|
لعبة القولف: لاعبون إنجليز وحملة الشنط سودانيون عبد الله علي إبراهيم
|
(في تذكر المرحوم أبوبكر الصديق حبشي) اعتزلنا إلى دار البقاء أبوبكر الصديق. ولا يعرفه أحد إلا باسم "حبشي". وهو من ظرفاء عطبرة وحي الداخلة من عترة آل الصديق ممن يعرفون بسيمائهم في النٌهى والحاتمية. اشتغل منهم محمد بالسياسة بين أشقاء الزعيم الأزهري. وتحدثت له قبل أيام لم تنقص حماسته مقدار ما تشيل النملة. ودارهم في الخرطوم ديوان مفروش مرشوش. وكان حبشي"شيك" في ملابسه "شيك" في حديثه. يتحلق حول مجلسه الناس وتهفو إليه الأفئدة. حليلو بلا غلط. في نحو عام 2005 سألته وجماعة من جيله بالداخلة بعطبرة أن نجتمع في نادي الوادي ليحدثوني عن تداخلهم مع الإنجليز خلال خدمتهم لهم كحاملي مضارب للعبة القولف أو الجَلِف كما سارت بها ألسنتهم. ولا أنسى ما أنسى ضحى الجمعة من منتصف الخمسينات وأنا أزور أختي قمر القسوم بالداخلة مشهد أولاد الداخلة يلعبون الجلف في مقدمة الحي في الساحة التي هي أمام دار آل البقيع وآل حميد قبل بناء الداخلة الجديدة. وهي الساحة التي تحتلها الآن بعض بيوت السكة حديد الأجد نسبياً. كان شاغلي البحثي هو دراسة علائق أولاد الداخلة والإنجليز كمثل للنص "الهجين أو الخلاسي". وتنامى الاهتمام بمثل هذا النص في المباحث بفضل مدرسة دراسات مابعد الاستعمار التي أطلقها من عقالها المفكر الراشد الوسيم المرحوم إدورد سعيد. ويعنون ب "النص الخلاسي" أن المستعمرة، خلافاً لقول قادة الحركة الوطنية، لم تنقسم إلى وطنيين خلص وإنجليز خلص على طول الخط. بل اختلط الاثنان اختلاطاً تعمينا عنه عقيدة خلوص الوطنيين من "أوشاب" الاستعمار. بل هناك من يقول إن هذه الخلطة بلغت الغاية عند الوطنيين أنفسهم. وتريد هذه المدرسة أن تقف على هذه "الأوشاب" بدراسة النصوص الخلاسية. فهي تعتقد أن الاستعمار أبقى فينا ثقافة قوية جداً (دعك من حسنها وقبيحها) وسنضل في العلم بالاستعمار إذا اعتقدنا أنه رحل عنا وتركنا كصحن أبيض لا شق ولا طق. واستجاب لندائي حبشي. وجلسنا في منتدى نادي الوادي وهو موضعي المفضل متى عدت إلى عطبرة. ففيه عطر قوي من مؤسسه الفقيد العزيز عبد الله محي الدين والراحل خلف الله البابو والفقد الأحدث خلف الله محمد الحسن. ومن تفرقوا في المكان: طه حسن طه، يحي عطا، وأبراهيم الماحي، وود الخليفة. وكان حبشي هو الأطول باعاً في شرح تداخله باللعبة وبالإنجليز. فقد حمل للإنجليز مضاربهم في صباه ثم أحسن اللعبة ومارسها بنادي الجلف بعد رحيل الإنجليز. وكانت جلسة أنيسة حضرها حبيبنا الطاهر طه. وربما غاب عنها عيد سعيد الذي أدار بوفيه نادي الجلف يوماً ما. كان ميدان "الجلف" يقع بين الدخلة غرباً ومكاتب السكة حديد ومنازلها وبوليس الشمالية والمستشفى شرقاً. وحدَّ بيوت الأنجليز جنوباً وحلة التمرجية شمالاً. أما الميدان رقم 4 منه فهو حيث يقف ناديّ الوادي والوطن الآن. وللجلف 9 ميادين يبدأ الواحد منها بالمسطبة وينتهي إلى الحفرة. والميادين تختلف منها الطويل والقصير. وحف بالميدان حائط من سلك شائك عززه شجر البسكت الذي صار ملعوناً مؤخراً في كتاب البيئة. وكان أهل الداخلة وغيره يزرعون ميدان الجلف جيئة وذهابا من المدينة إلى حيهم. وسمعت من قال إنه كان بينهم المتصنعون يزعمون أن كرة الجلف أصابتهم طمعاً في ترضية من اللاعبين الإنجليز. وقد بطل استخدام الميدان منذ سنوات وتحول إلى سكن شمل بيوت السكة حديد وغيرها. قال حبشي اشتغلنا نشيل شنط المضارب. واسمنا في الإنجليزية caddy وننطقها "كودي". ولنادي الجلف بوفيه ركنه الجنوب الغربي من الزنك المضروب بلون أخضر أداره ود العبيد الذي كان باشمراسلة الورشة. وكان يرتب لخدمة الكودية مع اللاعبين. وكان أجرنا في لعبة اليوم قرشين. وكان الأهل يدفعوننا لنصبح كودية من أجل القرشين (قرش ونصف أولاً). وبالغ أحد الخواجات ومنح أبراهيم أحمد حمزة شلناً أي خمسة قروش. وارتبط كل منا بخواجة. وصرنا نقول عن هذه العلاقة: "إنت مرتب عند فلان" كأننا نتكلم عن العلاقة التي تربط بين البيوت وسيد اللبن. وكنا نجلس في صف ننتظر اللاعبين الخواجات. ويسبقنا غير الراتبين من الكودية طمعاً في صيد جديد. وكنت أحمل شنطة مستر بتكرو وأقلده في طريقة لعبه. وكان لمستر ود، مدير الورش، حماراً يحمل له شنطة المضارب. وعلى كوديه أن يأتي بالشنطة من بيته. وكان من الخواجات من يقنطر الكرة على فنجان من اللستك ومنهم من يقنطرها على فنجان طين. وكنا نحمل الطين اللٌك للأخيرين من طرف جدول الكلوب الإنجليزي. ومن أطرف مظاهر هذا النص الخلاسي هو تبادل الأسماء. فصار اسم "ود القسيس" في المرحوم سرالختم أبداً لأنه كان يحمل المضارب لقسيس إنجليزي. وصار اسم الطاهر طه فينا هو "مستر كير" وهو خواجة له نخرة مشنوطة مثل الطاهر. وربما سموا الخواجة بسوداني. فقال الطاهر طه إن عمنا سعيد وداعة الله كان يعمل مع خواجة فسموا الخواجة "عمك سعيد". ومتى لم يأت خواجتك المتعاقد معك للعب في يوم ما نقول عن صبيه إنك "َصيًّفت" أي أنك عدت بخفيّ حنين ليومك ذاك. وكانت بعض نساء الخواجات يلعبن مثل مسز آن وزوجها كير (الطاهر طه) بمصلحة المخازن أو مستر هوران بمكتب الرسم بهندسة السكة حديد. وكانت فاتنة. ولم يكن الكودي مجرد حامل شنطة مضارب. كان يعرف أي المضارب يناول اللاعب بغير إرشاد منه. والكرة غير مؤتمنة والكودي يجازف للحصول عليها. فقد تدخل الكرات أجحار الصبر فيستخرجها الكودي. وإذا تعلقت الكرة بفرع شجرة اعتمد الخواجة على الكودي لتخليصها له. وللكودي مكافأة على همته في العثور على الكرة أيان تقع. وساد اعتقاد بين الكودية أن غابة البسكت مسكونة بالشياطين.ونتسامع أن الشيطان ظهر في صورة ###### وغزّ آلته في الأرض. وقال بتكرو مرة لحبشي أن يراقب ######ه في تلك الغابة: "أقعد مع ال######. إنتظر ال######". وجاء المغرب فخاف. فضرب ال###### بعمود اسمنت وجرى ال###### وحبشي وراءه حتى دخل بيت الخواجة. فمنح الخواجة حبشي أجره خمسة قروش . وللحديث بقية.
|
|
|
|
|
|