اشراقة مصطفي تكتب عن اسرتي لها التحية والتقدير

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 02:16 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-28-2015, 11:29 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
اشراقة مصطفي تكتب عن اسرتي لها التحية والتقدير

    11:29 PM Aug, 29 2015
    سودانيز اون لاين
    Sabri Elshareef-USA
    مكتبتى فى سودانيزاونلاين



    امتحانى للشهادة السودانية للمرة الخامسة... وسيرة صبرى الشريف
    تعرفتُ عن طريق صديقة على أسرة عم الشريف فى إشلاق بوليس مدني, فقد أخبرتني عن صبري الشريف وعن أسرته حكايا تشجي الروح وتهديء من روعها فيما الدنيا كدأبها تؤرجحني بين الهزيمة والانتصار فربطتني صلة قوية بعم الشريف الذي كان إنساناً مثقفاً واسع الأفق, وكثيراً ما جلست إلى جواره وهو يستمع إليّ باهتمام مثلما يفعل مع أي شخص يحادثه.
    وكنت بالمثل أستمع إلى حكاياته ورؤاه وعصارة حكمته في شتى الأمور، فهو أب لأسرة مدهشة في تعاونها ومحبتها للناس, أدهشني تعامله معهم بحنية وندية قلّ ما نجدها، أخبرته يوماً بأني كنت قد عشقت ذات زمان عسكري وسيم الطلعة بهي الخاطر لكن فرقت بيننا المظاهرات حيث أظنه قد أخذ الأمر بصورة شخصية فقد كنت ضمن من قدن الهتاف:
    - يا بوليس ماهيتك كم ورطل السكر بقى بي كم؟
    حيث كان يومها ضمن فريق تفريق مظاهرات ومايسمونه أعمال الشغب ، وقد أخبرت عم الشريف بذلك، لكني لم استطع أن أخفي انتشاء قلبي لهذه الذاكرة، فخرجت:
    - كان طيبا ووسيما!!
    فانكفئ يضحك بصوتٍ عالٍ ويردد:
    - يا بت يا عفريته..
    تلك الأيام في حنايا ذلك البيت الفسيح بأهله وجمال صاحبته التي ظلت تلتقيني بالأحضان المفرهدة وبمثلها تودعني, تماماً كما تفعل كل الأمهات,
    فيما يبدو أن أمي قد (أنشر) حنانها تجاهي في رحم كل أم التقيها فكانت عائشة امى التى احتوتنى بحنان بالغ. سبانا صغيرة الأسرة والتي كانت فعلاً سبانا تترك لي (عنقريبها) لأنام عليه, أما سحر الجميلة الرقيقة التى رحلت سريعاً عن الدنيا وهي ما زالت طالبة بالفرع فقد كانت البهاء الذي يسطع في عيون هذه الأسرة وبرحيلها رحلت دنيا مفرحة كانت تضجّ في أركان هذا البيت الحميم.
    مدرسة مدني الثانوية بنات حيث جلست للامتحان أقرب إلى الإشلاق فيرافقني صبري الذي أضحى بمثابة شقيقي إلى المدرسة وينتظرني مُترقباً عبر تفاصيل وجهي وانفعالاته كيف أبليت بالامتحان، يأتي فارِداًً قشيب الأمل والدنيا تضيق رويداً رويدا بالعسكر والحرامية, وفي يوم الأمتحان الأخير أتى وقد دس في شنطته كالعادة جريدة الميدان ولسوء الحظ فقد امتطينا يومها عربة للمواصلات العامة لنصل إلى مستشفى مدني ومن هناك نكمل سيراً على الأقدام حتى البيت. ولا أعلم كيف تصرف وأخفى ما يحمل أثناء التفتيش, كنت متيقنه أن إلقاء القبض علينا سيكون مصيرنا في هذا اليوم ولكنا نجونا باعجوبة خاصة ان صبرى وبعض افراد الاسرة كانوا تحت المراقبة.
                  

08-28-2015, 11:55 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اشراقة مصطفي تكتب عن اسرتي لها التحية (Re: Sabri Elshareef)

    https://http://http://www.facebook.com/##########؟fbid=1488629108116190andset=p.1488629108116190andtype=1andtheaterwww.facebook.com/##########؟fbid=1488629108116190andset=p.1488629108116190andtype=1andtheater


    كتاب الدكتورة اشراقة مصطفي حامد
    انثي الانهار
    من سيرة الجرح والملح والعزيمة
                  

08-29-2015, 05:43 AM

معاوية الزبير
<aمعاوية الزبير
تاريخ التسجيل: 02-07-2003
مجموع المشاركات: 7893

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اشراقة مصطفي تكتب عن اسرتي لها التحية (Re: Sabri Elshareef)

    أصدّق هذا الكلام تماما لأنو
    إشراقة تكتب عادة بألمِ من يطأ جمرة فيطلع كلامها صادقا كصدق الألم هذا ذاته
    ولقناعتي بإنو ما ممكن يطلع زول جميل هكذا من فراغ، كما يطلع نبات خلوي من مطرة شاردة أو "شبورة وتقيف"
    فقد اختبرنا صبري الشريف في هذا المنبر
    وما لاقيتو شخصيا إلا مرة واحدة، لكن مكان اللقاء والحاضرين يختصر مئات اللقاءات الشخصية
                  

08-29-2015, 05:46 AM

wadalzain
<awadalzain
تاريخ التسجيل: 06-16-2002
مجموع المشاركات: 4701

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اشراقة مصطفي تكتب عن اسرتي لها التحية (Re: Sabri Elshareef)

    التحية لك ولوالدك أينما كن ولتلك البنت العفريتة
                  

08-29-2015, 04:03 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اشراقة مصطفي تكتب عن اسرتي لها التحية (Re: wadalzain)

    معاوية الزبير
    لك الحب والسلام
    قاسمنا المشترك محبة للوطن وللانسان وبيننا صديق حميم ابوبكر او بابكر او بكور
    طبيب الشيخ محمد بن مكتوم للابل وغيرها ذلك الطبيب البيطري الساخر

    مرة كنا نتكلم مع دكتور محمد محمود عن كتابه نبوة محمد
    قال للدكتور ياخي ما جهجهتنا
    اعتذر محمد محمود بادبه المعروف
    وقال لبكور والله معليش لو ما كتبت الكلام انا راح يكتبوا غيري


    المهم محتاج لونسه معاك حدادي مدادي
    اشراقة شاطرة ومجتهدة ولها سيرة قوية
                  

10-29-2015, 01:56 PM

Ishraga Mustafa
<aIshraga Mustafa
تاريخ التسجيل: 09-05-2002
مجموع المشاركات: 11885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اشراقة مصطفي تكتب عن اسرتي لها التحية (Re: Sabri Elshareef)

    الى حين عودة بعد انقطاع طووووووووووووووويل من هذا الفضاء اهديكم جميعا الفصل كاملا

    Quote: الطريق إلى المعرفة

    علمنى النمل ان اعيش على ارض الواقع واصبر على احلامى.. فرحلة الشتاء والصيف تحتاح الى ايمان ومثابرة لذا صبرت على خمسةُ أعوامٍ متلاحقة جلست فيها لامتحانات الشهادة السودانية حتى يتسنى لى دخول الجامعةِ لدراسةِ الصحافةِ والإعلام، لم احصل الا فى المرة الخامسة على نتيجة تؤهلنى لادرس الاعلام كمنتسبة, والانتساب كان يعنى ان على تدبر سكنى ومصاريف الدراسة مع الحضور المنتظم للكلية.
    خمس سنواتٌ تأرجحتُ فيها بين منتهى اليأسِ بما يكفي لإزكاءِ جذوةَ الإصرارِ الخافتةِ، هاتفة في سري وجهري:
    - سأمشى هذا الدرب وأشق في تعرجاته نهراً يخصني.
    لكن اليأس ما يفتأ يقهقه بوجهي ملء الهزيمة، ويعطن سنواتً من عمري في خضمِ السراب!!
    وبإصرارٍ لا ينوء تحديته،
    فكلما استطعت إزاحة حجر يفرهد الأمل بروحي وتنبت وتربأ شجيرات ليمون بدربي ويفوح عبقها الندي.
    لا زلت أعرف أن الأريج الذي تنشره شجرة الليمون حولها طارد للبؤس واليأس!!
    فها إني قد عرفتُ أحد معاول هدمه, فطرتُ فرحاً وصرختُ بوجهه:
    - ستبكي كثيراً أيها اليأس المسموم المسنون فأرحل مزموماً مدحوراً بما تبقى لك من كبرياء!!
    لكنما لسعتني ثانية سخرية اليأس واعادتني أفتش عن عزيمتي لأنصبها بوجهه الكالح،
    وهكذا
    وهكذا.
    حتى خلصتُ إلى أمرٍ موداه أنه لولا اليأس لما تعارفتُ والإصرار،
    ولولا اليأس ما تسلقتُ صخور المعاناة وبللتها بدموع تنعش الجَلدَ فتعشوشب الحياة ولولا اليأس لماعرفت مرارة الكفاح الحلو ولا عرفت طعم عذوبة الانتصار.

    في العام الدراسى 1981-1982م والطريق أمامي يعج بالأشواكِ المدببة لا زال، وضعتُ نصب روحي أجتياز أمتحان الشهادة السودانية, وبينما تنهك مادتا الرياضيات والفيزياء رأسي أعي ولا اعتبر بأني لو مشيت وراء مقدرتي على الاستيعاب لكان الأمر أقل صعوبة مما أتخيل، كنت أحب اللغة العربية، تستوقفنى أحداث التاريخ التي عُلقت لسنوات طويلة دون أن إجابات شافية.
    ما كان يكفيني أن أكون الأولى على فصلي الدراسي لأنضم للمساق العلمي ولا هزتني رغبةُ أن أصبح -وفق السائد من الآمال المعلبة- طبيبة أو مهندسة, كانت رغبتي محددة في دراسة الصحافة الاعلام.
    ولكن سبق السيف العزل وتمّ توزيعي إلى المساق الذي لا أرغب أو ترغب بارتياد لجته سفن مقدراتي!!
    تلاطمتني أمواج الرياضيات, أحمل كراساتي وكتبي وأجلس أمام صديقة عمري (صِديقة تبيدي) لترفع "أس" أمنياتي و"تطرح" ثمارها أمامي، ثم يأتي "إدريس تبيدي" أبن أجمل من رأيت من النساء. إدريس (آنشتاين) نابغة فى الرياضيات والفيزياء, يفكك جزئيات ماء الأمل ويعيدها بمجرى النهر الذى أنهمر مترجرجاً أمامنا..
    كلما اقتربت أيامُ الامتحانات أصطكت روحي بزمهرير الخوف الذي يلفها,
    الخوف من الهزيمة والمستقبل,
    المستقبل الذي كنت أنتظره بكل دفق نبضي وصرخات عقلي، فيتوقف الزمن بسيطانه الملتهبة ليصليني بأسئلة الأحزان والإصرار..
    آه لكم أحب الجمر الذي يشع حين تنشدّ على أثر سطوته أشداق طبول التحدى,
    (يطرشق) الجلد المشدود ويعفر وجهي الرماد وأنا التي أحببت الرماد ونعومته منذ فجر كفاح النار الأولى.
    لابأس فهذه الجمرات تومض بداخلي وتحرقني باسئلة المعرفة التى لا ولم ولن تنتهي.
    كلما أقتربتِ الامتحاناتُ تلبسني الخوفُ وأصبح كظلي,
    لعبت عوامِلُ مختلفةٌ في زيادة توتري وأنا أناهد تعرجات الدرب لأصل بدايته.
    جلست للامتحان, قاومت الحمى والعرق الذى تصبب وزار السطور,
    فكرت فى أمتحان الإنشاء أن أكتب قصتي, قصة بنات مثلي يقاومن الظروف القاسية, كنت أشتاق حينها أن أكون مثل البنات النابهات وصورة (آمال عبد الرحمن) لا تفارقني فقد كانت قدوتي فى الاجتهاد والمثابرة وظلت تحرضني وآخريات وأخرين يحصون على أصابع الشجر الأخضر.
    إدريس كان قريباً مني يشجيني بسيرة المقاومة والانتصارات, يعرف مثل الاقربين والقريبات أن دربي لم ولن يكن سهلاً, كان سنداً صعُب عليّ نسيانه وسيظل محفوراً فى تاريخي وسيرتي,
    صديقة تحاول أن تزرع بذور الطمأنينة في حقول خوفي وتذكرني بأني قادرة على النجاح وتحصي عدد المرات التى كنت فيها الأولى بالصفوف الدراسية المتعاقبة.
    وجلسنا للامتحانات,
    كنت أعرف أن درجتي فى اللغة العربية والتاريخ والتربية الاسلامية ستكون عالية، وعلى يقين بأن الرياضيات ستكون العقبة وكذلك الفيزياء.
    وقد حدث ذلك,
    نجحت فى الشهادة بدرجة كان لها أن تحطمني تماماً, فهى أقلّ كثيراً جدًّا من المتوقع.
    بكيت يومها كثيراً في (زقاق) بيتنا, جلست على الأرضِ وودسست أصابعي فى الرماد ثم غسلتها بدموعي المنهمرة, شبت النار فى روحي, وأضاءت دموع أمي حليمة بين أصابعي وهي تعانقني وتناغمني ألا أبكي مهدهدة فيّ الأمل ليصحو:
    - بتنجحي يا بت حشاي, من يومك والعين صايباك..!!
    ما كنت أرغب في أن أكلف أبي ما لا يستطع وقد صار محمولاً بعد أن كبُرت الأسرة وصار لنا اختين واخيين من أبى. صادف ذلك مرة المجاعة التى ضربت السودان ورمت بظلالها على طول البلاد وعرضها ومرة أخرى السيول والامطار.
    كنت أعرف أن الحياة صارت اكثر قسوة وأمي حليمة لم تعد قادرة على العمل فقد أقعدتها الرطوبة.
    ومع ذلك سجلتُ بمدرسة أتحاد معلمي كوستي المسائية لأجلس للمرة الثانية لأمتحان الشهادة السودانية.
    كان عاماً ثرًّا, أزدادت فيه معارفي وأتسع أفقي لها وللفعاليات والنشاطات المدرسية,
    كنت لا أتوانى عن مراجعة دروسي وقدمت لي شقيقتي منى كل ما أمكنها من تبسيطٍ للرياضايات والفيزياء, ومدّ إدريس مجدداً رحمة لبه وأغرقني في جمائله رغم مغادرته كوستى لدراسة البيطرة بجامعة الخرطوم إلاّ أنه وفي كل زيارة لكوستي يحرص على حل أي معضلة تواجهني, نعم الرفيق..
    واجهتُ الخوف من الامتحانات ببعضٍ من ثباتٍ مُتفلتٍ, فما أن تقترب مواعيد الامتحانات حتى يتشجرّ اليأس حقولاً من شوكٍ بدربي, أسخرُ منه، أمدّ لجبروته لسان إصراري.
    ومرة أخرى يهزمني، أهزمه، يهزمني.
    والنتيجة بالكاد تؤهلني لدراسة معهد متوسط..!!
    أحبطت جارتنا التى كانت تعول كثيراً على اجتهادي في تحفيز بناتها، هكذا قالت العيون التي حولي. يبدو لى ان حالة الخوف من الامتحانات من مرحلة الى مرحلة اصابتنى منذ المرحلة الابتدائية, فقد صادفت هزة مررت بها حين تغيرت طبيعة حياتنا وللابد. حدثت فى نقلتى من الاولية الى المتوسطة, كان فى الوقت الذى تزوج فيه أبى وراحت امى فى متاهة حزنها الازلى.

    قلت ساجرب للمرة الثالثة لم أقف أمام أبي هذه المرة, ولم أقل له بأني أريد أن أعيد للعام واجرب حظى. بدأت أذاكر قبل بدء العام, أنفش طاؤوس عزيمتي وأفرد جناح الإرادة، وعملتُ أيضاً لفترة مؤقتة بمجلس بلدية كوستي لعلي أرفع عن كاهل أبي مسئولية أن يدبر مصاريف الإعادة، أما شقيقتي منى والتي تجلس للمرة الثانية للامتحان والمبرزة فى الرياضيات والفيزياء فإنها كانت تسهر معي الليل لشرح كيف يتم رفع الزوايا المستقيمة لتكون أكثر حدة فأجابه بها وحوش الإحباط والهزائم التي ما تفتأ تتكاثر روحها في أخمص أحلامي, فتتسع فلجة الروح, يدخلني هواءٌ منعش تخالطه رائحة المطر والطين, ألمح يد رفيق طفولتي متعباً يعود ومتسخ الملابس، مطهرة روحه في بحثها الدائم عن سكينة, كان يحب المدرسة مثلي لكنها الاقدار, والظروف القاهرة التى أقعدت حنان, التنه والشول من طرق بوابة العلم الشامخة. لكنهن غرسن بروحي الإرادة وكن فرسات جامحات وهنّ يمهدن معى الطريق بطاقات الصبر العنيد.
    أفتح عينيّ بإتساع الحلم واقرأ.
    اقرأ والهث راكضة فى ميادين الفرح المنتظر.
    كلما أنهكني العطش أبتلت عروق روحي من (تبلدية) الأماني فأرتوي مُعِدةً نفسي لعطش جديد,
    العطش والمعرفة صنوان وأنا أبنتهما التى تعلمت على يديهما التمرد والثورة, ثائرة أبداً وممتلئة بالغضب تماماً كما تسكنني الأحلام فألبسها خاتماً للمنى..
    كنت بالمقابل أشرح لمنى البلاغة والقواعد, بالكاد يستمر شرحي ساعة واحدة ويبدأ تثاؤبها وتتسع عيناي لقهوة المعرفة وأتذوق بمتعة درس الكناية وأجتهادي فى الإعراب.
    جدي يناديني, أسمي يبدو معوجاً وهو ينطقه, بقدرة قادر قلب القاف كافاً, يطلب مني أن أطفيء النور, أحتجّ بأني ما زلت أذاكر..
    أنام والخوف ينصب شوكه بطانية أتدثر بها ليالي الشتاء وهزيع الروح, الخوف من الغد والهزيمة ودبارة الأحزان التي كانت ملتفة حول رقابنا...
    تقترب مواعيد الامتحانات فأدفع الرسوم التي دبرتها من بيعي (الزلابية) التي كنت أرميها صباحاً على نار المقاومة, وكانت جارتنا التي تعمل فى السوق الصغير وتجاور دكان أمي حليمة تساعدني في ذلك، فتدلف علينا مُصبِحةً كهبة النسيم, كل ذلك وأمي تعاني من الصداع النصفي وترقد أمامي فلا يغادر الدمع عينيّ فيما نجوى تنتحب وهي تمسك برأس أمي, بينما تنتزع منى كعادتها الضحك من بين براثن أقسى لحظات تعاستنا,
    - انتو بتبكوا ليه, هى ماتت اصلو؟
    حاجة حواء كانت اليد الحنينة التى أمتدت إلينا فى زمن قاهر حاول هزيمتنا فقلنا له بعالي الصوت: لا...
    وجلست للمرة الثالثة وكانت النتيجة 61% فتدفق فرحي العظيم بها، ها إني أخطو باتجاه النجاح أخيراً. أخبروني بأنها نتيجة لن تؤهلني لدخول كلية الإعلام لكنها تمكنني من دراسته بمعهد الدراسات الإضافية الذي لم يكن حينها معترفاً به، لكن إصراري كان كبيراً على كلية الاعلام, قلت لأبي عن رغبة بديلة وهي أن أدرس المسرح فقد جرت هواية التمثيل في عروقي منذ المدرسة المتوسطة, أهوى الغناء وأصدح بأغنيات "عشة الفلاتية", لكنما جاء أعتراض أبي مبنياً على أنها دراسة –مابتجيب قروش- أو على حد قوله.
    مرة أخرى تغلق الأبواب في وجهي وأقف عاجزة تطحن رأسي الهموم وتتحجر الدموع بين دفات قلبي ويغرز الحزن أظافره في خديّ أيامي، عل كل ذلك يمنحني إرادة الإمساك بالقلم بتصميم أكبر مقبلا.
    سالتني (منى) عما سأفعل، وكانت قد تحصلت على نسبة تؤهلها لدراسة كلية التربية بجامعة جوبا لكنما صادف نجاحها إغلاق الجامعة إلى أجل غير مسمى, قلت لها سأمتحن للمرة الرابعة ولا أريد أن يعرف بذلك أحد, أريد أن يتفاجأ الأهل بنجاحي وكسري لأحد أطواق المستحيلات.
    وعدتني منى أن تساعدني في دفع المصاريف لأنها تعمل محاسبة في مصنع سكر كنانة, فأضحت بذلك الأمل الذى أنعش روحي عامئيذ.
    وفي ذات الآوان زارتنا جدتى بلالة وهي شقيقة أمي/جدتي حليمة وتصغرها بعامين وتزورها فى العام مرة أو مرتين. حكيت مع أمي حليمة عن رغبتي فى الأمتحان من منازلهم ولكن هذه المرة من مدني حيث تسكن شقيقتها وأبن شقيقها (عم محجوب) والذي درس التمريض بكوستي حيث كنت حينها صغيرة أدرس المرحلة الابتدائية وأخبره برغبتي في أن أصبح مثله, وقد رأيت عبر زياراتي لمدني بأنه ناجحاً فى عمله, وبقي كما كان طيباً متسامحاً مع الناس وخدوماً. كان مثالاً اقتدي به فى الإصرار والعزيمة وهو الذي ما انفك يجتهد ليحسن باستمرار وضعه العلمي والعملي. صورة جارنا العم عمر خميس لاتفارقنى فقد كان مثابرا فى عمله فى المراكز الصحية فى كوستى، تعلم الانجليزية بنفسه الى ان اتقنها. كان مثلا امامى لاحتذى طريقة.
    وسافرت مع حبوبتي بلالة لأقوم بإجراءات التسجيل للامتحان من منازلهم ومن ثم عدت إلى كوستي وأنكببت على القراءة عسى ولعل أن ينفك النحس الذى لم يفارقني لوهلة.
    كنت أستفيد من أي وقت أجده فى المذاكرة واقفة بجلدٍ على ما يطرأ في حياتنا من شلالات أحزان فقد تعلمت مع مجالداتي والأيام أن أواجهها وتقلباتها بالإصرار الغريب والعزيمة التي لا تنوء, وقد عودت نفسي على تعبئتها كلما ترقرق الدمع في عينيّ بالثرثرة إلى الجدار حينما ترقد الدنيا في أحضان الليل وتبدأ رحلة الاسئلة والأشجان, فأسمع صوت الجدار وهو يسقط جراء الأنين أو المطر لا أدري, لكني لن أكون مثلك أيها الجدار, أقول ذلك بخوف وحذر أن تنهار أحلامي كما بيوت المفقريين أمثالنا في الخريف.
    رغم أحساس العجز الذى يملؤني الاّ أن عيني أمي بكل انكساراتمها كانت كالشظايا بالمرآة التي علي المثابرة بكل ما أوتيت من محبة في أن ألملمها, حتى وإن جرحتني أو أدمت قلبي قبل أصابعي, أرى وجهي يتمدد في تعرجات غريبة, أنفي ليس هو ولا عيناي بمكانهما ولا شفتايّ, أقبع في كون أني كالشجرة التي تفتش عن ظلها.
    طفقت حالتي تتأرجح بين الأمل واليأس, وغالباً ما ينتصر الأمل ممثلاً ذلك في أني ما زلت أدب بين ظهراني هذه الأرض، وأن هناك متسعاً للأحلام الساكنة أدغال أيامي.
    الأمل الذى أتاح لي أن أراني كاملة فى مرايا عيني أمي, تنهض انكساراتها, تزغرد الفرحة فى عيني, أغني وادي الغلابة مع أم بلينا السنوسي التي كانت جارتنا الشاهقة الضحكة تحب أغانيها:
    (السحاب من وادي وادي تلقى شال أفراحنا طافها, يسعد الناس التعابة بكرة يا وادي الغلابة)
    وتبقى (بكرة يسعد الناس التعابة) كالنواقيس المعلقة بين أوتار روحي تأخذها بقوة من براثن التلاشي كلما أرخت خيول أحلامي حوافر صهيلها.
    نوال أبو إدريس إحدى الغيمات التى تروي وادي الغلابة والتي حفزتني على الوقوف أمام طالبات الصف السادس لتدريسهن مادة اللغة العربية أثناء غيابها الإضطراري, كستني الفرحة ونوال تتيح لي فرصة أن أقول ما أعرف لبنات لابد أن تلامس أحلامهن الفضفاضة هواء الأمل المزركش في عيني، الألوان التي تغطي على انتفاخاتها كجثة بقيت أياماً في البحر.
    امتدت تلك التجربة ثلاثة أسابيع، وحفزتني أسئلة البنات والتفافهن حولي واقتسامنا للفقر الذى تم تقسيمه على أريافنا ومدننا القابعة أبداً على الهامش في كل شيء إلاه, وسلحتني بالإرادة وبأن انهيارى سيقود إلى إشعال (قش) أحلام البنات الصغيرات. فبقيت أحجيهن بالمعرفة وأحلب أثداء تجاريبى.
    ثلاثة اسابيع محملة بالكتب وكراسات البنات للمراجعة وتصحيح الواجبات وأحمل أيضاً (جردل) بداخله سندوتشات (فول وطعمية) وورقة تفصل بينهما و (الزلابية).
    طمأنت (الامهات) اللآتي يعملن في المدرسة كفراشات وبائعات للفطور بأني لن أنافسهن فى أرزاقهن, لكنما طمأنتني خالتي نورا التي كانت تعمل عاملة وهي إحدى أمهاتي الجميلات والتي منّ الله عليها بأبنة واحدة ويفصل بيننا حائط متهالك. طمأنتني وهي تكسيني مثلها بثوب اليقين:
    - يابتى الارزاق بيد ربنا.
    فمضيتُ لأجلس على شباك ذات الفصل الذى كنت أقف داخله مانحة للبنات دروباً للمعرفة فيلتففن حولي يتخطفن السندوتشات والزلابية, كنت اكتفي بما يقدمنه من (قريشات) قد لا تكفي في كثير من الأحيان تكلفة إعداد ما بعته عليهن، لكنهن بذلك ساهمن أكثر فى ترسيخ إيماني بقيمة العمل.

    تتواثبُ الايامُ, ثلاثةُ أشهرٍ تبقت وأجلس للمرة الرابعة لامتحان الشهادة السودانية وكان لزاماً عليّ أن أسافر هذه المرة الى مدني وأهيء نفسي للأمتحانات.
    مدني تعد إحدى المدن التي تركت بصماتها في حياتي منذ الصغر حيث رافقت طيلة سنوات طفولتي أمي حليمة لزيارة شقيقتها بلالة فى ود كنان. لم يكن لأبي أخوات أو أخوان فقد كان وحيد أمه وأبيه. حبوبتي بلالة ظلت الحضن الدافيء الذى يحتوينا كلما أتيناهم وهي تحب أمي وتسمعها بحنان بالغ لقربها الروحي منها وقد سندتها حين أختار أبي زوجة ثانية. وقد كنت أحس مدني زمانيئذ بعيدة جدًا وأمدّ رأسي الصغير خلال نافذة القطار وأشرد مع غزلان الوداع وأرانب اللقاء ومع ملامح الناس القادمة والمودعة التي تأسرني، تنقبض أسارير وجهي كوديعة حبيبة فى يد الأمهات وتنفرّ كالأمل الذي ظل يملؤني صهيل حصانه الشرس ضد اليأس..
    كنت ومازلت أعي ضرورة دحر اليأس في مرحلة من مراحل الحياة, ولكنه كان كريماً, يجد أبوابي المفتوحة شراعات لسفن الأمل و (ينحشر) دونما انتباه ليتوهط ويخلق سيرة الكفاح الطويل والمرير.
    عمي محجوب يشدّ من أزري بسرده تجربته في دراسة التمريض ومن ثمّ المعامل بصبر ومثابرة مؤكداً أن النجاح سيأتي ويطرق أبوابي, ومثله كان عمي يوسف, أخذ من أمه –جدتى- بلالة كل جمالها المُشرق لا يفتأ يحفزني ويؤكد أن الغد سيكون أجمل لاني مجتهدة ولكل مجتهد نصيب, لم أخبره بأن نصيبي من الأحزان أكثر لكني لم أستسلم بعد, فالإصرار على الإنجاز أضحى بهار حياتي الحادق والحارق في ذات الروح..
    اليأس كان يسيطر عليّ خاصة حين تأتي الأخبار وتفيد عن مرض أمي التي لم يبرح رأسها الصداع النصفي الذي ترقد على إثره أيام وليال في شبه غيبوبة, أنكفيء على جدار قاس مُغلقة كل نوافذ الامل فيه..
    أنعش رئتي بخورُ أمي العدني وهي تحكي لي عن ما قالته (حكيمةالظار).
    كنت أسمعها, وأجلس تحت قدميها لتبخرني وأشدو لها فيما قناعتي صفر كبير عن اعتقادها بأنهم تجاوزوها إلى عيالها, وأن ما يحدث معي من ارتباك في الأمتحانات هم من تسببوا فيه -عليهم اللعنة- قلت في سري ومازحتها:
    - طيب لو هم صحي بيحلوا العُقد خليهم يجوا يقروا معاي الفيزياء.
    أمي حليمة توجهني بحنان أن لا أسخر من (عيال ماما اى الظار)
    سرت حُمى الذاكرةِ فى أطراف أصابعي وأنا أسحب الملاءة على جسدي الهلكان بسبب الملاريا والتايفود والأحلام العصية. سرت حرارة في أصابعي وصوت طبل الزّار يدوي فى ليلي ذاك..
    - بتكونى مزيورة..وتعنى بان هناك ارواحا تتلبسنى.
    هكذا طفقت جارتنا وهي تنصحني أن أكف عن (القراية أم دق) وأكملت:
    - يابتى شوفي ليك سعداً ينفعك وتشوفي جناك قُبال زمانك يفوت وغنايك يموت..!!
    - لن يموت غناء الأمل..!!
    قُلتُ في سِّري وتدثرت عليها لأطرد البرد عن روحي وتوغلت في الثبات وصوت أمي حليمة يلفني بعزيمة مُضافة..
    - قرايتها بتنفعها, العرس ملحوق.
    كذا كان قول أبي أيضاً لولا هموم المعيشة التي تراكمت عليه وظلّ يشتاق أن أنجح وأعمل وأساعده في تحمل هذه الحياة.
    هي الأيام تمضي وشبح الامتحانات يطلّ فيرعب عقلي أن أتحصل على نسبة لا تؤهلني لدراسة هذا الإعلام المتنائي عني.
    تعرفتُ عن طريق صديقة على أسرة عم الشريف فى إشلاق بوليس مدني, فقد أخبرتني عن صبري الشريف وعن أسرته حكايا تشجي الروح وتهديء من روعها فيما الدنيا كدأبها تؤرجحني بين الهزيمة والانتصار فربطتني صلة قوية بعم الشريف الذي كان إنساناً مثقفاً واسع الأفق, وكثيراً ما جلست إلى جواره وهو يستمع إليّ باهتمام مثلما يفعل مع أي شخص يحادثه.
    وكنت بالمثل أستمع إلى حكاياته ورؤاه وعصارة حكمته في شتى الأمور، فهو أب لأسرة مدهشة في تعاونها ومحبتها للناس, أدهشني تعامله معهم بحنية وندية قلّ ما نجدها، أخبرته يوماً بأني كنت قد عشقت ذات زمان عسكري وسيم الطلعة بهي الخاطر لكن فرقت بيننا المظاهرات فقد كنت ضمن من رددن الهتاف:
    - يا بوليس ماهيتك كم ورطل السكر بقى بي كم؟
    حيث كان يومها ضمن فريق تفريق مظاهرات ومايسمونه أعمال الشغب ، وقد أخبرت عم الشريف بذلك، لكني لم استطع أن أخفي انتشاء قلبي لهذه الذاكرة، فخرجت:
    - كان طيبا ووسيما!!
    فانكفئ يضحك بصوتٍ عالٍ ويردد:
    - يا بت يا عفريته..
    تلك الأيام في حنايا ذلك البيت الفسيح بأهله وجمال صاحبته التي ظلت تلتقيني بالأحضان المفرهدة وبمثلها تودعني, تماماً كما تفعل كل الأمهات,
    فيما يبدو أن أمي قد (أنشر) حنانها تجاهي في رحم كل أم التقيها فكانت عائشة امى التى احتوتنى بحنان بالغ. سبانا صغيرة الأسرة والتي كانت تترك لي (عنقريبها) لأنام عليه, أما سحر الجميلة الرقيقة التى رحلت سريعاً عن الدنيا وهي ما زالت طالبة بالجامعة فقد كانت البهاء الذي يسطع في عيون هذه الأسرة وبرحيلها رحلت دنيا مفرحة كانت تضجّ في أركان هذا البيت الحميم.
    مدرسة مدني الثانوية بنات حيث جلست للامتحان أقرب إلى الإشلاق فيرافقني صبري الذي أضحى بمثابة شقيقي إلى المدرسة وينتظرني مُترقباً عبر تفاصيل وجهي وانفعالاته كيف أبليت بالامتحان، يأتي فارِداً قشيب الخلاص والدنيا تضيق رويداً رويدا بالعسكر والحرامية, وفي يوم الأمتحان الأخير أتى وقد دس في شنطته كالعادة جريدة الميدان ولسوء الحظ فقد امتطينا يومها عربة للمواصلات العامة لنصل إلى مستشفى مدني ومن هناك نكمل سيراً على الأقدام حتى البيت. ولا أعلم كيف تصرف وأخفى ما يحمل أثناء التفتيش, كنت متيقنه أن إلقاء القبض علينا سيكون مصيرنا في هذا اليوم ولكنا نجونا باعجوبة خاصة ان صبرى وبعض افراد الاسرة كانوا تحت المراقبة. بعد الامتحانات رافقنى صبرى فى زيارتى لصديقتى عبلة الناير بمدينة الحوش، كانت عوالم والفة وكأنى اعرف اسرة عبلة ومدينتها منذ زمن بعيد.
    رجعتُ إلى كوستي بعد نهاية الأمتحانات مباشرة علنى أجد عملاً في أي مؤسسة حتى تمر الأيام الثقيلة في انتظار النتيجة التي أعرف سلفاً بأنها النجاح لكني لم أكن متأكدة أن كان سيدخلني الكلية التي أرغب لهذا جاء تمهيدي وأنا أحكي مع منى شقيقتي بأني سأعيد للمرة الخامسة والأخيرة. لكن منى طفقت تحرضني على الضحك وهى تعلق:
    - أنتي أدمنتي القراية، الله يكون فى عونك.. الادمان قاتل.
    هذا وقد حدث أن جلست للمرة الخامسة على التوالي لامتحانات الشهادة السودانية, حدث أن أدمنت فعلاً قصة الأمتحانات وحفظتها عن ظهر عزيمة. ولا أنكر أن اليأس أخذ مني كل طاقات مقاومتي التي توالدت من سنوات المعاناة التي أصبحت أهم ملمح من ملامح حياتي بل وبهارها وملحها ودموعها.. فأذكر:
    - اها من وين يا تاكسي الغرام.
    ولسان حالي يحورها ويدندن:
    - على ووين يا تاكسي الامتحانات.
    جلست يومها في زقاق بيتنا, خلف الغرفة التى كنا ننام فيها, لامست أصابعي الرماد، كان هامدا وناصع البياض لا روح فيه، عطنتُ يدي غريقاً فيه, أغمضت عينيّ وسلمت روحي لمفاتيح الرجاء لأهزم اليأس هذه المرة, ثمة لذعة على إبهام الغد, كانت جمرات الصمود التي شعت تحت رماد هزائمي, نهضت وعيناي تشرقان بالغناء وتعلو حنجرتي مع إبراهيم عوض:
    - ياسلام ... الدنيا منى وأحلام.
    وبدأت للمرة الخامسة
    - الحب موجود فى الدنيا من ماضي دهور.
    وهو الحب الذي يدفعني لتجرع كؤوس الصبر, ذهبتُ يومها إلى بيت خالتيّ آمنة, أمام خديجة -بنت خالتي التي علمتنى ضمن من علمونى الصمود- صينية تضع عليها أشكال الكعك الذي خبزته ترافقها أحزانها وشجونها وهي تصمد صمود الجبال لتربية بنات أبنة خالتنا فاطمة, وزهراء التي بعدها قد انطفأت زهور الجهنمية في حياتنا برحيلها ففاحت بالصغيرات رباب ورحاب ورود روحها لتستمر مسيرة الكفاح والدموع والشجن.
    ساعدتها قليلاً بغسل الصحون وبدأنا نغني, كان صوتها عذباً, ينهض من كل الإنكسارات كأندى الأنهار في الدنيا, تعشق المغنى إبراهيم عوض والجابري ومعها حفظت فى ذلك الزمان كل أغانيهم وحفظت هي معي أغاني عثمان حسين, واقترحتُ أن نسجل ما نغني على مسجل أرسله مؤمن أبن خالتي ويمثل حصاد هجرته إلى ليبيا التي كنت أحس بأنها أبعد دولة في العالم.
    وبدأنا نغني, أقبل الفجر بعد أن نثرت عشة الفلاتية ومنى الخير أصواتهن على فيافى ليلنا ومن ثم تناولنا وجبتنا البسيطة (السخينة) برضاء تام ولملمت أطراف شجني عائدة إلى بيتنا يحاصرني الفضاء, فسيغرد الفجر مثلما غنى عثمان حسين..
    وبدأت, قررت أن أمتحن في ذات المساق العلمى وأن أبهر الفيزياء والكيمياء بالجغرافيا, كان القرار الذى أعلنت به عشقي للأمكنة, الأشجار, الأنهار, البحار, المحيطات, الغابات, الطيور والمناخات الإنسانية الممتدة.
    وتاكسي غرام الأمتحانات ذهب بي هذه المرة إلى مدرسة الخرطوم القديمة, في شارع خمسة وعشرين بالعمارات

    رابحة حماد التى غادرت الدنيا سريعا ومبكرة، كانت سندي حين عزّ السند قدمت لي وشقيقتها حواء فرصة الجلوس للأمتحان من مدرسة الخرطوم بشارع 25 وأن نسكن معها بغرفتها بداخلية طالبات معهد الموسيقى والمسرح. عفاف فضل المولى بنت الشاتي علي أحمد جارتنا الجميلة كنا نتنافس على النجاح ونجحت هي ولم أوفق أفسحت لي مجالاً بجوارها, فلكل تجربة همومها وهمي كان كبيرا.
    لم أكن حينها قد بدأت مذاكرة الجغرافيا, فقد كان الزمان يناير والدنيا مقلوبة على ظهر دبابة تلوح في الافق. تلك الطالبة التي تنتمي أيضاً إلى كوستي تطلب مني أن أتيها لنتناول معا الطعام على الرغم أن ميولنا السياسية حينها كانت على حدي نقيض إلاّ أن صفاء كان فعلاً صفاء, حتى في ذلك اليوم الثامن عشر من يناير, ذلك اليوم المشؤوم الذى اُعدم فيه الأستاذ محمود محمد طه, حيث لبست (فردة) أمي حليمة البيضاء التي منحتني إياها, وتركت شعري الآفرو كما هو أغبشاً ومُغبراً كحال البلاد زمانئيذ.
    سيراً على الأقدام من حى (الخرطوم تلاتة) وحتى مدخل مدينة بحري حيث وقف العساكر صفاً صفاً فى محاولة لدحر أحلامنا ويسطون عليها رغم انى كنت اراهم مثلنا فى الامنيات والاحلام وكان لابد ان يقومون بواجبهم، هكذا كنت احاول ان اجد لهم العذر. لم استطع النوم ليلتها فحشرة الانوفلس كانت أرحم كثيراً من طنين الإذاعة، شىء ما يلوح فى الافق, (هذا او الطوفان) وكان طوفان ابتسامة الشهيد محمود محمد طه تغمر الحشود باحلام التغيير, كانت الدنيا قيامة ضد القهر والكبت والظلم.
    ابتسامة كانت الضوء فى تلك الداخلية التى فسحت لى فيها طالبات معهد الكليات التكنولوجية مطرحا فى قلوبهن, بنات قالن لى ان التضامن يبدأ من القلب وينتهى به فى المدى البعيد. انصاف خلف الله التى كانت تدرس النسيج وتنسج كل يوم لى املا كبيرا من عطبرة حيث انطلقت للعالم والى كوستى, وحنان تاج السر الصافى, كانت فعلا حنان واقتسمنا الاسرة والملابس والخبز ومن قبل الفكرة والحلم.
    كانن لى المأوى والملاذ.
    بعدها واصلت أقاوم فيّ الانكسار ومعايشة همومي فى حديها العام والخاص, كنت أنام على أمنية واحدة وهي أني سأنجح هذا العام وأدخل الجامعة وأدرس التخصص الذى أريد.
    قرابة الامتحانات سكنت وحواء مع رابحة شقيقتها ونهر الحنان الدفاق, أحتوتني ولملمت جراحاتي وحكايات قلبي الذي كان يقاوم شيخوخته وأحلامي بعزّ صباها. كانت أيام شجية مارست فيها وحواء الكثير من الشقاوة وضحكنا كثيراً. بنات الداخلية لم يبخلن علينا بغرفهن, كانت أكثر الغرف التي أنام فيها عميقاً لبنتين جميلتين كنّ زمانئيذ في صهوة عشقهن يغنين, نعمات هارون عليها رحمة الله وخالدة الجنيد ذات الشامة الصادحة في ذاكرتي. تحلو لنا الحكايات في غرفتيهن, يصحو شوقي في أن هذا المعهد هو مكاني الطبيعي.
    سيد الخضار, الوليد القادم من تمبول منحنا الأمان وكان يعرف أن أستدنت منه الطماطم بأنه ربما لن يستردها لأني لا أملك مالاً وهذا كل ما في الأمر.
    بدأت الامتحانات, وكنت سعيدة بأدائي هذه المرة, جو الداخلية وحرص الجزء الآخر منها الذي تسكنه طالبات معهد الأشعة وتلك البنت الريفية التي كانت تنكب على الكتب وتلتهمها كدجاجة قضيت عليها وحواء ذات غضبة صبية من حبيبها, بعيون مترعة بالدموع وضعت تلك الدجاجة في الثلاجة فكنت تلك القطة التى وهن مواءها وصبرت طويلاً وتعبت حتى نالت يوماً حظها, دجاجة كاملة قضينا على نصفها وتركنا باقى العظام لتنعم به القطط (الفقرانة) مثلي. حين أنزاحت سحابة الكدر عن وجه البينة الجميلة كانت الفرخة فى خبر كان.
    قبل نهاية الامتحانات أشتعلت الانتفاضة, وكنت على يقين بأن نجاح الانتفاضة سيكون نجاحي أنا أبنة الثورات والتمرد والتحديات الجسورة التي صنعها معي بشر جميل وبنوها معي طوبة طوبة, ليس ابتدءً بالولد بائع الخضار, أو مروراً بطالبات معهد الموسيقى والمسرح, ولا عبوراً بتلك البنية التي قمت (باستلاف سفنجتها) لأجلس لآخر امتحان بعد أن ضاعت في المظاهرت حذائي المعروف (بتموت تخلي) الذي يعرف دروبي ومعاناتي. لم يزعجني تعليق بنت المدينة التى يبدو عليها الثراء بأن مكان (السفنجة) البيت والحمام, ضحكت في سري وواتتني لحظتها رغبة أن أقول لها بأنها ليست لي وإنما استلفتها ذات ضياع حذاء لن تعرف أسمه ولا أصله أو فصله.
    حذائي الحنين الذي ضاع في المظاهرات، وأقدامي التي تورمت يومها وانتفخت بفعل الركض، وأشواك الأماني أدمتها فأزهرت في شوارع الروح عن صباح شجر النيم الذى شكى للنهر حزنه على فروعه التى قصتها غبائن الناس من نظام كتم على أرواحهم زمانئيذ.
    أم الحسن تنشد ومطارقها أخاديد لحكايات النساء وحنينهن, أصرت يومها أن تشتري لي بديلاً فقلب الأم يعرف ويحس وكانت في كوكبة أجمل الأمهات وهى تهتف لأجل الحرية ولأجل أن يكون لنا نحن بناتها صباح مغاير نرسم فيه خطط مستقبلنا وتركض فيه فرسات أحلامنا.
    فى كل يوم تنضم مجموعات جديدة وكانن بعض طالبات معهد الموسيقى والمسرح يبادرن بالهتاف وحين نعود الى الداخلية مساء نلتف حول بعضنا نتابع الاخبار, فعلناها منذ تناهى الى سمعنا ان عطبرة واتحاد عمالها على فوهة الهتاف. شىئ ما يضىء فى البعيد. ذادت رقعة الضوء بخروج طلاب جامعة ام درمان الاسلامية كاول مظاهرة تخرج من الجامعات السودانية. كانت تحدث مشادات بيننا وبين بعض المنتميات الى الاتجاة الاسلامى واللآتى اصطفن للخروج فيما سموه (موكب الردع) فى الثانى من ابريل فردعتهم قوى الجماهير, الشوارع التى لاتخون, الهتافات العالية حرية.. حرية.. حرية. لم يخفينا اعتقال 13 من اتحاد طلاب جامعة الخرطوم. الطوفان يقترب واطباء مستشفيات الخرطوم يعلنون الاضراب ويوما وراء يوم تكبر الدائرة, دائرة الوطن الذى حلمت به الجموع الغفيره, وباعلان الاضراب السياسى تيقن لى ان الانتفاضة تلوح فى الافق، ولم تأتى من فراغ مثلما كنت متيقنه بانى فى هذا العام سوف انتصر وسوف يكون النجاح حليفى، وياله من نجاح ارتبط بالانتفاضة وبصبر دؤؤب هو بعض من مثابرة الشعب السودانى هادرا فى الشوارع لاجل الحرية, الخبز والسلام منتفضا ومنتصرا.
    كنت على يقين أن حصاد كل هذه السنوات سيكون مخضراً هذا العام,
    وقد كان، تحصلت على نتيجة موفقة بحمد الله (71%) وبدأت رحلة الأحلام من نطفة المعرفة الأولى.
    بدأت حكاية كفاح جديد وتمرد وعصيان. هدرت تلك الثورة النارية التى كلما خمدت هب فينيق روحي لتنهض فرسة تمخر عباب صحراء الحياة وتصهلّ رمال انتصارها على القنوط وكانت سنةاولى معرفة، كانت سنة اولى مدرسة.

                  

10-29-2015, 06:06 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اشراقة مصطفي تكتب عن اسرتي لها التحية (Re: Ishraga Mustafa)

    سلام يا صبري
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de