|
حكايات الحلة ونوادر أخرى بقلم هلال زاهر الساداتى
|
حكايات الحلة ونوادر أخرى بقلم هلال زاهر الساداتى ( 1 ) الفتآتة فى الستينات والسبعينات من القرن العشرين كان فى امدرمان مجموعة من المتعطلين يغلب عليهم كبر السن أو الأعاقة الجسدية ، فمنهم من قطعت رجله ومنهم من يمشى متوكئا " على عكازين ، ولكن البعض منهم فى كامل قوته ولكن آثر أكل العيش بسهولة مثل المتسولين الأصحآء ، وهؤلاء الأخلاط البشرية تجدهم حاضرين فى كل بيوت ( البكيات ) مؤقتين حضورهم فى اوقات تناول وجبات الطعام وبخاصة وجبة الغدآء ، وبالاخص فى يوم الكرامة ورفع الفراش حيث يكون الطعام كثيرا" الى جانب الفتة بلحم الضان والأرز ، فمنهم من يملا كيسه أو مخلايته بعد أن يملاون بطونهم حتى الأمتلآء ، واذا رايت الشراهة التى ياكلون بها فانهم لا يمضغون بل يبتلعون الطعام ابتلاعا" فى لقمات كبيرة ، واطلق عليهم لقب الفتاتة والكلمة مشتقة من الفتة ، وهؤلآءالناس لهم تنظيم خاص بهم ولهم رئيس اسمه سعد الدين يرتدى عباءة قديمة ويلبس فوق راسه طاقية من السعف الملون مربعة الشكل تلفها قماشة من الشاش اشبه بالعمة ، والرجل بشوش ويتقبل مداعبات الناس له بدون ان ( يتنرفز ) بل يبادلهم الحديث وهو يبتسم ، وهو ينظم جماعته عندما يجلسون للاكل جلوسا" على البروش وكلمته نافذة ومطاعة على الكل ، فاول ما يبدا به هو تقسيم قطع اللحم بالتساوى بين الجميع ويخص نفسه بقطعة كبيرة وبعضم القصير الذى بداخله المخ ، ولسعد الدين مساعد وهذا مهمته صب الشاى من الكفتيرة وبالتساوى ايضا" . وسعد الدين له المام تام ببيوت البكيات واازمان الكرامة ويخيل لك ان له جهاز مخابرات يمده بالمعلومات الضرورية باسمآء الموتى والمحتضرين والمرشحين لمغادرة الدنيا الى الدار الآخرة ، ولقد اطلقت اناعليه جهاز مخابرات الفتاتة الوطنى ، وكان سعد الدين يسمى اكلات البكيات باسمآءاتيام الكرة الكبيرة ، فكنا نسأله : المباراة الجاية بين منوومنو؟ فيجيب مبسوطا" ومبتسما" : بين الهلال والمريخ ، أو بين الموردة والوطن ، والمقصود بالمعنى ان الطعام سيكون كثيرا" ومتنوعا" ، أو يجيب قائلا" : حتكون مباراة ودية ساكت ، ويذكر فريقين صغيرين ، ويقصد ان الطعام يكون قليلا" ومحدودا" ومثل هذه الكرامات لا يذهبون اليها الا عند الضرورة وعندما لا يكون هناك خيارآخر غيرها . وقبل عدة سنوات فى السودان بعد حكم الانقاذ شاهدت عجبا" فهناك ظاهرة مميزة ، فيخيل الى الواحد ان معظم الشعب السودانى قد صار من المتسولين والفتاتة والذين يتصيدون بيوت البكيات لينعمون بأكلة . ( 2 ) خوجلى ) ومن الطفيليين والشرهين فى الطعام رجل يدعى خوجلى ولكن له عمل خاص به فهوحمارى يمتلك حمارا" ويعمل فى نقل الاحمال الصغيرة من السوق الكبير وسوق الموردة بامدرمان ، وكانت عربات التاكسى قليلة ، وكان الناس يعتمدون على الحمارى لنقل اغراضهم ، وكان لجدى لامى تاجر معين فى سوق امدرمان الكبيروكنت اذهب معه لشرآء مستلزمات الشهر من السلع كالفول والعدس والسكر والشاى والصابون وخلافه ، وكان لدينا زبون حمارى يوصل الاغراض الى المنزل فى حى الضباط . وللحمير فى سوق الموردة والسوق الكبير مواقف خاصة ، وخوجلى كان مجال عمله فى سوق الموردة ,كان موقف الحمير تحت شجرة الدومة فى طرف السوق بجابب الخور ومحل السكى للسمك ، وكان خوجلى طويل القامة صاحب قوام عادى ليس بالسمين أو النحيف ، ولكنه مشهور بانه أكول ياكل طعام سبعة اشخاص ولا يشبع أبدا" ، وفى هذا يقول المثل الدارجى : ( ياكل اكل السوسة والعافية مدسوسة ) والسوسة هى الحشرة الصغيرة الحمراْوالتى تنخر الخشب وتأكله وتبنى فوقها من مخلفاتها بيتا" كالهرم ( قنطور ) وقد شاهدته فى دارفور والجنوب ، والكلام يولد بعضه بعضا" ، فالسوسة هى دابة الارض التى أكلت من الداخل منسأة ( عصا ) سيدنا سليمان وكان مستندا" عليها ، فوقع على الارض وعرفت الجن انه كان ميتا" وكانت تحسبه نائما" طيلة هذه المدة . ونعود الى خوجلى ، فقد رحلت عائلة الى حى العباسية وذبحت خروفا" بهذه المناسبة ودعت جيرانها للغداء ، وبعثوا بالخروف مع خوجلى ليستوى على الفرن بسوق الموردة . وعندما استوى الخروف وبردت الصينية الموضوع عليها غطاها خوجلى بقطعة القماش وحملها امامه على الحمار ، وكان موقع البيت فى آخر العباسية ، وهو فى بداية المشوار راودته نفسه بان يستطعم قطعة صغيرة من لحم الخروف ، فرفع القماشة ( وهبر ) قطعة وطابت لها نفسه ، واخذ يرفع القماشة ( ويهبر ) قطعة ورآء قطعة حتى وصل الى البيت وادخل الصينية الى الداخل وفى لهفة التفت النسوة حول الصينية ، وكشفت ست الدار الغطآء عن الصينية وصرخت : سجمى ! وين فخدة ويد الخروف يا خوجلى؟ فاجاب بخجل واضطراب : ( والله النفس بطالة وما دريت بنفسى وانا آكل حتة ورا حتة لمن حصل الحصل وكانت احدى البنات حادة الطبع فخلعت ( شبشبها ) وارادت ان تضرب خوجلى ، فزجرتها امها ومنعتها ، وقالت( : يا بت انحنا ما فسلين ، وكان هو كعب انحنا نكون متله ، يا بتى الاكل ما بدقو عليه ) . ويقولون لمثل خوجلى الذى يفرط فى الاكل ولايشبع انه عنده دودة فى بطنه ، وعرفت ان هذه الدودة تسمى الدودة الشريطية وهى تتغذى على الطعام المهضوم فى الامعآء الدقيقة مما يجعل المضاب بها فى جوع ولا يشبع من الاكل ، وبهذه المناسبة كنت فى مكتب واحد بالوزارة ومعى ثلاثة زملآء وكان احدهم اقرب الى الهزال منه الى ألأمتلآء ، واخبرنى انه فى حالة جوع دائم واخبره الطبيب بان لديه دودة شريطية واعطاه دوآء وقال انه كفيل باخراجها من الستقيم فى ظرف اربعة وعشرين ساعة . وفى الغد جآء ومعه علبة وارانى بداخلها دودة بيضآءاشبه بالمصران او الصارقيل ويبلغ طولها حوالى العشرة اقدام وهى ملتفة حول الساداتى نفسها كالثعبان ، وقال لى ان هذه هى الدودة الشريطية التى كانت داخل بطنى ( 3) حاج ابكر والموت حاج أبكر رجل بسيط مثله ومثل ملايين السودانيين الذين يجلبون رزقهم مما تفئ عليهم الارض من محاصيل من الزراعة المطرية أو بالرى فى الاراضى قرب النيل ، وكان يمتلك ارضا" زراعية فى قرية من قرى دارفور يتعهدها بالزراعة فيحصد ما فيها ويكفيه وياكل منه ويبيع ما يفيض من محصوله لابتياع ما يحتاجه من سلع قليلة ، ورزق من الولد بنتان وولدان كان اصغرهم ابنه أساغة وكان آخر العنقود كما يقولون ، وكان حاج أبكر يحبه حبا" جما" وكان الولد فى الخامسة من عمره . وفى يوم كان حاج أبكر ينقى زراعته من الحشائش الطفيلية وبينما هو منهمك فى حش الحشائش راى ابنه الثانى عبد الرحمن جاريا" مقبلا" عليه ، وقال الولد وهو يلتقط انفاسه بصعوبة : ( أبوى أساغة مات ـ أبوى أساغة مات ) وجحظت عينا حاج أبكر واحتبس لسانه فى حلقه وارتجفت يداه ورجلآه وانهار قاعدا" على الارض ، وانهمر دمع غزير من عينيه ، ثم سأل أبنه وهو يتلعثم ( أساغة عض دبيب ولا مسيبة ( مصيبة ؟ ) واجابه ابنه : ( لا يا أبوى أساغة شالا موت ) ورد عليه وكأنه غير مصدق ( موت شالا أساغة ككيف الكلام ده ، يله نشيف ( نشوف ) الهكاية (الحكاية ) ده ككيف ) ، وقفز على ظهر حماره واردف ابنه خلفه وهويضرب برجليه صفحتى حماره ليسرع . ولما وصل وجد زوجته و ابنتاه فى بكآء ونواح أليم ، وكان حاج أبكر كالأصم ولم يتكلم مع أحد وارتقى القطية واستل سكينه الطويلة وشرع يطعن فى رأس القطية ويردد فى غضب هائل وثورة عارمة مع كل طعنة مخاطبا" الموت : ( موت تشيلى وليدى أساغة ـ موت ككيف ولا ـ ترهمى ( ترحمى ) أساغة وليدى ) وشبكت السكين فى الرباط والعقود التى تربط اجزآء القطية ، وكلما اراد تخليصها استعصت عليه وكأن شخصا" يجذبها من أسفل ، وخيل لحاج أبكر أن الموت يجذبه ليلحقه بولده أساغة ، فضحك بالرغم عنه وخاطب الموت بقوله : ( موت ترا انت ولا تأرفى ( تعرفى ) هزار ؟ نواصل هلال زاهر الساداتى
|
|
|
|
|
|