|
الحداثة التي تأتي ولا تأتي: إطار تاريخي عبد الله على إبراهيم
|
1) حالة مصر والعرب
الحداثة المتثاقلة
اثار جوناثان فريدمان،الصحافي بجريدة النيويورك تايمز، سؤالاً غاية في الأهمية خلال أزمة شركة دبي التي وقع عليها عطاء إدارة عدد من المؤاني الأمريكية في العام 2005. فقد استغرب فريدمان كيف تكأكأ الرأي العام الأمريكي على الشركة العربية ووقف ألفاً أحمر دون أن تستلم مهامها. وقال للمتعصبين ألا تخشون أن تبعثوا بذلك رسالة مئيسة للعرب وللمسلمين عن مآلات مشروع الحداثة الذي ما مللنا ندعوهم إليه بل نحملهم عليهم حملاً ثقيلا. ومفاد هذه الرسالة إننا سنجعلكم تركبون طريق الحداثة شئتم أم أبيتم ولكن ستسقطون في امتحانها متي تعلق الأمر بشراكتكم في ثمارها العولمية. فمتى قربتكم الحداثة منا كما هو منظور منها، وكما حدثناكم عن ذلك بأنفسنا وزيناه لكم، استعصمنا بأمننا الإمبريالي ولم نر من حداثتكم، يا أقحاح العرب المسلمين، سوى وجه القمر المظلم.
بعبارة أمريكية: يصير أمر الحداثة ونصيبنا منها نحن العرب المسلمين مثل ال###### الذي يطارد ذيله ليعضه وما هو ببالغه حتى بشق الأنفس. والوعي باستحالة الحداثة للخالفين في شرط عالم رأسمالي أبلغ وأسدد من الوعي بأهمية الحداثة مما يدعوننا إليه. وهو عالم الهيمنة فيه للغرب ثقافياً قبل أن تكون إقتصادية. وقد حجبت عنا حتى الماركسية ديناميكية هذه الهيمنة الثقافية حين صبت جام تحليلها ونقدها على اقتصاد الغرب لا ثقافته. وقال كاتب جريء الخاطر منذ حين إننا ربما أفرطنا في تحليل الغرب وأشكال هيمنته التاريخية علينا حين اكتفينا بالنظر إليه كإرسالية اقتصادية ولم نتأمل بكفاءة كون الغرب إرسالية ثقافية بحق وحقيق. وتركنا هذا الشق من هيمنة الغرب لذوي الدعوات الدينية فأوغلوا. وطالما كانت الحداثة هي بصورة جوهرية مشروع ثقافي أو نهضوي يتكافأ فيه البعث الاقتصادي والتكنولجي مع التغريب (الافتتان بالغرب) فالآخر، العربي المسلم والأفريقي، من المظنون في أهليتهم الثقافية أو كسبهم الثقافي حتى، لن ينالوا الإجازة في الحداثة مهما حاولوا. فستظل عضويتهم لنادي الحداثة موضوع فحص أزلي لمجئيهم من على الرصيف الخاطيء من إرث الثقافة ومعيارها. ولتقريب الصورة للحداثة المتثاقلة أنظر تراجيكوميدي طلب تركيا للإنضمام للاتحاد الأوربي وكيف ظل يراوح محلك سر منذ عقود. ودائماً ما وجدت أمانة سر الاتحاد الأوربي عيباً في ثقافة تركيا حتى حملتها على إباحة الزنا، وهو حد إسلامي. وما تزال تركيا عائبة في نظر أوربا "عيب القادرين على التمام." بل وسارعت أوربا بدستور لاتحادها تنص فيه على أن تعريف أوربا لا يصح إلا يالنظر إلى إرثها المسيحي. والكلام ليك يالمقدم طلبك ولم تبدل تبديلا.
تريد هذه الورقة أن تأتي بسياق تاريخي في دلالة هذه الحداثة المتثاقلة أو المستحيلة. وسأكتفي بإطارين لخبرات عربية إسلامية وأفريقية نشدت الحداثة منذ القرن التاسع عشر ولم تبلغها كسراب بقيعة. وفي الإطارين سترى أن استحالة حداثة المسلمين والعرب والأفارقة هي وظيفة من وظائف الشوكة الغربية لا "كاراً" يستكن جينات أو عاهة تعتور مخيخ هذه الجماعات الثقافية يشل يدها دون الحداثة. سيكون الإطار الأول هو رأي صريح بتثاقل الحداثة صدع به المؤرخ مارشال هودجسون صاحب واحد من أميز الكتب عن إرث الإسلام وأحفاها به وهو مخاطرة الإسلام الذي صدر في أجزاء ثلاثة في السبعينات. ولم يمتد بهودجسن العمر ومات في ريعانه الأكاديمي. فربي تقبل عمله هذا عن دينك وأمتك قبولاً حسناً. وقد جاء هودجسن بآرائه موضوع النظر في كتاب عنوانه التفكير مجدداً في التاريخ العالمي صدر في 1993 ضم مقالات له نثيرة في المجلات توافر على جمعها وتقديمها حبيب له ومهتد به. أما الإطار الآخر لتثاقل الحداثة فهو مما استلهمته من بازل ديفدسون المؤرخ لأفريقيا ذي الوجدان. وفيه يسأل لماذا تأخر الأفارقة دون الحداثة بينما بلغها اليابانيون.
هودجسون ومصر محمد على باشا:
يتناول هودجسن الحداثة التي حاولها محمد على باشا خديوي مصر (1801- 1849) آخذاً في الاعتبار هوان مصر على الفرنسسيين الذين غزوها بغير مشقة بقيادة نابليون بونابرت في 1799. لقد ترعرع بفضل حداثة محمد على باشا نظام حكم عسكري لم يكن بوسعه تحدي الغرب بالطبع ولكنه قادر على تقويض التقاليد الثقافية المصرية. وسبيله لذلك حذاقة اكتسبها من الحداثة يبلغ بها كل دار متواضعة مسكونة بتلك التقاليد فيرهبها لتخرج من جلدتها العتيقة إلى رحاب عصرها. واستطاع محمد علي وصل اقتصاد بلده بالسوق الأوربي العالمي. وقد حصد من هذا الوصل ثروة تمتعت بها طبقة جديدة بلا جذور في مصر كانت قد اقتلعت الأسر القديمة من منصات إمتيازها. ولم يزد هذا الاقتصاد عن كونه تابعاً للغرب ينتج المواد الخام التي تبقى أسعارها تحت رحمة رأس المال الغربي. ولقد سعي محمد على للتصنيع ولكنه، بالنظر لأنه لم تتوافر له المصادر التقنية التي لا يكون هذا الطموح إلا بها، اضطر لجر الآلآت وتشغيلها بقوة الثيران. ولما باء جهده بالفشل هجر التصنيع بالمرة. وبالنتيجة جرى إغراق السوق المصري بمنتوجات مصنوعة بالماكينات في الغرب. وقد أدى هذا إلى عطالة الحرفيين، وزعزعة النسيج الاجتماعي المتماسك لحياة هؤلاء الحرفيين في كاراتهم بالمدينة. وقد ران الصدأ الاقتصادي والاجتماعي معاً على مصر بصورة رئيسية بالنظر لأن مشروع محمد على لم يطرح بديلاً بناءً.
وأوضح ما يكون كساد مشروع محمد على في حقل التعليم. فقد طلب تحديث التعليم عن طريق مصادرة الأوقاف التي عليها مدار دعم التعليم قديماً. وقد هز هذا الإجراء استقلال التعليم عن الدولة وانتقصه. فقد أصبحت المدارس عالة على الدولة. وكلما استدعى مشروعه موارد أكثر للتعليم كلما عاج الخديوي على الجامع الأزهر فأفقر مادة مقرراته وقصرها على الاهتمامات الفقهية الأضيق فالأضيق التي استمسك الأزهر بها خلال القرن التاسع عشر. لقد أراد محمد على بالفعل أن يبني حياة ثقافية جديدة أنموذجها الهادي هو الغرب. وهنا ايضاً كان نجاحه مشبوه النتائج. لقد بني مدارس كثيرة غير أن الطلاب الذين أموها كانوا قد تشربوا طرائق التعليم المدرسية القرن أوسطية. وقد أشكل عليهم الأمر حين سألوهم تعلم الكيمياء والهندسة. ورسخت هذه المدارس بمر الوقت ولكن ليس قبل تبديد أكثر وقت جيل من الطلاب وقواهم الفكرية. وبدأت هذه المدارس بعد ذلك في تخريج رجال كان بوسعهم على الأقل قراءة الكتب الحديثة وتمتعوا بشيء من الذكاء. وانشغلوا بذلك انشغالاً حال دونهم ودون المساهمة بشيء من دخيلة إبداعهم.
وقاد هذا الخلط التعليمي بالضرورة إلى ثنائية في التعليم. فقد جذبت المدارس الجديدة أفضل التلاميذ بينما تقاطر غالب التلاميذ الأقل استقادة ذهن إلى المدارس التقليدية. وهي مدارس لم يتحقق لها ملامسة التعليم من كل أقطاره وحظيت بنوع تقليدي منه بارت تجارته بالرغم من أنها هي التي أوكل لها تعزيز التواصل الثقافي للقطر. وأنشبت هذه الثنائية التعليمية الضريرة أظافرها في التعليم مما قعد بمصر دون النهضة التي لا تكون الحداثة إلا بها. فنجمت عن تلك الثنائية طبقتان من المتعلمين لا معابر بين واحدتهما الأخرى. طبقة من خريجي المدارس الحديثة حصلت على قدر مرموق من الكتب الحديثة وهو علم انتبذهم أهلهم لأجله. وقد ذكر الدكتور عبد الله الطيب أن أهله كانوا يقولون له متي عاد من كلية غردون إن المدارس لا تدرس العلم (في معنى القرآن وعلومه) وإنما هي شغل دنيا ساكت. فأصبحت المدارس الحديثة لا تعلم الناشئة إلا القشور من دينها. ولما لم تحصل هذه الناشئة على علم جدي بماضي مصر الإسلامي تقطع ما بينها والجمهرة. فلم تجد هذه الطبقة في نفسها عطفاً على تلك الجمهرة ولم تلق هي نفسها ذلك التعاطف من الجمهرة. أما الطبقة الأخرى من صفوة التعليم التقليدي فقد تناقصت كفاءتها وحجيتها كسادن لدين الإسلام وانحجبت عن الينابيع الفكرية للحياة الحديثة.
وتساءل هودجسن عن لماذا لم يقد غزو نابليون لألمانيا لمثل هذا الهزال الفكري الذي طبع مصر بعد غزوه لها. وقال إنه خلافاً لمصر فقد أنعش نفس الغزو ألمانيا اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً. وعلة ذلك أن ألمانيا كانت بوجه عام جزءأ لا يتجزء من المجتمع العام الذي اشتمل على إنجلترا وفرنسا. فالمبتدعات في فنون الإدارة وفي الإنتاج بواسطة الالآت وغير ذلك في ألمانيا، التي لم تبلغ بالطبع شأو انجلترا وفرنسا، مما مهد له تدريب أجيال من كتبة عصر القرون الوسطي في حيل العصر وتكنيكاته المتقدمة بصورة قريبة مما كان حدث في إنجلترا وفرنسا نفسيهما. وعلى خلاف من ذلك تماماً مالت نفس الحادثات التي ايقظت ألمانيا إلى هدم مهارات الحرفيين والتماسك الثقافي الذي تمتعت به مصر في القرن الثامن عشر.
وبناءاً على هذا يقترح هودجسن طريقة أرحب للنظر لخيبة المسلمين في بلوغ الحداثة. فهو يري أن المسلمين لم يكونوا بالغيها حتى بشق الأنفس. فحين أرادت مصر والمسلمون شق طريق للحداثة لم تكن الموارد البشرية كافية حتى قياساً بما توافر لهما من تلك الموارد قبل قرن مضى. فهو يرى أن الحداثة لن تقع للمسلمين طالما افترضت الحداثة الأوربية انقسام العالم بين مركز منيع الجانب وتخوم هي بصورة وأخرى مستعمرة اقتصادياً.
فلكي يتعاطي المسلمون الحداثة وينجحون في هذا التعاطي وجب على الحداثة أن تتلاءم مع حاجيات المسلمين. وسيقتضي هذا عكس واحد من القرارات التاريخية لعصرنا الحديث بل وأكثر خطراً. إذ سيقتضي هذا تغيير علاقة من علائق الشوكة الغربية والاستضعاف للمسلمين ظلت سائدة بدفع ذاتي ملحاح. فلما حاولت مصر في ثمانينات القرن التاسع عشر إحكام السيطرة على سفه طغيان الخديوي اسماعيل بإجراء تعديلات دستورية تعطي للبرلمان رقابة على أوجه صرفه لأموال دافع الضريبة أحدقت البارجات البريطانية بمصر في 1882 وفرض البريطانيون حلاً خاصاً بهم للمسألة تطفلوا به على سياسة مصر وماليتها لوقف نزيف الخديوي السفيه. وكان هذا بديلهم للدستور الذي اجتمعت عليه الأمة المصرية. وأعانهم هذا التطفل على مصر على خفض ميزانية التعليم لكي تتمكن مصر من الوفاء بالتزاماتها للدائتين الأوربيين. ومما استفدناه من خبرات بلاد أخرى بدا لنا أنه من المشكوك فيه أن كان الاحتلال بالذات هو ما احتاجت له مصر للوفاء بالتزاماتها الدولية. فلربما بلغت مصر من أمرها رشدا لو اقتصرت بريطانيا على جبر مصر اقتصادياً وفكرياً لمراعاة التزاماتها للدائنين دون حاجة للاستعمار كما حدث ذلك في تركيا على عهد السلطان عبد الحميد.
وأسوق هنا استطراداً ما جاء عند الدكتور ياب فَصّل في هذا النزوع الليبرالي الحداثي الذي أجمله هودجسن وأوضح كيف تهاوى نتيجة لاستعمار مصر في 1882. فقد دعا الطهطاوي، وهو ثمرة ناضجة من ثمرات بعوث الخديوي محمد علي الحداثية، إلى وطنية مصرية مميزة عن الإسلام. ولهذا كان موضع هزء العلماء الدينية وتقريعهم. فقد قيل إنه سكر في الباخرة التي أقلته إلى فرنسا فربطوه إلى صاريها وجلدوه. ثم اتهموه بأكل لحم الخنزير واستحسانه له. وهكذا. وتولد من بعوث محمد على باشا إلى أوربا وخططه للتحديث مناخ لليبرالية وحماسة لها في دوائر مدينية شابة. ولم يكن الطهطاوي نفسه ليبرالياً لأنه اعتقد في وجوب النظام الأوتقراطي الملطف بشورى العلماء. ولكن وجدت الليبرالية دعاة محدثين آخرين. وبرغم ضعف قاعدة الليبرالية من جهة الطبقة والثقافة إلا أنها فتقت نقاشات خرجت منها دعوات للحريات الدستورية والديمقراطية البرلمانية. وانصاع إسماعيل باشا لهذه الدعوات فأنشأ مجلس شورى النواب في 1866. ولم يحل ضيق صلاحيات هذا المجلس وضعف تأثيره على مجرى السياسة دون أن يكون منبراً عبَّر أعيان الريف من ذوي الأصل العربي من فوقه عن ظلاماتهم ضد ملاك الأراضي الوافدين من الأتراك والشركس. ووصف ياب هذا المجلس بأنه كان مجرد عنوان للحضارة لا أداة قوة في يد أولئك الأعيان. وقال ياب أن المؤثر الثالث الذي انضاف لمزيج وطنية الطهطاوي وليبرالية اعيان الريف هو الحداثة الإسلامية التي قام بأمرها الأفغاني ومحمد عبده. وهي حداثة دعت لإصلاح الإسلام ليلقي ابتلاء الحداثة قوياً مجتهداً مبادراً. وقد ألبس الأفغاني وعبده حداثتهما قالباً إسلامياً مجتهداً لم يستسغه مع ذلك المحافظون في حين انجذب له شباب الأزهر. ووجدت هذه الطاقة الوطنية الليبرالية الحداثية منابرها في الصحف، آية الزمان كما وصفوها، التي جاءت إلى مصر في أعقاب نهضة الشام ووفود مثقفيها إلى مصر. وقد كانت مجلة "الطريق" لابن النديم هي لسان حال الوطنية لمصرية إبان هبة عرابي بلا منازع. وقال ياب إن هذه النزعات الوطنية الليبرالية الحداثية هي التي عصف بها استعمار مصر في 1882 كما رأينا.
|
|
|
|
|
|