بين الإبداع و مهنة المتاعب خيط مودة هو القلم، لكن الشقاق وصل بنهما حد إلغاء احدهما للأخر. هو التضاد الوجودي، إن إهتم المبدع بإبداعه ، يغيب عنه هاجس اليومي المهني. و إن إهتم الصحافي بمهنته، توارت إبداعاته خلف ستار سميك من الإنشغال الكامل و التعب الذي لا يترك للحظات الإسترخاء الإبداعية أي حيز لتجسد حضورها في يومياته.
رغم ذلك نجد صحافيات و صحافيون مغاربة يغالبون اليومي المهني ، و ينتصرون للإبداع في قمة إنشغالهم. يختطفون لحظتهم الملهمة وسط ضجيج الاخبار و المقالات و التعاليق و الحوارات. هم نساء و رجال مهنة المتاعب الذي بدؤوا حياتهم بمحاورة القصيدة أو القصة أو اللوحة أو الرواية. نحاورهم اليوم لنقف عند مفترق الطرق بين هذا و ذاك.
تقديم وحوار: عبد العزيز بنعبو لجريدة "المنعطف" المغربية
1* كيف هي الحياة في إزدواجية مرهقة إن صح التعبير؟
الصحافة مهنة من المهن للحصول على لقمة العيش. مرهقة نعم. لكنها أكثر إرهاقا عندما يكون الصحفي مبدعا أيضا، لأن التوفيق بين الوضعيتن أشبه ما يكون بالتوفيق بين ضرتين ! ولأن جوف ابن آدم ليس فيه أكثر من قلب واحد، فهناك بالتأكيد ميل دائم للإبداع على حساب العمل الصحفي لأن هذا الأخير ضرورة وليس اختيارا.
هناك مصدر آخر لهذا الإرهاق تفرضه طبيعة الممارسة الصحفية نفسها في المغرب، حيث الصحفي نوع من passe par tout، قد يطلب منه، في حالات كثيرة، أن يكتب في أي شيء، وأن ينجز تغطيات لمواضيع بعيدة جدا عن دائرة اهتماماته وأيضا عن تخصصه، وقد يكتب عن مواضيع لا يحبها بشكل مطلق، لكن الضرورة تفرض ذلك بالنظر إلى العدد المحدود من الصحفيين الذين يشتغلون، بشكل خاص، في الصحافة المكتوبة الورقية.
هذا لا يمنع من التأكيد أنه عندما نتأمل دور الصحافة في بناء المجتمعات، وفي الرقابة على المؤسسات وفي تتبع السياسات العمومية، والتنبيه إلى الأخطاء، والاستعانة بالمحللين المتخصصين لاقتراح الأفكار والبدائل، فلا بد أن نشعر بأن هذه المهنة التي هي في الواقع مصدر رزق ودخل للصحفي هي أيضا رافعة للمجتمع. وبالتالي لابد من تحية هذا الجانب النضالي إذا جاز التعبير وتثمينه ووضع اعتبار له، فهو يفترض فيه أن يجعل الحياة الجماعية أفضل.
2* هل من سبيل إلى الخروج من عنق الإختيار إلى رحابة الجمع بين الإبداع و الصحافة؟
مادام الإبداع في المنطقة التي ننتمي إليها لا يؤمن الموارد الضرورية للعيش، سيظل المبدع الصحفي بين مطرقة وسندان. وقد كتبت في عمود قديم أن كل مبدعي المغرب هواة، ليس لطبيعة إنتاجهم بل لأن دخلهم من "حرفة" أخرى غير حرفة الأدب. لهذا يبدو الاختيار الإجباري، يا للمفارقة، محسوما: أن تشتغل صحفيا يستنزفك اليومي بأحداثه الهامة أو ال########ة التي لا تتوقف، خاصة إذا كان العمل في صحيفة يومية.
بالرغم من ذلك هناك الكثير من المبدعين المغاربة جمعوا بين الصحافة والإبداع منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، لكن هذا الجمع أدى ضريبته الإبداع المغربي الذي ظل يتراجع في الكثير من الحالات ليترك المجال للعمل الصحفي، وبالتالي ربما ضيعنا الكثير من الطاقات الإبداعية كان بإمكانها، لو تفرغت، أن تصل إلى أرقى المستويات كما وكيفا.
3* يقال أن كل صحافي جيد لا يمكنه أن يكون مبدعا جيدا، كما أن كل مبدع جيد لا يمكنه أن يكون صحافيا جيدا، إلى أي حد هذا القول صحيح؟
ما يمكن أن يجعل المبدع "غير جيد" هو قلة القراءة. عادة ما نفرط في هذا الأمر لحساب أشياء أخرى وهذه معضلة كبرى نعاني منها ونتعايش معها. أما لماذا؟ فلأن اليومي ثقيل جدا ومحبط ويأخذ من المبدع الكثير من الجهد و"التخمام" كما نقول، بالنظر إلى بيئتنا العامة الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل الثقة في المستقبل بعيدة ومستعصية. الكتابة كما قلت ليست حرفة يمكن أن تعيش منها ماديا. معنويا يمكن، وهذا في نظري هو الحافز الأهم والأساسي للاستمرار، لهذا ربما أكتب بلا أوهام كبيرة أكتب، فقط من أجل تحقيق ذلك التوازن المفقود والهروب قليلا من وطأة اليومي، وربما وهمي الوحيد أن هناك أناسا يجدون في بعض ما أكتبه بعض ما يعنيهم ويجعلهم أيضا يحققون توازنهم. أتوهم هذا وأعتبره وهما مشروعا.
أما ما يمكن أن يجعل الصحفي "غير جيد" فأمور كثيرة منها أيضا قلة القراءة، تضاف إليها البنية العامة للصحافة في المغرب والبيئة المحيطة التي تشتغل فيها. وهما أمران لا يساعدان على تطور الصحافة المغربية بالشكل الأمثل بالرغم من الجهود المبذولة في هذا الشأن، ويؤثران بشكل سيء على الصحفي. وربما، مع استثناءات قليلة جدا، لم يتبلور عندنا شيء يسمى المقاولة الإعلامية بكل ما تتضمنه من دلالات اقتصادية واجتماعية تجعل الطريق واضحة أمام الصحفي بشأن طبيعة العمل الذي سيسند إليه والأجر الكريم لحياة كريمة... البيئة المحيطة صعبة أيضا، سواء من ناحية القانون المنظم للمهنة أو الجهة الساهرة على هذا التنظيم (القانون مازال في طور النقاش، والمطالبة بالمجلس الأعلى للصحافة لم تحقق هدفها بعد). وهناك الكثير من التفاصيل في هذا الشأن بطبيعة الحال، أو من ناحية المقروئية التي تظل ضعيفة جدا والتي لا تتعدى بضع مئات الآلاف.
الآن، إذا اجتمعت هذه العوامل وتلك على مبدع وصحفي في نفس الوقت، فلاشك أن ذلك عامل إحباط أكيد، وحينئذ يضيع المبدع ويتيه الصحفي ويصبح الإنتاج قليلا ومستعصيا، هذا وإن كان العمل الصحفي أحيانا عاملا مساعدا لأنه يضع الإنسان في احتكاك دائم مع الأحداث ومع الحياة الحقيقية للناس على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومن شأن ذلك أن يكون ملهما !
4* من الأمور الواقعية في المغرب أن أغلب الممتهنين للصحافة في مرحلة سابقة طبعا جاؤوها من باب الإبداع، فهل للإبداع فضل على الصحافة؟
تتحدث بلا شك عن الصحافة الثقافية. في هذا الإطار هناك أمر لا بد من التأكيد عليه، ويحسب للصحافة المغربية. وهو أن الصحف خاصة مكنت عددا من المبدعين من فرص عمل وانتشلتهم من البطالة، كما أنها في وقت من الأوقات فتحت ذراعيها لمبدعين خرجوا من سجون سنوات الرصاص إما كعاملين بشكل رسمي أو متعاونين.
بالإضافة إلى ذلك قد يكون إعطاء الإشراف على الثقافة في الجرائد لمبدعين أو نقاد اختيارا، باعتبار أن هؤلاء هم الأقرب لتقييم الإبداعات المقدمة للنشر. وهذا أمر يكاد يكون أمرا مشتركا بين مكونات الجسم الصحفي المغربي، وإن كانت القاعدة العامة هي أن يشتغل الصحفي في كل شيء، سواء قدم من معهد الصحافة أو من الشعر والرواية وغيرهما.
5* خارج مدارات اليومي كيف تدبر لحظتك الإبداعية ؟
ليس هناك ما هو أفظع من ضغط اليومي على المبدع. لهذا يحتاج هذا اليومي إلى حسن تدبير. مع الأسف وفي كثير من الحالات لا يساعدنا واقعنا على ذلك وكم من مبدع أكل الضغط من طاقته الشيء الكبير. في هذا الخضم يصبح تدبير اللحظة الإبداعية نوعا من الصراع على ملكية المبدع فكرا وجسدا بين إكراهات اليومي والرغبة في تحقيق الميول والطموحات الإبداعية.
في كل الحالات اللحظة الإبداعية هي لحظة نادرة، بالرغم مما قد نراه ونقرأه من "سيول" شعرية. بالنسبة لي أفرق بين اللحظة الإبداعية التي تومض من خلالها فكرة ما في الذهن أو مقطع ما أو جملة افتتاحية للقصيدة ولحظة الكتابة التي هي إفراد لبعض الوقت قصد تنزيل اللحظة الإبداعية الحقيقية التي تسبقها.
6* لو خيرت بين هذا و ذاك ماذا تختار ؟
بين الصحافة والإبداع؟ أنت تعلم أنني توقفت عن العمل الصحفي منذ بضع سنوات، لكن مع ذلك أكرر أن الواقع الذي نعيش فيه لن يسمح حتى بالتفكير في الاختيار. إن هناك مفارقة. كيف يمكن الاختيار بين ما هو ضروري وما هو اختياري. العمل الصحفي كغيره من الأعمال ضرورة للبقاء أما الإبداع فهو اختيارك لتساهم في تجميل وجه الحياة. اختيارك لتجعل من الخيال وسيلة للتحايل على الهشاشة التي تشعر بها وأنت تدبر اليومي البغيض. وقد سبق لي في وقت سابق أن قلت إنني أعتبر الكتابة حربا شخصية على بوابة الخلود، وأن الشعر هو موجود لمعالجة اختلال التوازن في هذا العالم المليء بالمطبات والمثبطات.
7* هل تحلم بأن تصبح مبدعا فقط مخلصا لروح الإبداع دون سواه؟
دعنا نحلم معا بالمستحيل !