دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
في ذكرى الأم الثانية
|
03:48 AM Nov, 11 2015 سودانيز اون لاين عبدالله الشقليني- مكتبتى رابط مختصر
في ذكرى الأم الثانية
أُسائِلُ عَنكِ بَعدَكِ كُلَّ مَجدٍ ... وَما عَهدي بِمَجدٍ عَنكِ خالي يَمُرُّ بِقَبرِكِ العافي فَيَبكي ... وَيَشغَلُهُ البُكاءُ عَنِ السُؤالِ
المتنبي
(1)
كان رحيلها يوم الجمعة 3/5/2013 . متى تأتِ الدُنيا بمثلها ، لنُعيد السيّرة التي لا تتكرر، فلا الدمع يُخفى غلبة الأشجان ، ولا الليل صاحبٌ يعرف المُدام ليسكُبه. وما أنجُم الحزن إلا لآلئ من عميق شطآنِ يُبحر إليها الطالب المتوجِّع . يعجز المرء عند هبوط الأحلام إلى منامها الأخير أن ينسى أمّنا الثانية . و يستحيل لتلك النبتة الفوّاحة الروائح ، أن ننسى أريجها . تطوف على مراقدنا نفثٌ من الطيب الذي اخضرّ عوده بيننا وأزدهى. هي آخر منْ بقي من ريح الوالد الثاني الخال "إسماعيل " . بسيرتهما يبدأ الحديث وعندها يكون المنتهى . فَرِحة تقابلني الأم الثانية " سعاد " عندما كنتُ في عنفوان طفولتي ، أقضي أيامي بين الأسرة الثانية أيام العطلات السنوية . وكنت أصغر القاطنين.
تحت فرندة بيت السكة حديد ، وهو من أوائل منازل الموظفين المتراصفة ، في حي السكة حديد بالخرطوم ، تقف ماكينة غسيل الملابس ، بشكلها الغريب . كنتُ أول مرة أتعرف على آلة تعمل ما يعمله الإنسان في كل بيت ، وتؤدى تلك التكنولوجيا ، جزءاً من ترِكة الدار الفسيحة من الخدمات . تكتفي سيدة الدار الحاجة " بنت المنا " بأعمال المطبخ ، و" سعاد " أو الأم الصغرى لعمل بقية ما يتطلب الدار من أعمال صغيرة وكبيرة ، يستغلق عليّ فهمها ، فطفولتي خالية من المسئوليات. هي لها أشقاء من الذكور، وهي وحدها بلا أخت شقيقة.
يوجد في الدار ،في صالة المعيشة الرئيسة راديو ضخم، من الطراز الذي يأخذ وقتاً طويلاً منذ تشغيله إلى أن يصدر صوتاً . كان المذياع يتصدر الحداثة تلك الأيام . خلال يومين من الأسبوع ، يأتي العم " مزّمل " يتعهد الحديقة بالرعاية ، وقص النجيل والشجيرات والأشجار ، والنباتات الزاحفة من أرض الحديقة إلى أعلى سور الدار وهي تُطل على الطريق الرئيس .إن خرجت أنت من عند الدار الذي تفتح بوابته جنوباً ، قليلاً إلى يسارك ، تستقبل أنت الطريق أمامك ،ويقودك ستمائة وخمسين متراً سيراً على الأقدام ، فتصل " حديقة عبود ". في أواخر الخمسينات ، لم يتغير اسم الحديقة بعد ، حتى جاءت ثورة أكتوبر لاحقاً ، فصار اسمها " حديقة القرشي " .
(2)
كان البيت هو شاغل طفولتي ، ويشاركني اللعب " حيدر " شقيق " سعاد " الأصغر ، وكان يكبرني بخمس أو ست سنوات. هناك أقضي أيام العطلات في منزل خالي " رب الدار ". باحة متوسطة المساحة غرب البيت ، تصلح للعب بالكرة البلاستيكية ، أقضي بها جلّ نهاري، وشمس الضحى تصحو و تتفرّج. وشرق الملعب الحديقة الكُبرى التي تنتهي إلى دورة المياه للأضياف ، وغيرها حمامات ومغاسل داخل البيت . نظام المجاري في الخرطوم كان نظاماً صاحب كفاءة وفق الكثافة السكانية ، وكانت محطة معالجة المجاري في الخرطوم تقع قرب " مدينة الشجرة " ، وكانت هي منتهى امتداد جنوب الخرطوم ، ومنها تذهب المياه المُعالجة لسقاية " غابة الخرطوم" ، التي تم إنشاءها لوقاية العاصمة وتجميل وتنقية البيئة بأوكسيجين الخضرة نهاراً . دورة نشاط بيئي بامتياز .
(3)
في الستينات درست الأم الثانية " سعاد " دبلوم السكرتارية التنفيذية بمعهد الكليات التكنولوجية. وهو المعهد الذي أنشأته المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم، ليكون نموذجاً متقدماً لتأهيل العاملين والعاملات وتدريبهم ليتقلدوا الوظائف الوسيطة والكبرى، في درجة مساعدي المهندسين والإداريين ، وعليه نشأ النظام الإداري الإنكليزي الذي تكيّف مع البلاد وطقسها الحار، فتواءم التعليم مع الحاجة ، مع نظرة مُبصرة للتقدم والتطور .كان التأهيل باللغتين الإنكليزية والعربية للسكرتارية التنفيذية . عمِلت هيّ في مؤسسات إدارية عريقة، وخلال تجويدها الوظيفي، أصبحت السكرتيرة التنفيذية لرئاسة المؤسسة العسكرية الاقتصادية بالدولة السودانية في سبعينات القرن الماضي . (4) من بعد كل عطلة أقضيها في طفولتي في حي السكة حديد في الخرطوم، أعود حزينا بعد الثلاثة أشهر التي أقضيها هناك . تعود بي سيارة خالي الخاصة " الفيات " ، ذات اللون الأبيض البيج . كانت الفروق بين أم درمان والخرطوم، هي الفروق بين مدينة تثب إلى مصاف المدن في نهاية الخمسينات، وبين أم درمان القرية التي تجاور المدينة، و لم تجد الأخيرة العناية التي وجدتها العاصمة الاستعمارية . واستدرجت هي لبناء نهضتها مبنى الإذاعة السودانية عام 1940، أوائل سنوات الحرب العالمية الثانية ، وكذلك مبنى المسرح القومي الذي يُطلّ على النيل ، وهو المسرح الأول في الدولة . وكان يزورها الترام ، الذي يعبر كوبري النيل الأبيض قادماً من الخرطوم عن طريق " الموردة " إلى المحطة الوسطى بأم درمان ، ثم إلى " أبوروف" حيث معدّية " شمبات" آخر تطوافه . في سوق أم درمان محلات المنحوتات والتحف والصناعات اليدوية السياحية الأولى في الوطن ، من أخشاب المهوقني والتيك ومن " سن الفيل "، فلم يكن في ذلك الزمان قانون يحمي البيئة أوالحيوان . تلك محاولة من أم درمان لتثب لتصبح مدينة ولو على كِبر. هذه الفروق بين المدينة والقرية ، هي التي تزحم حياة طفولتي . ينازعني الحنين: مرة إلى الحضارة بتقدمها في خرطوم تلك الأيام، ومرة أخرى للريف الطبيعي حيث أم درمان . فالمرء في حاجة لأنداده يلاعبهم، وينافسهم، وحتى يتشاجر معهم أحياناً. كانت أيام عودتي من العطلة السنوية من الخرطوم إلى أم درمان، تصحبها حسرة، من فقدان نعيمٍ لن أجده كما أحب، و دلالُ الصغير وسط البالغين ميّزة تستدرجني أن أحزن لفراقها . على خلاف ما رأى الشاعر الفنان " خليل فرح " من أن مفارق أم درمان دائم الحزن والبكاء:
ويح قلبي الما انفكّ خافِقْ فارق ام درمان بَاكي شافِقْ يا أم قبايل ما فيكِ مُنافِقْ سَقي أرضك صوب الغمّام يا بلادي كمْ فيكِ حاذقْ غير إلهك ما أمّ رازِقْ
(5)
أعود من بعد كل عطلة، وفي ذاكرتي أريج " الخرطوم " المدينة. أعود إلى أم درمان، وفي النفس شيء من الأسى كما ذكرنا ، إذ أنني سأفتقد أيضاً الشراب الغازي الملون وشراب "ليمونادة " كانت تصنعه " مصلحة المرطبات ". فمطبخ الدار وطن عامر بمثل تلك المشروبات.
يذكر كثيرون كيف كانت " سكك حديد السودان، تتبع لها" مصلحة المرطبات"، التي كانت تخدم كل فنادق الخرطوم على قلتها آنذاك وأيضاً تخدم طيران الخطوط الجوية بأنواعها، فنكهة الطعام الإغريقي والأرمني والشامي والمصري المتنوعة ،موجودة أيضاً في مطاعم الخرطوم، وتنعكس على أذواق وبيوت كبار موظفي سكك حديد السودان من بعد " السودنة "، لذا نما عند " سعاد " شغف بتنويع المآكل والمشارب والفاكهة المطبوخة . تتذوق أنت الأطعمة الأجنبية من يديها بنكهة سودانية ، لها ذات الأنفة والكبرياء ، فالأسرة السودانية لن تستحي وهي تُكرم الأضياف حتى لو كانوا من ملة مختلفة من الطعام الذي تعودوه، ولكن بنكهة سودانية . كانت " مصلحة المرطبات " تُحيي مناسبات الأفراح والأعياد العامة للموسرين ، وتتميّز خدماتها في الأعياد التي اختص بها ميدان " قبة المهدي" ، فكان الجميع أضياف على السيد عبد الرحمن بن الإمام المهدي في عيد الفطر وعيد الأضحى، والسقاة يتمنطقون زي الحفلات الرسمية ، وتتساقى أنت مع الصحاب حتى ترتوي .
أعود أدراجي إلى البيت الكبير في أم درمان. عدة أيام وأخرج عن انطوائي إلى حياة الطفولة العاديّة وزحام المدرسة الأولية ومشاغلها. انتظر حتى تأتِ مناسبات الأعياد، فنذهب للمقيل في منزل خالي بالسكة حديد بالخرطوم أول أيام العيد ، ثم نواصل المسير إلى " حديقة عبود " فنقضي بها النهار إلى الغروب. حدائق زاهية، منتظمة التقسيم ، ومتنوعة الأزاهير، ونافورة تطّل، تُضفي على المكان من طيب الرذاذ . ولشجيرات الصبّار وسط الحجارة مرئ غريب على النفس. تمتلئ الحديقة بالأطفال مثلنا يتنزهون ويلعبون ويشترون الحلوى من الباعة المتجولين. والشمس دافئة ترقب ، لا يحسها الطفل ساعة المرح .
(6)
تُغلبني الكتابة دائماً ، وأذهب إلى التاريخ، كي تكون السيرة توثيقاً لماضٍ تولى ،لمن يقرأ ولا يعرف السيدة التي عن سيرتها أتحدث . وأهرب من تفاصيل علاقتي الملائكية بالأم الثانية. أتخفّف أنا من الحزن، فربما لا يشاركني الأحزان، إلا من هُم مثلي. وتبقى الجسور تمُد الطريق إلى الذكرى، والنواقيس تدق وقت تشاء.
وعندما شببتُ عن الطّوق في عز الشباب احتفظت بعلاقتي مع الأم الثانية بأفق جديد ،فعندما يكبُر الأطفال تتغير العلاقة ، رويدا تنشأ الصداقة والمحنَّة تختلط بالأمومة ،وتلك من سنن الحياة ، فقد أصبحت ابنها الذي لم تُنجبه في حياتها . وقبل تقاعد الخال " إسماعيل " اشترت الأسرة منزلاً لها في امتداد الدرجة الأولى ، يقع على الطريق رقم (47) وكانت حينها المنطقة خالية من العمران . كنت أزورهم أيضاً في العطلات ، وأقضي في بيت الأسرة الجديد يومين أو ثلاثة . أدخل مكتبة الأم الثانية الخاصة ، وأتخير أعداد من مجلة " حواء " المصرية ،حيث كانت المجلة صديقتها الأسبوعية . وكنت أتتبع القصص القصيرة بالقراءة عن حبٍ وشغف ، وكانت بعض اقاصيصها مستوحاة من دفاتر الشرطة والحوادث. فمصر عالم يمور بالأجناس ، لها إرث طبقي متنوع ، يتمدد في شرائح اجتماعية واقتصادية ، بعضها صنعه التعليم المجاني بتشكيل طبقة وسطى من بعد 23 يوليو 1952 ، وفيها الريف والبداوة في سيناء و فيها شبه الإقطاع في مناطق الزراعة في الأرياف، و فيها النوبيون الذين انشطرت أعراقهم بين السودان ومصر ، وفيها القبط والمسيحيون وغلبة المسلمين وبعض اليهود الذين حملتهم هجرات الاستعمار الاستيطاني إلى فلسطين المحتلة .
هذا التنوع مع الكثافة السكانية المهاجرة منذ العصور الأولى ، ميّزت مصر بتنوعها السكاني ، وبالتالي بدراما الحياة الاجتماعية ، على غير ما نرى ونعرف في الأوطان التي تتحدث العربية العامية بأنواعها . لذا نشأت معي صلة بأقاصيص مجلة حواء المصرية بتنوعها الغريب . وتلك من اللوحات الخلفية التي أنشأت محبتنا للقصة القصيرة فيما بعد .
(7)
كنتُ بعيداً حين رحلت الأم الثانية يوم الجمعة ذاك، تماماً كما كان رحيل الأم الأولى، وكنت بعيداً أيضاً. للمهاجر قسوة لا يعرفها إلا منْ جربها . وكان وعدي للأم الأولى بالعودة السريعة من بعد سفرٍ طارئ وعطلة سنوية عادية : شهراً أو شهرين ، وفي النيّة المُضمرة ألا أعود!. ولكنني عدتُ من بعد ثلاثة عشر عاماً . كان عيد الأضحى في الانتظار. تخفّفت العاصمة من ثقل كثافتها السكانية، ووجدت أن الدنيا تبدّلت رغم ذلك . ولم أتعرف على البيت الكبير في أم درمان إلا بعد شدّة . تغيرت الحياة وصارت عسيرةً ، وبانوراما الطرق خليط غرائب لا تجتمع في عاصمة ترغب أن تتطور .و لم تذهب إلى الأفضل ، بل تراجعت وتهدَّمت البِنيات . وإنها لحسرة متجددة ،تلاحقنا كل عام يمضي . تتساقط علينا الأخبار الحزينة كالحجارة السوداء ، فيزوي الوطن ونُكفكِف دموعنا عند ساعة الذكرى. هذا حالنا فكيف بالذين هم تحت قبة الجمر !؟. للأم الثانية نترحم ونقرأ في سيرتها ما يتيسر من آي الذكر الحكيم الذي داومت هي على محبة قراءته صباح مساء . ربِ إني تمنيت لها عفوك وأنت القادر على العفو ، وتمنيت لها رزقاً من ثمرات جنانك الوارفة في دنياها الأخرى، فأنت خير الرازقين . وقد حببت أنت إلينا أن نرفع أيدينا إليك بالدعاء ،فذكرت في قرآنك المقدس: { ادعوني استجب لكم } ، فنعيمك سابق علينا منذ بدء الخليقة .أللهُمّ إليك الملتجأ وإليك المآل ، بك المُبتدأ وإليك المُنتهى. وخير خاتم أن لا إله إلا أنتَ.
عبد الله الشقليني 8 نوفمبر 2015
*
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: في ذكرى الأم الثانية (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
كتبنا عند رحيلها :
Convolvulus Brushwood اللبلاب : في رحيل الأم الثانية : ( سعاد إسماعيل )
(1)
لا يُجاري الدمع النُهير ، ولا تسبق العواطف ركض العواصف ، ولا يقدر أن يطأ دُنيانا أنبياء جُدد ، بفكرة قديمة. أو تُدوي أسماعنا رعود الرصاص الذي اعتادنا ، ولا يخيف .
(2)
في جمعة ، بادية الملامح ، هادئة الطباع ، خالية من كل الضجيج . قضيت يومي مفرق الأهواء . أصنع من القضايا الصغيرة ملفات للأرشفة . طعام بنصف إشباع ، ونوم مُتقطع الحواف . على أجمار ، بعضها قصص رصاصٍ ودماء في زجاج التلفزة . لا تعرف أنت من القاتل ومن المقتول . أظلمت الدنيا على ضحايا الكون كله ، ولا نعرف الآن القتلة ولا نستبين نغم الرصاص من إيقاع الأغاني على شبكات الإعلام . كلها تهدم ، ولا تُميّز أنت الكذابين من بعضهم . أرقام أشلاء ، وضحايا تنشرها ماكينة إعلام تستوطن مدينة بعيدة عن موقع الأحداث ...
(3)
جاء خبر رحيلها مثل زوبعة مفاجأة . أكبر من ردود أفعال الحزن على المآقي ، وعلى الجسد المنهك البعيد . يأتيه الخبر الدامي ، فيدلهم الليل فجأة ، وتتغطى السماء بظلمة وتطير العصافير إلى سكن الليل كأن المساء قد جاء ، مخدوعة بقصة الكسوف العظيم ، حين لن ترى أُمك الثانية مرة أخرى . وأُغلق الباب على التيتُم بالمزلاج ، فقد رحلت هي ومن قبلها الأشقاء وأمها وأمي الأولى وخالي . من تورّد الطفولة الناعسة في أيامها الأولى ،كانت الذكرى مستودع الفرح .وجاء الحزن مخشوشن العُدة والعتاد في حاضري ، سكين على الخاصرة أو رمل تحت بطن القدمين العاريتين حارقة . كنت أقضي معهم ،في مسكن خالي والد ( سعاد ) ، بعض الطفولة . كان خالي حينذاك من كبار موظفي السكة الحديد . مسكنه الحكومي قرب محطة الخرطوم الرئيسة لسكك حديد السودان قبل هدمها . كل عطلاتي المدرسية وأنا تلميذ صغير كنت أقضيها في مسكن خالي ،مع أسرته على أكُف العواطف والحنين والرفقة الطيبة . تمُر الأشهر مرور الطيف في الحُلم . هناك كانت قطعة من الماضي البهيج مبهرجة ألوانها ، يدوي صوتها في وهج الذاكرة . وترحل الأم الثانية الآن، في زمان صعب ، تُنيخ فيه الأحزان الرواحل كل يوم وكل ليلة .وردة العُمرِ الطافي ، جاء اليوم لتزوي تلك البسمة الملائكية التي كبُرت مع الأيام ، ...لن ينسينها الرحيل أبداً.
(4)
كتاب الطفولة هو صندوق الدُنيا الساحر ، بدأنا به حياتنا ولا تنقضي أزاهيره اليانعة . نقرٌ خفيض على الغطاء فانفتح . ما تيقنت من صدق حديثه إلا عند هوامش الصدفة . وضربت الفأرة على الأيقونة ،فانفتحت أكُم الزهر وتفجرت الألوان صداحة بالكلام . وحين وقف الرحيل بيني وبين أن ألقاها، انفتح صندوق الذكرى ، وقفزت أرانبه من جحورها إلى الحقل : كنتُ في عمر السابعة ، في أواخر خمسينات القرن الماضي ، حين أهبطُ من سيارة خالي، ويدي تمسك حقيبة صغيرة ،بها كل ما أحتاج في عطلة الصيف . كنتُ أصغر المُقيمين هناك في مسكن خالي وأسرته . فربُّ الدار مديراً لمصلحة المرطبات آنذاك ،تلك الإدارة التي تلتصق بالسياحة والفنادق وسكك حديد السودان والطيران . المطاعم والمخابز ومصانع المياه الغازية المتنوعة الألوان في قوارير مدورة القناني الزجاجية ، وعليها الخاتم SR. زوجة خالي ربة منـزل .و( صلاح ) و( عبد الوهاب ) و(سعاد ) و (حيدر) ،جميعهم في مرحلة الدراسة الثانوية . كانوا في عُمر الشباب . وحدي كنتُ في السن التي يكون للطفل فيها رونقاً . كثير السؤال ، يحب اللعب ، ولا ينام كما ينام الآخرون .
المدخل الرئيس للبيت باب من خشب الزان ، كبدي قاتم اللون ، على ذات النظام الذي ابتنته السكة حديد لكبار موظفيها . أعلى المدخل لوحة فيها رقم . إنه المسكن الأول من المساكن المُخصصة لكبار الموظفين . تدخُل، وإلى اليسار المطبخ الخارجي والمخزن. أمامك باحة واسعة إلى يسارها أرضٌ ثابتة عليها طبقة رقيقة من الرمل . إلى اليمين حديقة فسيحة: الحشيش الأخضر ومُغطيات التُربة والشجيرات ثم الأشجار ، وعلى الحائط تمتد المُتسلقات وترتمي من فوق الحائط تنظر الطريق العام. في الأمام فرندة مفتوحة على الباحة بطول المبنى الأرضي . على الطرف الأيمن صالون الضيافة والحمامات على طرف آخر .وعلى الطرف الأيسر الغرف . إحدى الغرف هي غرفة معيشة لها باب خلفي يقودك لمدخل الحديقة الخلفية التي يسورها سياج شبكي. مُحرّم دخولها دون رفقة .( حيدر ) أصغر أبناء خالي وهو أقربهم عُمراً يكبُرني بسبع سنوات . اتخذني رفيقاً للصحبة وللتسلية . كنتُ دُمية إنسانية صغيرة ، كثيرة الشغب ومدللة .كسرت رتابة العادة في المسكن أيام العطلات ، بالضجيج وبالصخب . كانت ( سعاد ) سيدة الرعاية اللصيقة ، تُعد ملابسي ، بل تشتري ما تراه يناسبني أكثر من الألبسة والأحذية البيضاء والسماوية اللون والقرمزية . وكنتُ أتعبها بالملاحقة ، فكثير من التفاصيل التي تهمها ، لا أكترث لها، وما عرفت قيمتها إلا عندما كبُرت . ولكنها طوعتني بالعناية وطوقتني بالرعاية ، وعلمتني أن المظهر يسهم في إزهار الدواخل . أمضيت أيامي الأولى وأنا ألح على( حيدر ) أن نزور دغل اللبلاب أو ( الغابة ) كما كانوا يسمونها كل يوم . فهي مكان لا يدخله إلا زراعي أجير يأتي كل أسبوع لرعاية النباتات بالشتل والتسميد والسقاية والقص والنظافة .
بعد إلحاح ، يختار ( حيدر ) وقت القيلولة التي ينام فيها الكبار ، ونتسلل إلى الغابة خلف السياج .دغل اللبلاب مُسيطرٌ على المكان .يمتد طولاً وعرضاً بحوالي مائة متراً مربعاً ويمتد زاحفاً أعلى الحوائط.شجرة برتقال هنا وليمون هناك و أشجار ( البلتفورم ) وشجيرات ( الفيكس ) و( السرو ) و ( الجهنمية ) تنتشر أحزمتها هنا وهناك . الفراشات الملونة تُحلق بلا رقيب ، تبحث في الأزهار عن الرحيق . تتبادل المنافع رحيقاً في مقابل حمل طيوب التكاثر . جلست إلى نبات اللبلاب ، أنظره بعين الدهشة أول مرة . أدهشني أكثر ،حين توقفتُ على زهراته القُمعية الشكل . كأس تستدعي شراب الأرواح . هذه هي الزهرة الساحرة ،في وهج الشمس مرآها يُحيّر الألباب. وردية فيها أخلاط من اللون الأبيض و من لون البنفسج الفاقع . تناثرت الأزهار على الرقعة الخضراء . وتوقفتُ من فزعٍ وأنا أسمع طنين الجُندب أول مرة . زحام من الكائنات الصغيرة والدقيقة تحتمي بالدغل وتسكن . أمسكت بزهرة اللبلاب وسألت ( حيدر ) : أيمكنني قطفها ؟ . قهقه هو من الضحك . سألت عن الأفاعي ، فقيل لي أنه قد ظهر منها صغير رفيع لا يتجاوز طوله قدماً . وهو من الثعابين غير السامة . لكن الحذر أوجب ... هكذا كانت أيام الطفولة ، تلك مروجها ، السفوح والجبال الساحرة التي تتجمل كلما يبتعد الزمان بنا . فنحن أمةٌ نسير على غير هدى الأمم الأخرى ، ماضينا كان ورغم كل شيء أفضل من الحاضر!.
(5)
انتبه الحزن إليَّ من قرميد الطفولة بسطحه اللامِع. الآن قطع رحيل الأم الثانية الحبل الممدود من الذاكرة وبساتينها الغناء ، فأجهشتُ وحدي بالبكاء الصامت الذي يُعذب صاحبه . ها هي الأم الثانية ( سعاد ) التي كانت نجمة تلك الأيام وآخر من تبقى من رياضنا اليانعة ترحل ، بعيداً قبل أن أراها . فالمسكن الذي قضيت فيه بعض طفولتي والمساكن الحكومية من حوله ، قد أزالها التتار الجُدد ، حين بدءوا المسيرة بسمها القاتل . وهدموا بيوت موظفي وعمال ومكاتب السكة الحديد، قرب محطة الخرطوم الرئيسة حيث ينتهي إليها شارع القصر . وهدموا من قبلها " السكة الحديد " مبنى ومعنى . فجروا الشريان الذي ربط القرى والبوادي ومدّ حبال الوصل منذ 1897م .أسهم الشريان في صناعة الوطن المتراحم أهله ، والمتشابكة أصوله . ها هو الآن وقد هدمته أيديولوجية التدمير التي بدأت سيرتها قبل أربعة وعشرين عاماً . ما رأيت في إطلالتي على الأم الثانية في كل حين وفي كل زمان ألتقيها ، إلاّ وتسأل عني دائماً بعبارة الحنين الجارف الذي لا تمتصه إلا المسام التي سمعت صوتها حين تخاطبني : " كيفك يا عبدو ".
(6)
اللهمّ إنها أمتُكَ التي صنعتها يَداك القادرة وشكّلتْ صورتها ورَسمت بنانها ووهبتها من مِنّتِكَ أن تقرأ باسمِكَ فقرأت. ووهبت الخير كله، فقد غرزتَ فيها محبة الناس ، فما أدخلت يدها في كأس فيه شرابٌ باسمك ، إلا و تجلّت نِعمتُكَ عليها . وما أوحيته للنّحلِ ، جعَلته من فطرتها التي فطرتها عليه . وما مقامُكَ العلي إلا حيث بينّتَ فيها حكمتكَ . بنوركَ يستضيء العُبّاد .وتحت دوحتك الظليلة كان لفقيدتنا العمر منذ صرخة الميلاد الأولى وإلى استردادكَ أمانة الروح التي هي من أمركَ نعمةٌ سوّاحةٌ ، تسير فينا سير النسيم حتى ننتبه أنّا في غفلة الزمانِ قد نستريحُ ولا مُستجار إلا أنتَ.
عبد الله الشقليني 3/5/2013
*
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في ذكرى الأم الثانية (Re: عبدالله الشقليني)
|
كانت الأم الثانية تفيض محبة وكرماً ، لم تفارقها الابتسامة ، ما رأيت في حياتي حزنها . ترتبط هي للاهتمام ، مع أنها قضت حياتها كلها في خدمة الآخرين . بحثت عن أغنية تليق بها من التراث ، فتذكرت ( الكنداكة ) ووجدت أنها مديح للرجل !
*
| |
|
|
|
|
|
|
|