|
الإرهاق الخلاق: الإنقاذ تطفيء شمعة (1990) والمعارضة تلعن الظلام (3)/عبد الله علي إبراهيم
|
الإرهاق الخلاق: الإنقاذ تطفيء شمعة (1990) والمعارضة تلعن الظلام (3) نحو إستراتيجية شاملة للوفاق الوطني في السودان عبد الله علي إبراهيم أنشر مسلسلا كلمة كتبتها في الذكرى الأولى لقيام دولة الإنقاذ بانقلاب 1989. وهي الدولة التي توقع لها خصومها الأقوياء الأغلبية أنها لن تبقى طويلاً لتطفئ شمعتها الأولى. وكذب المنجمون وما صدقوا . وكانت تلك هي المرة الأولى التي أَذَعتُ فيها مفهومي عن "الإرهاق الخلاق" . وقد عنيت به بلوغ السياسة السودانية شفا جرف هار يقتضيها التواضع والشفقة بالناس أن تتوقف قبل أن يتسع الخرق على الرتق. فالنطاح السياسي الاخرق المعروف بينهما قد أعيا كل القوى غير انها تكابر . وقد ضاعف من هذا الإرهاق أن قوانا السياسية قد انقطع عنها مدد ثقافة الحرب الباردة الفكري والمادي الذي كان من أكبر معيناتها على اللدد والفحش في الخصومة . وقد قدرت أن نستصحب إعترافنا بهذا الرهق إرادة جديدة خلاقة نتخيل بها، ونبني من جديد، وطناً سودانياً منسجماً بعد أن خلّفنا وراءنا عادات التفكير المجزوء، والخصومة الدراجة، وحكم دول الطغم لا دولة الشعب . وصدرت الكلمة في كتاب بعنوان "الإرهاق الخلاق: نحو صلح وطني" (2002) دعوت فيه إلى وفاق قومي رتبت الدعوة له على مقدمتين: الأولى أن الإنقاذ قد استقطبت الخصومة السياسية الصفوية بصورة حادة قاطعة كما هو معلوم ومشاهد . والثانية أن أكثر مسائل هذه الخصومة مما عفا عليه الدهر بعد نهاية الحرب الباردة التي طبعت الصفوة السياسية السودانية بمسها خيراً وشراً. ورأيت أننا باعتبار هذه المقدمات آيلين لوفاق وطني لا مهرب منه. ولم يكن هذا الوفاق عندي محض مصالحة بين الشيع السودانية ذات الجلبة والضجيج بشأن دست الحكم. فقد كان غايتي أن استثير وعياً عاماً لترميم البيئة السياسية حتى تستعيد قوى الشعب الحية فعلها في الحياة السياسية والمدنية. وقد تلاشى فعل هذه القوى الحية - سواد الناس - لأن الصفوات العسكرية أو المتعسكرة احتكرت الساحة السياسية. وأصبحت تصفية الثأرات، ولعبة الكراسي السياسية الحكومية المجزية، هما النشاط السياسي الأول والأخير. ومتى قرأت هذه الكلمة العتيقة منذ ربع قرن صدق عندك قول عنترة: "هل غادر الشعراء من متردم؟" (3) تلاشي إنقلاب يونيو في نظام متدرج نحو الشرعية ساد منذ عقد أو أكثر إرهاص قوي بأن السودان مقبل على سيناريو لبناني . ونفذ بعض القدر . فأوضاع السودان في أكثر أجزاء جنوبه وأقاليم في كردفان ودارفور هي لبنانية محضة من حيث صلف المظالم وانفلات السلاح . ولطف الله بالسودان مع ذلك لأن مساحاته الأوسع ما تزال بامكانها ان تكون معرضا للعقل والرصانة والوطنية . وحقا ليس كل من يتمنى الموت يدركه. وقد ينسب المعتنقون للسيناريو اللبناني للجنون الداعي إلى كلمة سواء للخروج بالسودان من وهدته المكلفة. ولكنني أفضل أن أنسب هؤلاء الداعين للتراضي إلى رباطة الجأش الذي لا غنى عنه لبلد في هذا المنعطف من تاريخها . وأول أمر كلمة السواء أن نتفق على صورة (تلاشي) الانقلاب الذي جاء بنظام 30 يونيو في نظام متدرج نحو الشرعية . وقولنا بـ (تلاشي) النظام الانقلابي الحالى بعيد عن مطلب المعارضة التي تعمل لتفكيكه وتجريده بصورة معجلة . ومن الجانب الآخر فهذا التلاشي بعيد أيضاً عن مطلب الحكام الحالىين الذين يطابقون بين الإنقاذ وبين سرمدية البقاء لنظامهم الحالى . وسيكون تلاشي انقلاب 30 يونيو في نظام متدرج نحو الشرعية هي الخطوة الأولى لمبادرة وطنية تحاصر أدوات العنف في الممارسة السياسية في السودان مثل التمرد والصراعات العرقية والقبلية وتفريغها من مادتها الملتهبة . ولأن انقلاب 30 يونيو هو اخر أدوات التعدي في الأداء السياسي السوداني، ولانه يحتل مركز الحكومة عندنا ، فالبداية به واجبة . يبدو أننا لم ندرس بكفاية أو بكفاءة بعد الانقلاب كاداة مجربة من ادوات العنف. فمنذ اجتهادات المرحوم عبدالخالق محجوب في آخر الستينات لم يحظ "الانقلاب" كخطة سياسية اجتماعية مباغته بمعالجة فكرية أو تحليل اجتماعي . فالمعارضة الحالية مثلا تحوطت لأي انقلاب على الديمقراطية في ميثاقها المسمى بميثاق الدفاع عن الديقراطية بإعلان الاضراب السياسي العام لحظة خروج الانقلابيين وإذاعة بيانهم الأول . ونسيت المعارضة أن الانقلاب ربما وقع في ملابسات غير ملابسات الاجماع القومي التي جرى فيها التوقيع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية . ووقع انقلاب 30 يونيو 1989 في تلك الملابسات المتغيرة . وفشلت خطة الإضراب السياسي العام التي انطوت عليها معارضة اليوم أو هي لم تحاولها اصلاً . وهذه الفعلة دليل على أننا لم نحسن فهم الظاهرة الانقلابية على لأننا عشنا في ظل حكومات تشكلت في أثرها لربع قرن من الزمان . ومع حاجتنا للتعرف النظري الأفضل للظاهرة الانقلابية إلا أنه يسهل التقرير أن الانقلاب عنف صريح من قبل أولئك الذين يريدون حل تعقيد الحكم والقيادة بتبسيطات إجرائية مثل الحزم والضبط والربط وإعلاء أيدلوجية "العمل لا الكلام" . ففي أعقاب الانقلاب يأتي التطهير كمخالفة لحق العمل ، ويأتي الاعقتال التحفظي كمخالفة لحرية الحركة ، والقوائم السوداء كمخالفة لحرية السفر ، ويأتي تعيين أهل الولاء كمخالفة لمبدأ الفرص المتساوية ، وتاتي دعاوي الديمقراطية الجديدة كغطاء لمصادرة حق التعببير والتنظيم والممارسة . ولهذا استعجبت لما رأيت معارضة النظام الحالي لا تكتفي بإدانته كانقلاب مجرد لان أكثر ما يغيظها منه، وتشدد عليه، هو أنه انقلاب الجبهة الإسلامية القومية. وكان انقلابا لحزب الأمة أو للاتحادي الديمقراطي أو للشيوعي هو الافضل أو الاقل ضرراً . جاء الانقلاب الحالى للحكم بمشروع إنقاذي. والواقع أنه لا بأس في المشروع الإنقاذي في حد ذاته إذا جمع بين اعتناق أساسي للديمقراطية وممارسة إنقاذية فيها قبول قومي وطوعي لأنوع من الحجر والاستثناءات بالنظر إلى مهددات الحرب، والشتات الاهلي، وقوى الجشع والسحت التي تنحر في قماشة البلد بلا هوادة . علاوة على اشتراطنا بشكل جوهري في المشروع الإنقاذي أن ينفتح، في ظل قدر مناسب من حرية الرأي والتعبير والتنظيم، نحو مشروعية ديمقراطية كاملة . والمأمول في الخطة الإنقاذية أن تجمع في برنامج واحد بين برغماتية (عملية) الدولة الانقلابية، التي نفيق لميزاتها بعد زوالها كما سبق القول في كلمة سابقة، وبين قدر مناسب من الحريات التعددية . فقد لاحظنا مثلاً خلال فترة الحكم التعددي الأخير أن بعض القوى اليسارية والليبرالية قد رفضت بشكل مطلق الإجراءات الاستثنائية بحق تجار العملات الاجنبية التي استنها السيد التيجاني الطيب، وزير الدولة للمالية خلال الديمقاطية الثالثة، لخشية تلك القوى ان تمتد تلك الإجراءات (مثل الاعتقال التحفظي) إلى خصوم نظام الصادق المهدي السياسيين. وقد نبه السيد عبدالوهاب بوب المحامي في بابه بجريدة (السياسة) السياسيين والليبراليين إلى فساد هذه الذريعة وخطرها لانها قد تجعل من الديمقراطية نظاماً بلا مناعة أو سلطان . وفي واقع الحال كانت تتسابق في أخريات حكم الصادق المهدي التعددي لأفكار مختلفة تنشد وضعاً إنقاذياً للديمقراطية بصورة أو أخرى. فقد حزن أكثر السودانيين لرؤيتهم الديمقراطية الليبرالية في فوضاها تسير إلى حتفها الانقلابي كما حدث في 1958 و 1969 . وبدت سنوات تطلع أولئك السودانيين الطويل لعودة الديمقراطية عبر نظام نميري المسرف الطويل مثل الحرث في البحر . بإيحاء من مذكرة قيادة القوات المسلحة للصادق المهدي ، رئيس الوزراء، اقترحت الدوائر الليبرالية واليسارية أنه ربما كان صائباً إنشاء نظام سياسي تتضامن فيه الأحزاب والنقابات في القوات المسلحة . ووصفت تلك الدوائر هذا التحالف الثلاثي بأنه يلبي حقائق الديمقراطية السودانية ويجسد شخصيتها التاريخية. وقد استنكرت الجبهة الإسلامية القومية فكرة هذا التحالف لأنه ادخال للنقابات والقوات المسلحة حلبة السياسة، في قولها يخرج بنا عن أصول اللعبة الليبرالية. ولتمرق الجبهة الإسلامية من العزلة التي بدأت تضرب عليها بإبعادها أو ابتعادها من حكومة الوحدة الوطنية (آخر حكومات الصادق المهدي العديدة) خرجت بنسختهاالمحدودة من التحالف مع قسم من القوات المسلحة باسم الإنقاذ الوطني . ولعل أكثر ما أضر بالفكرة الإنقاذية الحالية أنها تلبست، في أكثر أحوالها، برنامج الجبهة الإسلامية القومية حتى في أكثر نقاطه تطرفاً. مماجعل المشروع الإنقاذي امتداداً لسياسة الجبهة الإسلامية القومية بطريقة اخرى . ويعيد اضطرار الجبهة الإسلامية القومية للتحالف مع العسكرية السودانية لكي تخرج من عزلتها السياسية دررس تحالف قسم هام من الحزب الشيوعي مع فريق من العسكريين في ملابسات هجمة ضارية على الشيوعيين منذ ثورة 1964. وهو التحالف الذي أدى إلى انقلاب مايو 1969 بقيادة البكباشى جعفر محمد نميري: الانقلاب الذي أعطى شرعية مستمرة للأحزاب قليلة العدد لكي تبحث عن الأمن أو التسلط تحت بنادق العسكريين . وقد دفع تحالف أحزاب الأقلية (المسماة تلطفاً أو تطلفاً ب"العقائدية") مع أقسام من القوات المسلحة بأحزاب الكثرة مثل حزب الأمة والإتحادي الديمقراطي إلى هامش الحياة السياسية تلوك خلافاتها الموروثة القديمة حول الموقف من العلاقة مع مصر، أو إلى التعثر مكرراً في مشكلتها الازلية في العلاقة بين الطائفة الدينية والحزب السياسي، أي ما عرف بمشكلة القداسة والسياسة . ولا يصدر عن أحزاب الكثرة ما ينم عن حيوية سياسية حين تستخدمها أحزاب الأقلية في خصوماتها واحدها ضد الآخر . ويتمنى المرء ان نستصحب في عودتنا المتدرجة إلى التعددية وعياً في أحزاب الكثرة ان تسترد نفسها من منطقة الهامش السياسي. وأهم من ذلك كله أن تلتزم أحزاب الاقلية خلقياً ان لا تحمل "زعلَها" محمل الانقلاب، وأن تمتنع الكلية عن ممارسة مثل هذا العنف . فأحزاب الأقلية لن تكسب (ولم تكسب) بالانقلاب لان الانقلاب مثل الدنيا في نظر أهل التصوف "لا يملكها من يملكها" كما جرت بذلك بذلك عبارة بليغة للشاعر الفيتوري . فقد بدأ انقلاب نميري بالتحالف مع الشيوعيين ثم انتهى إلى التحالف مع كل كيان سياسي في وقت نميري المناسب، وللفترة المناسبة، وللاغراض المناسبة . ومع ذلك تَعدُ أكثر هذه الكيانات أن زواجها وحدها لانقلاب النميري هو الزواجي الشرعي الصحيح وما عدا ذلك فعقود باطلة . ستعتمد مبادرة المصالحة الوطنية المأمولة على دعامتين أولهما الوطنية السودانية وثانيتهما التسامح والموهبة في التنازل . وسنرى ذلك في الحلقة الأخيرة القادمة.
|
|
|
|
|
|