|
|
 مواقف وذكريات مع البروفيسور عبد الله الطيب!
|
مواقف وذكريات مع البروفيسور عبد الله الطيب!
بثت قناة النيل الأزرق، قبل أيام، برنامجاً عن حياة الدكتور عبد الطيب وأيامه، التي قضاها في جامعة فاس بالمغرب؛ وقد سرني جداً احتفاء إخوتنا المغاربة بهذا الرجل القامة، فقد ظلوا يكنون له كل الود والوفاء، حتى بعد رحيله عن هذه الدنيا الفانية، وقد تحدثوا عنه بكل لطف وأدب، ذاكرين محاسنه، وحسن سيرته، واسهاماته الثرة في مجال الثقافة والأدب العربي، خلال المدة التي قضاها بين ظهرانيهم، حيث كان أحد المتحدثين في حضرة الملك الحسن رحمه الله، فقدكان يكرم وفادة العلماء ويعقد لهم الدروس الرمضاينة في قصره، ويشارك فيها بالحضور والاستماع والنقاش أحياناً. عموماً أثار ذلك البرنامج في ذهني صوراً، وذكريات، ومواقف، في حياة شيخنا المغفور له بإذن الله تعالي،عبد الله الطيب، شهدت بعضها ، وسمعت بعضها من محبيه وطلابه النجباء، إذ لم يتخرج على يديه إلا علماء كبار من دهاقنة اللغة والأدب، من أمثال البروفيسور عون الشريف قاسم، ذلك العالم الذي يشار إليه بالبنان، ود. زكريا بشير، صاحب المُؤلّف الرائع عن شيخه عبد الله الطيب، والدكتور بابكر دشين، ود.محمد الواثق، ود.حسين النور، والبروفيسور عبد الرحمن الخانجي، والدكتور جعفر ميرغني، ود.الحبر يوسف نورالدائم، والدكتور صديق عمر، والدكتور محمد أحمد بليل، وصديقنا الوزير البروفيسور إبراهيم القرشي، والقيادي المعروف الأستاذ مهدي إبراهيم، وغيرهم كثر لا يتسع المجال لذكرهم، ولكن يعرفهم الناس من خلال مواقعهم المختلفة في جامعات السودان، وعبر مساهماتهم الأدبية، في مراكز الثقافة وأجهزة الإعلام ، ودُور العلم ومؤسسات التعليم العالي في كل أرجاء الوطن العربي والإفريقي.
كتب الكثيرون عن العلامة والبحر الذاخر البروفيسور عبد الله الطيب، فقد قال عنه الدكتور جمال محمود أبو حسان "كان وديعاً متواضعاً، لا تحس وأنت تجالسه بأي غربة تجوب حولك، تلمحه فتلمح من ثناياه تراثاً عربياً إسلامياً فوّاراً، وغيرةً على العربية والدين، قلما تجدها عند أدباء اليوم". وأضيف إلى هذا أن الدكتور عبد الطيب قد كان شخصاً سودانياً أصيلاً، حلو الحديث وطيب المعشر، لا يمل حديثه، فصيحاً كان أو عامياً، فقد كان عبد الله الطيب رجلاً "ونّاساً"، يتخير الكلمات والعبارات، دون تكلّف، حتى تناسب موضوع الحديث، بدقة ولباقة تبهج المستمع وتسره، وتشد انتباهه.
ذات مرة زار الدكتور عبد الطيب العاصمة السعودية الرياض، يرافقه زميل له من جامعة فاس بالمغرب، وعندما ذهبنا لزيارته في الفندق، في معية الدكتور الأصم عبد الحافظ، أحد طلابه بجامعة الخرطوم، وجدنا الشيخ جالساً على كرسي، بينما كان زميله المغربي يجلس على الأرض فجلسنا معه، فقال الرجل لابد أن تجلسوا أنتم على الكراسي، أما أنا فلا ينبغي لي الجلوس على كرسي أمام شيخي وأستاذي، فقلنا له: إنه أستاذنا أيضاً، فرد علينا بقوله: لقد أخذتم أنتم السودانيين نصيبكم منه، وجاءنا دورنا نحن أهل المغرب لننهل من هذا المنهل المعرفي الكبير. فجلسنا نتجاذب أطراف الحديث حول مواضيع شتى أمتعنا الدكتور عبد الله الطيب بالحديث عنها، خاصة تجربته ومسيرته العلمية، وبعض الكتب والشخصيات، ومازلت أذكر تلك الجلسة الفريدة. في تلك الليلة نفسها، رأيت الدكتور عبد الطيب، في المنام، وهو يرتدي زياً سودانياً شعبياً (عرّاقي وسروال) وهو يحمل شيئاً على كتفه (بقجة) فأسرعت الخطى حتى ألحق به؛ فقلت له يا دكتور دعني أحمل عنك هذا: فنظر إلي قائلاً: يا بُني لن تستطيع حمله لأنه جد ثقيل، ولما قصصت تلك الرؤيا على الدكتور الأصم عبد الحافظ فسّرها بأن الدكتور عبد الله الطيب لن يجد من يرث عنه كل علمه، والله أعلم.
وأذكر أنني سألت البروفيسور فتحي عامر، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وكلية التربية بجامعة الخرطوم، عن شعر الأستاذ العقاد وعبد الله الطيب، فرد قائلاً: هذا شعر العباقرة! وهذه شهادة من رجل خبير بالأدب العربي وفنونه. لقد كان عبدالله الطيب عبقرياً بمعنى الكلمة، ومن يقرأ كتبه "الطريق إلى التجهيزي، ومن نافذة القطار، ومن سلال اللامعقول" يشعر بأنه صاحب ذاكرة فوتغرافية، إن صح التعبير! له قدرة على الاستطراد، وتذَكُر الأحداث والربط بينها بطريقة شائقة تحفّز القارئ، وتغريه بالاستزاده من ذلك المعين الذي لا ينضب؛ إذ يجمع شيخنا بين ذكريات الطفولة الباكرة، وأيام الدراسة في لندن، والأدب والشعر العربي والإنجليزي، وبين الدارجية والفصحى، بأسلوب راق قلّما تجده عند غيره من الكُتّاب والمؤلفين؛ فهو رجل موسوعي المعرفة والإطلاع، ولا أكاد أبالغ إن قلت: إن عبد الله الطيب لم يكتسب كل تلك المعارف والآداب بالمطالعة والدرس، وإنما نال ذلك بفتح ربّاني، إذ يختص الله برحمته ونوره مَنْ يشاء مِن عباده!
حكي لى أحد طلاب البروفيسور عبد الله الطيب، أنهم بينما كانوا في إحدى محاضراته في القاعة 102 بجامعة الخرطوم، حيث كان يدرسهم سيرة ابن هشام، وكان الكل يستمع بصمت وحرص، سقطت عشرة قروش (خيرية) من إحدى الطالبات، وأحدث صوتاً في البلاط ، فنظر إليها وقال: (نان يا بتي ما تسويلك محفضة) فضجت القاعة بالضحك! ومما أذكر من أيام الدراسة في جامعة الخرطوم عام 1978 أننا حضرنا محاضرة للبروفيسورعبد الله الطيب، فسأله أحد الحاضرين عن قصيدة التمساح المشهورة (يا رحمن أرحم بي جودك دلى الغوث ينزل فى بلودك) التي جاء فيها:
يا الخُلفا الحالكم مرضيه
يا أهل البيعه العقدوا النيه
التمساح سكن الشايقيه
خلو اليروح نسيا منسيا
فاعتدل شيخنا في جلسته، ورد على السائل، بإسلوب لا يخلو من الدعابة والسخرية، قائلاً :" إنّ هذه القصيدة قيلت في شأن تمساح ظهر في ديار الشايقية، فتوسل المادح بمن ذكرهم حتى يتخلص الناس من ذلك الحيوان المتوحش، وما أكثر التماسيح الآن،كان ذاك في عهد مايو"! رحم الله شيخنا العالم، عبد الله الطيب، فقد خدم اللغة العربية، وألّف كتباً قيمة في كل مجالاتها وفنونها.
|
|
 
|
|
|
|
محمد التجاني عمر قش
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست