من سيرة أبو القنعان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 12:03 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-28-2015, 08:44 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من سيرة أبو القنعان

    07:44 PM Sep, 28 2015
    سودانيز اون لاين
    ودقاسم-
    مكتبتى فى سودانيزاونلاين



    كانت المسافة طويلة تتخلها نهارات قاسية الحر ، وليال مشحونة بالرعب .لكنّ فاطمة ما كانت تبالي بهذا أو ذاك . كانت المسافة بين الموت والحياة هي التي تود ان تقطعها ،
    فكان الجوع هو الذي دفع فاطمة للخروج من ديار أهلها باحثة عن منطقة أخرى أصابها الغيث فزرع أهلها وحصدوا وامتلأت مخازن بيوتهم ب ( المونة ) .
    كانت تعرف أن الصراع قاسي ، وأنها إما أن تقهر الجوع أو تستسلم له فيقهرها . أهل فاطمة لم يكونوا فقراء ، كانوا يعيشون في إقليم الذهب ،
    يعدنون ويصوغون ويستبدلون الذهب بالذرة والقمح واللحوم مع من هم حولهم من الزرّاع ومربي الماشية.
    والحال هكذا، يعيشون في سعة من امرهم هنيئا مريئا حتى جاءهم من الدهر ما أساءهم . جاءهم وقت شحّت فيه الأمطار ،
    وتناقصت معدلاتها ، كل سنة هي أضعف مما قبلها ، حتى انقطعت كأنها لم تكن شيئا مذكورا ..
    خرجت فاطمة تحت ستار الليل خشية أن يراها أحد من أهلها فيمنعها من الخروج ، أو قل يصدّها إلى حوائط الموت ،
    فقد كان رأيهم الذي أجمعوا عليه بعد أن أعيتهم الحيل هو البقاء في منازلهم حتى يأتي فرج الله ، أو ياخذهم الله في رحابه .
    اتفقوا على ذلك وتراضوا عليه ، لكن فاطمة الصغيرة رأت في ذلك حماقة وانتحارا . كان عقلها الصغير يقول لها : لا ، لا تستسلمي .
    تركت حوائط من ذهب ، وسرائر ، ومناضد وتماثيل وألعاب أطفال وآنية من ذهب ، لم تحمل معها شيئا من هذا ،
    فجسدها الصغير الذي أنهكه الجوع لا يقوى على حمل شيء ، حتى أسورتها الصغيرة وأقراط أذنيها تركتها خلفها ،
    فهي لم تخرج لتقديم نفسها لراغب في زواج ، ولا لحضور حفل زفاف ، وكانت تعلم تماما أن هذا الذهب لا يسوى شيئا لدى هذا العالم الجائع .
                  

09-29-2015, 06:27 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    قررت فاطمة أن تعيش وتحيا ، وقرر أهلها انتظار المعجزة أو الموت . فخرجت وحدها لا تلوي على أمر ولا تدري إلى أين تقودها مسيرتها ، لكنها كانت تدرك أنها تسعى إلى النجاة وتنأى بنفسها عن الموت . خرجت وهي تسترجع ذكرى ثلاث سنوات مرت على أهلها وهم لايجدون من يبدلهم الغذاء بالذهب ، وتذكر أن الرجال سافروا طويلا محملين بالذهب ليأتوا لأسرهم بشيء يأكلونه لكنهم لم يكونوا يفلحون في الحصول على شيء في غالب أسفارهم ، كانوا يعودون بالقليل ، وهو إلى تناقص ، فظلوا ينفقون الكثير من الذهب مقابل حفنة من الغذاء لا تسد جوع أطفالهم ونسائهم . كانوا يمتلكون أفضل الدواب يشترونها من الأسواق بكثير من المال ، بيد أنها بدأت في الانقراض ، ولم يعد السفر ممكنا ، فالمسافات طويلة ممتدة لا يقوى عليها السائر على قدمين .. لم يتركوا شيئا لم يأكلوه ، مخزون بيوت النمل ، لحا الأشجار ، ما تبّقى من المواشي ، الجرذان ، لم يتركوا شيئا .. كانت جيف الماشية تحيط بالبلدة ، ورائحة الموت تنبعث من كل مكان . واتسعت مساحة المقبرة لتبتلع المزيد من الأموات . يموت الناس ولا يقام لهم مأتم او سرادق عزاء ، فالموت أصبح أمرا معتادا لا مخرج منه ، والبقاء على قيد الحياة هو الأمر الغريب الذي لا يجدون له تفسيرا . اعتاد الناس الجوع حتى انعدم الإحساس به ، وتحولوا إلى هياكل عظمية هي اقرب إلى الأشباح ، وكان الواحد منهم عندما يحس بدنو أجله يجلس القرفصاء ويسند ظهره إلى حائط من ذهب، ثم يذهب إلى الموت في سلام . كثيرون لم يجدوا من ينقلهم إلى القبر فبقوا أمواتا وهم مستندون إلى الحوائط ملتصقين بها وكأنهم كانوا يتشيثون او يستنجدون بها وهى حوائط خرساء لا تستجيب .
    والداء مهما تعاظم أمره لا يقتل كل البلدة ، إلا داء الجوع ، جوع الأغنياء الذين كانوا يشترون من الأسواق حتى يفرغونها ويشيدون القلاع والمستودعات ويتناولون طعامهم في أواني من ذهب . الزراع والرعاة من حولهم لم تعد لديهم حاجة للذهب ، كل منهم يريد أن يحتفظ بالقليل من حصاده لأسرته ، لتبقى على قيد الحياة إلى حين ميسرة . وحدهم ملاك الذهب لم يكونوا يستطيعون أكل ما ينتجون ، ولا الأسواق كانت تشتري منهم أو تستبدل الذهب بالغذاء . ولم يعد من الممكن استبدال صاع من الذهب بصاع من الحنطة .
                  

09-30-2015, 05:10 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    وفاطمة لم تكن تحلم برحلة سهلة ميسّرة . كانت تعلم أن الموت يمكن أن يكون لها بالمرصاد في كل خطوة . لم تكن تأمن السباع والهوام والتيه والعطش أو يبلغ بها الجوع منتهاه فتموت بسببه وكأنها تفر منه وإليه . لكنها لن تعود ، فهي تشعر أنها تملك الأمل ، وإن عادت فهي تعرف أنها النهاية . ولأنها لن تجد الكثير فهي كانت قانعة بالقليل ، كانت كشجيرات الصحراء تكتفي بالقليل النادر من الماء والغذاء وتظل على قيد الحياة دون تخمة ودون ترف أو تبذير . فنشأت صداقة حميمة بينها وبين أشجار الوهاد ، تقطف اوراقها فتستطعمها وتملّك نفسها الإحساس بالشبع والارتواء ، وترفع يديها شكرا لله .
    لكنّ صباحا جديدا مترعا بالأمل قد بدأ ، حين وطأت قدما فاطمة أرضا رطبة . كانت الشمس ترسل خيوطها الأولى ، وفاطمة يداعبها إحساس افتقدته من سنين ، إنه الإحساس بالحياة . سمعت شقشقة العصافير وأحست حراكها . هذا إحساس كاد يسقط من ذاكرتها ، لكنه الآن يدغدغ سمعها ويمنحها الأمل الذي ظلت تتمسك به طيلة هذه الرحلة الشاقة . لابد أنها بداية موسم الأمطار في هذه الناحية . بداية أنسام الخريف ورائحة الطين المبلل بالمطر. أحست بالجو يبرد فينسيها وهج الرحلة الطويلة . إذن هنا أناس أحياء ، لديهم طعام وحليب وتمر وفاكهة. قد يكونوا فقراء لكنهم لا يكابدون الجوع . لا يشترون الطعام بل ينتجونه بأنفسهم.
    رأت العصفور ينقر في الأرض فيخرج الحب فيبتلعه . رأت بركاً من ماء متقطّع . إنها آثار أمطار هطلت البارحة أو قبلها. رأت أثرا لحفر الزراعة ، فبحثت في واحدة منها ، فخرجت البذور بيضاء من غير سوء . منذ سنوات لم تتذوق طعم العيش .. هاهو الآن بين يديها .. ملأت فمها منه وطحنته بأضراسها. أصابها إحساس غريب ، كل الجسد يستجيب ، تقف أعضاء الجسد كلها في انتباه شديد كأنها طابور يستقبل زائرا كبيرا جاء محملا بالهدايا والعطايا .وعندما وصلت اللقمة إلى جوفها فتحت عينيها بكامل سعتها فكانت كمن اكتشف الدنيا الجديدة .عبرت الصحارى والوهاد والوديان دونما سفينة أو دابة ، دون زاد أو جرعة ماء ، لكنها بلغت مبلغها ووصلت شاطئ السلام وبر الأمان. لا يهم من سيستقبلها هنا ، أو كيف سيكون استقبالها . ستعيش مثل الطيور إن لم تجد من يأويها ، فليس البقاء هنا بأصعب من رحلة الموت التي قطعتها .
                  

10-01-2015, 05:51 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    والمزارع الذي لا يغيب في مثل هذه المواسم ، تطأ قدماه أطراف الحقل في الصباح الباكر ، يتفقد أثر المطر ويراقب الإنبات ، ويطرد العصافير التي تنقر في الأرض فتأكل البذور قبل إنباتها . ثم يعثر على أثر آدمي . أقدام خفيفة وصغيرة ، لكنّ صاحبها بحث في الحفر وأخرج منها البذور المغطاة بالتربة الرطبة . ما هذا العبث ؟ كيف يسمح لنفسه بهذا الخراب وماذا يفعل بالبذور ؟ هذا فعل تفعله العصافير والنمل والجرذان ، لكن البشر لا يفعلون ذلك . تلفت في كل ناحية ، تتبع الأثر ، ثم بدا له أنه يرى شبحا تحت شجيراتٍ في طرف الحقل . طفلة منهكة تحاول أن تغطي جسدها بثياب بالية رثة وتتوارى خجلا وترتجف مخافة العقاب . رمى فوقها قطعة من دثار كان يضعه فوق كتفيه يتقي به برد الصباح ، فتلقفته متثاقلة وطرحته فوق جسدها . اقترب منها وألقى عليها التحية ، ثم رأى حركة خفيفة من شفتيها دون أن يسمع صوتها ..عرف أنها لا تقوى على الكلام وأنها بلغت من التعب مبلغا لابد ان ترتاح بعده لفترة حتى تتمكن من استعادة الوضع الطبيعي . أكمل لها دثارها وحملها فوق كتفه حتى بلغ بها القرية ، وأدخلها إلى زوجته لتهتم بها . كان لابد من إعطائها جرعات من الطعام الساخن ، لا يجعلونها تشبع لكن كأنهم يوقظون هذه المعدة التي ظلت خاوية ونائمة منذ فترة طويلة نسيت فيها كيفية التعامل مع الطعام وهضمه . ولا أحد يعلم كم بقيت هذه البنت على هذا الحال . وهي نفسها لا تعرف كم مرّ عليها من الزمن وهي تشق طريقها حتى ساعة وصولها إلى هنا. مسيرة طويلة فقدت فيها الإحساس بالتعب والجوع ،فقدت فيها الإحساس بالزمن وبكل ما حولها . كان كل تفكيرها ينصبّ في اتجاه واحد . لكنها حتما – إن عاشت – ستسترجع الكثير مما رأت وعانت .
    وأنت لا تعلم إن كنت مسيّرا أو مخيّرا في هذه الحياة . نعم إنها حياتك الخاصة ، تحياها وأنت ممتليء بالظن أنك تديرها كما ترى ، لكن أقدارك تختبيء قريبا منك ، تترصّدك وأنت لاتستطيع رؤيتها ، ولا تقدر على تلمّسها ، ولا تستطيع أن تبذل لها الاحتياط الذي يقيك ما تخشاه منها ، فهي سر دفين عليك وعلى الناس من حولك . لكنّ خالقك كتبها عليك منذ الأزل ، وما يأتي من السماء لابد أن يقع فعله الأرض. هذه مشيئة الله لارادّ لها . لكنّ الله أكرم الإنسان ، فمنحه ذاكرةً تختزن الكثير مما يمر عليه في هذه الحياة ، وهو لا يستطيع إفراغ ذاكرته مرة واحدة بيد أنه يسترجع الذكريات في توالٍ غريب ، يستعذب بعضها ، ويستمتع بانتصاره على بعضها ، وينكسر وينهزم أمام بعضها . لكن هذه الذاكرة تظلّ مستودعا خاصا بك تستدعي ما شئت منه متى أردت ، تراكم منه ما استطعت من التجارب والخبرات ، وتقدم بعضها هدية لغيرك من البشر ، تملّكها لهم طوعا واختيارا لا ينتزعها منك أحد ، فتدخل ضمن منظومة المعرفة والإرث الإنساني دون قصد منك ، فتخلق منك رمزا وبطلا وحكيما دون أن تطلب شيئا من ذلك أو ترجوه .
                  

10-01-2015, 06:12 PM

يوسف السماني يوسف
<aيوسف السماني يوسف
تاريخ التسجيل: 12-10-2005
مجموع المشاركات: 3838

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    سلام لك وللاسرة الخال ودقاسم

    علي سبيل المرور حتي تكتمل الصورة الابداعية
                  

10-13-2015, 07:45 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: يوسف السماني يوسف)

    مرحبتين أستاذ يوسف
    التحية لك ولكل الاخوة في الرياض
                  

10-02-2015, 03:34 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    والمطر لا يفتر من الهطول في هذه الناحية ، والمزارعون طيبون كما أرضهم وسماءهم ، يحمدون الله على نعمه فيزيدهم منها ، وهم آمنون . وفاطمة يوقظها صوت الرعد ويفتح ضوء البرق عينيها لتكتمل الرؤيا حولها . هم بشر مثلها رغم اختلاف السحنات وبعض التفاصيل ، يتحدثون لغة تفهمها مع اختلافات بسيطة يمكن لعقلها الصغير إدراك معناها أو تجاوزها دون الإخلال بفهمها . الجروح تندمل ، والجسد يستعيد الكثير من عافيته ، واللسان يستعد لينطلق بالحديث . كانت تعلم أنه ينتظرها الكثير من الكلام لتجعل مضيفيها يتفهمون وضعها ويبذلون لها العطف اللازم ويتقبلونها بينهم ، ويعدّونها جزءاً منهم. وهم أيضا كانوا ينتظرون بلهفة سماع أول كلمة ينطق بها لسانها ليعلموا إن كانت تتحدث لغتهم أو أن تكون لها لغتها ، لكن نظرات عينيها كانت تقول لهم أنها تفهم ما يقولون وأنها ليست خرساء إنما فقدت القدرة على الكلام ربما بسبب الإرهاق الطويل وانعدام الطعام والشراب . أو أنها نسيت اللغة أصلا بسبب الصمت الطويل لعدم وجود من تتحدث إليه إلا نفسها.
    الناس في هذه الدنيا مدينون لبعضهم البعض ، مسخّرون يخدمون بعضهم بعضا وإن لم يشعروا ، ومن ينعزل منهم يموت ميتة أبو القنعان ، بين قصور الذهب وقلاعه ، لكنه يموت بالجوع .وأنت تتساءل : من منهم الغني ومن منهم الفقير ؟ من منهم صاحب اليد العليا ومن منهم صاحب اليد السفلى ؟ لا شك أن من ينتج الغذاء يلعب الدور الأكبر في استمرارية هذه الحياة ، يبدو بسيطا وطيبا وربما بدا فقيرا أيضا ، لكنه مع ذلك كله يقدّم الكثير . وتظل أنت تبيعه الجماد أو الكثير من الأشياء الثانوية ، وهو يبيعك الحياة . يقدم لك الصحة والعافية ويؤهلك للإبداع ، لكنه بلا شك يظلّ هو المبدع الأول حتى لو دعاك الغنى إلى تجاهله .
                  

10-03-2015, 02:28 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    أطلّ عيد القوم ، فلبسوا ناصع الثياب وأزهاها. أدوا صلاتهم ونحروا ضحاياهم . وجاؤا لفاطمة بحلة زاهية رأتها، فخرجت منها ابتسامة كانت تحبسها خلف أحزانها وخوفها .لأول مرة يرون الابتسامة على وجهها ترتسم مثل ضوء البرق يشق الغيوم .
    قالوا لها : هذه لك .
    فنهضت واقفة كأن لم يكن بها شيء ، ثم سمعوها تقول متسائلة : لي أنا ؟
    والقوم يقفون أمامها في ذهول وهي قد بدت في تمام الصحة والعافية . لأول مرة تقف على قدميها ، ولأول مرة يرونها تبتسم فيتبينون وجهها المترع بالخير والجمال . مدت يدها وتناولت الفستان من أيديهم ثم احتضنته للحظات ، وانطلق لسانها يلهج بالشكر لمن احتضونها ولربها الذي أنقذها وقادها إليهم ليهتموا بها كل هذا الاهتمام . وعندما خرجت فاطمة إلى الملأ في حلتها الجديدة انطلقت حناجر النساء بالزغاريد ، وتهللت أوجه الشباب بالبشر ، وهلل الكهول وكبروا .. ثم ذهبوا ونحروا ضحاياهم وأعدوا وليمة كبيرة اجتمع عليها أهل القرية جميعا احتفالا بتمام صحة فاطمة وانطلاقة لسانها . العيد يكون عيدين في مثل هذا الحال ، والفرح يبقى في ذاكرة أهل البلدة لسنوات قادمات . سيتحدث الناس لسنين عن فاطمة الغريبة التي حلت بديارهم مع بداية موسم الأمطار ، فهطل المطر غزيرا وجاء الخير وفيرا وحلّت نعم الله على عباده الآمنين .وهم يعلمون معنى الغربة ، ومعنى الضيم ، ومعنى التشرد ، ولا يريدون لأحد من الناس أن يصيبه مثل ما أصاب فاطمة وأهلها ، ويعلمون أن احتضانهم لفاطمة سيجلب لهم الكثير من الخير ويدفع عنهم الكثير من الشر. وفاطمة كأنها ولدت من جديد ، لكنها بدلا عن صرخة الميلاد قدمت للناس ابتسامة حركت بها مكامن السعادة فيمن حولها وعانقها أهل بيتها وعانقتها البنات والنساء وتدافع الأطفال بفضولهم ليتعرفوا على فاطمة ، على شكلها الحقيقي وهي واقفة امامهم رمزا للأمل والتصميم والاستمساك بالحياة عبر صنع التغيير الذي يسهم في تغيير الحال مهما كان سيئا إلى حال أفضل .
    قالت لهم : أنا فاطمة ، أتعلمون ؟
    قالوا : الآن علمنا ، ونحن أهلك وعشيرتك . أهلا بك بيننا وستكونين ابنة لنا جميعا وأختا لأبنائنا وبناتنا .
    لم يبلغها أحد أنها كانت قد اقتربت من الموت ، وأنّ عناية الله ساقت إليها أحدهم لينقذها في الوقت المناسب . ولم تكن هي في حاجة لمن يخبرها بذلك ، فهي لم تغب عن وعيها أبدا طيلة رحلتها ، كانت تدرك تماما أن عناية الله ستوصلها إلى بر الأمان وأنها إن طال السفر بها أم قصر فإنها في النهاية ستعود إلى حياة طبيعية لكنها لا شك ستكون حياة مختلفة عما سبق . هي لا تعرف كيف سيكون شكل هذه الحياة ، ولا تعرف من أي باب ستدخل إليها ، لكنها تثق انّ باباً ما سينفتح بسعة ما ، وأنها ستتمكن من الدخول إلى حياة جديدة . وأنها يمكنها ان تتأقلم مع اي واقع إنساني يفرض عليها فتصبح جزءاً منه .
                  

10-04-2015, 05:15 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    لم يكن بمقدور فاطمة أن تشرح بالتفصيل من أين أتت ، ولو طُلب منها أن تعود من نفس الطريق الذي سلكته إلى هنا لما استطاعت . لكنها تشعر أن ذاكرتها الصغيرة تستوعب الأمور بتدرج وتأني ، وتعرف أنها في يوم من الأيام ستعرف كل شيء وستعلم تفاصيل رحلتها وتسترجع كل الذي مر عليها من دقائق الأمور . وكل ما يهمها حاليا أنها فاطمة الجديدة في مجتمع جديد ، في نمط حياة جديدة . لا تجد أمامها أواني من ذهب ولا مناضد من ذهب ولا نوافذ من ذهب ، لكنها تجد ما هو أغلى من الذهب وما هو أقيم منه ، تجد مقومات الحياة الإنسانية .
    أصبحت فاطمة واحدة من بنات البلدة ، وتعامل معها أهل البلدة كأنها ابنة المزارع الذي أنقذها . وبدأت تخرج مع بنات القرية مثل ما تفعل كل بنات المزارعين ، تبذر وتزرع وتنظف الحشائش وتحضر العلف للماشية ، وتحلب وتجلب الماء وتطحن الذرة .. ظلت تفعل كل هذا وكأنها ولدت في هذه البيئة أصلاً ، وتناست قلاع الذهب وقصوره ولم تخبر أحدا أنها جاءت من بلدة بعيدة كل أبواب بيوتها من الذهب . لكن الناس هنا يتهيبون الغرباء حتى لو عاشوا بينهم دهرا ، هذا ديدنهم وهذا مبلغ علمهم . والغريب كفاطمة يعتبر لديهم هاملا ، لا يعرفون لها أصلا ولا فصلا وهذه تعتبر سبة ما بعدها سبة . ربما أنهم لا يقولون ذلك لفاطمة أمامها لكنهم جميعا يرددون ذلك في مجالسهم وفي سرّهم . كل شباب القرية في دواخلهم يتمنون فاطمة زوجة لجمالها وطيب سيرتها ورقة تعاملها مع أهل القرية ، لكنهم يتذكرون أنها غريبة ، وأنها تم التقاطها في طرف حقل من حقولهم ، فيردهم هذا عن إبداء رغبتهم في الزواج من فاطمة. وتمر السنوات دون ان ينبري أي من شباب القرية أو القرى المجاورة ويتقدم طالبا يد فاطمة ، كلهم يخشون عواقب بعيدة انغرست في عقولهم فعششت فيها ، وكل واحد منهم متمسك بهذا الراي لا يرى سببا ليصبح هو صاحب المبادرة أو التضحية حسب ما يرون .
    لكنّ الفلاح الذي أنقذ فاطمة وحملها إلى بيته صارح زوجته في أمر فاطمة . قال لها أن البنت تكبر ولا أحد يرغب في الزواج منها ، وهو ينظر إليها كأنها ابنته ، وكما أنقذها من قبل من الموت، لابد أن ينقذها هذه المرة من العنوسة. وأقنع زوجته بأنها كبرت وأنّ فاطمة من أقرب الناس إليها ، وفاطمة تدير شأن البيت كله ، وأنه إن لم يتزوج فاطمة فسيتزوج أخرى من بنات القرية ، وزواجه من فاطمة أخف قدرا ، ويمكن أن تظل تتعامل معها كأنها ابنتها . وفاطمة أيضا ترددت في قبول هذا الطلب في بداية الأمر ، لكنها وافقت تحت إلحاح زوجة الفلاح . وقامت الزوجة بنفسها بتجهيز فاطمة وزفتها لزوجها بعد وليمة جمعت أهل القرية كلهم ، تماما كتلك التي أقامتها القرية فرحا بشفاء فاطمة وعودتها للحياة بعد انقطاعها ذاك .
                  

10-04-2015, 09:07 PM

مامون أحمد إبراهيم
<aمامون أحمد إبراهيم
تاريخ التسجيل: 02-25-2007
مجموع المشاركات: 5380

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    كل عام وانت بألف حير عزيزنا الأديب ود قاسم


    متابعة وألف سلام وشوق
                  

10-04-2015, 09:07 PM

مامون أحمد إبراهيم
<aمامون أحمد إبراهيم
تاريخ التسجيل: 02-25-2007
مجموع المشاركات: 5380

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    كل عام وانت بألف حير عزيزنا الأديب ود قاسم


    متابعة وألف سلام وشوق
                  

10-05-2015, 05:14 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: مامون أحمد إبراهيم)

    وفاطمة الزوجة لابد أن تكون مختلفة عن فاطمة الربيبة . أصبحت فاطمة شخصا آخر ، تنامت في داخلها بذرة عزة النفس ، وهي الآن تتوقع أن تعيش في بيتها محترمة مثلها مثل أي زوجة أخرى ، فهي امراة جميلة ، ناضجة ، تعرف كيف تدير بيتها ، تؤانس زوجها ، وتجذبه إليها بأنوثة كأنها تفجرت فجأة فتفوقت على بنات القرية من أندادها ومن سبقنها . لم يمر وقت طويل حتى نمت بذرة الغيرة في الزوجة العجوز ، فتنكّرت لكل إنسانيتها في التعامل مع فاطمة الغريبة بتاريخ طويل من البنوة والاحتضان حتى توجت ذلك بتزويجها لزوجها . أصبحت العجور تتعامل مع فاطمة وكأن زوجها لم يتزوجها إلا لتخدمهم ، فكانت ترفع صوتها بالأوامر والنواهي ، ومدت يدها بالعصا ، ورددت أمامها أنها امرأة هامل وأنهم التقطوها من أطراف الحقل . ظلت فاطمة تقابل كل ذلك بالصبر ، وهي لا ترى سببا لهذا التغيير المفاجيء في سلوك الزوجة الكبرى . ظلت فاطمة تحبس في داخلها الكثير من الأذى والحرج ، لكنها لم تبح بكلمة تجرح بها أحدا من هؤلاء الذين أحسنوا إليها وأعادوها إلى الحياة بعد أن كادت تفقدها .
    وحين بدأت بوادر الحمل على فاطمة ، جنّ جنون الزوجة العجوز حتى أنها حاولت مرة أن تدفعها لتسقط حملها ، لكن الله بالغ أمره ، وهو الذي حفظ فاطمة وأوصلها لهذه المرحلة ، وسخّر هؤلاء القوم ليحتضنوها ، وأدخل ذريتها ضمن ذريتهم . وهكذا تكونت الخليقة ، بعضها من بعض عبر التصاهر والتلاقي والتواصل الإنساني النبيل . والغيرة جزء من نكبة الإنسانية ، خاصة عندما تتحول لعمل انتقامي لا مبرر له ، فتصبح آلة تدمير تصعب السيطرة عليها . ولو أنّ الزوجة الكبرى سعت فأسكنت غيرتها لاتسع المجال لهم جميعا ليعيشوا عيشا هنيئا ، ولكانت فاطمة أفضل من يخدمها دون رفع الصوت بالأوامر ودون تخويف أو تهديد أو إكراه . لكنّا سنظل نردد كلمة لو هذه دون أن نهزم الشر في دواخلنا ، أو نسعى لاقتسام السعة بدلا عن الاقتتال على الضيق . ويظل الإنسان يحمل نفسه الأمارة بالسوء ، يسعى بها بين الناس دون تطهيرها مما علق بها من بذرة السوء ، ويبقى ظنه بنفسه أنه الأفضل والأحسن والأكرم وأنه ممن يحسنون صنعا . غريبٌ هذا الإنسان ، فقد أنزله الله في الجنة فسعى لإخراج نفسه منها . ثم هبط به ربه إلى الأرض ليعمرها ، لكنه يغتر بعمله وبما منحه له خالقه من سعة الأمر فيسعى في التدمبر بمنطق عليّ وعلى أعدائي . ولو شاءوا فعمدوا إلى دواخلهم يطهرونها من رجس الأنا لاتسعت الدنيا لهم وللأجيال المتعاقبة دون صراع ودون عنف ودون قتال .
    بدأت الزوجة الكبرى تحرض المزارع الطيب على زوجته الصغرى ، فأصبحت تنسج الحكايات حول تقصير فاطمة في خدمة البيت ، وجعلت من فاطمة خادمة تخدمها هي وتصلح لها شأنها ،وتقوم بتنظيف البيت ، وتطحن الذرة ، وتدير أمر المطبخ . وتناقص اهتمام فاطمة بنفسها وتفرغت لخدمة الزوجة الكبرى ، فغدت تنافسها وتقارن بين نظافة جسدها وجسد فاطمة ، وتسيء إليها أمام زوجها وتتهمها بالقذارة أمام الزوج والجيران . وحين وضعت فاطمة حملها - جنينا ذكرا - لم تتوفر لها ضرورات المرأة النفساء ، ولم يكن في مقدورها أن ترتاح قليلا من أعمال البيت وخدمة الزوجة الكبرى ، لدرجة انّ اللبن في ثديها كان شحيحا لا يكفي مولودها .
                  

10-06-2015, 11:40 AM

أحمد الشايقي
<aأحمد الشايقي
تاريخ التسجيل: 08-08-2004
مجموع المشاركات: 14611

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    شكرا أخ ودقاسم وعيدكم مبارك

    سيرة أبو القنعان تطل كلما أطل القحط في بلاد السودان وهي فرصة اعتقد للكتابة عنهم والتعرف على المنطقة التي عاشوا فيها فالاسطورة غالباً ما تنتج عن واقع تردد في الاذهان ثم ترجم لاسطورة

    خاصة وأن كل أسس القصة متوافرة في السودان فالذهب موجود ودورة الجفاف موجودة والغفلة الكبيرة عن الخزن الاستراتيجي موجودة حتى يومنا هذا

    تحياتي

    أحمد الشايقي
                  

10-06-2015, 05:55 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: أحمد الشايقي)

    لكنّ صبر فاطمة كان يتمدد فيهزم كل مؤامرات الزوجة الكبرى ، وهذا وحده كان يجعل هذه المرأة تغلي وتسعى إلى المزيد من أفعال السوء الموجهة لفاطمة . وفاطمة لا يسمع لها صوت في البيت ، تقوم بعملها في صمت غريب وتسعى لفعل كل شيء يريدونه دون ان تنتظر أوامر من أحد .. ولحظات الفراغ القليلة التي تجدها كانت تستغلها في الاهتمام بإبنها. وحين يبكي الطفل من إهمال أمه له فتناديه أو تداعبه كانت الزوجة الكبرى تنهرها وتقول لها ، لا يصح أن تتركي خدمة الأصلاء وتهتمين بطفل هامل لا مستقبل له بين الأصلاء .
    وكانت فاطمة كعادتها كل يوم تطحن الذرة ، وطفلها بين يديها يعاني من الحمى ، فحاولت أن تجعله ينام لكنها لم تفلح ، فوضعت له بعضا من حبات الذرة في كوب وحركّت الكوب لينشغل الطفل بصوت حبات الذرة وهي تضرب أطراف الكوب ، فتصبح لعبة يتلهّى بها الطفل فيترك لأمه فرصة للقيام بعملها . وانشغل الطفل بعض الوقت باللعبة التي صنعتها له أمه ، لكنه سرعان ما أصابه الملل فاطاح بالكوب على الأرض فتشتت حبات الذرة . والفلاحون يكادون يقدّسون الذرة ويرون في مثل هذا الفعل قلة تقدير للنعمة فلا يرضون أبدا أن يتلاعب أطفالهم بالذرة ، ولا يقبلون من أحد مجرد التفكير في التلاعب بها. وبدأت فاطمة بتجميع حبات الذرة من وسط التراب ، لكنها قبل أن تتم ذلك دخل عليها زوجها ، فسألها ماذا تفعل ؟ فردت عليه أنها تلتقط بعضا من حبات الذرة التي شتتها الطفل . فرفع يده بكل قوتها وصفعها صفعة واحدة كادت أن تودي بحياتها .
    - كيف تسمحين لنفسك وتربين طفلك على اللعب بالنعمة أيتها التعيسة ؟ ما أنت إلا جائعة بنت جائعة ، ويبدو أنه لا ينفع معك غير الضرب والعنف ، وسنوفر لك ذلك حتى تتأدبين أيتها الخادمة القذرة .
    لم ترد فاطمة على زوجها والد طفلها ، لكنها اعتبرت ذلك غاية إهدار الكرامة وقمة الإهانة ، اعتبرت اللحظة لحظة اتخاذ قرار لابد منه مهما كانت التضحية. والإنسان – أي إنسان – تستضعغه وتسعى في انتهاك إنسانيته لا تتوقع منه أن يستكين إلى الأبد . فلكل إنسان خياراته التي يستخدمها ويستدعيها حسب حاجته ، وفي الوقت المناسب ، وإن صمت دهرا فإنه لا محالة سينطق ، ولو كفرا ، ولابد أنّه سيقابل عنفك بعنف أكبر منه ، وسيقول لك ولو بعد حين أنك أنت الذي بدأت ، والبادئ أظلم . ولِم أصلا نهين بعضنا بعضا ، ألسنا كلنا مكرّمون من لدن ربنا الذي خلقنا ؟ من منّا اختار خلق نفسه بنفسه فجعلها فوق خلق الله؟ والله منح بعضنا الحكمة ، والصمت تجاه بعض الأفعال حكمة بالغة ، لكن صمت الحكيم سيتبعه فعلٌ حكيم أيضا ، وأنت حين تفعل الفعل لا تستغرب ردة الفعل .
    يومين أو ثلاثة استعادت فيها فاطمة وتيرة الحياة العادية بعد أن امتصت حزنها الجديد . احتضنت ابنها طويلا ، انحنت فوق جبينه تقبّله وتشم رائحته ، وتكلمه كأنه قد بلغ الشباب والحكمة . تقول له أنها لن تتركه أبدا ، إما أن يبقيا سويا أو أن يذهبا سويا . تحدثه أنها اختارت من قبل أن تحيا وحدها ، لكن يبدو أنها لم تفلح رغما عما قدمته من تضحيات . وتؤكد له أنها لن تتركه يحيا وحيدا ليعيش تجربة الهمل فيستعبده أقرب الناس إليه ، ويهين كرامته ، ويستبيح إنسانيته . ستخرج من هنا ، ولن تعود ، وستأخذ وليدها معها ، إن توفر لهما العيش الكريم سيعيشان ، وإلا ماتا بكرامة وعزة نفس . والموت نفسه واحد من أهم خيارات الإنسان ، يريحه من كثير مما لم يتمكن من معايشته من الألم والحزن والغبينة . والموت راحة من العيش الهامشي .
                  

10-07-2015, 05:40 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    قالت لزوجها أنها تريد أن تزور أهلها بعد أن خرجت منهم غاضبة ، إلا أنها الآن تفتح صفحة جديدة تسامحهم خلالها على ما فات وتعيد ربط علائقها معهم من جديد . وهو من جهته ومنذ يومين ينظر إليها بعطف زائد ، بدا وكأنه يعتذر عن فعلته ، لكنه لا يستطيع أن يتنازل ويعلن عن أسفه واعتذاره ، خاصة وأن زوجته الكبرى ظلت تسعى لمزيد من الشر . هذه أول مرة تتحدث عن أهلها منذ مجيئها إليهم ، لم تذكرهم أبدا بخير أو بشر ، والآن حين تذكرهم تقول أنها خرجت غاضبة وأنها الآن تسامحهم . لم يجادلها ولم يقل لها أكثر من جملة مقتضبة ، خيراً إن شاء الله . ووعدها أنه سيعدّ العدّة للسفر ، وسيرافقها إلى أهلها ليتعرّف عليهم وربما يعتذر أمامهم عن سؤء معاملته لها في الفترة الأخيرة . رجته فاطمة أن يتركها تذهب لوحدها ، لا يرافقها إلا وليدها ، وأوضحت له طول الطريق وصعوبته ووعورته ، وأضافت أنها تخشى عليه من بأس أهلها الذين سيعتبرونه قد اختطفها وغيّبها عنهم قسرا كل هذه السنين ، يكفي أنها تعود إليهم بطفل ربما يعدونه غير شرعي . وطلبت منه أن يرجئ مرافقتها إلى مرة قادمة ، لكنّ ما سمعه منها جعله يتمسّك أكثر بمرافقتها خاصة وأنه لا يستطيع أن يغيب عن ابنه لأيام ناهيك عن غياب شهرين أوثلاثة .
    لكن فاطمة هذه المرة كانت تغازل الموت ، تراه في يقظتها ومنامها ، وترى فيه ما كان يراه أهلها تماما ، ماتوا جميعا لأنهم طلبوا الموت الكريم ـ طلبوه بعزة نفس لأنّهم علموا تماما أن الموت أكرم من الذل ، وأن الحياة لا تستحق من الإنسان أن يهدر من أجلها كرامته . لم يجدوا طعاما يشترونه بكل ما يملكون من خزائن الذهب ، ولم يكونوا قد أعدّوا أنفسهم لسؤال الناس لقمة عيش . رأت فاطمة أن التضحية لابد أن تكون من أجل مطلب كبير وإنجاز يفيد البشرية ، أو لإنهاء معاناة استطالت وأعيت من وقعت عليه ، وإلا فهي تضحية تنطوي على كثير من الأنانية والبطولة الزائفة ولا تستحق أن يطلق عليها اسم تضحية . هي الآن يمكن أن تضحي من أجل وليدها ، لكنها لن تتركه تحت رحمة زوجة أبيه وتحريضها المستمر وكراهيتها المعلنة لفاطمة وابنها بعد حب دام سنوات وانقلب ريحا صرصرا بعد أن كان كالنسمة العليلة تسعد أرواحهم كل يوم . ثم أنها لن تتركه أبدا يموت وحيدا ، فهي ستسوقه للموت معها يدا بيد ، سيموت في حضنها إن كان الموت هو ما ينتظرها ، وستسوقه للحياة الكريمة التي تستحق التدافع الإنساني إن كتبها الله لها . وهذا الزوج الطيب الذي أنقذها من موت محقق ، وأعاد إليها الأمل ، وشاركها الفراش والذرية ، يستحق منها الاحترام والتقدير . يستحق ذلك رغم استجابته للتحريض في الفترة الأخيرة ، ذلك لأنه يحمل في دواخله قلبا طيبا ، يفيض بالحب ويسعى لعمل الخير ودفع الشر عمّن حوله ، لكنه رجل بسيط للغاية ، يمكن لامراة مثل زوجته أن تسوقه يمينا أويسارا ، فيتصرف كما تريد هي لا كما يريد هو . لكن يبدو أنه بتصميمه على السفر معها يريد أن يكفّر عما بدر منه وليقول لها بصورة ما أنه نادم على ما فعل .
    تم تجهيز قافلة السفر التي تتكون من أربعة من الدواب الجيدة ، اثنتان يحملان فاطمة وزوجها وابنهما، واثنتان يحملان الطعام والماء . وانطلقوا جميعا قبيل الفجر يتجهون شرقا ، وكانت الأسرة والجيران كلهم في وداع فاطمة وزوجها وطفلهما ، إلا الزوجة الكبرى تثاقلت وتناومت حتى أشرقت عليها الشمس وكانت القافلة قد خرجت إلى ما بعد حدود البلدة وتوارت خلف التلال التي كانت تشكل حاجزا طبيعيا للبلدة يحميها من السيول ويصنع واديا خصبا يسوق الخير للمزارعين كل عام ، فتنعم أرضهم بالخضرة وجمال الطبيعة والحصاد الوفير . دمعت عينا فاطمة وهي ترى هذا الوادي – ربما- لآخر مرة في حياتها . ستفارق الخضرة والجمال وستعود مرة أخرى للعيش مع الجمادات ، الذهب، مناجمه ،تنقيته ، أعمال الصياغة ، والبيع والشراء والمحاولات المستميتة لاستبدال الذهب بالغذاء . هي لا ترغب في ذلك ، لكن الذي دفع أهلها لاتخاذ قرارهم بالموت ، يدفعها الآن لاتخاذ قرار مشابه . ستهجر مكانا آواها فأحبته ، وأحبت أهله ، لكنها لم تستطع مقاومة الظلم والكراهية بالرغم من أنها بذلت الكثير من الحب والمودة وبناء جسور التعايش ، لكن الضرة ظلت تهدم كل ذلك وتحرّض كل من حولها حتى دفعتها دفعا عبر نفس الطريق الذي جاءت منه .
                  

10-08-2015, 06:00 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    كانت فاطمة دليل القافلة وحاديها ، وكان زوجها لا يمل من السؤال عن أهلها ، وأين هي ديارهم ، وما هي طبيعة أعمالهم ؟ لكن فاطمة كانت ترد ردودا مقتضبة، وظلت تقود القافلة دون تردد كأنها كانت تسافر عشرات المرات عبر هذا الطريق . والطريق متعرج يصعد ويهبط بهم ، وهم يواصلون الليل بالنهار ، لا يتوقفون إلا إذا أحسوا بتعب الدواب أو ضرورة إطعامها. وفاطمة تتذكر تفاصيل رحلتها تلك التي قطعتها مشيا على الأقدام وهي ما تزال طفلة يافعة ، لم تلتق فيها بشرا ،ولم يعترض طريقها سبع أو هوام . كانت رعاية الله تكلؤها ليل نهار ، وكأن شيئا ما يمدها بطاقة جبارة تدفعها إلي الأمام . لم تكن تحمل معها زادا ، كانت تقتات من ورق أشجار الصحراء ولحاها فتجد منها الطعام والشراب .بدا لها وكان الطريق قد أصابه المطر في السنوات السابقة ، فقد كبرت الشجيرات وتطاولت ، وبدأت تمد الظل ، وتخرج الأزهار وبعض الثمر . وتحت الشجيرات نما بعض العشب ، حتى أن دوابهم كانت تأكل منه بين الحين والآخر فوفرت عليهم الكثير من العلف الذي كانوا يحملونه لها فوق ظهورها . وفاطمة لا تمل الطريق ، وهي تعلم أن المسافة بعيدة وأنها أطول كثيرا من صبر زوجها ، لكن هو الآخر بدا مستسلما لأمر ربه وكأنه يقوم بمهمة مقدسة اصطفاه الله لها ولن يكون اقلّ عزما من أن ينفّذها حتى آخرها أو يموت دونها .وبدا مقتنعا أن السؤال الذي ظل يسأله عن ما تبقى من المسافة أو اتجاهات الرحلة ، سؤال لا داعي له ولن يجد له إجابة ، وما عليه إلا مد حبال الصبر حتى يبلغ الأمر محله .
    نامت القافلة تحت سفح جبل يمتد امتدادا رهيبا من الشمال إلى الجنوب . وبقوا هنالك حتى طلع عليهم الفجر . رأوا الطيور وسمعوا أصواتها . والأشجار هنا أكثر كثافةً وأطول ظلالاً . وفاطمة تمد بصرها بعيداً ، وترتفع عند سفح الجبل ، لكنها لا تقوى على صعوده ، فالجبل شاهقٌ ولا يبدو أنّ أحداً قد تسلقه أبداً . عادت فاطمة إلى راحلتها وحملت ابنها فوق حجر ، وقالت لزوجها بصوت بما يشبه الهمس أن البلدة قريبة من هنا ، إنها خلف هذا الجبل ، لكن للوصول إليها لابد من الدوران حول الجبل ، وهي مسافة يمكن أن تقطعها الدواب في نصف نهار إن سارت الأمور دون مصاعب ودون ما يستدعي التوقف . ولاحظت فاطمة تغييرا كبيرا حول الجبل ، البيئة كلها تغيرت إلى الأفضل وأصبحت الأشجار الضخمة كأنها تتسابق لتبلغ قمة الجبل . لابد أن المناخ قد تغير لكنّ ذلك قد حدث بعد فوات الأوان ، إذ قضى القوم نحبهم ، ولم يبق منهم غير فاطمة وهي الآن تصارع الذل الذي فضّل أهلها الموت عليه . ياترى كم من السنين مرت دون أن تنزل قطرة ماء واحدة على هذه البلدة؟ ثم أعقب ذلك خير كثير جادت فيه السماء بالماء والخضرة وخرج الحي من الميت بحول الله . لكن من يعيش هنا ليستمتع بهذا الجمال ؟ من يستفيد من هذا العشب الأخضر الممتد تحت الجبل ؟ من يحصد ثمار الأشجار ويجلس في ظلالها ؟ نعم هناك طيور وفراشات وقوارض ، لكن أين الإنسان ؟ هل انقرضوا جميعا أم بقي من ذريتهم من يعيد تعمير البلدة ، ويعيد الحياة إليها ، ويتحمل مسئولية التكاثر وإقامة المجتمع الإنساني المطالب بإعمار الأرض؟ وإعمار الأرض يبدا بالعمل على وجه الأرض ، لا في باطنها . ربما أنّ بداخل الأرض ثروات ضخمة ، لكن الثروة الحقيقية هي الجمال المتدفق فوق وجه الأرض . الثروة الحقيقية هي الخضرة والماء وإنتاج الغذاء . الثروة الحقيقية هي الإنسان يعيش في جو نقي معافى ويتعذى غذاء طبيعيا نظيفا أنتجته يده .
                  

10-10-2015, 09:07 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    وعند منتصف النهار كانت الشمس مستترة خلف الغيوم ، والسماء تنذر بالمطر ، وكانت القافلة قد أطلّت على مشارف البلدة . لكنّ فاطمة تفاجـأت بمنظر الرعاة يسوقون ماشيتهم والزرّاع يقومون بأعمالهم في الأراضي التي تمرّ عليها القافلة . وغير بعيد عن البلدة قامت قرية بيوتها من القشّ، من الواضح أنها قرية هؤلاء القوم الذين رأتهم فاطمة يعملون بالرعي والزراعة . توقفت القافلة في مواجهة بعض الزرّاع ، ألقوا عليهم التحية ، فردوا بأحسن منها . سألتهم فاطمة : كم من السنين أنتم هنا ؟
    قالوا : بضع سنين .
    وبدأت تسألهم عن أهل البلدة الأصليين ، لكنهم كانوا لا يحرون جوابا . كل منهم يقول كلاما مختلفا . لكنهم جميعا اتفقوا أنهم لم يجدوا أحدا هنا حين استوطنوا البلدة وأقاموا قريتهم . هذه البلدة ظلت هكذا على مر الأيام . قالوا لها أنهم عرفوا من آبائهم وحكمائهم أنّ البلدة الصفراء – هكذا يسمونها – إما أنها بيوت للجن ، أو منازل كانت مملوكة لقوم عصوا الله فأهلكهم الله بما فعلوا من المعصية . قالوا أنه كلما اقترب شخص أو حيوان من البلدة الصفراء تهيج الريح ، وتنطلق الأعاصير ، وتنبعث أصوات غريبة كأنها تخرج من باطن الأرض فتطرد كل من يقترب منها . حتى الحشرات والجرذان لا تستطيع الاقتراب منها. وأنّ حكماءهم حذّروهم من هذه البلدة ، ومنعوهم من الدخول إليها ، واعتبروها بلدة الموت والدمار لكل من يسعى للوصول إليها ، فهي بلدة مسكونة ومحروسة بالأرواح الشريرة .
    ومن بعيد بدأت البلدة لفاطمة كأنها لم يمسها التغيير ، لم تنبت الأشجار بشوارعها وأزقتها ، ولم تتأثر البيوت بالمطر أو الرياح . ولم يحاول أحد أن يسرق شيئا من الذهب المكشوف أمام كل الناظرين . وقد بدأت البلدة - كما توقعتها فاطمة - ساكنة لا حياة فيها. وزوج فاطمة ينتابه شيء من الخوف ، فيسأل فاطمة : أين هم أهلك ؟ هل هم أحياء أم أموات ؟ بل هل هم من البشر مثلنا ، أم أنهم من الجن ؟ هل قطعنا كل هذه المسافة وبذلنا كل الذي بذلناه لنصل في نهاية مطافنا إلى مدينة أشباح ؟ وفاطمة تجيبه بوضوح هذه المرة وكأن الله أنطقها : أهلي بشر ، مثلك ، مثلي ، لم يكونوا عصاة ، ولا مجرمين، لكنهم هلكوا بالجوع رغم الغنى الذي تراه واضحا أمام عينيك . سأدخل عليهم وأوقظهم وأحدّثهم واحدا واحدا، وسترى بعينيك وتسمع بأذنيك أنهم سيعرفونني ، فأنا الناجية الوحيدة ، وأنا ابنتهم من أصلابهم ، وستعرف أنت وزوجتك أنني لست خادمة ، بل أنني – أنا – من كنت أتدلل على الخدم والحشم . كل الذهب الذي تراه أمام عينيك كان ملكا لأهلي جعل الله لهم التصرف فيه ، تماما ، كما جعل لك أنت التصرف في الأرض وفلاحتها ، وهو بالتأكيد ورثة لي .
    حاول الزوج إقناع زوجته أن تتراجع عن دخول البلدة ، والتخلي عن أحلامها ، وطلب منها أن يعودوا من حيث أتوا باذلا لها الوعود بحياة كريمة ومعاملة طيبة . طفق يذكّرها بما سمع من أفواه المزارعين ويخوفها من المصير القاتم الذي ينتظرها إن هي أصرت على تنفيذ ما عقدت النية عليه . قال لها امام الشهود : ستنطلق الريح والأعاصير تحت قدميك ، وستحملك الريح بعيدا فلا نجد لك أثرا . الداخل إلى هنا مفقود ، ولا أحد يعرف مصير الذين حاولوا الدخول قبلك . لم يخرج من هذه البلدة أحد ، أنت فقط التي خرجتِ فكتب الله لك السلامة ، وربما أن خروجك كان قبل وقوع اللعنة على القوم .
    لكن فاطمة لم تخف ، ولم تكن لتتوقف وتعود أدراجها إلى الذل والمهانة ، وهي ترى أنها سارت الطريق كله وبقي أمامها القليل جدا. لن تتراجع حتى لو كلفها ذلك حياتها وحياة ابنها . قالت له ، كما كنت أنا غريبة على أهلك فأنت أيضا غريب على أهلي ، وكنت أنوي أن أعرّفك عليهم، وكانوا سيمنحونك الأمان ، لكنّك لا تستطيع مقابلة أحد ، وأنت ترتجف من الخوف وتحمل الحذر القاتل بين جنبيك ، فلتبق أنت هنا في رفقة هؤلاء المزارعين ، لكن أنا وابني منهم وإليهم ، فاتركنا ندخل عليهم وحدنا ، وهم سيتعرفون علينا ويستقبلوننا أحسن ما يكون الاستقبال . وقد عدنا إلى ديار أهلنا ، نحن الوارثون لهذه الثروة والمالكون لهذه الديار ، سنعمرها أنا وابني ، وسنستعين بجيراننا من الفلاحين والرعاة وسننصهر معهم ، فنصبح أسرة واحدة لا ضغائن بينها ولا حسد ، ولا خوفٌ من مسغبة ولا فقر . وإن متنا فلسنا أفضل ممن ماتوا قبلنا، وأثق أننا سنكون في موتنا أفضل من حياتنا في الذل .
    ثم بدأ زوجها يترجاها أن تترك له الولد الصغير وتدخل هي إلى حيث شاءت ، فلربما تحدث بعض الأمور التي لن يحتملها الطفل أو تكون أكبر من إدراكه فيصاب بما لا نتوقعه . لكن إصرار فاطمة لم يكن ليهزمه أحد . هي ما زالت تحس ألم الصفعة ، وتتذكر معاملة الزوجة الكبرى ، والنظر إليها كشخص اُلتقط من طرف الحقل . كل ذلك كان يضيّق خياراتها ويدفعها دفعا إلى ارتياد التجربة الصعبة وتحمّل نتائجها مهما كانت . إما حياة كريمة لها ولإبنها ، وإما موت كريم لهما معا في آن واحد . تريد ان تقف أمام الموت بشجاعة كما فعل أهلها من قبل، وستسوق ابنها معها ولن تتركه للذلّ بعدما رأت الذل بعينيها . ستأخذه معها وهي تثق أن أهلها سيعرفونها وأن الله سيكرمها بوراثتهم ، وأن المجد كله سيرثه هذا الولد الصغير .
    وأمام هذا الإصرار الغريب استجاب الزوج على مضض ، وبقي إلى جانب الفلاحين والرعاة الذي تجمهروا ليراقبوا دخول فاطمة إلى البلدة الصفراء ، وهم لا ينتظرون لها عودة ، إنما يتوقعون لها ولإبنها الموت ، أو الاختفاء من هذه الحياة ، فلا يعرف لهم أثر .
                  

10-11-2015, 06:17 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    نزلت فاطمة من ظهر راحلتها ، وحملت ابنها فوق كتفها ، ثم تزودت ببعض الماء من أجل الطفل ، وبدأت أولى خطواتها إلى داخل البلدة . خطوات خفيفة وصغيرة ، لكنها واثقة ، تماما كخطواتها تلك التي دخلت بها إلى حقل زوجها وهي طفلة مشرّدة ومنهكة . هبّت ريح صغيرة أخافت زوجها ومن معه من المزارعين والرعاة ، لكنها ما لبثت أن هدات وسكنت ، وكأنها ريح الترحاب لا الرفض . وساد الصمت أرجاء البلدة إلا من صوت فاطمة ، يسمعونها تنادي أرواح أهلها واحدا واحدا ، يا روح أبي ، أنا ابنتك فاطمة ، تركتني وحيدة وضعيفة ، وخرجت عن إرادة قومي طالبة الحياة ، فأكرمني الله بالذرية ، والآن أعود لأحتضن روحك وأطمئن إليها ياحبيبي يا أبي ، فتقبلني عائدة آئبة لأصلي وفصلي . يا عمي فلان ، أنا فاطمة ابنة أخيك ، الآن جئتكم أنا وابني أسعى في إحياء ذكراكم ، وأحقق ما لم تتمكنوا من تحقيقه. يا خالي فلان ، أنا فاطمة ابنة أختك ، كنت تحبني وتضمني إلى صدرك ، ثم افترقنا ، وبي رغبة لمبادلتك الحب لم أستطع إشباعها ، فلتمنحني الفرصة لأحبك من جديد . يا جدي فلان ، إني اشتهيك ، وأذكر حكاياتك التي لا تنتهي ، والآن جئتك لتكمل لي ما انقطع من سردك الذي لا يمل . يا جدتي فلانة ، كنت أنام في حضنك وما ظننت أنني سأفارقه ، والآن عدت إليك لأكمل نومتي تحت هدهدة روحك المشبعة بنفحات الجنة .. نادتهم واحدا واحدا ، ذكّرتهم بطفولتها ، وبصلتها بهم ، وبحبّها لهم . قالت لهم أنها جاءتهم من جديد لتبعث الحب في ديارهم ، ولتعيد إليهم مجدهم وماضيهم التليد ، ولتجعل ذريتهم متصلة بعد انقطاع . كان الفلاحون والرعاة المنتظرين خارج البلدة يسمعون صوت فاطمة وهي تكلم أهلها ، ثم تراءى لهم أنهم يسمعون أهلها يردون عليها بالترحاب ويبذلون الثناء لعودتها ، وإقدامها ، ويعذرونها على هذا الغياب الطويل ، ويباركون لها أمرها الذي عزمت عليه . كانت البلدة الصفراء كلها تتحدث ، وكان الواقفون على أطراف البلدة منصتون يستمعون تحيط بهم الدهشة لا يستطيعون معها تصديقا ولا تكذيبا . بلغ صدى الصوت أطراف البلدة ، وقيل أنه بلغ تلك الجبال الشاهقة التي قضت فيها قافلة فاطمة ليلتها الأخيرة قبل وصول البلدة ، فسمعته الطيور والصيد والوحوش . لم يبرح أحد مكانه ، ظلوا واقفين ، وكأنهم حرّاس يتأهبون لصد أي هجوم مباغت عليهم . واجتمع عند طرف البلدة قوم لم يسبق أن اجتمعوا من قبل في أي مكان من هذه البلدة ، كلهم سمعوا حديث فاطمة وشهدوا أنهم سمعوا أرواح أهلها تناديها وترد عليها وتؤانسها ، وسمعوا قهقهات وليدها ، وكأنّ أهل أمه كانوا يلاطفونه ويقدمون له الحلوى ، ولعب الأطفال ، ويطوقونه بالأزهار والورود . كيف لا ، وهو حفيدهم ، ووارثهم، وباعث أملهم في استعادة أمجادهم ، واتصال نسلهم ، وقد استحق منهم كل ذلك ، ومن غيره يستحق هذا الاحتفاء ؟ وعندما حلّ المساء كان القمر يرسل ضوءه فوق بيوت الذهب ، فكانت أعالي البيوت كالثريات المعلّقة ترسل ضوءها فتنير ما حولها وتمنح البلدة الصفراء رونقا وجمالا لم تشهده من قبل . لم ير الفلاحون والرعاة أمسية بهذا الجمال وهذه الروعة ، لم يكونوا يرون من هذه البلدة إلا رائحة الموت والأشباح وانبعاث الرعب . كانوا ينظرون إلى ما يحدث حولهم بدهشة وكأنهم أمام منظر نزل عليهم من السماء فلم يروا له شبها من قبل . قالوا إن القمر يطلع فلا تستجيب له البلدة الصفراء ولا ترسل بيوت الذهب أشعة الضوء ولا تعكسه مثل ما يحدث الآن . كانت البلدة في الليل مخيفة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها ، كانوا يحسّون الأشباح ، وصفير الرياح ، ويحسّونها كأن من يسكنها يظلون يتقاتلون طيلة الليل حتى مطلع الفجر ، فتسكن البلدة نهارا ، ولا تحس من أمرها شيئا إلا إذا اقترب منها إنسان أو حيوان ، حينئذ تثور الريح تحت قدميه ويسمع أصواتا تنبعث من حوله فيضطر للتراجع والانسحاب . والقوم يتقاطرون على أطراف البلدة لا يجرؤ أحد منهم على الدخول أكثر من الحد الذي تركتهم عليه فاطمة ، وكانوا ينتظرون عودة فاطمة إليهم قبيل المساء ، لكنهم لا يزالون يسمعون صوتها تتحدث إلى أهلها ، حتى سمعوها تقول : يا شيخنا ، يا زعيمنا ، يا جد أهلي أجمعين ، أنت لم ترني ، لكن أبي وجدي حدثاني عنك وعن كرمك وعن زعامتك ، وعن كريم خلقك ، أنا اليوم ضيفة عليك وعلى قومك ، أكرموني فأنا ابنتكم من أصلابكم ، وهذا وليدي ، أتيناكم مشحونين بالغبن والأسى وأنتم لا ترضون لنا الضيم ولا تريدون لنسلكم الذل ولا تردّونهم خائبين . وسمعوه يرد عليها أو هكذا تراءى لهم : نامي إلى جواري حتى الصباح أيتها الابنة الوارثة ، فإذا أشرقت الشمس ضعي هذا التاج فوق رأسك ، ثم عودي لقومك فقد جعلناك عليهم ملكة ، وأورثنا ابنك ملكنا ، وإليك وإليه تؤول جميع أملاكنا . ولتكرمي زوجك ومن أتاك من أهله ، وأكرمي جيرانك ، وأشركيهم في الأمر كله ليصبحوا لك أهلاً وأصهاراً . لا تظلمي أحدا فإن الظلم عاقبته وخيمة ، ولا يعود على فاعله إلا بالدمار والهلاك .عودي إليهم مرفوعة الرأس ، وقد ملكناكم التاريخ وجعلنا المستقبل أمانة بين أيديكم.
    إذن هي البشارة بميلاد أمة جديدة . أمة متجانسة ، ترعى التكامل الإنساني في التعايش ، والانتاج ، وتبادل المنافع ، وترسي موازين العدالة والمساواة . ليس فيها ضعيف مظلوم ولا غني ظالم . أمة تنتج عن انصهار عدد من القبائل والأقوام ، فيهم الصناع ، والزراع، والرعاة ، والعمال ، والعلماء . إنها البشارة بقيام الدولة المعافاة من الأنانية والتعالي وانعزالية البعض وانفرادهم بالغنى ودفع الآخرين إلى الهوامش . فاطمة وزوجها هما آدم وحواء هذه الأمة ، لكن ابنهم لن ينتظر لتأتيه أخته ليتزوجها ، سيدخل هو في انصهار أبدي فيمن حولهم من البشر، سيتزوج ابنة الراعي أو الفلاح ، لا فرق ، وستنضم إلى الأسرة المالكة أعداد كبيرة من الأسر بالمصاهرة ، حتى يأتيهم يوم يكونوا قد أصبحوا فيه منتمين لأصل واحد .
    لم يبت أحد من الفلاحين أو الرعاة تلك الليلة في بيته ، وانضم إليهم غرباء من القرى البعيدة بعدما وصلهم صدى الصوت ، كلهم اجتمعوا هنا ، نساء ورجالا ، أطفالا وشيوخا . باتوا ليلتهم تلك على طرف البلدة الصفراء ، كما اسموها هم ، لا تسمع لهم صوتا ، ولا تحسّ لهم حركة ، ولا يتبادلون الهمس ، بل بقوا حتى الصباح صامتين وقد عقدت الدهشة ألسنتهم ، وظلوا يحاولون سماع ما يدور بين فاطمة وأهلها ، ويعدّون أنفسهم لدور جديد في هذه المملكة الوليدة التي ستديرها إمرأة لا يعرفونها ولم يروها من قبل . لكنها المرأة الوارثة ، ورثت الذهب ، والملك ، بأمر أهلها ، وقد سمع أهل البلدة كلهم أصداء الحوار بينها وبين أرواح أهلها المالكين للبلدة الصفراء . وهي المخلوق الوحيد الذي سُمح له بالاقتراب ودخول البلدة الصفراء ، بل وطُلب منه المبيت داخل البلدة بالقرب من الزعيم الأكبر.
    وزوج فاطمة بين مصدّق ومكذّب ، ينظر إلى الأمر وكأنه حلم يخف أحيانا ويثقل أحيانا أخرى . جلس بين المزارعين والرعاة لا تكاد تتبينه من بين الجموع ، لكنّ الذين رأوه قالوا أن تجهمه المكفهر انقلب ابتساما مشعاً، وانطرح وجهه فعاد ينضح شبابا ونضارة ، وبات ليلته تلك مطمئنا على سلامة فاطمة وولدها . لكنه لم يستطع أن يلغي خوفه كليا ولا أن يستقبل أحلامه الجديدة ويتعايش معها كما ينبفي ، فهو مهموم ومشغول بما ينتظره في حياته الجديدة ، لا يعلم ما الذي يمكن أن يفعله في المستقبل . هل سيظل إلى جوار فاطمة وولدها ، أم يعود لأسرته القديمة وإلى قريته وفلاحة أرضه ؟ هو سمع الصدى يردد صوت الزعيم الأكبر يعلن فاطمة ملكة على القوم ، وأنه جعل ولاية العهد لإبنها ، وأمرها بإكرام زوجها، لكن لم يحدد له دورا واضحا يلعبه . وهو لا يعرف تدبير أمر الملك والحكم والسلطان ، ولا يعرف أكثر من أعمال الزراعة والحرث وانتظار الحصاد . وربما لا يعرف كيف يكون زوجا للملكة ، وما دوره ، وهل سيسمح له بالعمل الزراعي أم أنه سيظل جالسا في القصر الملكي حتى انتهاء عمره ؟ وإن بقي إلى جوار فاطمة في مهمتها الجديدة ، هل سينسى زوجته الكبرى ، أم سينقلها إلى هنا ويبني لها قصرا لتسكن فيه باقي أيامها ؟ وهل ستقبل فاطمة – وهي الملكة - أن تكرم ضرتها وتجعل لها قصرا وخدما وحشما وتنسى لها كل الذي فعلته بها ؟ إنه لا يستطيع أن يفارق فاطمة وابنها ، ونوازع الخير في داخله تدعوه للوقوف مع فاطمة في مهامها الجديدة ، ومساعدتها هي وابنها في بناء مملكة وليدة يؤسسون فيها للخير والجمال والبناء وإقامة أسس العدالة . وهو لا ينسى غيرة زوجته الكبرى التي تنامت حتى بلغت درجات الحقد والحسد ، وبثت الكراهية بين أفراد الأسرة الواحدة حتى أوصلتهم درجة الانفجار عندما مدّ يده لفاطمة بالصفعة التي كادت تفقدها حياتها ، ثم دفعتها إلى ولوج هذه المغامرة التي ما تزال تخوضها . وها هي الآن تثبت له ولزوجته ولكل من عرفها أنها تستحق الشرف والنبل وتنتمي إلى الطبقة الغنية ، بالرغم من أنها رضيت بالعيش بين الفلاحين راضية وقانعة بما ساقها الله إليه ، مقتنعة بسمو رسالة الفلاح في هذه الدنيا .
    وعند الفجر دخلت فاطمة إلى بيت أهلها ، مسقط رأسها الذي شهد طفولتها وعاشت فيه بين أهلها حتى لحظة اتخاذها قرارها التاريخي ذاك بالخروج إلى حيث تسوقها أقدارها وهي لا تدري إلى أين . وجدت أهلها أمواتا جالسين مستندين إلى الحوائط المدهونة بماء الذهب ، كأنهم ينتظرون احتساء قهوتهم . كل الأشياء كما هي ، سرر من ذهب ، مناضد ، وآنية من ذهب . لم تمتد إليها يد ولم يحركها أحد من مكانها ، ولم يغشها إلا غبار خفيف لا يكاد يُرى إلا من قريب . رأت ألعابها وأسورتها وأقراطها وسلاسلها وحجولها محفوظة كلها في مكانها وكأنها قد تم ترتيبها للتو واللحظة . توسطت الأموات وجلست بينهم . لم تخف ولم تجزع ، فهي كانت تعلم أن هذا المنظر سينتظرها داخل كل بيت من بيوت أهلها . تنقلت بين غرف المنزل وردهاته ، وهي تتحدث إلى الأموات من أفراد أسرتها في كل أركان البيت ، تخاطبهم كما لو كانوا أحياء ، تعتذر لهم أنها لم تستطع إنقاذهم من هذا المصير ، وتطمئنهم أنها عادت لتعيش بين أرواحهم ، تستلهم بسالتهم وصبرهم ، وتعيد بناء أمجادهم . ترحّمت فاطمة على أمها وأبيها ، ونساء أبيها ، واخوتها ، وترحمت على كل الذين قضوا نحبهم من أهلها ، وعزمت على أن تبدأ بدفن الجثث كلها وتدعو الناس للصلاة عليهم ، والدعاء لهم ، واعتبار الثروة التي تركوها وقفا ينتفع به من جاء بعدهم وانتمى إليهم ، واعتبر نفسه جزءا من أهل البلدة . وهي مملوءة بالثقة أن ذلك سيسهم في بناء كيان قوي ، ويعود على الأموات بالأجر في أخراهم عسى الله أن يجعلهم جميعا في جنته .
                  

10-12-2015, 06:25 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)

    ثم أشرقت الشمس ، تسوق معها الخير للناس . جاءت أشعتها هذا الصباح كرسل سلام ومحبة . ابتسم الوقوف في وجوه بعضهم البعض ، لم يصبح بينهم خائفا أو مهموما أو مغموما . كلهم يحملون الأمل ويطرحون خلفهم الفقر والحزن والتشاحن . يسلّمون ويهنئون بعضهم البعض ويتعارفون . كانوا كأنهم ولدوا من جديد لتوهم فانفتحت أمامهم أبواب الأمل والرخاء وتحققت الأحلام السعيدة ، وانقشعت الأحزان والألام . وانفتح باب المستقبل مبتسما لكل من كان ينظر من كوة الأمل بقلب مفتوح .
    وخرجت فاطمة إلى القوم وقد وضعت تاجها فوق رأسها ، وابنها محمول على كتفها . كانت تحيط بها هالة الملكية، وتحفها هيبة السلطة . هاهي عادت إليهم سليمة لم يمسسها سوء ، وعاد ابنها في رفقتها لم يصبه أذى . وهم يشدون أبصارهم إليها بدا لهم أن المال يتدفق بين يديها فيعمهم الغنى أجمعين . ألقت عليهم التحية ، ونادت على زوجها فاوقفته إلى جوارها . ثم رفعا الطفل إلى ما فوق أكتافهما ، فرفع الطفل كلتا يديه بالتحية للوقوف أمامه ، وأرسل إليهم ابتسامة الفرح والانتصار حتى عدّوا ذلك معجزة أو كرامة اختص الله بها هذا الطفل. ثم أشارت فاطمة إلى القوم أن ابقوا في أماكنكم ، لا يتحركن منكم أحد ، ولا يبرحن أحد مكانه حتى نأذن له . من أرادنا فليبق معنا ، ومن لم يردنا يمكنه الانصراف بسلام ، ومن أتانا مشاركا قبلناه بيننا ولن نمنع أحدا من الاستمتاع بنعم الله . سنصلي على موتانا وندعو لهم ، ثم نودّعهم ونسترهم كما يليق بهم ، ونواريهم الثرى ، ثم نعود في الغد ننظف البلدة ، ونطهرها من جثث الحيوانات ، وسندفنها هي الأخرى في حفرة عميقة ، لترتاح البلدة من روائحها . ثم ننطلق إلى أعمالنا المعتادة ، كل في مجال عمله شريكا في الثروة والحاضر والمستقبل ، لا نستعجل الغنى ، ولا نستوضع مهنة ، ولا نحتقر عملا ، ولا نعلي أحدا فوق أحد ، ولا دونية لأحد من أحد . هؤلاء الأموات بشر مثلكم كانوا ملء السمع والبصر ، عاشوا في الغنى والترف ، لكنهم ماتوا جميعا بسبب هذا الغنى . فليس غنيا من امتلك المال وأهمل إنتاج الغذاء ، أو اعتمد في انتاج غذائه على غيره مهما بلغ من درجات الغنى ، وليس شريفا من نظر إلى غيره ليمده بالمال . انظروا إلى هذه البلدة كيف جفت حدائقها وأشجارها ، ونفقت حيواناتها، ومات أهلها دون أن يغني عنهم الذهب شيئا ، حتى وصلوا درجة اقتناعهم بانتظار الموت جالسين حين أعيتهم الحيل في الحصول على لقمة العيش . وقد عرضوا على جيرانهم من الزراع أن يبيعوهم مكيالا من الغذاء مقابل مكيال من الذهب ، فرفض الزراع عرضهم لقلة الانتاج الزراعي وضعفه في تلك الفترة ، فكانوا يحتاطون به لأسرهم ولا يبيعونه مهما عُرض عليهم من ثمن . وهكذا جاءهم زمن كان فيه الغذاء أغلى من الذهب، بل لم يكن أحد يشغل نفسه بالذهب أو يفكر فيه . ومن جانبهم رفض ملاك الذهب التسول والاستجداء ، وتكفُف الناس ، ورضوا بالموت في عزة نفس وكبرياء ، قانعين مقتنعين بما قسمه الله لهم ، فأطلق عليهم من حولهم ومن عاصروهم اسم ( أبو القنعان ) .
    وبعد ثلاثة أيام من العمل المتواصل كانت البلدة قد جعلت أمواتها تحت الثرى ، واكتمل تطهيرها من كل البقايا والنفايات التي كانت تجعل منها مدينة أشباح . وأصبح دخول الناس إليها أمرا عاديا فلا تثور في وجوههم الرياح ولا تنبعث من حولهم أصوات غريبة . لكنهم كانوا مطالبين بالأمانة والطهر حتى لا تنقلب الأمور فتعود إلى ما كانت عليه فيحرمون من الثروة أو الغذاء أو الاثنين معا . وذاعت أخبار المملكة الوليدة وبلغت أطرافاً بعيدة ، وعلم بها أهل زوج فاطمة ، فجاء منهم رهط انضم إلى مملكة الخير والجمال ، فمنحوا الأراضي الزراعية ، وتم تيسير أرزاقهم بما يناسب كلا منهم . وأمرت الملكة المتوجة بحفر الآبار على امتداد المملكة ، آبارا تكفي سقيا الإنسان والحيوان وأخرى للزراعة . وقامت الملكة بنفسها بغرس أول شتلة خضراء في شوارع العاصمة الصفراء ، وتبعها شعبها في مشروع التشجير الضخم لتعم الخضرة أطراف المملكة كلها . وتعاهد الناس على دعم الملكة في توجهاتها الخيرة ، وأن يقفوا خلفها يدعمونها ويؤازرونها في صدق وإخلاص حتى تصبح مملكتهم مضرب الأمثال . وتوافد إلى البلاد الكثير من العمال ، والصنّاع ، وأصحاب الحرف ، والمعلمين ، والأطباء ، جاءوا من كل فج يسهمون بخبراتهم ومعارفهم ، كلٌ بما علم من عمل أو علم أو فكر أو أدب ، منخرطين جميعا فيما تراضى عليه الناس في تحقيق الوحدة الانسانية ، والتكامل ، والاقتسام العادل لكل مخرجات الحياة ، والدفع بكل ما يستطيعون ، يستمتعون بطيبها ويدفعون شرورها . فازدهرت الحياة ، وطابت الزروع ، وتعاظم الانتاج ، وذاع الصيت ، وعاش الناس يعمهم الخير والجمال غائرا في الدواخل متعمقا في أنسنة الحياة والطهر والنقاء .
                  

10-14-2015, 08:42 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: مامون أحمد إبراهيم)

    العزيز مأمون
    لك التحية ، وكثيف الود
    سعيد بمتابعتك
    وفخور أنك تقرأني .
    شكراجزيلا
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de