|
تاريخ المال السائب أو مأثرة كمأثرة علي إدريس عبد الله علي إبراهيم
|
سمعت هذه الحكاية عن النقابي علي إدريس ، من سكان حي الداخلة بمدينة عطبرة ، سودان ، من قريبي الحسين الطمَّاس ، جزار الحي ، من فمه لأذني لا وسيط ولا ناقل . والحسين ، وصديقه وصديقي خضر عمر يوسف ، التاجر بسوق الحي ، ممن قد نطلق عليهم في السودان "القومابي" . وأحسب أصل الكلمة من "القوم" أي تلك الجماعة التي تنهض وتأخذ رزق الناس عنوة . غير أننا نستخدم "قومابي" ، بهذه الصيغة المرتجلة ، بشيء من الاستلطاف للرجل الذي لا يتورع عن أخذ حق الناس لاستصحابه هذه القوة بآيات من السخاء والمروءة . الحسين وخضر يقفان عند بوابة الحي ولهما مكوس وجمرك على كل صفقة تجري فيه . فهم "الوسطاء" الذين لا يمتنعون . وقد تسميهم أيضاً "جماعة دفن الليل أب كراعاً (رجلاً) بره" أي الذين قد يشغلهم الكسب عن إكمال الأمر على وجهه الأتم مثل أولئك الذين تحُول عتمة الليل دون دفنهم للجثة كما ينبغي لأن الرجل منها تبقى خارج القبر ما تزال . وقد سمعت هذه العبارة تُروى عن صالح بيرة ، النقابي الهصور الذي قاد العمل النقابي في فبريقة بيرة النيل الأزرق بالخرطوم البحرية لزمان طويل . وكان شوكة في جنب اتحاد نقابات العمال الذي يقوده المرحوم الشفيع أحمد الشيخ وجماعاته اليسارية . قيل - وهذا استطراد نعود منه قريباً - إنه قررت المنظمة اليسارية إسقاط صالح بيرة في انتخابات وشيكة في نقابة المصنع في منتصف الستينات . وانتدبت المنظمة اليسارية كادرها المؤتمن السيدين بخاري وأحمد هلال يوماً بعد يوم إلى المصنع يُألبون العمال ضد صالح بيرة . وكانا يأتيان على دوي دراجتهما البخارية التي أهداها العمال البلغار أو الهنغار لاتحاد العمال السوداني . وانزعج ، أو ربما خاف ، صالح بيرة من تلك الحملة الدقيقة اللئيمة ذات الصول والهول والدوي . فجاء يوماً إلى مكاتب اتحاد العمال، والتقى بالمرحوم الشفيع ، وقال له : "طلبتك بالله أوقف عني جماعتك ناس دفن الليل أب كراعاً بره" ، وتعال بنا نصل إلى كلمة سواء" . وشهد الله فإن الحسين والخضر من أرق الناس ، وأكثرهم أقداماً وكفاءة . وهم ، في الحق ، من أهل الدفن المسلم الصحيح . فلا يكادا يسمعا بوفاة في الحي حتى اتجها إلى المقابر حين يتجه الجميع إلى منزل البكاء . فحفر القبر عليهما وحدهما . فإذا وصلت الجنازة كانا قد أُشْرِبَا بالعرق والتراب والأجر أمام القبر النضيد . ذكرهما الله بالخير على إحسانهما في أهلهما . ونعود إلى سيرة النقابي على إدريس . قال لي الحسين أن قريبنا معاً ، علي إدريس ، ونسميه في الأسرة علي "الدمك" أو "الطج" لصرامته ، وخلوه من الدبلوماسية في الحق، وكلمته الواحدة ، ترشَّح على كِبر على أيام الرئيس نميري (1969-1985) ليكون مندوباً عن الطُلْبَة (العَتَّالة) بمخزن البضاعة بمحطة سكك حديد مدينة عطبرة . وكانت لهم دائرة تابعة للجنة النقابية لمصلحة إدارة السكة حديد . وهذه اللجنة واحدة من أربع لجان هي جسد النقابة العامة لعمال السكة الحديد . والثلاث الأخرى هي الورش والمخازن والهندسة . وفاز علي إدريس في ظروف خصومة ومنافسة بين أنصار الحكومة من الاتحاد الاشتراكي وجبهة المعارضة . وكان علي إدريس مستقلاً أو على الأقل جديداً في العمل النقابي . وطمع فيه جماعة الاتحاد الاشتراكي لأن مرشحهم لرئاسة النقابة من مصلحة الإدارة ، ولن يتسنى له أن يصعد لقيادة النقابة إن لم تنتخبه لجنة مصلحة الإدارة التي كان علي إدريس واحداً من مندوبيها . وجاء حرص الاتحاد الاشتراكي هذا لعلمهم أن لجنة مصلحة الإدارة ولجنة الورش ، خلافاً للجنتي المخازن والهندسة ، تدينان بولاء تقليدي للحزب الشيوعي . جاء مندوب الاتحاد الاشتراكي إلى حي الداخلة ليعرض على الحسين أن "يخدمهم" بكسب صوت علي إدريس لمرشح الاتحاد الاشتراكي والحكومة . والحسين "قومابي" كما سلف ذكره والسياسة عنده "هلس في هلس" ، وشغل حرامية كبار ، ومالها سائب حلال والصفقة عنده صفقة ، وبارك الله فيمن نفع واستنفع ، والله يولي من يصلح وهلمجرا . وقابل الحسين علياً وعرض عليه الثمن الموضوع على صوته في انتخابات النقابة . ولم يزد علي إدريس عن قوله للحسين إن عمال دائرته قد حسموا هذا الأمر بأن طلبوا منه أن لا يصوت لمرشح الحكومة . فالسيف قد سبق العذل ، علاوة على أن علي إدريس ذو كلمة واحدة ، دوغري ، طُجٌ ، دُمكٌ ، أصنج ، ولو وضعوا مال الدنيا في يديه لما تغير. أحسب أن جانباً في الحسين ، القومابي الأصيل ، قد أشرق لهذه العفة والكبرياء. وربما أسعده أنه خسر الصفقة هذه المرة ، فالذي يعرف أكثر من غيره أن نهاية هذه الحياة حفرة ، وأنه شخصياً قد حفر المئات منها مقابراً ووسد فيها المئات ، لا بد يطرب لأن بعضنا مثل علي إدريس يأتي إلى هذه الحفر بهذا الازدراء للمال ، والتوقير للأمانة ، والفقر المجيد . وقال لي الحسين : إن القصة لم تنته هنا . فلقد جاءه على إدريس في صباح اليوم التالي ليقترض "حق الخضار" . واستلف على إدريس مالاً ركل أكثر منه في أمسه ليصوت بضمير والتزام ضد قوى لا قِبَل لعلي إدريس بها . ربما يجيء اليوم الذي سيُكتب فيه تاريخ المال السائب في الاتحاد الاشتراكي وغير الاتحاد الاشتراكي الذي استطال به رجال ونساء وأطفال بالاسم . وأرجو أن يجد المؤرخ في مأثرة علي إدريس الاستثناء الذي ارتدت به موجة ######ة من ذلك السحت عن جيب نقابي . وقال التجاني يوسف بشير : يا نَاصحَ الجيبِ لم يَـعْـلَـقْ به وضرُ والناصح الخالي الوفاض هنا، والوضر هو ال###### حمانا الله ، أو كما قال والله أعلم .
|
|
|
|
|
|