فصل من رواية حرب المفاوضات مهدى إلى دينغ وآخرين أحبهم

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-11-2024, 11:40 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عماد البليك(emadblake)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-07-2004, 07:35 AM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فصل من رواية حرب المفاوضات مهدى إلى دينغ وآخرين أحبهم

    فصل من رواية – حرب المفاوضات
    ( 1 )

    " لماذا نحارب؟ " كان هذا السؤال يدوخني منذ أول يوم وطأت فيه أرض الجنوب كمراسل صحفي لصحيفة لا قيمة لها في الخرطوم، هناك، حيث تعودوا الجلوس في مكاتب آيلة للسقوط يحتسون القهوة ويقهقهون ويكتبون كلاما هراء لا فائدة ترتجي منه .

    كانت الحرب واحدة من الأشياء التي شغلتني أثناء عملي وطيلة تاريخي الصحفي، وكان السؤال الذي يلازمني منذ أيام بدايات العمل الصحفي وحتى الآن : " لماذا نحارب نحن الشماليين ؟ .. ما القضية بالضبط ؟ ". أحيانا كثيرة كنت أفكر أن رحلة إلى جنوب البلاد وإلى غمار الحرب يمكن أن تشرح للمرء كل شئ، تحل العقدة الكبيرة والاستفهامات التي كونتها عبر سنوات لا بأس بها في خدمة الصحافة ، التي أخذت مني الكثير ، أكثر مما علمتني ، أخذت وقتي وعمري وحريتي ، وقدمت لي الفقر ، والعداوة والبغضاء ونكران الجميل .

    أذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي ناداني فيه رئيس التحرير المتعجرف ، رفع نظارته ، واجهني وهو يقف من على مقعده الدائري ليقول لي :
    - " أنت .. أنت من سيكون ممثلنا الأبدي في ذلك الجحيم " .

    في البداية كان الأمر لذيذا لي ، فالحرب شئ سد مسامات التفكير في عقلي ، ولم يترك لسواه مساما يتسرب به للوعي ، لكن هل يرضى إنسان عاقل بأن يرمي نفسه وبسهولة في هذا الجحيم ، ثم أن هذا الغبي يقول لي " ستكون ممثلنا الأبدي في ذلك الجحيم " . الأمر واضح لا يحتاج لتفكير عميق ، أنت المقصود لا غيرك ، ونسيت موقفي أمام رئيس التحرير وأنني في مكتبه ، لم استبن ذلك إلا ساعة سمعت رشفة الفنجان ، كان يشرب بطريقة ثقيلة أشبه بطريقة العجائز ودخان سجارته يتكاثف من حولي يخنقني ، قال لي :
    - " ألم تسمع هل أصبت بالصمم ؟ " .

    هززت رأسي وأنا غير قادر على إدراك موقفي الحقيقي ، وسألت نفسي : " هل يكون الأمر مجرد رحلة قصيرة وتنتهي ، مجرد عقوبة على هذه الأفعال التي تعتبرها إدارة الجريدة شنيعة وأنني السبب ، فالإدارة تصر على أنني سبب انخفاض توزيع الأعداد منذ شهرين ، تصر على ذلك وتؤكده والجميع يعرفون أن الجريدة لا توزع أصلا إلا في دواوين الحكومة ، يستعين بها الموظفون في آخر اليوم كمظلات تقيمهم من حر الشمس ، وهم ينتظرون عربة الترحيل الجماعي وأحيانا المواصلات العامة، أو يلفون بها السندوتشات لابنائهم الذاهبون إلى المدارس في الصباح الباكر ، وكثيرا ما كنت أحصل على مقالاتي عند بائعات الفول السوداني والتسالي وفي صناديق القمامة ، وفي المطاعم العامة .

    لم يكن السبب أنا بالطبع ، السبب كان واضحا ، لكن أنا كنت المقصود ، كان لابد من إبعادي بوصفي رجلا غير موالي للنظام ، يعمل على زعزعة استقرار الصحيفة ، إذن إبعادي إلى الجنوب كان مجرد حيلة لإرغامي على تقديمي استقالتي عن العمل ، يمكنني أن أقدم استقالتي ، أن أعمل في أي جريدة أخرى ، أو حتى في أي جريدة رياضية ، الأمر لا يعدو مجرد كلمات ترصها وتحصل على راتبك في آخر الشهر ، " لقد كان الفريق ( ـ ) ممتازا أو رائعا وأدى مباراة أبرز فيها أنيابه وشمر عن ساعده ، وقد حمى الوطيس ساعة أحـرز ( ـ ) هدف المباراة الأول في الدقيقة ( ـ ) " برياضية أو أن تكتب معلقا على الأحداث المؤسفة التي تنتهي بها المباريات " كان من المفترض أن تسير النتيجة في صالح فريق كذا ، لولا أن الجماهير دخلت في الميدان واعتدت على الحكم، تدخل رجال الشرطة وقطع التيار الكهربائي، واستعمل الغاز المسيل للدموع لتفريق الجماهير المندفعة كالسيل .

    رفعت رأسي على صوت رئيس التحرير وهو يدق على بكلتا يديه على المنضدة الخشبية أمامه ممتعضا، قائلا لي :
    - " يا أبله ألم أتكلم معك أكثر من مرة ".

    وجدت أنني كنت واقفا طيلة هذا الوقت ، وأن الرجل قد أفرغ فنجان القهوة وصب آخر ، وسيجارته قد أشعل غيرها ، كانت الأولى مطفأة في منتصفها ، قلت له:
    - " نعم أنا مستعد لسماعك ".

    ضحك باستهزاء وقال لي :
    سماعي ، أنت لم تسمع بعد ، لقد انتهى الأمر ، ستكون في الجحيم
    بعد يومين ، ستكون هناك ، انتهى الأمر ، هيا أنصرف .
    نظرت إليه باشمئزاز ، إلى صلعته الواسعة ، إلى رأسه المكورة ، إلى عينيه الغائرتين وراء النظارة الطبية الداكنة ، إلى أسنانه الصفراء ، إلى نوع من المخلوقات ينتمي إليها هذا الكائن ، أسمها البشر ، قلت له :
    لست مستعدا للقيام بالمهمة ، لماذا لا يقوم بها رئيس القسم فهو
    أوسع مني خبرة .
    ضحك بسخرية وخلع نظارته ووقف من على مقعده وقال لي :
    - أنت الذي تحدد من يقوم بالمهمة ، هذا تطاول منك .
    حاولت أن أهدي الجو ، فربما كسب الجولة ، رغم معرفتي جيدا بأنني المقصود ، قلت أهدده بالاستقالة ، لكنني كنت أفكر مرة أخرى ، لو قدمت استقالتي هل سأجد عملا في جريدة أخرى ، في البداية يبدو الأمر سهلا ولكنه ليس بهذه السهولة ، ثم أن صحيفة النظام رغم كل شئ تدفع أكثر ورواتبها مضمونة ، الصحف الأخرى من السهل أن تعمل فيها ، ربما ، لا أظن ذلك صعبا ، لكن من الصعب أن تستمر في صحيفة منها لأكثر من شهر ، شهرين ، ثلاثة أشهر على الأكثر ، دائما يصرخون : المعوقات المادية ، أزمة الورق ، والدولة لا تترك صحيفة وحالها ، تتدخل هنا وهناك ، توقف جريدة بعد أخرى .

    علىّ أن أتعذب هنا ، وأن أعيش أولادي ، وتذكرت طفلي محمد وعائشة ، كيف سيعيشان لو شردت عن العمل ، متى سأصل إلى إليهم في آخر اليوم فالجرائد الأخرى لا تملك وسائل للترحيل ، قد أصل في العاشرة مساء على أقل تقدير ، فعمل الصحف لا ينتهي قبل منتصف الليل ، أن تعمل في الصحافة يعني أن تتحول إلى خفاش ليلي ، تعمل ليلك وتنام بالنهار ، هذه مهنة تخالف سنة الله وطبيعة الأشياء هكذا تقول زوجتي ، أذن سأنسى الاستقالة ، لو نطقت بها سيقبلها ، سيقول لي هيا للجحيم ، والجحيم الآخر البديل سيكون الموت العسير والأصعب ، حجم مواجهة الحياة وارتفاع الأسعار ، البطالة والتشرد والفقر ، جوع الأولاد ، شكوى الزوجة ، السهر والحمى ، مطاردة المواصلات العامة .

    قلت لرئيس التحرير :
    - أنت تعرف أنني أعول أسرة ، وقد لا تعرف أنني أكبر أخوتي ، ولدي أخوان صغار السن هناك في الشمال ، في تلك المدن البائسة ينتظرون مني أن أرسل لهم ولوالدي وجدي وجدتي والجيران ، بل كل الحي ما يسد رمقهم ، أنهم لا يفهمون أن راتبي لا يكفي لي أنا وأولادي ، لا يفهمون أن عملي في جو خانق ، لا يفهمون ما الحرب يا سيدي .

    ضحك كعادته عندما يسخر ، عندما يفجر المواقف ، قال لي :
    كل السودانيين يعولون أسرا ، السوداني بمجرد أن يصبح موظفا ، هذا يعني بداية المتاعب ، فالجميع في انتظار هذه الجنيهات التي لا تسمن. ثم قال بأدب وبشيء من اللطف :
    الجنوب سيكون لك راحة من هذا الشر المستطير ، من الشمال القاسي اللعين ، من مطالبات الأهل والزوجة ، من كل شئ ، ربما من الحياة كلها ، ثق في ما أقوله لك يا ابني ، أنا جربت الحياة قبلك كثيرا .
    قلت له :
    - ما تقوله عن الجنوب لا ينبئ عن حقيقة ، أنت بنفسك كنت تقول لي " ستكون ممثلنا في الجحيم " هذا تناقض منك ؟! .
    رفع نظارته وضعها على وجهه ، أطرق لحظات قال بعدها :
    - كل شئ محتمل ، لكن جحيم الشمال لا يطاق .
    أطرقت للحظات أفكر في الأمر ، توقعت أن اسمع كلمة انصرف في أي لحظة ، لكن هذا الرجل غريب جداً ، من النوع الذي لا تفهم طريقته في التفكير أبدا ، فكرت من جديد في اقتراح الاستقالة وليكن ما يكن ، سأتقدم بها لأرضى بجحيم الشمال ، لن أذهب لأرض لا أعرف شيئا عنها، لن أذهب لهؤلاء - العبيد- الذين لا يعرفون كيف يتبرزون ، سأموت هنا بين أهلي ، أسرعت بالقول:
    - الاستقالة لا شئ آخر .

    كانت الإجابة المتوقعة أن أسمع الموافقة بالإيجاب ، فهذا ما يبحث عنه ، ما ينتظره ، أنهم يريدون التخلص مني بتعليمات عليا ، لكن ساء توقعي فقال لي :
    - غير ممكن .. أبدا .
    لماذا ؟ أليس من حقي أن أخذ استقالتي ، أترك العمل ، هذه رغبتي .
    ضحك ، عاد لصيغته الاستهزائية ، قال :
    أنت تنسى أهم شئ .
    ما هو ؟
    أنك موظف تتبع لي .
    أن أتبع لك لا يعني أن تجبرني على المواصلة في العمل .
    قال بجدية :
    أنت لا تفهم أبدا ، تدعي الذكاء ، لكنك بليد للأسف ، أن تتبع لي يعني أنك لا تتبع لي فحسب ، يعني أنك تتبع لشيء كبير اسمه الوطن ، النظام ، وهذا لا يعفيك عن واجبك ، الوطن هو الذي أختارك لهذه المهمة .
    ضحكت بصوت عالي جدا ، ضحكت كالمجنون في صورة هسترية ، قلت لنفسي : " الوطن .. ما هو الوطن ؟ .. ما لونه ، ما طعمه ، متى سمعت هذه الكلمة لآخر مرة ، ربما منذ زمن كتب المطالعة الابتدائية في المدارس ، كنت تصيح وأنت طفل : الله ، الوطن ، العمل ، النصر ، أما الآن فكل شئ لا قيمة له ، ما هو هذا الوطن إذن ؟ الذي ستضحي من أجله ، هذا هراء " ، وصرخت بصوت عالي :
    هذا هراء .. هراء .
    قال لي بعنف :
    ستعرف معنى ما تتلفظ به .
    سأذهب .
    أذهب وسترى .
    كان هذا الصراخ يزداد ليلة بعد ليلة وأنا أزداد عمقا في إنكاري لما يجري من حولي ، أعد السنوات التي أقضيها هنا وسط هذا الجحيم ، سنوات مرة واجهت فيها العذاب والموت والنهاية ، قلت لنفسي : " هاهي النهاية الجادة قد اقتربت ، لقد تخلصوا مني أخيرا ، لكنه الغباء ، كان بإمكاني أن أتخلص منهم ، أن أتصرف ، أهرب ، أفعل شيئا ما ، لكن لا مفر وهيهات ، هي الأقدار .

    ( 2 )

    قائد الفرقة العسكرية قال لي بالأمس ، رفاقك يقولون :
    " هذا الشاب الأنيق كثير الكلام مع نفسه ، إنه بهذه الطريقة سوف
    يفقد عقله وسيموت " .
    ضحكت وقلت له :
    لا أعرف كيف يقدر هؤلاء الناس على التفكير في الآخرين ولهم قضاياهم التي من الممكن أن تشغل حياتهم ، الجوع مثلا أليس قضية تستحق أن تفرغ الذات لها.
    في منتصف الليل راودتني رغبة أن أكتب شيئا ، لا أعرف ما سيحدث في الغد ، في الحرب من الصعب التكهن بالمستقبل ، أخذت مصباح صغير داخل الكوخ وأغمضت عينيي لحظات أفكر كيف سأبدأ الكتابة ، ماذا سأقول ، مشكلتنا معشر الذين جربوا الصحافة ، نفتقد للبدايات السهلة ، ولكن بمجرد أن نعثر عليها تنساب الكلمات حتى النهاية ، لكنني هنا لا أكتب مقالا صحفيا ، أكتب واقعا ، في المقال يمكن أن تكذب أن تقول كلاما كثيرا لا معنى له وبأكثر من طريقة تملأ به السطور ، أما هنا فكلمات بسيطة تسد الحاجة ، ففي أزمان الحروب وفي غمارها يجب أن يتقن المرء الدقة ، السرعة ، التحديد في كل شئ .
    ضوء المصباح الصغير أيقظ أحد الجنود النائمين في الكوخ بجواري ، قام منزعجا صاح في:
    أيها الغبي ، ألا تعرف أنه ممنوع أن توقد نارا في الليل .
    قلت له بغضب :
    يجب أن نفرق بين النار وضوء خافت لمصباح لا حول له ، أنا لم أوقد نارا أيها الأبله ، واصل نومك .
    وعرفت من مرآه أن الخوف كان يدفعه لأن يقول أكثر مما قال ، وجدت أنه في مثل هذه الظروف من الأفضل للإنسان أن يكسب الآخرين ، مسحت على رأسه بيدي الخشنتين ، قلت له وأنا أنفث تجاه فتيلة الضوء في المصباح :
    - لا عليك نم هانئ البال ، لقد قتلته .

    كان يعرف أنني أحرص على كتابة المذكرات وبعض الأشياء ، كثيرا ما يراني على هذا الحال ، أسهر لساعات طويلة وكانت تلك أول مرة يعترضني بسبب القلق الذي يحاصره ، هكذا فهمت الأمر .
    يبدو أنه أحس بذنب ما ، هؤلاء الجنود رغم قسوتهم، سريعي التأثر ، سريعي الانفعال وسريعي الرضا ، فقد وضع يده على رأسي عندما رقدت إلى جواره على الأرض ، قال لي :
    - أنا أسف لقد أقلقتك .
    ابتسمت له ، فهم ابتسامتي في الظلام ، فالمشاعر تميز بالقلب لا ترى ، لم نتكلم بعدها ، أحسست بشئ غامر يملأ صدري ، فكرت في أشياء كثيرة قبل أن أنوم ، فكرت في اعتقادي القديم بأن الكتابة يمكن أن تطفئ الجوع ، جوع الذات ، لكنني الآن بعد أن جربت الحرب عرفت أن الكتابة لا تفعل شيئا مفيدا ، مجرد أكاذيب وأوهام لا غير نخدع بها ذواتنا المريضة ، وهم من يتصور أن الكتابة ترفع هم الذات ، تعيد لها تألقها المفقود .

    كانت الكتابة هوسا جميلا لي منذ الطفولة ، كنت احمل أوراقي أشخبط فيها أشياء لا معنى لها ، أعرضها على والدي يجيب على بتثاقل : هذا حصان جميل ، حمارك هذا يفتقد للذيل ، ومرت السنوات فأصبح الكتاب رفيقي وهوسي ، جننت بعالم الكتب أعتقد بأن من يجد الكتب ويعيش معها ينسى العالم من حوله ، يزهد في كل شئ ، الآخرون لا يعدوا ذوي أهمية له ، الكتب عالم منفصل قائم بذاته ، من يلج إليه ، من الصعب أن يخرج مرة أخرى ، وهذا ما حدث معي ، لكن مصيبة الكتب أنها تورث الإنسان المتاعب ، تجعله وحيدا ، مشرد الذات ، لا يفكر إلا في عالم يوتوبي يظل يبحث عنه فلا يجده حتى يموت .

    قادتني الكتب لأن أكتب ، فعندما يقرأ الإنسان كتابا يحس بطاقة فائضة زائدة يجب أن يفرغها والورق هو المكان المناسب لتفريغ هذه الطاقة، التقيؤ .
    كنت أكتب أشياء كثيرة قد لا يكون لها معنى الآن ، لكنها في وقتها كانت تعني الكثير ، كتبت شعرا ، نثرا ، قصصا ، مقالات صحفية ، نقدا ، كتبت في السياسة والرياضة ، وكتبت الرواية ، جربت كل شئ من الألف إلى الياء ، كنت كلما أنتهي من قراءة كتاب ما في اي موضوع أسعى لتقليده .

    أذكر أنني قرأت في صغري كتاب " معالم في الطريق " لسيد قطب ، فكتبت على طريقته كلاما كثيرا ملأ عشرات الصفحات ، أقتدي بطريقته في تقديم القضية ثم اقول بعدها " أن الإسلام يجيب على هذا السؤال إجابة حاسمة لا يتلعثم فيها ولا يتردد لحظة " ( ص 104 – المعالم ) ، كنت أقلد الطريقة ، أفتي دون علم ، فقط أحشر مثل الجملة أعلاه ، أتحدث عن الحضارة الإسلامية ، عن تاريخ الإسلام ، عن العالم الإسلامي ، عن مشكلات المجتمع البشري .
    كنت سريع التأثر بما أقرأه وشغوفا بتقليد كل ما حولي ، قرأت فيما بعد "المعالم" ميشيل عفلق فآثرتني طريقته ، وجدت أنني أكتب كلاما مخالفا لما كنت أكتبه قبل عام ونيف عندما كنت أقرأ سيد قطب . الآن أكتب عن فكرة البعث العربي ، عن رسالة الإنسان العربي الخالدة ، أثرتني مصلحات كالإنقلاب عند عفلق عندما يتحدث عن " اليقظة الحقيقية " يقول : " الإنقلاب في حقيقته هو هذه اليقظة ، يقظة الروح التي تراكمت عليها أثقال الأوضاع الجامدة الفاسدة ، رحلت زمانا طويلا دون ظهورها ودون إنبثاقها واشعاعها ، هذه الروح تشعر أخيرا بالخطر الكبير ، بالخطر الحاسم فتنتفض انتفاضة حاسمة ، وانتفاضتها هده وسيرها لن يكون إلا في تيار معاكس للأوضاع التي عاقت ظهورها " ( ص 80 / 81 – في سبيل البعث ) .
    كان العالم من حولي يبدو مختلطا وغريبا وشارد المعالم ، إلى أن استقريت على معالم ثابتة في أفكاري ، ووجهت نفسي تجاه كتب معينة ، أصبحت أفكر بطريقة منفصلة وكنت أعود لأوراقي القديمة فاضحك ، أقهقه وأنا أنظر ، أقرأ كلاما يبدو متناقضا بعد سنوات من كتابته ، محملا بالعواطف والتأثر السريع والخوف من المجهول .

    دخلت الصحافة كهاوي وأنا أدرس في الجامعة ، دخلت هذا العالم الذي يبدو لي غريبا ولذيذا ، وسرعان ما أحسست بأن الواقع الذي يعيشه المرء على شكل الحلم أجدى وأجمل ، فكرت أن أتقئ فكرة الكتابة من أصلها عندما رأيت أناس يصعدون في هذا المجال بلا قيمة ، وعرفت أن من مصائب عالم الصحافة أنه يسمح لمن يدري ولا يدري بدخوله ، يحشر نفسه فيه ويصبح مشهورا بأسرع مما كان يتوقع ، كثيرون لم يكونوا يجيدون القراءة بصورة حسنة ، نجحوا ، كانوا يكتبون ، يسرقون كلماتهم من بين الكتب الضخمة ، يساعدهم في ذلك أن الناس لم تعد تهتم بالقراءة .

    كانت الأشياء في ذاكرتي غضة ، وكنت مشبعا بمعاني الحرية والإنتصار للذات ، وكانت السلطة في أعتى وأعنف أيامها ، تلك السلطة التي كان الكثيرون يحلمون بزوالها وعاشوا ، كبروا ، تزوجوا وهي باقية لم تتغير أو تغير شيئا مهما في الواقع ، كانوا يحدثوننا في الصغر أن بلادنا هي منبع الثورات والانتفاضات ، أما في زماننا فقد مات كل شئ .
    في الجامعة كان حجم العالم يتسع ومعارفي توسعت ، اختلطت بأفكار كثيرة متعددة ، وشباب جاءوا من مختلف بقاع السودان ، وآخرون جاءوا من اليمن والعراق وفلسطين وليبيا ، أكتشفت اتساع وطني ، قوميات ولهجات وإختلاف واتفاق ، بعض الطلاب كان يقول أنه لن يسافر في العطلة الصيفية إلى بلده لأنه يحتاج لشهور ليصل إليهم عبر طرق وعرة عسيرة وجبال وأنهار وغابات وحمى وحشرات وفوضى ووحوش ، يواجه المرء كل هذه المتاعب ليصل وقد لا يصل ، ولهذا كان العشرات لا يعودون مرة أخرى إلى مساقط الرؤوس ، من أبناء جبال النوبة والغرب الأقصى ، وقد سألت أحدهم ، جاء من جبال النوبة عن عدم عودته مرة أخرى لدياره ، قال لي :
    " هل يعود إلى النار من وجد الجنة ؟ ".
    ضحك وهو يعدل بنطاله ويلمع حذائه عند صبي الورنيش ويسرع حاملا حقيبته ، قلت : كم يتغير هؤلاء الناس ، عندما رايت فيما بعد أهاليهم شعرت بمدى الفرق الكبير بين الأب والابن ، ليس على مستوى المظهر والتكيف المادي ، بل حتى مستوى نطق الحروف ، أنها أفة التعليم تفعل المصائب .
    في تلك الأيام كنا ملبسين بالنضال وحب الثورة والعلم ساخطين على كل شئ في البلد ، نصرخ : الهوية ، الإنتماء ، تقرير المصير ، الخ ... كانت مشكلة جنوب السودان – كما جرت العادة في تسميتها – من أبرز المشكلات التي تعثر خطوات الوطن منذ استقلاله .

    أحسست بعد سنوات أن هذا القروي الساذج الذي جاء إلى الخرطوم محمولا بالدهشة قد تحول إلى إنسان آخر تماما ، إلى رجل كفر بكل قيمة ، بكل مقدس ، إنسان بلا هدف ، يعيش الحياة لا يبحث عن هدف ، يعيش فحسب ، أفكر في لحظات أن اصنع هدفا فلا أجده ، لا استطيع ـ أصرخ بين المنام واليقظة " لا .. لا .. لا " . ثم كان آخر المطاف أن رمت بي الأقدار في سلة مهملات الوطن أي الحرب ، حيث لا يفكر المرء إلا في النهاية بتوقعه الموت في اي لحظة ، وأقل ما يتوقعه المرء أن يؤسر ليكون في قائمة الموت المؤجل ، فمصير الإنسان في مثل هذه الحروب الأهلية الدموية غير مرهون لظروف محددة يمكن الإشارة إليها ، هي من نوع خاص لا تعرف البدايات ولا النهايات ، يعيش المرء وسطها جاهلا لكل ما فيها ، عليه أن يفرغ ذاكرته من كل شئ ، يواجه المصير.

    (عدل بواسطة emadblake on 02-07-2004, 07:44 AM)

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de