|
محجوب شريف : الحُبُّ داعية الإئتلاف - وأيضاً - مكانك شاغر
|
بقلم : فيصل الباقر لا أستطيع أن أُحدّد - بالضبط - متى تعرّفت على محجوب شريف ؟ ، ولربّما يعُود ذلك إلى أنّ محجوب شخصٌ لا تُدرك الأبصار محبّته ، فهو إنسانٌ كامل البهاء والنقاء ، ينسرب حُبّه فى الروح إنسراباً ، كما ينسرب الضوء فى العتمة ، فيبدّلها، ويُحيلها إلى الضد ، ولعلّ هذا هو سبب صُعوبة تحديد المرّة الأولى أو - بالأصح - المرّات الأُول ، التى يُقابله فيها المرء ، أويتعرّف فيها عليه عن قُرب ، وأشهد له - من قبل ومن بعد - بحرارة العاطفة الإنسانيّة ، ورحابة الصدر ، وإتّساع الأُفق ، والوضوح الفكرى والنظرى ، وأُضيف أنّ قصائده - جميعها ، وبلا إستثناء - أسهمت كثيراً فى تشكيل وجداننا الشعرى والإنسانى والحياتى والمعرفى، لكونها أشعار، يتجلّى فيها الصدق ونُبل العاطفة والغرض، إلى جانب بساطتها وعمقها الفلسفى والإنسانى الرحيب. أوّل ما تعرّفت على محجوب شريف ( الشاعر ) ، كان عبرقصائده التى كانت تصلنا طازجةً من سجن كوبر وزنازينه، ومن السجونه المُتعدّدة الأُخرى ، وقد كانت تصل للشارع العريض ، عبر قنوات صعبة ، ولكنّها ظلّت " سالكة " ، بفضل تضحيات من إناس - رجال ونساء - يستحقون الثناء والتقدير والتبجيل ، على تحمُّلهم/ن مغامرة تهريب القصائد من عتمة الزنازين وحيطان السجون ، قبل أن ننعم - وقتها - بفىء الإنترنيت ، ونسعد بصُحبة قوقل ، وسرعة وبراح إنطلاق الميديا الإجتماعيّة . ثُمّ جاء وقت تعرّفت فيه علي محجوب شريف (المُعلّم ) عن قُرب ، وكان ذلك ، سنة أن إلتحقت بركب التعليم ، مُدرّساً بالمرحلة الإبتدائيّة ، بمدرسة الغمّاراب بالريف الجنوبى / أمدرمان ( 1976 ) ، وكُنّا وقتها ننعم بصحبته وصحبة زملاء آخرين وزميلات أُخريات ، ممّن يضيق المجال عن ذكرهم ، وكان من بينهم ، المُعلّمان الثُنائى ، أحمد حجازى وفيصل حسن الشيخ ، وغيرهما ، وقد رافقاه مع آخرين وأُخريات فى رحلات أُخرى طويلة ، بين زمالة " الطبشير " ورفقة الفكر المُستنير والعمل النقابى الجسور والمُعتقلات والفصل السياسى من الخدمة فى مجال التعليم ، كما رافقاه ، فى قيادة " الجمعيّة " ، وفى معارك الدفاع عن المهنة ، وبدايات فكرة " الهكر " ومواقع ومواقف أُخرى ، ومعهما - حتماً - آخرين وأُخريات يضيق المجال هُنا عن ذكرهم جميعاً. حينما كُنت أجرى حوارات توثيقيّة فى صحيفة ( ظلال ) فى عام 1993، بالإسم الصحفى ( أبو عمار ) إتّصلت بمحجوب ، لإجراء حوار صحفى توثيقى معه ، وكُنت أعتقد أنّ علاقتى الطويلة به ، ومعرفته الشخصيّة بى، سيشفعان لى ، فى تيسير مُهمّتى التاريخيّة والعصيّة ، ولكنّه إعتذر وامتنع فى أدبً جم وتواضع كبيرين ، وعمل على تطييب خاطرى وجبره ، وراعى ضرورة عدم إحباطى ، بأن قال لى بالحرف الواحد ، وبمودّة كاملة الدسم : " أنا يا فيصل أحترم وأُقدّر مجهودك وجهدك الصحفى ، وأتفهّم إلحاحك ، وسعيك لمُحاورتى ، ولكنّنى إتّخذت موقفاً ، أن لا أُعطى (هؤلاء ) شرف أن يدّعوا فى يومٍ ما ، أنّهم منحونى، فرصة الحق فى التعبير ، والظهور فى الصحافة والإعلام ، بينما هم يمنعونه عن الشعب " .. وجاءنى بنسخٍ من الصحيفة ، مؤكّداً لى أنّه يحرص - بإستمرار - على شرائها وقرائتها.. وللأمانة ، فقد عُدت أدراجى ، أكثر سعادةً ، كونه تحدّث معى فى كثيرٍ من القضايا ، ومن بينها بعض المحاور التى أعددتّها للحوار المنشود ، ورغم عدم حصولى على الصيد أو السبق الصحفى الثمين ، إلّا أنّنى تعلّمت - يومها – درساً مُفيداً من محجوب .. ثُمّ حاولت معه ، ذات الطلب ، بعد سنوات حينما كُنت أجرى حوار ات مُشابهة فى صحيفة ( الصحافة ) عدد ( الثلاثاء المُتميّز ) ، الذى تشرّفت بالعمل فيه ، مع الصديق المُشترك كمال الجزولى ، و مرّة أُخرى ، وليست أخيرة ، واصل محجوب إصراره على موقفه المبدئى ، ولذات الأسباب، ولم يؤثّر ذلك – قط - على صداقتنا ومشاعرنا تجاه بعضنا البعض . حينما عادت ( الميدان ) من ( السريّة ) للعلن فى أبريل 2007 ، ظننت أنّ الوقت المناسب ، لمحاورة " الزميل " قد جاء ، مُستعيناً بما تيسّر لى من علم " الديالكتيك "، وبإعتبار أنّ ( الميدان ) هى صحيفة الحزب والطبقة ، وأعلم معزّته الخالصة للجريدة ، فثبّت ذات المولف ، وقال لى مُتسائلاً : " كيف أُعطى الميدان ، ما ضننت به على الصُحف الصحف الأُخرى يا زميل " ؟!..وهنا أدركت أنّ محجوب شريف لا يُمكن أن يكيل بمكيالين. وهيّات نفسى - فى إنتظار - سانحة جديدة ، ولربّما مُتغيّرات سياسية أعمق ، أستطيع فيها ، إجراء الحوار المنتظر ، حينما ينعم شعبنا بالديمقراطيّة الكاملة..و واضح ، أنّ زمان إجراء حوار صحفى للنشر، مع محجوب شريف ، لم يحن بعد!. بقى محجوب - وظلّ - إلى آخر يومٍ فى حياته الحافة بالإنجاز، يُعطى من غير منٍّ ولا أذىً ، وبقى شديد الأمل فى المستقبل ، ومتواضعاً وهو يُعلّمنا العلم ، ومتواضعاً وهو ينهل العلم فى كُل يوم جديد ، وهو شخص /إنسانٌ متّسق مع نفسه تماماً ، ومع مبادئه وقيمه، ومُعتدٌّ بشعبه ، وهو بإختصار ، مُناضل وإنسانٌ وشاعر رائع ، قلّ أن يجُود الزمان بمثله . إبّان مرضه الأخير ، كُنت أحاول الإطمئنان عليه - بين الفينة والأُخرى - وأُحاول أن أشد من أزره هاتفيّاً ، عبر الأصدقاء والصديقات المشتركين/آت ، وكان كعادته ، باسلاً وقويّاً وشُجاعاً ومُتفائلاً ومُحبّاً صادقاً للحياة ، إذ سرعان ما ينقلب الموقف ، ليصبح هو الذى يُريد أن يطمئن عليّ ويشُد من أزرى ويعمل على مؤاساتى ، وذات مرّة قال لى فى محبّة عالية: " فيصل مكانك شاغر " ، ومازالت هذه الكلمة ترن فى أُذنى ، لأنّنى حينما سمعتها بصوت محجوب ، شعرت بمعناها وطعمها ولونها وعمقها الحقيقى ، لا المجازى ، وآمل أن يُمكّننى الزمان من عودة ظافرة للوطن ، كما يأمل ويتمنّى محجوب . عبثاً وتربُّصاً مفضوحاً ، سعى البعض للنيل من محجوب ، بالقول أنّ محجوب شريف تغنّى للدكتاتوريّة المايويّة ، وفات على هؤلاء أنّ محجوب ، أوضح بصرامةٍ فكريّة و وضوح نظرى مُنقطع النظير - فى أكثر من مرّة – متى ولماذا تغنّى لمايو ؟ ومتى وكيف قطع علاقته بشعاراتها الزائفة ؟، ومنذ متى إنحاز للشعب والطبقة والوطن ؟ .. وقد سدّد محجوب شريف الإنسان والشاعر والمناضل ، فاتورة مواقفه اللاحقة من مايو " على دائرة الملّيم " ، سجوناً و مُطاردة ومُضايقة فى الأرزاق والمعايش ، كما فعل ذات الشىء فى ومع دكتاتوريّة الإنقاذ ، إذ كشف زيفها وخداعها ودعى لمقاومتها منذ بيانها الأوّل ، وقد عرفته سجونها وبيوت أشباحها ، وقد قدّم - فى الموقف من دكتاتورة مايو - للناس أجمعين - مُحبّين وكارهين ، أصدقاء وأعداء - دروساً وعِبر فى( ثقافة الإعتذار) ، ولم يتلجلج أو يُحاجج ، أو يُفكّر فى أن يلعب " بولوتيكا "، إذ أوضح مواقفه الناصعة بجلاءٍ تام ، وهو يُقدّم للجميع دروساً بليغة فى النقد الذاتى، وفى الجرأة على قول الحق ، وفى الشجاعة الفائقة والنادرة و" عدم اللولوة " أو التدليس ..وياله من محجوب وشريف " الما بجيب الشين والماهو زول وشّين و الما وقف بين بين " !. إنّه - بإختصار - محجوب شريف الذى عرفناه وأحببناه ، وعهداً ، أن نعض بالنواجز على مشروعه الكبير وعلى مُجمل المعارف والقيم التى إكتسبناها منه وعبره ، وسنبقى على حُبّه ، فالحُبُّ - كما يقولون - داعية الإئتلاف ، وإنّا على العهد ، لباقون. ولأنّ روحه الشفيفة الطاهرة تهوى الشعر ، أجد نفسى ميّالاً لأن أختم بمقطع من قصيدةٍ كتبتها فى محبّته ،إذ أقول فى خاتمتها (( يا زول يا جميل ، يا زول يا نبيل /// وين نلقاكا تانى لنردّ الجميل ؟! )) ..ويبقى الذى بيننا يا محجوب شريف ..ويا أبو مريم ومى .. ويا ود مريم محمود. وآمل أن تُمكّننا الأيام والظروف من رد الجميل.. ويبقى حتماً، مكانك شاغراً يا شاعر الشعب العظيم .
|
|
|
|
|
|