|
الاحفاد منارة تعليمىية سامقة ( 4 ـ 4) ايام الثانوى بقلم هلال زاهر الساداتى
|
اننى اشفق على نفسي من عدم الاحاطة والتقصير فى حق ذلك الرجل الجليل بابكر بدرى ، فهو شخص غير عادى حبآه الله بقدرات هائلة وهمة عالية وحكمة باهرة ، ومن اوتى الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا ، ولم يكن المرء ليتصور ان ذلك الجسد الصغير الذى يحمله يحتوى على كل ذلك النشاط والحيوية ، وهو رجل مظهره بسيط فى ملبسه يرتدى جلابية بيضآء نظيفة تصل الى ما تحت الركبة ، ويعتمر عمة بيضآء تشف نظافة يتدلي من جانبها عزبة انصار الامام المهدى ، فهو من الرعيل الاول من الانصار فى المهدية ومن المجاهدين بسيفه ورمحه فى شان الله وهو الشعار او القول اليقينى الذى يضحون فيه بالروح مستبشرين ، ويكمل لباسه مركوب خفيف يميل لونه الى الحمرة ، ولم يكن متزمتا" فى طبعه ويتفكه ويتبسط فى حديثه ، ويشع من جبهته العريضة وعينيه الثاقبتين مخآئل الذكآء . والشيخ الجليل ظل مجاهدا طيلة حياته المديدة ، فكان مقاتلا بالسيف والرمح فى كررى وفى جيش عبد الرحمن النجومى الذى ارسله خليفة المهدى عبد الله التعايشى لفتح مصر والذى لحقت به الهزيمة وقتل قائده العظيم واستشهد معظم جيشه ووقع الباقون فى الاسر وفيهم بابكر بدرى ، واما فى السلم فقد جاهد بفكره وعلمه وكما هو معلوم فانه رائد تعليم المراة فى السودان فقد افتتح اول مدرسة لتعليم البنات بمنزله فى رفاعة فى عام 1910 وادخل فيها بناته وبنات الاسرة ، ثم جآء الى امدرمان واسس مدرسة الاحفاد ، كما كان رائدا فى فتح اول روضة لتعليم الاطفال فى السودان ، ولقد بدات تعليمى وانا طفل بها ، وكذلك ادخل العلوم الحديثة والتعليم المتكامل ،فكان بالمدرسة جميع انواع الرياضة والمسرح وهو شئ جديد مما فصلته فى كتابى ـ الطباشيرة والكتاب والناس ـ ، ومن لمآثره ايضا" انه اب التعليم الاهلى فهو قد ابتنى المدرسة التى مازالت مبانيها قائمة الى الان من تبرعات الشعب السودانى وكان لا ينفك من التواجد فى المدرسة والمرور على الفصول وتدريس اللغة العربية اذا اعجبه موضوع الدرس ، ومنذ ان كنا اطفالا" فى السنة الرابعة اولية كفانا الشيخ بابكر من الوقوع فى خطأ الكثير من السودانيين فى نطق حرف القاف غينا" ، واذكر ما كنا نردده : ( قلقل القاف قلقلة حتى اتقنا نطق القاف ) وظل يلازمنا طيلة حياتنا ، وظل يعمل الى اخر يوم فى عمره فقد الف منظومة لتدريس النحو على غرار الفية ابن مالك والزم بعض مدرسى العربى من الشيوخ بحفظها وتدريسها ، واستدعانا وزميلى حبيب مدثر وكنا ندرس الجغرافيا بالمدرسة وطلب منا ان ندرسها حسب نظمه لها على مثال الفية ابن مالك ، ولما قلنا له ان الجغرافيه لا تدرس بهذه الطريقة واننا تعلمنا وتدربنا ببخت الرضا على احدث الطرق لتدريس الجغرافيه وحسب الاسس التى وضعتها اليونسكو ، غضب وقال ان بخت الرضا استعمارية ، وشآء الله ان ينتقل الى الرفيق الاعلى فى اليوم ىلتالى ، وعلى قدر حزننا والمنا لفراقه نجونا من خوض تلك التجربة الصعبة . ولا باس من ايراد قصة معه حكيتها فى كتابى ، وانا مدرس صغير فى حال تخرجى من ثانوى الاحفاد ولم اتدرب بعد ، وعند مروره ابصر بى وانا اجلد الكثيرين من تلاميذ الصف الاول متوسط ، فارسل الفراش بان احضر اليه فى المكتب بعد انتهآء الحصة ، وعندما ذهبت اليه سالنى عن سبب جلد التلاميذ واجبته بانهم رسبوا فى الامتحان الشهرى ، فقال لى لا يعقل بان نصف الفصل يرسب الا اذا لم يكونوا قد فهموا شرحك لهم للمادة فعليك مراجعة شرحك ، وعملت بنصيحته واصبح عدد الراسبين لا يذكر لقلته ، ومن يومها والى ان تركت التدريس لم اعاقب على عدم الفهم . ومن مآثره أنه يوظف بمدارسه المعلمين الشيوعيين الذين لا توظفهم الحكومة أو الذين يفصلون من وزارة التربية و التعليم و اذكر منهم القائد الشيوعي التجاني الطيب بابكر و عثمان محجوب و محمد الحبيب مدثر و احمد عبد الله المغربي و كان لايهتم بمعتقداتهم مالم يخلطونها بعملهم أو التأثير على التلاميذ . و كانوا من خيرة و أميز المدرسين . و هناك أمر يتعلق بسياسة المدرسة , فقد رفض العميد يوسف بدري قيام اتحاد للطلبة بالمدرسة مع ان كل المدارس الثانوية كان بها اتحادات للطلبة و كانت الحركة الوطنية ضد الاستعمار في عنفوانها و كان طلبة الثانويات و المدارس العليا هم وقود النضال بالاضرابات و المظاهرات , فكونا اتحاد سري و انتخبوني رئيساً له – و هنا اود ان اوضح نقطة هامة فمع اعجابي الشديد بالاشتراكية ووقوف الاتحاد السوفيتى مع تحرير الشعوب من الاستعمار , الا اننى لم اكن شيوعياً و قد حاول الشيوعيون تجنيدى معهم و لكن لم انضم اليهم أو الى إى حزب آخر مع تأييدى و اعجابي بالحزب الوطني الاتحادى و الزعيم اسماعيل الازهرى , و هذا موضوع آخر . و اصدرت وزارة المعارف و كان وزيرها الاستاذ عبد الرحمن على طه قراراً بفصل جميع أعضاء اتحادات الطلبة بالمدارس الثانوية و المدارس العليا , ووشي بنا فراش كان عيناً للعميد , وفصلت وحسن العبد وسعد الحسن و عبد الوهاب عبد القادر . و تبنى مؤتمر الخريجين قضية المفصولين و أرسلنا الى مصر التى الحقتنا وزارة التربية والتعليم بها بالمدارس الثانوية العريقة بالقاهرة . و سافرت انا و صديقِ مدثر والذى كان رئيس اتحاد الأهلية الثانوية . و في الحقيقة وجدنا صعوبة في التحصيل لأننا تعلمنا كل المواد بالانجليزي و هنا في مصر بالعربية . و هنا اكشف عن أمر لأول مرة وهو انني كتبت خطاباً شخصياً مسجلاً للشيخ الجليل بابكر بدري راجياً ارجاعي الى المدرسة وجاءني منه الرد بأن احزم متاعى وارجع لاواصل دراستي مع فرقتى بالصف الثالث , ثم عاد حسن العبد ورجع سعد الحسن و الذى لم يسافر من السودان حتى تخرجنا . و الأمر الاخر والذى لم أبح به سوى لشقيقى و صديقى المرحوم انور زاهر وهو : عندما كنت اعمل موجها تربوياً بمنطقة نجران التعليمية بنجران في المملكة العربية السعودية وصلنى تلغراف بوفاة والدى ولم ابك و أجزع ومن الغريب ان والدى ووالدتى و شقيقى الاثنين و شقيقتى توفوا و انا فى الغربة ولم تجر دموعى و كنت اكتم الحزن في داخلى . وعند وفآة والدى صادف ذلك ولادة ابنتى الغالية رشا والتى انضمت الى باقة شقيقاتها الزهرات أميرة و هالة . و حدث لى ما يصعب على التصديق , فقد حلمت و انا نائم بالشيخ بابكر بدرى منتصباً أمامى وهو يعزينى في والدى وبحثنى على الصبر , و أجهشت بالبكاء و سالت الدموع من عينى , و صحوت مضطرباً ووجدت المخدة مبتلة بدموعى .
وحتى اليوم لم أجد تفسيراً للذى حدث , وحدث ذلك في عام 1981 م بينما توفى الشيخ بابكر في عام 1954 م و انتابنى ما يشبه اليقين بأن الشيخ من الصالحين الذين يحشرون مع الآنبياء و الصديقين و الشهدآء وحسن اولئك رفيقا . ويكيفيه من صالح اعماله انه انتشل نصف الأمة من وهدة الجهل وذلك بتعليم النساء . اللهم أشمل بابكر بدرى بواسع رحمتك وادخله فسيح جناتك .
هلال زاهر الساداتى
ا
|
|
|
|
|
|