حيث قامت الحكومة التركية بأدوار وساطات بين هذا الطرف وذاك الطرف.
وفي ذروة استقرارها جاءت رياح الربيع العربي الذي وجدت تركيا نفسها من يدعمه ويحرِّض من اجله ويفتح الأبواب لدعاته على اعتبار ان هذا من شأنه خلق ظروف اقليمية أكثر تهيئة لميلاد مشروع كبير بين الأقاليم الحساسة والتي تمتلك امكانيات استراتيجية ضرورية.. وهنا كان التقاطع مع ارادة غربية في احداث تغييرات في المنطقة من شأنها التهيئة لمشروع "الفوضى الخلاقة" التي تنتهي بتقسيم الدولة الوطنية إلى إثنياتها العرقية او الطائفية لإضعاف الجميع وادخالهم في دوامة اقتتال وتصارع.. الفوضى الخلاقة التي تحقق شروطا جديدة وواقعا جديدا في ظله تضيع فلسطين نهائيا ويصبح الكيان الصهيوني جزءا من المنطقة له علاقاته العضوية بدولها، ويتم بذلك توجيه ضربة ماحقة لطموحات ابناء الأمة في نهضةٍ وتحرر واستقلال.
وجدت تركيا نفسها في المعمعة الدامية، ولكن بعد زمن لم يكن قصيرا ادرك الأتراك ان الغربيين غير صادقين في تغيير الأنظمة الديكتاتورية، انما هم يتاجرون بالموضوع وان لديهم سيناريوهات عديدة وهم غير اخلاقيين ولا يلتزمون باتفاق ويمكنهم بيع حلفائهم في اي لحظة.. ومن هنا بدأ التباين في الموقف بين الأتراك والأمريكان.. فلقد اندفع الأتراك بعيدا في مشكلات المنطقة واحسوا ان الأمريكان بالذات تركوهم وحدهم يواجهون ازماتٍ عدة في الإقليم، حيث ثم خلق العداء مع كل الإقليم وما يمكن ان يكلفه ذلك من خسائر كبيرة.. وفي هذه الظروف دفعت امريكا بخبرائها الأمنيين والعسكريين لتزويد الأكراد بالسلاح والمعلومات ليشكلوا حالة تمرّد خطيرة تتهدد وحدة الدولة التركية ومصيرها كما تستنزف قدراتها وخيراتها، وبالفعل قامت تلك المجموعات الانفصالية بعمليات ارهابية في المطار والمدن الرئيسية.
ادرك اردوغان انه لابد من القيام بتعديل في التوجُّهات وتغيير في السياسات لتنفيس احتقانات إقليمية، فغيَّر تشكيل حكومته واعلن عن سياسات جديدة، وكان قد أحس منذ زمن بتحركات حليفه الإسلامي "الخدمة" المغاضبة، حيث لم يلبِّ مطالبها بتعيينات حساسة في الدولة، فكان يواجه حركاتها بعمليات جراحية محدودة، وكانت قد استطاعت من خلال التفاهم معه التغلغل في الدولة بكل مؤسساتها لاسيما الشرطة والقضاء والتعليم، وفي مراكز حساسة.
تحرك اردوغان في خط داخلي يفترق شيئا فشيئا عن جماعة "الخدمة" التي تواصل عمليات الضغط عليه وملاحقته وجماعته بقضايا لها علاقة بتهم مالية.. كما تحرك بافتراق عن الرغبة الأمريكية فتوجه إلى روسيا وايران واعلن انه سيغير من سياسته تجاه سورية.
هنا اجتمع على اردوغان خصمان كبيران وخطيران: خصم داخلي "الخدمة" يجد انه لابد من التخلص من اردوغان الذي لم يلتزم بوعوده، وخارجي يرى في تحرُّك روسيا وتركيا إخلالا بالتوازنات الدولية والإقليمية.. فكانت لحظة التوافق لإزاحة اردوغان من المسرح السياسي، ولم تنفع خطوته في تطبيع علاقاته باسرائيل والارتقاء بها في طمْأنة الأمريكان والغربيين.
واضحٌ أن الأمريكان كانوا ينتظرون بدقة تطورات ما يحدث ولم يُظهروا موقفا مباشرة، شانهم شأن الأوروبيين وبعض الدول العربية التي ترى فيه منافسا اقليميا، فيما يمكن ملاحظة إسناد الروس لأردوغان منذ اللحظة الأولى ووقوفهم مع الشرعية.
الآن يقوم اردوغان بعملية "تطهير" واسعة من جماعة "الخدمة" ليؤمن جبهته الداخلية، وبالتأكيد لديه البدائل على الصعيد الدولي والإقليمي لتأمين جبهته الخارجية والمحافظة على التنمية والنمو.. فإلى اين تصل المواجهات التي يعلن اردوغان انها لم تنته بعد وان احتمال ارتدادات الزلزال لازالت قائمة؟ تركيا الآن في عين العاصفة وتولانا الله برحمته.
07-25-2016, 08:08 AM
الصادق عبدالله الحسن
الصادق عبدالله الحسن
تاريخ التسجيل: 02-26-2013
مجموع المشاركات: 3245
Quote: اخى الصادق نعم لك الحق فيما اوردت مع انه فيها شوية ريحة ترصد معذرة بس فات على ان اكتب المصدر الشروق الجزائرية
في إيرادك للمقال وإغفال مصدره افترضنا فيك حسن النية، وقلنا وكتبنا :(لعله النسيان).
فأين حسن النية المقابل يا مواهب وأنت تتشككين في تنبيهي لك وما هي الحيثيات التي جعلتك تشمين أن التنبيه هو محض ترصد؟!! حواسنا كلنا تغافلنا وترتكب أحياناً فعل الخيانة.. بما فيها حاسة الشم بالطبع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة