|
كان خصماً سياسياً وأفتقده الآن كصديق عبد الله علي إبراهيم
|
إذا ذكرنا بريطانيا في إطار متاعبنا مع البناء الوطني منذ الاستقلال لم يطرأ لنا غير شغلها الاستعماري في تفخيح ذلك البناء بسياسة الجنوب ومناطقها المقفولة والنمو غير المتوازي. ولم يطرأ لنا يوماً استصحاب التجربة البريطانية في البناء القومي مع تساوق حركة حقوق الأغلبية الكاثوليك في إيرلندا الشمالية مع حركة القوميين الجنوبيين في عقود الخمسين والستين والسبعين. بل لم نعرض للحلول التي تراضى عندها الكاثوليك الانفصاليون والبروتستانت الوحديون في 2006 بفضل جهود أمريكية خارقة.كما انصرفنا عن "تمرد" الإسكتلتديين في سنوات الألفية الأولى حتى صار لهم كيان برلماني خاص. وخلا "حوارنا الوطني" بالجملة من الإشارة إلى هذه المتاعب البريطانية في بناء الأمة كأنها من نوع "ضرب الحبيب" الذي هو أحلى من الزبيب. بينما متاعبنا "عشر وطلح" كما قال الشاعر. تواردت أخبار عن قضايا البناء القومي البريطانية في الأيام القليلة الماضية أعادتني لمتاعبنا حوله. بدأت تلوح من جهة نذر انفصال سكوتلندا عن المملكة المتحدة. فقياسات الرأي للاستفتاء عن ذلك الانفصال (الذي سيتم في 18 سبتمبر) رجّحت أن 51 في المائة من الناخبين سيصوتون ب "لا" رفضاً للانفصال بينما سيصوت 49 في المائة مع الانفصال. ولم يزل أمام 17 في المائة من الناخبين أن يقرروا بعد بشأن تصويتهم. وستكون كتلة الشباب (25-34 سنة) الأكثر مع خيار الانفصال بينما سيصوت أكثر من عمرهم فوق 65 للوحدة. وشاغل الأخيرين هو تأمين معاشاتهم والخدمات مما تعودوا عليه. كما تميل النساء أكثر للوحدة خلافاً للرجال. ولم يمنع التهديد بالويل الاقتصادي والثبور الشباب من الميل للطلاق من المملكة مغبونيين بوطنية إسكتلندية من بؤس سياسات برلمان وستمنستر ومتعشمين في مستقبل أكثر إشراقاً. تمارس بعض الجهات ضغوطاً على الملكة لكي تخرج للملأ بموقف مع وحدة مملكتها. ويرجع الضاغطون إلى موقف لها عام 1977 خلال أزمة إيرلندا الشمالية ومطلبها بالانفصال. فقد خرجت الملكة لتقول إن على الناس "أن لا ينسوا أنني تُوجت ملكة للملكة المتحدة وشمال إيرلندا". ولكن الناطق باسم الملكة تمسك بحيادها قائلاً إن الشأن شأن أهل سكوتلندا ولا سبيل للملكة أن تدلي برأي فيه. ومن أشد المطالبين بتدخل الملكة ميقل فاريج من حزب المملكة المتحدة المستقل. وطالب بتفادي الطلاق بالتشريع لفدرالية جذرية تستجيب لمطلب سكوتلندا بفضاء قومي سياسي. وتنبأ إلا تكون سكوتلندا مستقلة بعد انفصالها. فستنضم للاتحاد الأوربي لتحكم من عاصمته بروكسل. ويعتقد كثير من الإسكتلونديين أن زمان مثل هذا الفضاء الفدرالي قد ولى. ويقف مع خيار انفصال سكوتلندا روبرت مردوخ ملك الصحافة الإنجليزية والأمريكية وصاحب جريدة "الصن" التي تصدر في أدنبرة عاصمة سكوتلندا. ونبع موقفه من كراهيته المقيمة للصفوة المتركزة في برلمان وستمنستر. ويعتقد أن كل من حزبي العمال والمحافظين أحزاب "جنوبية" أي إنجليزية تباطأ خطوها في منح الإسكوتلنديين سلطات واسعة في إدارة ذاتهم. من الجانب الآخر وقف كاتب بدا أنه ماركسي ضد الانفصال. فحذّر من ما وراء مشروع الانفصال الذي هو فكرة قومية ضريرة. فالحركات القومية، في نظره، إن لم تكن للتحرر من ظلم قومية أخرى، عقيدة فاسدة تستبدل الحاضر بالماضي. وهو ماض أسطوري ينزع منا وعينا الذي تكون خلال تاريخ طويل للمملكة المتحدة تعاطينا حقائقه وتطلعاته وطبعنا بطابعه. فالقومية مركوزة في حقيقة موضع مولد ميلاد أياً منا نتجرد بها من تاريخ لاحق للميلاد مفعم وعميق. فهو لن يرضى كأسكتلندي أن ينفصل عن شعب إنجلترا الذي خاض معه صراع سياسي واجتماعي طويل في النقابات والحملات السياسة لأغراض النهضة والحركات التقدمية الاجتماعية لبلوغ مملكة متحدة أخرى. وأضاف أن حزب المحافظين الحاكم ظل مكروهاً في سكتلندا أبداً وليس له منها سوى نائب واحد شمال حدود إنجلترا. وتساءل: ولكن ما ذنب شعب مدن نيوكاسل ولفربول ومانشستر؟ ولو لم يتنصل حزب العمال من منصاته التقدمية تحت قيادة توني بلير لما كان للمحافظين هذه السطوة السياسية. ووصف التهرب القومي الإسكتلندي من الرابطة بالمملكة المتحدة بغرق سفينة التايتنك. فالإسكتلنديون قرروا أن تكون قوارب الإنقاذ لهم دون غيرهم والهلاك للآخرين. وشدد على أن المملكة المتحدة بحاجة إلى تغيير كبير ولكن انفصال سكوتلندا ليس هو هذا التغيير الموعود. كنت كتبت أن دفاعنا الوحيد عن انفصال الجنوب بعد استفتاء 2011 أنه تم في شرط حرية الجماعة القومية الجنوبية في تقرير مصيرها. وكان هذا نهجي في مؤتمر لمثقفين عرب أكثروا من الوصاية وتعييبنا على الانفصال. فقلت لهم إن الاستفتاء هو حرية استحقها من طلبها وهو شجاعتنا في وقت الكرب. وبدلاً من أن نثمن بسالتنا هذه عند بوابة الاستفتاء لطمنا الخدود وشققنا الجيوب ودعونا بدعاء الجاهلية: التلاوم. وهو مع ذلك استفتاء قرر كل منا وجوبه في توقيته الخاص. ولكن الفجيعة أن الذين تواضعوا على الاستفتاء كممارسة مشروعة للحرية قرروا سلفاً أن تكون النتيجة الوحدة لاغير. ومتى صوت الجنوبيون أحراراً مكلفين للانفصال فلابد إن ذلك مثلاً آخراً لأخطاء حكومة الإنقاذ الخطاءة. ووقع الانفصال لا كحرية بل كخطيئة أخرى للإنقاذ. من أخبار يوم الخميس الماضي التي اتصلت بالبناء القومي البريطاني وفاة إيان بيسلي (88 عاما) السياسي من إيرلندا الشمالية ووزيرها الأول وعضو برلمان وستمنستر ومجلس اللوردت. واشتهر بأنه رجل "لا" لأنه وقف بصلابة خلال زعامته للحزب الديمقراطي الوحدوي الإيرلندي ضد أن تقدم حكومة المملكة المتحدة أي تنازلات للأغلبية الكاثوليكية التي خاضت نضالاً أبدياً عنيقاً وغير عنيف بقيادة منظمة سن فين للحصول على تلك الحقوق. وكان الرجل إنجليكياً بروستنتياً حتى النخاع. وكان من وراء تأسيس الكنيسة البريسبتانية الحرة. ولما تواضع البروتسنات والكاثوليك عام 2006 على الصلح الوطني كان هو من استلم وحزبه زمام الأمور في إيرلندا في 2005. وقَبِل الصلح مع منظمة سين فين التي كان وعد بتدميرها. وانعقدت الصداقة بينه وبين مارتن ماككاقينس، نائبه في مجلس ورزاء إيرلندا ورئيس هيئة أركان سين فين سابقاً. وتواترت صورهما معاً وهما يضحكان ملء شدقيهما في الوسائط حتى سموهما ب" الأخوان المقرقران". وقال ماكقنيس في فقده: "كان خصماً سياسياً وافتقده الآن كصديق". عادت بي صورة بيسلي وماككقينس المقرقرة إلي محاضرة لي بعنوان "الإرهاق الخلاق: نحو إستراتيجية للصلح الوطني" رتبتها جريدة "الصحافي الدولي" بقاعة الشارقة عام 2000. وعرّفت فيها الصلح الوطني بأنه أخذ صورة مع عدوك وكأنه ولي حميم. وحكيت قصة طريفة سمعتها من صديق. قال إنه كان يكره أحدهم كراهية التحريم. ولقيه ذات مرة في السوق. وضاق ذرعاً به وليتخلص منه دعاه أن يذهبا إلى إستديو تصوير قريب منهما ويأخذا صورة معاً. وفعلا. وأنصرفا. ولم تقع لنا مثل هذه الصورة بعد إلا بعد عهد نيفاشا. ولكن الأطراف الأخرى تلهج بالصلح ما تزال وتبخل بالصورة. يلا قرقروا كلكم.
|
|
|
|
|
|