دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
ميرغنى شايب: تفتح مبكر، ملكات متعددة ومواقف حازمة ضد حكم العسكر.. د. صديق الزيلعي
|
فجعت كما فجع الآلاف من زملاء وأصدقاء ومعارف برحيل المناضل ميرغنى شايب (ميرغنى عبد الله مالك). وبرحيله فقدت مدينة الابيض إحدى هاماتها السامقة وواحد من أنبل أبنائها. أشتهر بالعطاء المتواصل ونكران الذات ومحبة الآخرين، وبرحيله الفاجع فقد اليسار السوداني مناضلا جسورا إنتمى للحزب الشيوعي السوداني في سن مبكرة و تميزت عضويته بالاخلاص والجسارة مما أهله ليتبوأ عدة مسئوليات قيادية وتقديمه للجماهير كنموذج للمناضل الشيوعي، لا يتنكر لقضية شعبه مهما كان ثمن ذلك من تضحيات. وفقدت قضية الاستنارة شخصا مهموما ومشتغلا بها ومساهما في كل قضايا الثقافة. عرفانا لميرغنى، الذى عرفته منذ طفولتنا بمدينة الابيض، واعتزازا بشخص تشرفت بصداقته، وتقديرا حقيقيا وأمينا لما قدمه لشعبه وحزبه ولمعارفه، أكتب هذه الكلمات التي لن تفي بدينه في عنقنا ولن تعكس كل ما تعلمناه منه ولا تملك الابانة أو القدرة لتوضيح كل جوانب حياته ولكنها محاولة لاخراج بعض مكنونات الصدر. إنها كلمات تهدف لابراز بعض جوانب حياة ميرغنى الشاب، غير المعروفة، ولإضافة بعض المعلومات البسيطة لما كتب عنه وأيضا هى محاولة لتصحيح بعض ما كتب عنه. تعرفت على ميرغني، لأول مرة، عند حضوره المتكرر لمكتب حاج الطاهر المحامى والذى كان يستأجر منزلا لجدي ويستخدمه لمزاولة أعماله كمحام متميز عرفته ساحات المحاكم والسجون بالشجاعة والجراة. وللتأريخ أذكر ونحن صغار تلك القصة البطولية عن حاج الطاهر عندما ذهب لمكتب الزين حسن الحاكم العسكري لمديرية كردفان، خلال الحكم العسكري الأول، وواجه الحاكم المشهور بالغلظة، في فعلته الشنيعة ضد حسنين حسن ( حسنين حسن هو أحد قادة الحزب الشيوعى بمدينة الابيض قام الزين حسن بنفخه نعم أكرر نفخه بعد اعتقاله). تحمل أحد العساكر الشجعان مهمة توصيل رسالة من حسنين لمكتب حاج الطاهر. توجه حاج الطاهر فور تلقيه الرسالة الى مكتب الحاكم العسكري بالقيادة الوسطى، حيث تم التعذيب الذى كان الحاكم يعمل جاهدا ليظل سرا، وهاجمه بشجاعة منقطعة النظير و التى صارت إحدى قصص الفلكلور السياسي الشعبي لمدينة الابيض. حضور ميرغني لذلك المكتب كان بسبب علاقة أخيه معتصم عبدالله مالك المحامى بحاج الطاهر وعملهما المشترك. ومن الطبيعي أن يتاثر ميرغني الشايب بتلك المواقف القوية التى بدرت من حاج الطاهر وأن تلعب دورها في تحبيب مهنة القانون له كمهنة تعنى بالدفاع عن الحريات والحقوق الاساسية للانسان.
كان ميرغني أحد أبرز أبناء جيلنا بمدرسة الابيض الاهلية الوسطى ( وهي إحدى إنجازات مؤتمر الخريجين في برنامجه الهادف لنشر التعليم خلال العهد الاستعماري). وتميز عزيزنا الراحل، منذ ذلك الوقت المبكر، بسعة الاطلاع وموسوعية المعرفة وشغف حقيقي بقضايا الثقافة. وكان ذلك طبيعا لأنه كان الاخ الأصغر للمرحوم معتصم عبد الله مالك، أحد أبرز القانونيين اليساريين في فترة ستينيات القرن الماضى. وأذكر أننا رافقنا ميرغنى لمطار الابيض لاستقبال جثمان معتصم والذى رافقه من الخرطوم عبد الخالق محجوب وعابدين اسماعيل (النقيب الاسبق لنقابة المحامين). كما كان منزل الأسرة موقعا لقوى التقدم والتغيير بمدينة الابيض. وقد شهدنا فيه، ضمن ما شهدنا، ندوة جماهيرية حاشدة للمرحوم عمر مصطفى المكى ( أحد نواب دوائر الخريجين بعد ثورة اكتوبر ورئيس تحرير جريدة الميدان الاسبق). والتقينا مرة أخرى بمدرسة الابيض الثانوية في معمعمة النشاط السياسى، حيث تميز ميرغني على أقرانه بثقافته الواسعة وقدرته الفائقة على المحاورة والخطابة بصوته الجهورى ولغته الرصينة السلسلة. وكنا نعمل سويا في الجبهة الديمقراطية بالمدرسة. وكما تزاملنا فى اتحاد طلبة المدرسة حيث كان سكرتيرا ثقافيا للاتحاد وكنت نائبا له. وقد قام ذلك الاتحاد بالكثير من الأنشطة العامة كان لميرغني الدور الاساسى في إنجاحها. وكان من أهم أعمالنا، في الاجازة الصيفية، قيامنا برصف شارع كامل بمدينة الابيض وهو شارع الناظر صبر ( الذي يبدأ من زريبة الصمغ شرقا ويمتد غربا حتى زاوية التجانية بالقرب من دار الثقافة الاسلامية). قمنا بكل الاعمال الضرورية لاكمال رصف ذلك الشارع بعد أن وفرت البلدية المواد الأولية ومعلم لارشادنا حول كيفية أداء العمل. كما قمنا بنظافة العديد من الشوارع وأذكر أننا اكتشفنا شارع مرصوف ولكنه مطمور تماما بالرمال مما حفز مهندس البلدية لمضاعفة وجبة الفطور لنا. وقرر محافظ المديرية أن يكرمنا، بعد انتهاء البرنامج الصيفى، باقامة حفل بفرقة فنون كردفأن ووزع علينا جوائز حسب الاداء والانتظام وأذكر أن ميرغني كان الثاني على كل المجموعة ونال قميص دادا الصينى ( موضة تلك الايام). وقمنا ايضا بإنشاء اتحاد طلاب كردفان وهو يشمل مناديب اتحادات مدارس الابيض الثانوية (بنين و بنات والنهضة المصرية و الصناعية والمعهد العلمي) بالاضافة لخورطقت. وتركز نشاط ذلك الاتحاد على الجوانب الثقافية والسياسية. وتحول الاتحاد لموقع للصراع الفكرى العقلانى البعيد عن العنف البدنى أو اللفظى مما يعكس النضوج الفكرى لابناء ذلك الجيل. ومثال واحد من صراعاتنا والذى يعكس الاجواء الفكرية في تلك الفترة كما يعكس التفتح المبكر لذلك الجيل. كنا نصيغ بيانا في ذكرى هزيمة يونيو 1967 ( الحرب الاسرائيلية العربية التى أدت لاحتلال غزة والجولان السورية والضفة الغربية). قضينا معظم النهار نتداول حول صيغة البيان، الذى سيصدر باسم الاتحاد ويوزع جماهيريا، وقد وقفنا طويلا امام عدة نقاط، منها نقطتين تمحور النقاش حولهما وتحول لسجال فكرى. النقطة الأولى هل نكتب نكسة يونيو ام هزيمة يونيو والنقطة الثانية هل نكتب الشعب العربى أم الشعوب العربية؟ كان يقود الرأي الأول اسماعيل عبد الله مالك ( الذي اصبح لاحقا أحد القيادات البارزة في حزب البعث العربي الاشتراكي) وكان يقول بأنها نكسة فقط وأن الشعب العربى شعب واحد ذو رسالة خالدة. أما الرأي الاخر فكان يقوده ميرغنى والذى يصف ما حدث بأنه هزيمة لأنظمة البرجوازية الصغيرة العربية ( ناصرية وبعثية) وأننا شعوب عربية تتفاوت في تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والذي تم في اطار الدولة القومية ( القطرية). قد لا يثير هذا النقاش اهتمام الجيل الحالي ولكنه آنذاك كان انعكاسا لتطورات وصراعات ايدولوجية فى العالم العربي وعلى مستوى العالم. فقد كان ذلك الجيل يتابع التيارات الفكرية والسياسية على مستوى العالم. فالماركسية بمدارسها المختلفة والوجودية والليبرالية و كذلك التيارات الثقافية والتشكيلية. يعود بعض الفضل فى ذلك الزخم المعرفي لمصر الناصرية وإنجازاتها الثقافية مثل مشروع المليون كتاب والسلاسل الثقافية والتراجم والمجلات ( كل ذلك كان بأسعار زهيدة في متناول الجماهير الشعبية وهو درس حقيقي لكل من يود أو يحلم بإنجاز الثورة الثقافية في بلادنا). وآنذاك تردد كثيرا بأن القاهرة هي عاصمة التأليف والخرطوم عاصمة القراءة ( على المستوى العربى). وكما تأثرت تلك المناقشات ( لطلاب في المرحلة الثانوية) بأطروحات نايف حواتمة ( الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) وجورج حبش ( الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) المتركزة حول نقدهما للفكر القومي العربي وتبنيهما الكامل للماركسية.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: ميرغنى شايب: تفتح مبكر، ملكات متعددة ومواقف حازمة ضد حكم العسكر.. د. صديق الزيلعي (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
ولم تكن رياح الثورة والتغيير تهب من العالم العربى فقط، فقد شهد العالم ثورات الشباب في 1968 والتى هزت ساكن الحياة في فرنسا ( حيث كادت مظاهرات الطلاب واضرابات العمال أن تسقط نظام ديجول). وكما هز ربيع براغ الجمود والتحجر فى المعسكر الاشتراكي السابق وتحول الماركسية لعقيدة صماء. ولم تنحصر تلك الثورات في أوربا فقد واكبتها انتصارات حركات التحرر الوطنى في فيتنام ولاوس وكمبوديا وأنجولا وموزنبيق وغينيا بساو ودعوات نكروما ونيريري للاشتراكية الافريقية. إستوعب ذلك الجيل كل تلك التغييرات وترجمها لمواقف عملية في النضال من أجل التغيير في السودان. وكان ميرغني أحد المتاثرين بذلك الزخم الثورى وأحد الفاعلين في صنع الأحداث، فقد قاد مظاهرة حاشدة من مدرسة الابيض الثأنوية دعما لمطالب العمال ( أعلن اتحاد العمال بقيادة الشفيع أحمد الشيخ إضرابا عاما فى 1968، شاركت فيه أكثر من مائة نقابة، رفضا لمقترحات كادر العمال التى قدمها وزير المالية الشريف الهندى وكانت لا تلبي التضخم الذى حدث لتكاليف المعيشة ومطالبات اتحاد العمال المستمرة لتحسين أجور العاملين). وكانت تلك المظاهرة، التى قادها، ميرغني تجسيدا للعلاقة التاريخية الراسخة بين الحركة الطلابية والحركة العمالية السودانية وهي امتداد طبيعى لمواقف اتحاد العمال الداعمة للطلاب وأهمها موقف اتحاد العمال الشهير ضد السلطة الاستعمارية وتهديده بالاضراب العام عندما فصلت المئات من طلاب خورطقت الثأنوية كعقاب للطلاب لقيامهم بإضراب. ما قمنا به من عمل تطوعى وثقافى أعطى اتحادات الطلاب موقعا مميزا فى المدينة وفي أنشطتها العامة. وأذكر أنه تم تكوين لجنة قومية بمدينة الابيض تشمل كل منظمات المجتمع المدنى للتفاكر حول قضايا المدينة وكيفية تطويرها. وكنا، ميرغني وشخصي الضعيف، من مناديب اتحاد طلاب مدرسة الابيض الثانوية في ذلك الاجتماع. بهر ميرغني الحضور بلغته الرصينة وآرائه النيرة. ولا يزال يرن في أذني تعليق أحد الشيوخ الذين حضروا ذلك الاجتماع وهو يعلق على مساهمة ميرغني: " كلي ثقة على مستقبل البلد ما دام لنا شباب بهذا المستوى من الوعي والدراية". صدق ذلك الشيخ في التنبؤ بالدور المستقبلى لميرغني ولكن وللاسف لم تصدق توقعاته حول مستقبل البلد ( والله يجازى الكان السبب(.
بعد نجاح ميرغني في الالتحاق بجامعة الخرطوم وبروزه في النشاط العام جاء للابيض في أول اجازة. وتصادف زيارته للابيض مع قرار سلطة مايو باقامة الاحتفالات القومية في عواصم الاقاليم . وكانت ضربة البداية إقامة احتفالات عيد الاستقلال بمدينة الابيض في الفاتح من يناير 1971. وتقرر حضور كل الطاقم الحاكم واعضاء السلك الدبلوماسي لذلك الاحتفال وقد خصص قطارا كاملا للضيوف. وكان الصراع بين الحزب الشيوعي وسلطة مايو في أوجه خاصة بعد هزيمة التيار المتحالف مع السلطة، ما عرف بجناح معاوية، في المؤتمر الاستثنائي الذي انعقد في أغسطس 1970 وانقسام قادة ذلك الجناح من الحزب. صعدت السلطة من العداء للحزب وأصدر نميري قرارات 16 نوفمبر 1970 والتى عزلت بابكر النور وفاروق حمدالله وهاشم العطا عن مجلس قيادة الثورة. قررت قيادة الحزب أن تواجه النظام من داخل الاحتفال. أعد المركز بيانا جماهيريا وأعد فرع الحزب بالابيض بيانا آخر، كما تقرر خروج موكب بلافتات وشعارات. كتبنا العديد من لافتات الجباه الديمقراطية بمدارس الابيض وكانت كلها تحوي الشعارات المعادية للسلطة. أقيم الاحتفال بميدان تيتو وخرجنا بلافتاتنا وهتافاتنا وكان ميرغني أحد قادة تلك المظاهرة. وقد توقف موكبنا طويلا أمام المنصة الرئيسية التى كان يقف عليها نميري، مرددا الهتافات بقوة واصرار وقد سمع من تابع الاحتفال المذاع على الهواء مباشرة هتافاتنا التى شقت عنان السماء. تم اعتقالنا من داخل الموكب. هز الموقف نميري وقرر الغاء برنامجه المسائى والعودة فورا للخرطوم. تم اقتيادنا لمركز البوليس ( حيث مكتب الامن). وبعد مغيب الشمس بقليل تم اقتيادنا لمكتب حكمدار البوليس لمقابلة وزير الداخلية (أبوالقاسم محمد ابراهيم). في الطريق وقبل دخولنا لمكان ما سمى بالاجتماع اتفقنا أن يمثلنا ميرغني ويقدم دفاعا سياسيا لأنه كان أكثرنا إطلاعا ومتابعة للوضع السياسي وأفصحنا لسانا وأكثرنا شجاعة فقام بمهمته خير قيام ( الدفاع السياسي في عرف الشيوعيين هو تحويل المحاكمة لمحكمة للسلطة ومن يمثلها ومن أشهر ذلك دفاع عبد الخالق محجوب أما محكمة نظام عبود ودفاع التجانى الطيب امام محكمة سلطة نميري). كنا 11 معتقلا تم ادخالنا للحجرة ثم حضر أبوالقاسم وخلفه عبد الباسط سبدرات. ولن أنسى ما حييت اضطراب أبو القاسم أمام قوة حجة ميرغنى واسلوبه الخطابي المتميز وشجاعته في المواجهة وعدم التردد في مواجهة أبو القاسم الذى اشتهر بالصلف. شعر ابو القاسم بضعف موقفه امام قوة حجة ميرغنى فلجأ للمهاترة حيث قال : " الشيوعيين ماكان عندهم مكانة فى البلد وأنحنا عملنا لهم مكانة وهاهو الشيوعي سبدرات سكرتيرا لوزير الداخلية" ثم وقف ليخرج من الحجرة و عند الباب التف الينا قائلا " سأعطي المحافظ أمرا بأن يصرف لكم ماكينات رونيو علشان تسقطوا مايو ومايو لن تسقط بالمنشورات". المهم قضينا ليلة ليلاء بمركز البوليس، حيث وضعنا في حوش داخلي يقع خلف زنارين المحبوسين ولم نكن نملك غير ملابسنا التى في أجسادنا. ولم يقدم لنا اي شئ وهكذا قضينا الليلة نلتحف السماء ونفترش الرمال وما أدراك ما رمال الابيض في زمهرير يناير. وتقرر عند ظهيرة اليوم التالي، ارسالنا لسجن الابيض العمومي. قررت سلطات السجن أن نحبس في قسم يسمى بعنبر الأحداث وهو قسم شبه معزول عن بقية السجن، كما وافقت أن يحضر لنا أهلنا مراتب وأكل بصورة يومية. قام أهلنا باحضار المراتب وأذكر أن المرحومة والدة ميرغني أحضرت له مرتبة وفوقها غطاء مصبوغ بلون برتقالي لمعرفتها بأننا ننام أرضا. وخلال أسابيع قليلة اتسخت مراتبنا ( نحن مستجدي السجون). كما قاد ميرغني حملة وسطنا لاقناع أهلنا بعدم احضار أي أكل من البيوت وكان يكرر بأن اطعامنا هو مسئولية من اعتقلنا ولا يمكن أن نكلف اسرنا بتكاليف اعتقالنا. وكان ذلك ( المراتب والاكل) أحد الدروس التي تعلمناها من أسرة عبد الله مالك العريقة في النضال ضد الأنظمة العسكرية منذ ايام عبود. وهنا ( كما ذكرت) بأننى استمعت ولأول مرة للخطيب المفوه عمر مصطفى المكى ( أحد نواب دوائر الخريجين بالجمعية التاسيسية بعد ثورة اكتوبر 1964 ورئيس تحرير جريدة الميدان) فى ندوة جماهيرية حاشدة، اقيمت بحوش منزل عبد الله مالك بالابيض وهذا قليل من كثير مما قدمته هذه الأسرة المتميزة. وكانت اقامتنا الجبرية بذلك العنبر ( منعنا حتى من الخروج للرياضة فى ميدان داخل السجن) مليئة بالاطلاع والنقاش والسمر والقفشات المضحكة. وأذكر أن عمنا محمد مصطفى كنين كان صاحب قفشات ######رية مميزة يقولها بطريقة تجبرك على الضحك. ومنها أننا صحونا باكرا، بعد أول ليلة قضيناها بالسجن، فاخرج رأسه من تحت البطانية وقال لنا أن جرس الطابور لم يضرب والحصة الأولى لم تحن بعد وعلينا العودة لمرتبنا يا فارات ( الفارات في لغة السجون هى المستجدين فى السجون الذين لا يفقهون النظام الداخلى غير المكتوب للسجون). وعندما اشترينا كتشينة من المساجين (كنا ممنوعين من كافة اشكال المكيفات وادوات التسلية وتزجية الوقت) وسأل أحدنا الفورة كم؟ رد كنين بأن الفورة مليون وردد ساخرا دا سجن يا بشر. خلال تلك الفترة قدم ميرغني عدة دراسات لمجموعتنا وكان يحدثنا كثيرا عن الجامعة وعن الأنشطة المتنوعة التى تمور بها جامعة الخرطوم وكان كثير الحديث عن الجوانب الثقافية وخاصة المسرح الجامعى. ولا يزال يرن في أذني صوت ميرغني الجهوري المحبب وهو يردد مقاطع من مسرحية قدمها المسرح الجامعي وشارك فيها ميرغني: مارا مارا مارا مارا ماذا حدث لثورتنا يا مارا مازلنا فقراء يا مارا اليوم نريد التغييرات الموعودة اليوم نريد التغييرات الموعودة وهنا أذكر تأثير أحاديث ميرغني عن الجامعة علينا فقد صارت قلوبنا تتعلق بتلك المؤسسة العريقة المتميزة كقلعة للمعرفة وللنضال في آن واحد. وقد تم اعتقالى وأنا فى الصف النهائى للمرحلة الثانوية، فقررت قيادة الحزب بالابيض أن توفر لي بعثة دراسية بالدول الاشتراكية وكان ردي هو أنني أفضل الدراسة بجامعة الخرطوم والبقاء بالسودان. وأعتقد أننى تعلمت الكثير من دراستي بجامعة الخرطوم وهذا واحد من أفضال فقيدنا العزيز عليّ وهى كثيرة لا أستطيع تفصيلها هنا.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ميرغنى شايب: تفتح مبكر، ملكات متعددة ومواقف حازمة ضد حكم العسكر.. د. صديق الزيلعي (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
وهنا أود تصحيح بعض ما ورد في المقال المعبر الذى كتبه الاستاذ محمد موسى جبارة عن فقيدنا ميرغني، فقد ورد فيه: " غير أن الطالب لم يكتف بالتظاهر والاحتجاج بل تعداهما لشتم أحد أركان النظام بعبارات مست وتر حساس في طفولته ذلك القيادي غير البرئية... إستقبلنا أبوالقاسم واستمع الى طلبنا (سكرتارية الجباه التقدمية) وكعادته تحدث أكثر من ثلاثتنا نافيا عن نفسه صفة الرجعية، مؤكدا انتماءه للديمقراطيين الثوريين وعدم اختلافه عن ثوريتنا... الا أنه اضاف بأن ذلك الطالب قد تلفظ بكلمات لم يشأ أن يذكرها لنا، بل طلب منا أن نسأل عنها عبد الباسط سبدرات...سبدرات أكد لنا صحة الحادثة بل ردد ذات العبارة التى أطلقها الطالب في وجه أبو القاسم محمد ابراهيم... وقد كانت عبارة قوية وصادحة لا تأتي الا من شخص يتمتع بذلك القدر من الجرأة والشجاعة....... استطعنا استخلاص وعد من وزير الداخلية باطلاق سراح الطالب ميرغني". وهنا أشعر بالغضب يغلي في عروقي والحزن يعصر قلبي ( في آن واحد) للدرك السحيق والمستنقع الآسن الذى يسقط في وحله بعض سياسينا وقادتنا ( في الماضي والحاضر) بقدرتهم على الكذب الصريح بدون أن تغمض لهم عين. فما ذكره أبوالقاسم لوفد سكرتارية الجباه التقدمية هو من نمط ذلك السلوك. فأنا كنت مشاركا فى تلك المظاهرة وحاضرا لذلك الاجتماع والذى لم يتفوه فيه ميرغني بأي كلمة بذيئة أو لفظ جارح. وأكرر بأنه وطيلة فترة معرفتي بميرغني لم أسمعه يردد مثل تلك الكلمات بل كان هاشا باشا. وأذكر هنا أننا كنا نغيط ميرغني بمشاغبة طفولية عندما نجح في امتحان الدخول للوسطى بأن النتيجة ليست نتيجته في الامتحأن بل نتيجة اسماعيل الولي ( لأن والدته كانت تحمل قلمه وتغمسه في داخل قبة اسماعيل الولى قبل الامتحان. وكان يردد ضاحكا (المهم النتيجة) ورغم تكرارنا لذلك الشغب لم اسمعه يغلظ القول معنا. وقد كذب ابو القاسم مرتين الأولى عندما اتهم ميرغنى، زورا وبهتانا، بالتلفظ بالفاظ نابية والثانية عندما وعد الوفد باطلاق سراح ميرغنى والذى لم يتم بل قدم ميرغني لمحكمة عسكرية ( كما ساعرض بعد قليل). والمثال الثانى لكذب سياسينا ما قاله (قائدنا الملهم) نميرى في لقاء حاشد بميدان سباق الخيل فى 10 فبراير 1971 حيث هاجم الحزب الشيوعي وعدد معاداته للثورة ثم عرج على قضيتنا وقال بالحرف الواحد وبدون أدنى إحساس بالخجل: " وفي احتفال البلاد القومى بعيد الاستقلال بمدينة الابيض هتف بعض الصبية ولولا أن بسطت عليهم جناح رحمتى لفتكت بهم جماهير الثورة". والقائمة معروفة ومليئة بالكذب ال###### لبعض سياسينا وقادتنا واللهم لا اعتراض على حكمك. الكذبة الثانية لابو القاسم هو بقاء ميرغني في السجن بل وتقديمه لمحكمة عسكرية، داخل القيادة الوسطى بالابيض بقيادة المقدم فيصل محمد عبدالله. كنا ثلاثة متهمين في تلك المحكمة: المتهم الأول كان ميرغني وكنت المتهم الثاني وكان المتهم الثالث الزميل آدم عيسى ( ثلاثتنا طلاب). إنتدب مركز الحزب الاستاذ الرشيد نايل للدفاع عنا وهي مهمة قام بها خير قيام ولكن المحكمة أصدرت حكما بالادانة والسجن حيث نال ميرغني 9 شهور سجن ونلت 6 شهور ونال آدم 6 شهور. بعد المحاكمة تم ارجاعنا للسجن لنعامل كمساجين درجة ثالثة ( لمن لا يعرف السجون هذه درجة معاملة المجرمين المدانين). المهم أخذت ملابسنا وسلمنا بردلوبة السجن المصنوعة من الدمورية ومعها برش للنوم عليه وبطانية وكورة من الحديد المصفح للاكل وشراب الشاي. كان للمساجين في تلك الكورة المصفحة مآرب أخرى، حيث أنها تحدث صوتا عاليا يمكن أن تسمعه من بعد ميل عندما تحرك بقوة في سيخ أبواب الزنازين، وهي تستعمل للاحتجاج على الظلم ولإسماع مكتب السجن شكوى المسجون القابع في الزنازين. وشاركنا المساجين عنبرهم وحياتهم وأكلهم ( حيث منع عنا العيش وكنا نأكل الجراية المصنوعة من أردأ وأرخص أنواع الفتريتة الحمراء). وكان هذا وعد أبو القاسم باطلاق سراح ميرغني. وعندما قرر قادة انقلاب 19 يوليو إطلاق سراح المعتقلين وفعلا أطلقت سلطات السجن المعتقلين ( الذين لم يحاكموا) وبقينا نحن باعتبارنا مساجين. ورغم حزننا على استمرار حبسنا رغم سقوط السلطة التى اعتقلتنا وحاكمتنا الا أن ميرغني كان أكثرنا صمودا وتماسكا. ومضت الايام الثلاث ورجع نميرى وتم ارجاع زملائنا السابقين وأضيف لهم قرابة الالف معتقل من كل مدن كردفان. المسألة الاخرى التى أود تصحيحها هي ما ذكره الدكتور صدقي كبلو في مقاله عن ميرغنى حيث كتب: " لم أحضر انقلاب يونيو 1989والذى شرد ميرغني وأجبره على الهجرة للسعودية". وهذه معلومة غير صحيحة. فقد فصل ميرغني من ديوان النائب العام كرد على موقف شهير له أثناء انتدابه كمستشار قانوني بمصلحة الجمارك بمطار الخرطوم، حيث حاول بعض ضباط الامن استغلال سلطاتهم بطريقة غير قانونية.وعندما اوقفهم ميرغنى عند حدهم رجعوا بعد أيام بأمر من اللواء عمر محمد الطيب رئيس جهاز الامن فرفض ميرغني في اباء الانصياع لذلك قائلا لهم أنه لا يتلقى أوامره من رئيس جهاز الأمن. تم فصله وسافر للعمل بالسعودية. ونشرت الميدان السرية ذلك الموقف الشجاع. وهنا أسأل نفسى بحسرة: كم من قضاة ومستشاري هذا الزمان يستطيع أن يقف مثل هذا الموقف البطولي؟ وكم من موظفي الخدمة المدنية يلتزم ويحترم قوانين العمل بمثل هذه الصرامة ويوقف كلٍ عند حده؟ هذه لمحات بسيطة من حياة فقيدنا ميرغنى الحافلة بكل ما هو جاد وجميل. حاولت فيها استعراض بعض الجوانب غير المعروفة وهي بعض من دين ميرغني على جيلنا لعلنا نتعلم منه في مماته كما تعلمنا منه في حياته. هل أعطيت ميرغني حقه الذى يستحقه وبجدارة....لا أظن. اللهم ارحم ميرغني بقدر ما قدم واغفر له وأنزله منزلة الصديقين والشهداء.
د. صديق الزيلعي
[email protected]
| |
|
|
|
|
|
|
|