أحزن رحيل المناضل السوداني والبجاوي والشيوعي سيد نايلاي الكثيرين ممن يدركون قيمته، وما يشدني لهذا الإنسان من الطراز الخاص أمران، الأول هو تمكنه من الجمع في وحدة لا إنفصام لعراها بين النضال الطبقي والوقوف ضد الإضطهاد القومي، فلقد ظل وصحبه من القياديين في مؤتمر البجا رغم إنضمامهم المبكر للحزب الشيوعي، والمزاوجة بين قضايا القوميات والقضايا الطبقية والقدرة على الربط المحكم بينمها، وهو سر النجاحات التي حققها التحالف الحاكم في جنوب افريقيا رغم المشاكل العميقة التي تكتنفه الآن، والربط بين قضايا الريف والهامش ونضالات المدن وبين النضال الطبقي والإضطهاد القومي تظل قضية هامة لمستقبل الثورة السودانية، وتحتاح لإجلاء فكري عميق قبل الدخول في دهاليز العمل السياسي اليومي وآلياته المعقدة، وهي قضية قديمة وجديدة وظلت تشغل زهني لسنوان طويلة ، وفي تجربتي لأكثر من ثلاثين عاماً في حركات الهامش والعمل المسلح، والتجارب التي تمخضت عنها عبر هذه السنوات يبدوا لي في كل صباح جديد إن مستقبل الثورة السودانية في بناء وطن ديمقراطي جديد يعتمد في أهم جوانبه من ضمن قضايا آخرى على حل هذه القضية على نحو فاعل وعلى مستوى النظرية والممارسة، وكيفية الإبصار الحازق والرؤية النافذة لقضايا القوميات من جهة، وقضايا الإستغلال الطبقي من جهة آخرى، والربط بينهما، وهذه القضية الهامة والخطيرة تحتاج الي عمل فكري عميق وجماعي حتى تضع قوى التغيير أرجلها على أرض سياسية صلبة، ففي هذه المقالة السريعة والعابرة والتي أدون فيها بعض الملاحظات غرضها الرئيسي هو الإحتفاء بصلابة ومساهمة سيد نايلاي وثباته الجسور منذ الخمسينيات من أجل القضايا التي آمن بها في ظل كل الفصول وتقلبات الطقس السياسي.
ذات مرة أهدى لي الصديق أتيم ياك أتيم نماذج من مجلة (حزام الحشائش) الناطقة بإسم الأنانيا والتي كان يصدرها من لندن الراحل مدينق دي قرنق أحد قادة المثقفين في حركة الأنانيا الأولى، وفي العدد الذي صدر مباشرة بعد 19 يوليو 1971م حوى موقفين من إعدام الشهيد جوزيف قرنق أوكيل، أحداهما من الجنرال جوزيف لاقو قائد الأنانيا، الذي لم يخفي شماتته من النتيجة التي تحصل عليها جوزيف قرنق جراء خدماته للعرب وحكومات الشمال، وموقف آخر عبر عنه مدينق دي قرنق الذي أبدى أسفه على إعدام جوزيف قرنق وأكد إن بإعدامه يكون الشمال قد خسر داعية نادر من دعاة وحدة السودان وصوت غير مألوف وسط القادة الجنوبيين يدعو لوحدة السودان، وإن جوزيف قرنق كان يؤمن بحل قضايا القوميات عبر المنظور الطبقي وإن مدينق دي قرنق لم يشاركه هذه النظرة، ولكنه إحترم سعيه الدائم للحوار مع قادة الأنانيا، ولقد شد إنتباهي تعددية وجهات النظر داخل حركة الأنانيا، وهي النقطة الرئيسية التي حاول أتيم ياك أن ينبهني لها، وأتيم ياك لم يكن راضياً عن محاولة تشكيل راي وصوت واحد داخل الحركة الشعبية، كان يرى السماح بتعددية الأصوات.
لأحقاً إلتقيت بالعم الراحل كلمنت أمبورو مرات عديدة، وهو أول جنوبي تولى وزارة سيادية في السودان مع رياح ثورة أكتوبر، وقد عمل كمساعد مامور ومامور في العديد من مدن السودان، ويعرف بورتسودان مثلما يعرف واو بلدته، وقد كنا في زيارة له مع عزيزنا إدور لينو ذات مرة ، وسألته عن رايه في جوزيف قرنق فجاوب بلا تردد إنه لم يكن متفقاً مع جوزيف قرنق ولكنه إحترم وطنينه وإستقامته وشجاعته حينما واجه الموت وهو يخطو بخطوات واثقة نحو المشنقة، وقد شاهده كلمنت أمبورو في لحظاته الأخيرة حينما كانا في المعتقل، وحكى عن الحوار الذي دار بينهما قبل إعدام جوزيف قرنق بمدة وجيزة، ربما كان جوزيف قرنق الصوت النادر الذي سعى لحوار فكري مع القوميين الجنوبيين في عدة مقالات وفي كتيبه الهام (مأزق المثقف الجنوبي)، ولا تزال كثير من الأراء التي عبر عنها جوزيف قرنق في ذلك الكتيب صالحة للدفع بها في عالم اليوم. رغم إن الشيوعيين السودانيين واليسار السودان والقوى الوطنية الآخرى قد إهتموا دائماً بالحوار السياسي مع حركات الريف والهامش والذي إستمر بعد الإنعطافة الكبيرة التي أحدثها الدكتور جون قرنق دي مابيور بأن مالت تحت قيادته رايات حركات الهامش يساراً، ولكن الحوار الفكري مع قومي الهامش على نحو أعمق يجب لايكتفي بمناقشة سطح القضايا السياسية والاستجابة لضغوط الأحداث السياسية اليومية، دون أن يثبر غورها الفكري وهذا الأمر لم يستمر مثلما فعل جوزيف قرنق، ليس ذلك فحسب بل إن جوزيف قرنق وعبدالخالق محجوب قد أسسوا حزب الجنوب الديمقراطي كألية لتوسيع دائرة ذلك الحوار والعمل المشترك في أوساط أوسع وعريضة وعبر منبر مستقل نسبياً، وهو ما فعله الشيوعيين العراقيين مع الأكراد في شمال العراق، هذه المحاولات الفكرية وآلياتها السياسية تحتاج أن تتم زيارتها مرة آخرى بعد مرور سنوات طويلة من تلك التجارب لاسيما الإنفتاح على حركات الريف بعد ثورة أكتوبر 1964م، وبما إن جنوب السودان قد أصبح دولة آخرى، فإن هذا الحوار يجب أن يستمر في أجزاء آخرى من السودان والدعوة لقيام إتحاد سوداني بين بلدين مستقلين شمالاً وجنوباً، وتظل تجربة سيد نايلاي ورفاقه في مؤتمر البجا تحتاج لتقييم ودراسة نجاحاً وإخفاقاً، وذات مرة سئل نيلسون مانديلا بأنه هل يستغل الشيوعيين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي لمصالحهم ؟ فأجاب إن نفس هذه السؤال مطروح بشكل آخر هل يستغل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الشيوعيين لمصالحه ؟.
يحتاج اليسار السوداني بكآفة مدارسه لحوار عميق وفكري في المقام الأول مع قوى الهامش وقوميي حركات الهامش لايتوقف وينحصر في المناسبات السياسية بل يذهب الي أبعد من ذلك، لأنه في خاتمة المطاف لن يحدث التغيير الجذري في السودان الا إذا تم بناء حركة ديمقراطية تمتد من الريف الي المدن، ومن هنا كان حزني على رحيل سيد نايلاي، ذلك المناضل الذي جمع في نضاله ولأمس جذور الإستغلال الطبقي بإشكالياته المتعددة وسعى بقدرما أستطاع لإلغاء كآفة عناصر الإستغلال على نحو جذري وكافح في جبهة الإضطهاد القومي من منبر مؤتمر البجا الذي كان من مؤسسيه وقادته، وكان شديد الوضوح حول الإضطهاد القومي الذي ضرب شعب البجا وأرضهم ودافع عن حقهم في الإحتفاظ بثقافاتهم وتاريخهم وتمييزهم والإسهام في بناء الوحدة في التنوع وإعادة هيكلة الدولة السودانية على أساس المواطنة بلاتمييز، ومن هنا تكمن أهمية سيد نايلاي وصحبه، فهو كان يقرأ بعين من كتاب الأضطهاد وبآخرى من كتاب الطبقات لماركس.
لقد ظل سيد نايلاي ثابتاً وناضل لعدة عقود في قضايا مزارعي القاش ومع العمال وفي قضايا التعليم وإحترام حق الآخرين في أن يكونوا آخرين، ويأتي نايلاي من قومية هي الأكثر إضطهاداً في كامل السودان وبإمكاني أن أقول بتواضع وقد أتيحت لي الفرصة لزيارة معظم أرجاء السودان حينما كان مليون ميل مربع وشاركت في أكثر من (260) في مدن وريف السودان، إنني لم أجد شعب من شعوب السودان قد لحق به الضيم والإضطهاد من حكومات السودان وقسوة الطبيعة مثلما لحق ذلك الضيم بشعب البجا، وهو شعب تحدى عاديات الزمن وإحتفظ بثقافته ولغته في مواجهة كآفة التحديات، ولو إن الحركات المسلحة على أيامنا والتي تناضل من أجل قضايا الهامش كانت قد بدأت في شرق السودان لما ترددت لحظة من الإنضمام لتلك الحركة.
وقد ذكرت ذلك قبل عدة سنوات في مدن وقرى البجا الفقيرة من بلصطاف الي أوشيري في ريفي كسلا وبورتسودان وفي ندوات عديدة في شرق السودان (في قريتي أخطاب حيث الناس من هول الحياة موتى على قيد الحياة) ولا ينطبق قول نجيب سرور هذا في اي مكان مثلما ينطبق على قرى البجا الفقيرة، وكما عبر عزيزنا محمد سعيد بازرعة من لهذه الجبال (بالماء المجفف والحليب).
وسيد نايلاي إنضم منذ الخمسينيات الي الفقراء في كل السودان لاسيما شرق السودان ولم يبدل تبديلاً، ومثله لا يوقع على دفاتر الغياب، والمناضلين من أمثال سيد نايلاي والدكتور طه بلية مؤسس مؤتمر البجا 1958م أقدم حركات الهامش السوداني، هؤلاء المناضلين اقمار سامقات ومضيئات أبد الدهر، وقوى اليسار السوداني وقوى الإستنارة تحتاج الي مزيد من المجهودات لتصوب أعينها بقوة على قضايا القوميات والطبقات معاً، هذه وحده يمكن أن يصنع حركة جديدة وعظيمة، حركة للحقوق المدنية مثلما هي للعدالة الإجتماعية، تجمع بين الحاجة لإلغاء كآفة أشكال الإستغلال الطبقي وربطها بالمساواة بين القوميات، وفي هذا فإن سيد نايلاي والمهندس محمد هدلول ومحمد آدم موسى وعمر موسى أحد المؤسسين للكفاح المسلح مع القائد محمد طاهر أبوبكر وغيرهم الكثيرين من الأحياء وممن رحلوا يجسدون معاني نبيلة في البحث عن مجتمع ديمقراطي جديد.
وعلى ذكر سيد نايلاي لابد من ذكر المحترف الثوري الكبير الراحل الجزولي سعيد (عم بشير) والدور الكبير الذي أداه في أروما وفي شرق السودان وبذروا بذور الحركة الديمقراطية في ريف السودان ومدنه، بل وخارج السودان فقد حكى لي في مدينة أسمرا الراحل المحترم محمد سعيد ناود مؤسس جبهة تحرير إرتريا إنهم كانوا أعضاء في فرع الحزب الشيوعي في بورتسودان وقاموا بتأسيس جبهتهم بمساعدات من رفاقهم، وقد كتب محمد سعيد ناود عن ذلك.
يظل الربط بين قضايا القوميات وإلغاء كآفة أشكال الإستغلال الإقتصادي والإجتماعي وقضايا تحرير النساء من القهر وقضايا البيئة والشباب أساساً لبناء أي كتلة تاريخية لمجتمع جديد وديمقراطي وحركة حقوق مدنية فاعلة ومستنيرة.
إن طلائع أبناء البجا الذين إنحازوا لقضايا التحرر والتقدم وفي مقدمتهم سيد نايلاي يستحقون الإنحناء والإحتفاء، لإنهم ينتمون بحق لإرث معارك التيب ووطماي والي عثمان دقنة فهم إمتداد للتراث الثوري لشرق السودان وللسودان بأجمعه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة