الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 07:10 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-08-2013, 02:48 PM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس

    .الدعوة للديمقراطية والإصلاح السياسي في السودان

    الإسلاميون .. تحديات الرؤيا والقيادة


    عبد الغني أحمد إدريس

    (عدل بواسطة مصعب عوض الكريم علي on 04-08-2013, 03:06 PM)
    (عدل بواسطة مصعب عوض الكريم علي on 04-09-2013, 07:00 AM)

                  

04-08-2013, 02:51 PM

محمد حامد جمعه
<aمحمد حامد جمعه
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 6807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    ok
                  

04-08-2013, 03:12 PM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: محمد حامد جمعه)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مـقـــدمـــــــــــــة
    د. أحمد محمد البدوي
    أستاذ جامعي وكاتب
    ظاهرة التأليف المعارضة المعبرة عن فقدان الرضا عن تجربة الحكم القائم قهرًا باسم الإسلام في السودان، ومن قِبل كُتاب ينتمون إلى تيار الإسلام السياسي، لهي ظاهرة حيوية معبرة أيما تعبير عن أزمة الحكم أو أزمة حركة الإسلام السياسي، وهي في سدة الحكم، وهي أزمة مماثلة لموقف الانزلاق في الوحل، يتكدّس مقدار التورط، وتبدو النجاة وهمًا يلوح من بعيد "ببعد الهدى وقرب الضلال". في البدء، بدا الأمر مراجعة مكتوبة لممارسات سادت في مرحلة سابقة، انسدلت جدائل سنين من بعدها، على مدار الخلاف، مثل تاريخ الشيخ أزرق المدون في كتاب منشور عن نشأة الحركة التي تسمي يومئذ :"حركة الأخوان المسلمين" في الخمسينيات قبيل إطلال عام الاستقلال وحتى تداخل الحركة المتجسمة في نخب وأسر متوارية وجزر، مع تنظيم جماهيري مصطخب في شارع موار يفور حتى يقارب الغليان في عهد أكتوبر 1964م، ومن ذلك الكتاب، نضع أيدينا على مواطن الخلاف، أو ان شئت الزلل، من التفريط في نشاط التعبد الجماعي، وتنقية النفس والإرتقاء الروحي، إلى الولوغ في بهارج المناورة السياسية، واللمعان الذي يضفي هالات الرواج على شخصيات قليلة – أو شخص واحد فذ- في واجهة العمل الجماهيري، وذلك نهج أشبه ما يكون بمسرح الممثل الواحد.
    وينتهي الأمر بمناصرة التيار المستضعف الذي يغلب عليه تيار الترابي- حمدي، وهما اسمان يثبتهما المؤلف، في مواجهة تيار جعفر شيخ ادريس ومحمد صالح عمر العام 1969م وضمنيا مالك بدري.
    ولم تخب نار الخلاف، حتى جاءت مايو، بقاصمة أطفأت المصباح الوحيد في الشارع، وتركت الجميع في الظلام، فإذا بهم اسرى في سجن النميري.
    ولا تخرج مذكرات محمود بُرّات عن تجربته في قلب الحركة الاسلامية، وهي مذكرات لاتزال مخطوطة، ويغلب عليها الاتجاه إلى تجريح تجربة الترابي في قيادة الحركة، ووصمها بالسلبية والخروج من حيز الالتزام بالنهج الإسلامي المستمد من أصول الدين، إلى منحى مصالح لا يتوخى في الحصول عليها ضوابط القيم وكوابح المُثل، ويعتريها الإستعجال.
    ران الصمت، على مدى أيام المحنة، التي عصفت بحركة الإسلام السياسي، تحملت عبئها بكفاءة، وصبر على المظلمة واستبسال، في السجون، حيث أقام الترابي زعيم جبهة الميثاق الاسلامي، وفي معركة الجزيرة أبا، حيث أستشهد محمد صالح عمر الأمين العام لحركة الاخوان المسلمين في السودان، التي خرج من رحمها تنظيم الميثاق، وفي غزوة يوليو 1976م، حيث أستشهد شباب الحركة في المعارك أو بُعيد اعتقالهم، ومن قبل هبّة 1973م التي قادها إتحاد طلاب جامعة الخرطوم أحمد عثمان مكي والتجاني عبد القادر، وانتهت بولوج جماعة مستفيضة منهم المعتقلات من قادة الطلاب الاسلاميين، وخروج آخرين كُثر الى المنافي، وادلهم ظلام القهر، وواجهته الحركة ببطولة وقوة شكيمة ورجولة.
    ولكن بمجرد أن استتب أمر المصالحة بين النميري ودولته، وبين الترابي وتنظيمه العام 1977م، وخرج الترابي من أقبية السجن إلى دست الوزارة ومكاتب الخدمة المدنية وجوخها الأخضر، حتى ظهرت معارضة من داخل الحركة من الطلاب في جامعة الخرطوم، ومعارضة من شخصية تاريخية من جيل المؤسسين الآباء، وهو صادق عبد الله عبد الماجد الذي دوّن موقفه في مقال منشور على الرونيو، يمكن ان يكون كُتيبا، نتعرف فيه على رفض عنيف للمصالحة، وقدح فيها: أن لا سبيل لوضع يد الحركة في يد النميري باتحاده الاشتراكي الذي اتخذ الترابي وقومه أمكنة لهم في صدارة خيمته، ولجوا إليه من شارعه الخاص المطل على الكنيسة بدلا من الشارع الآخر، شارع الجامعة، (في الخرطوم)..
    بيد أن كتابة صادق في حاضر المصالحة تعود في معظم أسطرها، في لحظة استرجاعية، إلى بيئة الماضي، مميطة اللثام عن أخطاء مدمرة ارتكبها الترابي في الماضي، على عهد جبهة الميثاق التي كان صادق النائب الأول والوحيد لأمينها العام حسن الترابي، ومن بينها تهمة التعاطف مع الصادق المهدي. او التوادد السياسي أيلولة المصاهر الى مظاهر.
    كل هذا الخلاف ينصب على رأس الترابي، ربما الشخصية قبل الممارسة، أو بالأحرى الترابي المنحى والممارسة، ريثما تتداخل شخصيته مع ممارسته، وتمتزجان، بحيث يصعب فرز إحداهما عن الأخرى، وربما كانتا، شيئاً واحداً غير قابل للإنشطار.
    وهو خلاف مع الترابي ونهجه في قيادة الحركة، وممارساتها حين تورطت الحركة بمشاركتها في الحكم، مؤدية دور حليف، لا يتعدى حجمه دور الممثل الثانوي في مسرحية – أو فيلم أو كليهما- صممت بإتقان وتحامل، لكي يكون سردها وأداؤها منحصرا في شخصية رئيسه هي بطل مطلق، الرئيس القائد، رأس النظام القضائي، وقائد الجيش، وقمة هرم الخدمة المدنية في مجال التنفيذ، والمشرع الأول لنفسه ولبرلمانه الذي لا رصيد لشيكه في مصرف التشريع، كل شئ "ربكم الأعلى"!.
    هنا تأتي مرحلة التصدي لنقد حركة الإسلام السياسي وهي في السلطة، من داخل حوش الحركة، فهو نقد للممارسة ، ولكنها هذه المرة ممارسة الحركة وهي حاكمة، حكومة الحركة الإسلامية، دولة التوجه الإسلامي، الممارسة باسم لا إله إلا الله، وبالتالي لا مناص من أن يرفع بنان التخطئة في وجه الترابي، ولا بد للقلم من ان ينسكب حبره على تبيان ما اقترف من خطل، ولكن التخطئة وتبيان الخطل، لن ينحصرا في الترابي وحده، فلا ريب في أنها معارضة داخلية انشبت أسلحتها في أعوانه ، وعلى رأسهم البشير ونوابه ومعاونوهم، أو بالأحرى فسيفساء السلطة الحاكمة كلها بهيلمانها وعمرانها وأم درمانها وبحريها، فضلا عن أن أمر إزاحة الترابي من مقام القائد والرئيس الشيخ غير المنتخب، لن يعفيه لا من النقد ولا من المسؤولية، وإن فقد كرسي الحاوي الذي يمسك بحبال من وراء كواليس المسرح يحرك بها العرائس على الخشبة، إلى أن تمرد عليها وقطعت حبل السرة معه، جعفر شيخ إدريس توخى التصدي للترابي في محاضراته الخرطومية وتنافست أقلام في الرد عليه وبالعنف حينا.
    هنا تبرز مشاركة التجاني عبد القادر التي نشرها في كتاب، وهو بالضرورة ينتمي إلى الجيل الذي أتته المناصب والمكاسب والمناقب منقادة، ومتعددة متنوعة، بالوزارات مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت أيمانهم من السفارات والاستشارات والولايات والمسؤوليات والسيارات والعمارات، وبقي هو بعيدا عنها، وكان تاريخه يشفع له، حين كانت الواجهة قبضاً على الجمر وسيرا على الشوك والزجاج المسنون بأقدام حافية، مثل هبة 1973م.
    بيد أنه من الناحية الأكاديمية البحتة في مجال "التوجه الإسلامي" المنحصر في أفقه السياسي المحدود، لا جدال في أنه أميز أقرانه أولئك مجتمعين، ثقافة وفكرا، وأكاد - لولا خوف الزلل- أقول رزانة وورعاً وأهلية لأن يتبوأ ما يستحق من مسؤوليات عليا.
    وضح من كتابه بروز نبرة السخرية، السخرية التي تخفي وراء بزتها الصارمة المازحة، فيضاً من المرارة والإشفاق والأسف، ولكن نهج الكتاب أكاديمي موضوعي التناول، وهو أخطر ما كتب عن الحركة وهي في السلطة من جانب أحد وجوهها المشرفة، وواجهاتها المضيئة، وهو معارضة ملتهبة باهظة الوطأة على حكومة الحركة أو الحركة بحكومتها ومعارضتها في المؤتمر الشعبي، ولكن معارضة الترابي تبرز راياتها في الحمى، داخل الحوش داخل البيت، من أبناء البيت.
    الشيخ أزرق وصادق وبرات من جيل الآباء المؤسسين (وعلى رأسهم كتاب محمد خير عبد القادر الذي يجنح الى التوثيق بروح المربي المتجرد الورع)، والتجاني من جيل الأبناء، والأبناء البررة الذين نبذوا قبائلهم وبيوتهم وصارت الحركة أهلهم الأقربين وبلدهم ووسيلتهم إلى الله تعالى.
    هذا الكتاب ألفه فتى من الجيل الحفيد، حدث ميلاده في أيام مايو النميري، فهو لم يشهد جبهة الميثاق وأيامها وصراعها المحتدم داخلها وخارجها على مستوى القيادة، وأدرك نميري رضيعا وطفلاً، هو من جيل حركة 30 يونيو 1989م، قضى معظم سنوات حياته في أتونها طالباً ومقاتلاً حمل السلاح باسم الجهاد في جنوب السودان، حين كان فلذة في صميم قلب السودان، ولم يؤول إلى جمهورية موز مستقلة بعد، ثم عمل بالصحافة والإعلام، جاء إلى الإعلام من ساحات الفداء في الغابة بدلا من صحف الحائط ، تحت الأشجار الوارفة، فمن "آخر لحظة" تخرج كل الكادر الإعلامي لحكومة الحركة منذ 1989م.
    إنه يتكلم من داخل الحوش، ولكنه هنا لا ينحصر في الترابي والبشير ونظامهما أو نظاميهما، إن كان التوأم السياسي قد انقسم قسمين، ولكن روح "فريع الياسمين" واحدة، فكيف بها مقسمة قسمين، إنه بعرض متراحب، يضع يده في النسيج الحي لمحنة البلد كله، والبلد هو شعبه البائس المغلوب على أمره.
    هذا الكتاب تناول أكاديمي موضوعي يهتم بالرجوع إلى المصادر وتوثيقها ويبني مقولاته على المعلومة والحجة، وفي قسمات وجهه أمشاج من المعلومات الجديدة والغريبة الصادمة، والخطيرة، ومدى فياض من المواقف والآراء الشجاعة.
    يدق هذا الكتاب ناقوس الخطر، النار ممسكة بتلابيب البيت، ومشتعلة في الجلباب (وليس في الشال، وجاهة الشال مهمة، ولكن من الممكن التخلي عنها بطرح الشال بعيدا إن شبت فيه النار).
    ولا حل سوى إقامة الديمقراطية، لأن المسرح المتداعي انهار، ولأن الممثلين عصا، كعصا سليمان، نخرتها دابة الأرض. البديل هو خروج السلطة القائمة ومجئ سلطة جديدة بنظام جمهوري.
    الحفيد: عبدالغني وجيل الآباء: "الإخوة الكبار": التجاني، يرمي سهامه مصوبا إلى هدف يصيبه في الصميم هو تجربة الولوغ في وضر السلطة الديكاتورية التي افترعها انقلاب عسكري، لم ينتخبها أحد، فرضت نفسها، مثل بيعة يزيد، بهذا، بالسيف البتار وهو في زماننا السلاح الشديد الفتك، إما هذا اللهب المشبوب او هذا الذي يحشو الجيوب، وإن كان يُسوّد الوجوه.
    كلاهما كُفلت له البراءة من التلوث بجريرة المشاركة في الجلوس على كراسي السلطة، حيث منزلق، لايجدي معه أخذ الصورة عن بعد، للحديث عن القضية، فحق النظر في القضية، هالة تصادر من فوق رأس الكتاب الناقدين العائدين من جبهة القتال التي هزمها انفصال الجنوب، مثل المقامر الذي خسر كل شئ في رأس ماله، وليس بعد الخسران المبين من ربح ولا ريع.
    الحق أن حركة الاسلام السياسي في السودان. عراها نزق ما ،منذ بداية أمرها فبرزت راغبة متلهفة لاستلام السلطة وبسرعة، بعد ثلاثة أعوام من تأسيسها، وبعد نحو عام من الاستقلال، أي في العام 1957، شارك أفراد منها في انقلاب عسكري، انقلاب كبيدة الذي أسهم فيه طلاب من الكلية الحربية، زغب الحواصل لم يكتسبوا في أجنحتهم متانة من الريش الذي يمكن النسر من التحليق في الأعالي و الرِّعان، منهم محمود بُرّات وحسين خرطوم دارفور وجحا، وانتهى الامر بسجنهم وفصلهم، ومن بعد شاركوا في الحياة المدنية قادة في طليعة حركة الإسلام السياسي، وغدا أولهم أكاديميا مرموقا في مجال التربية، والثاني محاميا مشهورا وسياسيا اتهمته حكومة عسكرية من بعد بالمشاركة في تدبير انقلاب عسكري آخر، والثالث برز وكيلا في وزارة مايو،منذ مطلع السبعينات.
    وبعد عام من انقلاب عبود في العام 1959م شارك زعيم حركة الإسلام السياسي المنتخب مذ عام 1954م في انقلاب عسكري، انقلاب علي حامد في الرمق الاخير من العام 1959م، وحين ارتطم بصخرة الفشل، كان الإعدام نصيب قادته العسكريين، وسُجن الزعيم المشارك، المحامي رشيد الطاهر، بالسجن ست سنوات فمكث فيه منذ العام 1959م ولم يبرحه إلا حين بسطت " الثورة الظافرة" يدها على السلطة، فخرج الرشيد من سجنه إلى الوزارة ونُحي من قيادة التنظيم، بجريرة أنه زج بالحركة في انقلاب عسكري، لا يد لها فيه، على أن الرشيد في مداولات المحاكمة، قال إنه شارك بمفرده وهو يتحمل المسؤولية كاملة، وأن تنظيمه لا علاقة له بالأمر من قبل ومن بعد، ولكن الحق يقول إن التنظيم متورط، وإن تم الامر من وراء ظهره. على أن بديل الرشيد وخلفه وخليفته على قيادة التنظيم: انقض على سلطة مدنية ديمقراطية، وليست بسلطة عسكرية دكتاتورية كالتي سعى الرشيد لإسقاطها مع رصفائه، وفي حركة سمت نفسها الإنقاذ. مما يعني أن جينات الحركة كانت مشحونة منذ نعومة أظافرها بفيروس الانقلابات العسكرية مبرأة من التريث ، ومسكونة بالتعجل الشيطاني والنزق.
    عبد الغني يريد إنقاذ السودان: ما تبقى من شعبه ومن أرضه التي فقدت وزنها الأسطوري: مليون ميل مربع، يريد إنقاذه من الإنقاذ حكومة ودواليب عمل وطواحين هواء وساحات فداء وجيوش من الجن تسنّت الاستعانة بها بعد اقتراح في أحد المؤتمرات، وإجماع سكوتي وتوجه حضاري هو الاسم الحركي للفساد، الفساد الساكت.
    العودة إلى الميز، أن يجلس كل الناس، وهم سواسية، في لقاء هدفه الوحيد هو إنقاذ الوطن أرضاً وشعباً من مآل بشع وماحق، لا محالة أنه قادم بالويل والثبور وعظائم الأمور. يتنادى الجميع: يا لبلب أمانة عليك، كم في الخط.!.
    هذا الموقف، تنبه اليه الترابي منذ عقود، أن يتحكم في تاريخ الحركة بيده، وأن يمتد نفوذه إلى التحكم في ميزان التاريخ، بأن تؤرخ الحركة لنفسها، وفق منهج أكاديمي، من داخل حرم الجامعة، بكل مسوح الأكاديمياء وطيالسها، بمشاركة جماعة منتقاة في رفد الشهادات وجمعها، وخرجت الحصيلة في كتيب حسن مكي )حركة الاخوان في السودان( رسالة لنيل دبلوم لها مشرفان، مشرف في الظاهر داخل الجامعة، ومشرف في الباطن، مثل المعنى البعيد في التورية، محسوس لا يراه القارئ، ولكنه موجود ماثل أمام الكاتب في بؤبؤ عين وعيه، أثناء عملية الجمع وملاقاة المحتشدين الذين أدلوا بشهاداتهم شفوياً، والمساعدين في عملية الجمع وملاقاة المعاصرين لتاريخ الحركة، ففي هامش في الكتاب عن الجانب المعارض للترابي في مؤتمر الحركة 1969م يقول حسن مكي: عن معارضي الترابي:
    )إنه جمعتهم المطامع في المغانم التي هزمت المسلمين في غزوة أحد، وأنه- وهذا بيت القصيد- كان النصر من نصيب عناصر المستقبل ذات المعرفة والوعي بالتركيب الاجتماعي للسودان( أ.هـ.
    عناصر المستقبل المنتصرة يومها هي التي أتت بالإنقاذ منقادة تجرجر أذيالها، في جلوة انقلاب عسكري، لم يلبث بعد عشر سنوات، أن أخرج الترابي نفسه من سياق الدورة المغناطيسية، وبالتالي فشلت عناصر المستقبل- أي الترابي- وفقد كل مقومات النصر المؤزر، "أن يكون رئيس جمهورية".
    عبد الغني مثل التجاني يخرج بسمته الأكاديمي، ليعبر عن موقف مستقل وضمير رصين، وبتجرد موضوعي لا تفسده ممالأة للمنشية: عناصرة المستقبل، أو مناصرة للقصر الخرطومي و"أنفاقه الطرابلسية" التي لم يدر بخلدها أن " الدنيا دبنقا" وأن الأنفاق الطرابلسية عجزت تماما عن حماية معمر القذافي في ليبيا، وجرت الوبال على الزين في تونس، فكيف تحمي القصر المنهار في الخرطوم، وشارع الجامعة يتربص به الدوائر، وشارع القصر يدق صدره بيده متحدياً:
    ولمّا يطل في وجهنا ظالم
    نحمي شعار الثورة نقاوم
    هل يعني هذا أن تيارًا وسط شباب الحركة الاسلامية انحاز اليوم إلى الشارع، باعتباره الحرم المقدس للحق، في وجه منشية القصر الجمهوري، وقصر المنشية في المؤتمر الشعبي، كليهما، وهما معا مطلان على منطقة متاخمة للنيل الأزرق!.

    (عدل بواسطة مصعب عوض الكريم علي on 04-09-2013, 07:01 AM)

                  

04-09-2013, 06:27 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)
                  

04-09-2013, 07:02 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: عبدالله عثمان)

    الدعوة للديمقراطية في السودان/ إستهلال
    السودان عبقرية الزمان والمكان
    مضى أكثر من نصف قرن منذ أن نالت بلادنا استقلالها وما زالت تكافح من أجل الوصول إلى بر أمان واستقرار يجعل طريقها سالكاً نحو مستقبل آمن ،تتحقق على ضفاف شطآنه ظلال الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية، لقد عبثت رياح السياسة وأحابيلها بقضايا الوطن المصيرية حتى عصفت ببعضه، فعلت هذا كل الطوائف الحزبية من أقصى اليمين إلى أبعد اليسار، بطرح فكر رصين تارة وبالتهييج الديماغوغي والغوغائية تارة أخرى، يستوي في هذا من طلب السلطة عبر الإنتخابات أو من قصدها بتدبير إنقلاب، لا يُستثنى من ذلك من أقام طويلا أو رحل سريعا، فهل هناك داء لعنة في السياسة السودانية؟ سؤال نطرحه ونحاول الاجابة عليه من خلال تقصي البحث في الحزب الذي حكم لأطول فترة في تاريخ السودان الحديث.
    لقد ظهر مع التغيير الذي خرج في يونيو1989م الكثير من التحديات والصعوبات، مثل التصعيد الوطني الكبير لحرب الجنوب في مطلع التسعينات، وتلاحم المعارضة الشمالية مع الجنوبية لأول مرة في تاريخ السودان في تلك الفترة، ثم تدفق البترول، وانشقاق الحركة الإسلامية، وانفجار دارفور، ثم انفصال الجنوب، وثورات الربيع العربي، وهبوب رياح التغيير من الداخل في السودان على إثر القرارات الإقتصادية الأخيرة، ومخلفات ثلاثة وعشرين عاما على الأوضاع الإجتماعية الجاثمة، وطريقة تفاعل عضوية الحزب المتولي للأمور معها. كل هذه القضايا تطرح أسئلة كبيرة وجوهرية، ولا يتسنى الإجابة عليها إلا بتلمس عظم الخيوط الناسجة للصورة الحقيقة للوضع، بعيدا عن المساحيق والألوان وأدوات التجميل، لقد عايش الناس جل هذه القضايا، وربما أسهم بعضهم في صناعة أجزاء منها، على أن الصورة الكاملة للحقيقة لا تزال بعيدة عصية على الإدارك.
    لقد حاولت جهد الإستطاعة في هذه الصفحات المعدودة أن أضع كلمات على سطور ،عساها تُفلح في معرفة جوهر مسببات هذه القضايا، محاولاً طرح جملة أفكار مبعثرة، علها تساعد في إلهام آخرين فيُعمِلون عصفا ذهنيا لعصارة أفكارهم وتجاربهم، ربما تُعين أهل الحل والعقد في البلاد في إيجاد مخرج صدق من عنق الزجاجة الماثلة، غني عن القول أن الأمة السودانية اليوم "بشمالها وجنوبها" تدخل تحديا مصيريا وتطلب مستقبلا أفضل، وتحاول أن تستجمع بقايا طموح وإرادة، ولكن للأسف دون رؤيا واضحة وقيادة متماسكة في المجتمع، غير بعض الطامحين في تبديل الكراسي، رغم إشعاعات أمل تبرق هنا، أو تومض هناك، بقرب فجر جديد وشيك.
    إن أكبر مفخرة كانت تُحسب للمؤتمر الوطني أو الحركة الاسلامية، هو هذا الجيل الذي قامت بتربيته وإخراجه من بين فرث ودم في فترة الثلاثة وعشرين عاما الماضية، ولكنها مثله مثل انجازات اخرى كثيرة، يجري تبديدها واستهلاكها في ما لا نفع فيه. إن الأزمة الحالية المستفحلة التي يعاني منها الحزب تكمن في مكوني القيادة والرؤيا، ودون فك طلاسم هذين المكونين وإجراء عملية تحليل عميق لهما، لن يجدي الرعي حول الحمى أو الإلتفاف حول العبارات المنمقة، فما تجالس أحدا "خاصة من اهل الصف الأول إلا ويذكر لك قصة عن (نميري أو ترابي) وكيف كان يتصرف أو بماذا أمر عندما واجهه مثل هذا..الخ. هذا إمعان في دفن الرؤوس في الرمال، عن إصرار وترصد وهروب من مواجهة الحقائق، فيقيناً أن ليس الحنين إلى أيام سيطرة الفرد "أيًّا كان على رأسه بوريه أو عُمامة" هو الباعث على هذا، بل هو تعبير مستخف عن حالة إحباط من الواقع المتجسد في توهان الرؤيا وتشتت القيادة، وهو ما يناقشه موضوع الكتاب. يجب أن نُذكّر أن التاريخ يصنعه بشر، وهم خلق من لحم ودم، وليس في مقدورهم، مهما تسامت هاماتهم صناعة المعجزات أو الخوارق، بل يجتهدون إلى ما تستطيعه طاقاتهم ويحتمله وسعهم، ذلك قصارى أمرهم كأفراد، ولكن أين المجتمع، أين الجماعة، أين الأمة؟
    يجب أن يكون واضحاً أن الدافع لهذه الكتابة هو النية الصادقة في استكمال دور جندي آمن بفكر الإنقاذ وأطروحاتها في عهد بداوتها الأولى قبل أن تدخل عليها عاديات الدهر وتنجرف إلى ما نسعى إلى الدعوة الى إصلاحه، فهو رسالة إلى رفقائي وزملائي الشباب، الذين كانت هتافاتهم داوية تقض الثريا ولا تهاب أو تخشى في الحق لومة لائم، يفعلون ذلك من منطلق إيماني عقدي محجته (الدين النصيحة، لله ولرسوله ولعامة المؤمنين وأئمتهم) وليس في الدين من حرج، ومبتغاهم (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله) لذلك وجب عندهم إلزام كل إنسان طائره في عنقه.
    يضم هذا الكتاب بين دفتيه جزءين: الأول هو الدعوة للديمقراطية، وتشمل الأربعة الفصول الأولى التي تتحدث عن الوضع السياسي في البلاد بصورة عامة مع مقاربة فرص المستقبل من داخل المؤسسات العامة القائمة، وهناك فصل خاص بالعمل داخل المؤتمر الوطني، والجزء الثاني هو الإصلاح السياسي ويقع في ستة أجزاء، حاولنا فيها التدقيق بعض الصفحات من تاريخنا المعاصر في تجربتنا الحالية وكقول كونفوشيس (من أراد التنبؤ بالمستقبل فعليه التملي في الماضي)، اذاً فللعبور للأمام لابد من إجراء دراسة مفصلة لبعض المؤسسات التي لها علاقة بتبيان القضية المركزية في الكتاب: أزمة الرؤية والقيادة، ليس لمحاكمة الماضي وتسجيل إتهام بل لأخذ الدروس والعبر، يقول الإمام علي كرم الله وجهه (ما أكثر العبر وما أقل الإعتبار). نحاول في هذا الجزء مناقشة بعض القضايا التي يتجافى المحللون الحديث حولها مثل )الجيش، الخارجية، الاعلام، القيادة،..الخ(، وهناك فصل عن القضية المحورية وهي السلام، والمسارب التي أوصلتنا إلى الوضع الراهن، كذلك في الختام حوار مع النخبة الوطنية في السودان.
    إن الحديث عن مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، يجب ألا يكون فيه مبدأ تخوين لأحد حتى وهو يقاتل بالتحديد. يجب ان يتم تسديد الثغرات وهو يقاتل لا المن عليها خاصة ان كان الخطأ من أعلى، حتى وإن اثار البعض مسألة المحاذير التي تتبدى في حجم المعلومات التي نناقشها وطريقة الحصول عليها، طالما أنها لا تكشف ستراً أو تذيع سرا. فهي من باب التحليل والحوار البنّاء المطلوب الذي يجب إفساح المجال له والتشجيع على مبادرته وطرحه، وذلك لسبب بديهي هو أن الجيش مكون وطني فاعل وحاضر، من حقنا بل من واجبنا الحديث عنه والحوار مع قادته، طالما بقي مؤثرا في حياتنا، وطالما أننا نستقطع من ميزانياتنا له، فهو يستحق ما هو اكثر من المال لرجال فيه يجودون بأرواحهم وأنفسهم، فبذلك حُق لنا أن نقدم أنفسنا وأبناءنا وندفعهم للقتال والموت تحت راياته الشريفة، ولكن حينما يصبح الصمت عن الحق سائداً، وتضيع بسببه الأمة مجاملة لنفر منها، يكون هذه خيانة وطنية وجناية في حق الوطن والمؤسسة التي نسأل الله أن يحفظها، وأن يبقى دائما عزيزة صواريها. إن الحكم على تلك المؤسسات في نظر المراقب - والحساب في آخر الأمر- يكون بما إرتقت إليه هممهم وليس ما رامت إليه نفوسهم وتاقت.
    إن الصراع هو الباعث للحركة في كل فصول التاريخ، والسمه البارزة لسيرة البشر على الأرض، ولكن حين يضحى الصراع على السلطة شيئا عاريا مجردا من دفء حلم أو كرامة مشروع أو إلهام فكرة، وقوده دماء الفقراء وتضحيات الشرفاء، يصبح عندها شيئا مقززا يبعث مجرد النظر إليه الغثيان والصدود.
    إن النقد والتمحيص بالصوت العالي يقوي هذه المؤسسات ولا يضعفها كما يتوهم بعضنا، فأولا: لا يوجد شئ اسمه داخلي بحت، طالما أن الحزب يسيطر بهذه الطريقة على الدولة بكل مفاصلها وأدواتها ،وعلى المجتمع بكل مؤسساته وأجهزته يصبح حق النقد والتحدث ملكا عاما لكل من يقوى عليه ويمتلك ناصيته من علم ودراية، شريطة ألا يُذيع سرا أستودع عنده، أو يشيع أمرا يستفيد منه العدو المتربص، كما يعرفه سعد الشاذلي.
    في رسالة عامة يقول "أحمد مدير(1)" إنه كفر بكل الأصنام، ومن قبل بشّر الفيلسوف نيتشه بقرب أفول الأصنام، يجب أن نتذكر أن هذه الاصنام من صنع البشر وألا قُدسية إلا لرب العزة، ورسوله هو الوحيد المعصوم في هذه الامة، فكل بني آدم مجبول على الخطأ، وخير الخطائين التوابون. كتب الأخ محمد يوسف بعد إعلان الإجراءات الإقتصادية الأخيرة للقيادة بهذا النداء(2) (هل يتكرم عمر البشير وعلى عثمان و نافع وعبد الرحيم و..و..و..الخ، كل هؤلاء الوزراء فى عهد الإنقاذ ليضعوا ممتلكاتهم فى مزاد علنى، فلا يبقى الواحد منهم إلا على بيته وعربته، ليتساووا مع عامة الشعب الذى بعضه لا يملك بيتا أو عربة، ثم يطالبونا بشد الاحزمة وربط البطون، ليعيدوا لنا سيرة عمر و عمر و ق(.........)، وإن حواء الاسلام لا تزال ولودا. عندما أراد ق(.........) أن يفرض الضرائب على الشعب المصرى ليرد العدوان التترى، الذى إن قضى على مصر قضى على الإسلام، إشترط عليه سلطان العلماء العز بن عبد السلام، شرطين: أن يبيع الوزراء و أمراء الجند كل ممتلكاتهم، فلا يبقي الواحد منهم إلا على بيته و فرسه، ليتساووا مع عامة الشعب، ثم ينفق ذلك المال فى تسليح الجيش، فإن فنى كل المال، جاز له أن يفرض الضرائب. فجمع ق(.........) وزراءه و أمراء جنده و بدأ بنفسه و تبعوه فكانت عين جالوت عزاً لا يفنى طول الدهر، و اجراً يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من اتى الله بقلب سلي. تذكروا أنّـا بايعناكم على الإسلام، سدا للثغور و بذلا للمال و النفس فى سبيل الله، وإنـّا على العهد وإن توليتم، لأننا لا نعبد عمر و لا حسن، و انما نعبد الله، لا نبتغى اجرا من سواه، فإن توليتم يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، وأعلموا أن الإسلام منتصر بكم او بغيركم. لقد كنت أقول كفى لعمر البشير إعلان الشريعة وإن لم يطبقها، وفتح باب الجهاد وإن ركن حينا إلى الدنيا. و لكنى أخشى أن أقول، كفى به إثما اجازته للربا، فتوشك السماء ألا تجود بالقطر و توشك الارض ألا تجود بالخير) .اللهم إنى أبرؤ اليك من ربا أجازوه لضرورة أو لغير ضرورة (.
    لقد مضت بقية من سلفنا الصالح والرفقة الخيرة التي كانت في السابق يتجرع أحدهم غُصصا قبل ان يتجرأ على نقد القيادة شفاهة، ناهيك عن الكتابة في العموم، وقد رُوى أن اطول وأصعب قصيدة للشهيد علي عبد الفتاح (3) قالها مخاطبا أحد الذين عبروا إلى أرض اللحاق:
    ومضيتم والخطى مشدودة نحو الشهادة
    وبقينا نقرض الشعر ونغتاب القيادة
    ولو بقي "علي" حتى الآن لقال أكثر في فصاحته وإبانته التي لا ينعوج له فيها لسان طالما كانت في الحق وللحق. ان من حقنا أن نتكلم دون خشية من قطع عنق أو رزق، ومن واجب القيادة أن تستمع الينا، وتناقشنا دون خيلاء أو كبرياء أو انحياز لطرف هي تراه الحق بقلبها، ولا يصدقها عقلها أو تسعفها فيه الأدلة.
    ربما يثير هذا الكتاب أو بعض المعلومات الواردة فيه شيئا من الجدل أو الغبار، فقديما قيل إن الحقيقة جاءت إلى الناس عارية فأنكروها وتأبّوا عليها، ولما تسترت وعادت قبلوا بها، لكن الثقة في حكمة القراء ووعي عقلهم الجمعي لنبل الفكرة ونزاهة المقصد البائن في ثناياه هي وحدها التي تشكل عاصمة من الزلل، فالمقصود بهذه الرسالة في المحتوى هو شباب هذه الامة من اجيالها الصاعدة أيضا(من مختلف الاحزاب والتيارات السياسية) فهم الأمل المتبقي لها، وهم إذا احتجب الدجى أقمار كما وُصفوا، إن كل إنسان في ذاته سيكون يوما على آلة حدباء محمولا، وذلك شأن الإنسان مهما علا صيته أو ارتفع قدره، ليس لأحد منه استثناء حتى الأنبياء أشرف الخلائق وورثتهم من العلماء يمضون في سبيل الأولين والآخرين وهو الموت، ولكن الأمم الحية في التاريخ هي تلك التي تتدبر في مسيرتها وتراجع دفاترها وتتلمس خطاها كلما قطعت مرحلة أو همت بعبور مفازة.

    عبد الغني احمد ادريس
    يونيو2012م
    • أحمد مدير أحد الشباب الناشطين في دعوة للإصلاح، وقد لمع نجمه في مذكرة الالف.
    • محمد يوسف، من شباب الإسلاميين، أستاذ بجامعة الخرطوم، كلية العلوم.
    • علي عبد الفتاح عبد الفراج، طالب بكلية الهندسة جامعة الخرطوم، اشتهر بمواهبه المتعددة في فترة الدراسة في القيادة والخطابة والتنظيم، أضحى رمزا للشباب المجاهدين، استشهد في معركة الميل أربعين مارس 1997م.
                  

04-09-2013, 07:04 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الجزء الأول
    الدعوة للديمقراطية في السودان
    (الديمقراطية هي أسوأ نظام للحكم، بإستثناء جميع الأنظمة الأخرى)
    ونستون تشرشل


















    الدعوة للديمقراطية/ الفصل الأول
    السياسة والسلاح في فكر دولة الإنقاذ
    تقديم:
    منذ فجر التاريخ تُعرّف السياسة بأنها ثاني اقدم مهنة إنسانية على ظهر الوجود، ولم ترتبط السياسة والسلطة إلا بالقوة والقهر، فالتعريف المشهور لماكس فيبر والذي يجمع أساتذة العلوم الإجتماعية على قبوله للدولة هو أنها (المحتكر للإستخدام الشرعي للعنف)، ولا يخلو الحديث عن هذا الإستخدام بغير النقاش المستفيض لأدواته وفي مقدمتها الأجهزة الرسمية من جيش وشرطة وأجهزة إستخبار ..الخ. إن السياسة ليست منفصلة بل متصلة وفي بعض الاحيان متماهية مع السلاح إذا اعتبرنا نظرية تدرج الألوان، فالسياسة هي التي تحدد نوع السلاح الذي تستخدمه في كل حالة، من خلال الإجابة عن السؤال المفتاحي: متى،أين، كيف؟ فعلى سبيل المثال في قضايا الوطن الداخلية، تستخدم السياسة: وسيلة الحجة والاقناع والنقاش الحر، متى؟ في موسم الانتخابات، أو عند حدوث خلافات داخلية بين المواطنين، متى تلجأ الى السيف؟عندما يصبح هناك تعد للخطوط من مكان حرية فردية الى حقوق المجتمع. هذا في حدود الدولة الداخلية، ولكن ماذا عن مستوى الدول، متى تستخدم الدولة الحوار والنقاش أو "المباحثات"، ومتى تستخدم "سلاح القتال" ومتى تستخدم وسائل التأثير"الناعمة" مثل الدبلوماسية، أو المخابرات، أو وسائل الضغط الإقتصادي مثل العقوبات الإقتصادية أو مقاطعة أو غيرها من وسائط الدولة الحديثة، وذلك لا يتم إلا قطعا بعد الإجابة عن الأسئلة المشار إليها، فالحكمة العربية القديمة تجعل من الخلل بمكان، وضع السيف في موضع الندى، دون مراعاة للزمان والمكان.
    مع تطور وسائل المواصلات والتغييرات العالمية في لغة وطريقة التواصل وانهيار الحواجز الزمنية التي كانت تفصل بلادا وتحتجز أمما، صارت هناك مؤسسات عابرة لكل القارات والحواجز الزمنية والجغرافية، وبفضل نفوذها وإنتشارها أضحت أقوى من الدول بجيوشها وأساطيلها، فمثلا القنوات الفضائية وما تحمله من قوة ناعمة ومؤثرة، أصبح مثلا مراسل (الجزيرة) أو الـ(سي إن إن) أقوى وأهم لكل سياسي من كل سفراء الدول العظمى أو صاحبة الفيتو في مجلس الامن، وموقع على الشبكة العنكبوتية مثل "قوقل" (google) صار لديه من النفوذ ما يجعله أكثر فاعلية من أجهزة دول كبرى، وغيرها من وسائط المعرفة المتجددة والمتفاعلة، التي لا يمكن لسياسي أن يجد لمشايعيه مكانا تحت الشمس، دون النظر اليها والتعامل معها ووضعها في الحساب، إن السياسة ليست كلها دهاء ومكرا، أو طريقا مستقيما بين جبلين منحدرين، ففي عالم اليوم هناك وسائط الإرتباط ولغة المصالح ووسائل التعبير المتقدم، التي تجعل من قضية قد يراها الناس إعتيادية وطنوا حياتهم عليها وصارت روتينا عندهم، ربما تكون عند الآخرين شيئا طريفا جديدا لم يألفوه، من الممكن إعادة تقديم انفسهم من خلاله.
    الرسالة والقضية:
    إن السياسي هو القائد وهو الذي يُلهِم اتباعه فيقنعهم بمشروعه ومن ثم يتقدم الشباب والمتطوعون إلى الأمام، كل يحاول أن يسد الثغرة التي يستطيعها، ثم تنبري منهم ثلة من المخلصين فتقدم أغلى ما يملكه الإنسان وهي النفس، فتتسامى الأرواح والمهج وتبذل رخيصة في سبيل الوصول إلى هدف منشود يرى الناس أنه أغلى واثمن من حيواتهم، التي لا سبيل إلى إستعادتها إن فقدت، فيضحون بها فداء لرؤية ومشروع ورسالة يودون إنفاذها إلى غايتها، وغايتها تلك ليست عقارات وأملاكاً للقيادة وعائلاتها ومحظييها، بل هي اشواق امة وأحلام جماهير مشروعة في الحرية والكرامة والعيش الرغيد. على هذه الرؤية يتواثق الصغار والكبار ويجتهدون كل حسب وسعه لتقديم كل ما في استطاعة النفس البشرية الجود به، ولو كان اقصى من طاقتها وقدرتها الاحتمالية، فرأينا الأم التي تأتي بإبنها وهي تستحث على الثبات عند اللقاء في الخروج للقتال دفاعاً عن عقيدته ووطنه، وآخر ربما يجد في نفسه ان تأخر سرج شقيقه في الخروج، فيرسل اليه بأبيات من الشعر يستنهض همته للخروج الى القتال (1):
    يا صديق انهض وجاهد
    طلق ادراج المعاهد
    خض غمار الحرب شاهد
    وامض في درب الخلود
    أمض في درب القضية
    لاتبالي بالمنية
    طلق الدنيا الدنية
    وأعشقن ريح البارود
    أن الجندي يموت ويدفن وذلك شأن البشر مهما علا صيتهم او ارتفع قدرهم، ولكن دور القيادة التي تقف في الخلف، هو أن تجعل من تضحية هذا البطل الذي قدم روحه فداء، مشروعا وهدفا نبيلا هو جعل هذا العمل الفدائي الجليل الى ان يصير طاقة تحويلية خلاقة تدفع في سبيل انجاز وانفاذ ما تواصت عليه القيادة مع قواعدها فألهمتهم التضحية والفداء.
    وعندما يقاتل هذا الجندي في الخطوط الأمامية ويجد أن طفله قد طرد من المدرسة بسبب الرسوم الدراسية، وأن زوجته لقت حتفها في عنبر الولادة بسبب عدم توفر معقم أو طبيب مقتدر مهنيا ، أو ابنه المراهق تحول إلى إدمان الأفلام الخليعة أو المخدرات أو ترك دينه وفارق الجماعة او....أو ....الخ، وغيرها من المفاسد التي أضحت متفشية في أحوال الناس اليوم، تصبح هذه خيانة ووصمة عار على المجتمع بأسره وليست الطبقة الحاكمة فيه وحدها، لأن العقد الاجتماعي الذي ألهم هذا الجندي إرادة القتال وأوصله إلى المرحلة التي يبذل فيها روحه رخيصة دفاعا عن هذا المجتمع أو الوطن ليدرأ عنه الشر والخطر المحدق أيا كان نوعه ثقافيا او عرقيا او سياسيا او اقتصاديا ..الخ، كان شريكا في هذه التعبئة وهذا الإلهام ولم تكن القيادة وحدها هي من "أرسل هذا الجندي الى القتال، وزج من خلفه بهذه الادواء في أهله" إلى جسد الوطن، ودون إعفاء هذه القيادة من مسئوليتها التي يجب ان تتحملها كاملة، بيد أن الجماعة والفرقة التي تدانيها بالولاء أيضا ،تصبح شريكا متصلا مع المجتمع والقيادة في المشاركة ولو بالصمت العاجز.
    حضيض الواقع:
    أن حماية المجتمع من الإختراق على السواء من خطر سياسي أو عسكري أو امني أو إقتصادي هو جوهر عمل أية إدارة تتولى شئون الناس، وتصبح بموجب عطائها في هذا المضمار مناط ثقتهم ومستودع استحقاق قيادتهم في تجديد مشروعية قوامتها على هذه القيادة، إن النقاش عن اخطاء إستراتيجية جعلت الأعمال البطولية التي قدمها الشعب السوداني طيلة الفترة الماضية، تتبدد وتتحول إلى محض سراب، هو نقاش مشروع ويجب أن يُفتح على الملأ دون خوف أو وجل، فإذا كنا نود فصل جنوب السودان وتسليمه للخصم الألد، فلماذا سكبنا كل هذه الدماء على غاباته وسهوله ووديانه التي تخضبت بجثث وأشلاء رجال ما بخلوا ولا وهنوا ولا استكانوا عندما دعاهم نداء الواجب و صوت الضمير الوطني للتلبية؟ هذه الدعوة للنقاش تكون من باب التثبت وليس التخوين والتجريم، فليس بأيّ شكل من الاشكال المقصود منها إغتيال معنوي لكسب شخص او توظيفها كوقود للصراع يصبح رافعة لصعود آخر، لأن الجميع شركاء في هذا الذي وقع قدحا او مدحا، وكما أشرنا هذه الشراكة في المسئولية ولو بالصمت عليها وتركها تمر، يستوي في هذا الذين قصر نظرهم عن تدبر مآلات الامور بدرجة اقل من الذين كانوا يعروف كل خارطة الطريق ولكنهم التزموا الصمت أو أداروا ظهورهم لهذا المسرح الذي صار عبثيا في آخر ايامه، تتبدل فيه المواقف بحسب "ما يطلبه المستمعون"، أي يكون خطاب القيادة لجمهور الواقفين وما يودون سماعه وليس ما هو مطلوب تبصيرهم به من اخطار حتى وان كانت على عكس رغائبهم.
    إن مشروع التغيير الذي جاءت به الانقاذ في 30 يونيو 1989م كان يستهدف اقامة نظام حكم على هدي الإسلام، وكانت الحجة التي أستعملت في مغامرة الإستيلاء على الحكم في الغسق، هي عجز الأحزاب ومشروعية المطلب في تنزيل الدين إلى واقع للحياة معاش، وفي ظل مخاطر كانت محدقة بالوطن من كل الإتجاهات وجد التغيير قبولا وترحيبا محليا كبيرا، فما الذي أديناه لهذا الاستحقاق الذي نلنا به سلطة ونظام حكم؟ بعد بضع وعشرين عاما من البقاء في الحكم ألا يحق لنا ان نطرح سؤالا: ان كان ذاك هو أساس مشروعيتنا، فما هو الواقع الذي إنتهينا اليه ؟ تسليم الجنوب الى الحركة الشعبية الخصم الإستراتيجي لهذا التوجه بكل ما فيه من ثمرات وبذور يانعة جرى غرسها على مدار أكثر من مائة عام لم يفلح حتى الاستعمار في إقتلاعها(2)، دارفور التي كانت علما ورمزا للإسلام ظهرت فيها حالات ردة عن الدين الحنيف، بل وبعض هؤلاء نال مناصب قيادية، الشرق الآن ولأول مرة في التاريخ منذ أكثر من 1437 سنة بدأت محاولات ترجمة الإنجيل الى لغة البجة(3)، إذاً فالحرب القائمة حاليا على حدودنا الجنوبية هي مشروع سياسي ذو جذور فكرية عميقة تستهدف إيقاف المد المسلم – كما صرح بذلك سلفاكير- وبالتالي إعادة السودان الى ما قبل اتفاقية (البقط)، وعلينا ملاحظة ان السودان ربما يكون البلد الوحيد في المنطقة المحيطة الذي دخل اليه الاسلام دون قتال بل بالدعوة بالحسنى وبالإقناع، لذلك فجذوره ضاربة في العمق، ان الحديث عن استهداف للثقافة الاسلامية المتحوصلة في ثقافة العرب هي إطروحة جدية الا ان استهلاكها من قبلنا وجعلنا لها وقودا لإطالة امد البقاء في الحكم، جعل الكثير من المخلصين والمشفقين على هذه المسألة الاستراتيجية والهامة يحجمون عن المشاركة في درء هذا الخطر، في مقابل ما تقوم به السياسات الرسمية من تنفير واستعداء يصب كرصيد بارد في مصلحة الذين يقومون بهذا التحريض علينا في الغرب والشرق بطريقة رعناء مجافية لكل اسس المنطق السليم. إن مقاومة هذا المشروع تكون بتبني مشروع سياسي فكري بأطروحة جامعة ليس الزعيق على المنابر وشن الحرب التي لن تفعل غير تكريس الاوضاع القائمة. يمكن إيجاد المعاذير للقيادة في إنفصال الجنوب ولكن ما هو عذرهم في الإنتظار سبع سنوات حتى يبدأ في بحث بدائل الأزمة الحالية، وقد كان يعلم القاصي والداني بنتائج الإستفتاء منذ يناير 2005م.
    من أين نبدأ:
    المطلوب من هذه الدعوة للنقاش أن تقود إلى طرح حزمة من التساؤلات، حول القضايا المحورية تجافت فيها السياسة عن نصرة السلاح وربما انخذلت عنه، فالذي سيؤرخ لانتصارنا الباهر في معركة توريت سبتمبر 2002م تتويجا لمسيرة ثلاثة عشر عاما من التقدم العسكري في الجنوب، لا يمكن ان يصدق وهو يقرأ اتفاق الترتيبات الامنية الذي وقعناه بعد ذلك بشهور في سبتمبر 2003م، ووافقنا فيه على سحب كل جيشنا من الجنوب وتسليمه على طبق من ذهب لخصومنا، وترك حلفائنا ونصرائنا ومواطنينا هناك لخصومهم، تنهشهم الذئاب وأجساد شهدائنا تصطرم في مراقدها، ومن يفعل هذا لا يمكن ان يلوم هؤلاء الذين تركناهم بثمن بخس ويلومهم بعد ذلك على موالاة الأعداء، وعندما نفعل هذا قطعا لن يكتفي العدو بحدود الجنوب بل سيطلب التفاوض على بقية من شعبنا وأرضنا في الشمال، ولن يصمت آخرون يرون في هذا المثال الذي يحتذى لمطامعهم ورغائبهم فيحتذون حذوهم بغير إحسان في الدعوة إلى ما أصبح موضة "اجندة وطنية" في طلب السلطة والثروة ...الخ، فالمجتمع بحزبه ودولته وحركته كان غافلا خاذلا لسلاحه الذي كان يقاتل في الميدان، فلا يُحسن إدارة المجهود الإنتصاري العظيم الذي يتحقق بفضل دماء وعرق السلاح، أو يوظف عائده على طاولة تفاوض او مائدة بحث تجعل حياة هذا الجندي وأسرته وقبيلته ومعتقده وإرثه...الخ في مأمن من الإختراق، وفي وضع افضل من أمسه ويستشرف مستقبلا افضل من هذا الذي يعيشه في يومه.
    إن الاختراق الكبير الذي احدثته الحركة الشعبية في نسيجنا الإجتماعي الوطني، أولاً بتقسيم السودان إلى "عرب وغير عرب"، ثانيا بتحييد قبائل التماس الحامي الاستراتيجي لدفاعنا الجنوبي، بل وتوظيف بعضهم كما حدث في معارك هجليج الأخيرة، كل ذلك يُعتبر مما يستدعي قرع اكثر من جرس إنذار مبكر لهذه التطورات الخطيرة والهامة في نسيجنا الوطني، كما اشرنا إلى ذلك في مواضعه.
    • الأبيات المذكورة للشهيد/ يوسف سيد سيد احمد بلال وهو أميّز ضباط القوات المسلحة، حيث كان الأول في دفعته وصار معلما بالكلية الحربية، قاتل في جنوب السودان وأستشهد في معارك الأمطار الغزيرة يوم 16/11/1995م، وكان يستحث شقيقه الاصغر إسماعيل الذي هو طالب بكلية الطب جامعة الخرطوم، أيضا استشهد في طريق الإستوائية في خريف العام 1998م.
    • رغم فرض سياسة المناطق المقفولة التي تركت الجنوب غنيمة باردة للمؤسسات التبشيرية، التي انفردت به لعقود، وحتى المكاسب الكبيرة التي نالتها هذه المؤسسات بعد الدور الكبير الذي قام به مجلس الكنائس العالمي في اتفاق اديس ابابا 1972م، في الإحصاء الذي تم في عام 1983م كان عدد المسلمين يفوق نسبة المسيحيين في الجنوب (18% الى 17%). في العام 2009م صدر تقرير عن هيئة عالمية في لندن يقول أن السودان"يقصدون الجنوب" به أعلى نسبة تحول الى المسيحية في العالم في العامين الأخيرين "قبل صدور التقرير".
    • راجع مراسلات صحفية نشرت في الصحف المحلية في الخرطوم في الفترة الماضية، بين الأستاذ محمد عثمان إبراهيم والبروفيسور عبد الله علي ابراهيم، بخصوص بعض الكُتب التي صدرت في قضية ترجمة الانجيل الى لغة البجة مؤخرا، كما يذهب كثير من المؤرخين الى ان هجرة المسلمين الاوائل من ميناء الشعيبة-جدة- كانت الى ارض البجة، وقد كان ذلك في السنة الثامنة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة.
                  

04-09-2013, 07:07 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الدعوة للديمقراطية/ الفصل الثاني
    التغيير السياسي
    في نهايات العام 1964م وعقب انتصار الثورة الشعبية في السودان، طرح الاستاذ محمد حسنين هيكل سؤاله الاستفزازي عقب ثورة اكتوبر في مقاله الاسبوعي الراتب (بصراحة)، تحت عنوان : ثم ماذا بعدُ في السودان ؟ ويومها هاج الرأي العام السوداني، وقامت مظاهرات وهتفت الجماهير مطالبة برأس هيكل عدو الشعب، ولكن الآن وبعد قرابة الخمسين عاما، لا يزال ذات السؤال مطروحا، ثم ماذا بعد في السودان؟
    أكثر من ستين عاما من استقلال السودان والبلاد تبحث عن الاستقرار والحكم الراشد. فلا يزال السودان وكأنه يعاني من آلام الميلاد بعد انفصال وذهاب ثلث الارض وربع السكان وثلثي الثروة، وتقف ثلاثة محددات رئيسية تنقل للمتابع الصورة عما يجري تحت السطح، ومن ثم التكهن بما يمكن ان تؤول اليه الأمور من بعد، الاول: عن كيفية تنظيم العلاقات الداخلية بين الاقاليم أو ما اصطلح على تسميته (علاقة المركز بالاطراف أو الولايات)، والثاني: مدى إمكانية توقف الحرب الدائرة في جنوب النيل الازرق وجنوب كردفان ودارفور، والطريقة التي يتم بها ذلك لأنها ستربط مصير السلام والامن الاجتماعي لسكان البلاد على ضوء نتيجتها. آخيرًا مستوى وطبيعة العلاقات التي تنظم وتحكم دول الجوار "خاصة في الجنوب مع الدولة الوليدة" بعد معارك هجيلج الأخيرة وقرارات مجلس الامن اللاحقة، وفي الشمال مع مصر على ضوء تداعيات نتيجة الانتخابات الاخيرة. مع وجوب الاعتراف بدور محوري لا يقل عن ذلك لدول ذات ارتباط وعلاقة متداخلة مثل اريتريا واثيوبيا في الشرق ويوغندا وكينيا في الجنوب وتشاد وليبيا في الغرب (مزيد من التفصيل في هذا راجع فصل العلاقات الخارجية).
    الصورة العامة:
    إن حالة القلق والإحتقان السياسي التي تعيشها البلاد أو ما اصطلح على تسميته أزمة الحكم ، يسهل قراءتها بمطالعة سريعة للاوضاع الحاكمة التي عبرت عن نفسها في التشكيلة الوزارية الاخيرة التي اعلنت في ديسمبر من العام الماضي ،والتي جاءت بعد مخاض عسير ومفاوضات متطاولة مع القوى السياسية الرئيسية في البلاد، امتدت لاكثر من ستة أشهر (من منتصف مايو وحتى مطلع ديسمبر) والتي تعد وبحق أهم مؤشرات لقراءة الوضع السياسي للعلاقات الداخلية في محيط المركز أو بين اقاليم السودان، فهي محاصصة توصلت اليها النخبة الحاكمة عقب اثنين وعشرين عاما من البقاء في الحكم.
    أولا: مفاجأة المؤتمر الوطني :
    أولى تلك المفاجآت ان قائمة المؤتمر الوطني الشريك الأبرز أو (الحزب الحاكم والمسيطر كما تصفه اصوات المعارضة) جاءت قائمة منسوبيه المشاركة في الحقائب الوزارية خالية من اية مفاجآت وذلك باستمرار ذات الوجوه المتكررة لأكثر من عشرين عاما على مستوى مستشاري الرئيس او الوزراء او حتى وزراء الدولة ، وهو على عكس ما وعد به الرئيس البشير "رئيس الحزب " في مؤتمر للشباب والطلاب خاطبه في فبراير من ذاك العام عقب نجاح الثورة المصرية واندلاع الثورة الليبية، حيث قال ان الحكومة القادمة التي ستتشكل عقب الإنفصال سيكون نصيب الشباب فيها( 90%)، وراجت بعدها شائعات تقول بأن الرئيس سيعمد إلى تعيين "نائب للرئيس" من الشباب، ونشطت لجان تتبع لوزير الكهرباء تدفع في ذات الاتجاه.
    لذلك تكون "المفاجأة" في قائمة المؤتمر الوطني "انه لم تقع مفاجأة". مما يفتح الباب امام المراقبين للتنبؤ بان أولى ردات الفعل لهذه التشكيلة الجديدة يتوقع ان تأتي من داخل اسوار "الحزب الحاكم" فيما يشبه ان يكون حالة من التذمر في اوساط القطاعات الشابة في الحزب والدوائر، التي كانت ترى ان تصعيد قيادات جديدة وجيل جديد من الشباب يمكن ان يدفع بدماء جديدة الى شرايين القمة، ويعطي الحزب جرعة من التجديد يحتاجها الآن اكثر من اية فترة ماضية، وكذلك يعطي الشعب من خلفه بارقة امل في تجديد وتغيير يبدأ بالأشخاص والقيادات وينتهي بالسياسات وفق خطة اصلاحية شاملة (اشبه ببروسترويكا أو غلاسنسوت سوداني على الطريقة السوفيتية) تستفيد من عثرات الماضي وتلجم دعوات وأصوات التغيير على الطريقة المصرية او الليبية التي تعج بها اصوات المعارضة السياسية والعسكرية للنظام، خاصة بعد قرارات الزيادات الأخيرة على الوقود والسلع. وهو ما ظهر لاحقا في مذكرة الألف وما جرى بعدها.
    في الحكومة التي تشكلت عقب انتخابات 2010م كانت عضوية الحزب قد أطلقت عليها من باب التهكم "حكومة مديري المكاتب" لأن شخصين قياديين في الحزب قد أدخلا كل سكرتيريهم السابقين في التشكيلة الحكومية، الاول شخص نافذ للغاية قام بتعيين (14 ) مساعدا سابقا له كوزراء اتحاديين، والثاني استطاع الحصول على سبع حقائب اتحادية لمساعديه السابقين(تشمل وزراء مركزيين ووزراء دولة).
    طائفة الإتحادي أم حزب المراغنة؟
    الحزب الاتحادي الديمقراطي (الذي يعرف باسم الاتحادي الاصل) أصبح هو الشريك الثاني في الحكم مع حزب المؤتمر الوطني، وقد جاءت المشاركة كخاتمة متوقعة لحوار امتد لاكثر من عشرة اعوام استهله الامين العام السابق للحزب ابراهيم احمد عمر وبرعاية ومباركة مصرية رسمية مع السيد محمد عثمان الميرغني مرشد الطريقة الختمية وراعي الحزب -الذي اصبح بوضع اليد في حكم زعيم الحزب- منذ فترة اقامته في القاهرة بعد خروج د.الترابي من قيادة المؤتمر الوطني، مما جعل المشاركة اشبه بدخول طائفة الختمية منها الى حزب الاتحاديين، الشئ الذي دفع خصوم المشاركة ينعتون المشاركين الجدد بانه تجديد لـ"حزب الشعب الديمقراطي" أو طائفة الختمية (كما سماها د.بشير رحمة القيادي في حزب الترابي) خاصة وان "مولانا" قد اختار ابنه رغم صغر سنه وضعف تأهيله وقلة خبرته بالعمل السياسي للمنصب الاول المخصص مما يدل على ان "الطريقة" أو"المزاج" كانت سابقة "للمعايير والمؤسسية" في عملية الاختيار والترشيح، مما جعل سهام النقد تتوجه بكثافة للسيد محمد عثمان الميرغني على الثنائية والازدواجية التي يظلل بها قرارات القيادة، فتأتي ضبابية وتطلب من الآخرين الانخراط والطاعة حتى ولو كانت المشاركة هامشية لا تليق بمستوى حزب الحركة الوطنية الاول وصانع الاستقلال في نظرهم ووفق تقديرهم. فلا عدد الحقائب التي نالها الحزب في السلطة ولا نوعها ولا طريقة الترشح لها، كانت وفق عملية ديمقراطية او مراعية لمستوى الحزب وحجم القيادات التي ترشحت لها.
    حزب الصادق الشريك الخفي:
    رغم الضجيج الاعلامي الكبير والكثيف الذي غلفت به عناصر حزب الامة موضوع دخول عبد الرحمن نجل زعيم الحزب في التشكيل الحكومي الحالي ،بيد أن مشهد أدائه للقسم، ومن ثم نشاطه المكثف داخل القصر (وفي لجنة الاستنفار التي اعقبت احتلال هجليج) يجعل من الحزب أشبه بالشريك الخفي في السلطة ،خاصة وأن أصواتا حكومية كبيرة ومتكررة كانت تردد باستمرار أن السيد صادق المهدي زعيم حزب الامة (أو آخر رئيس وزراء شرعي منتخب كما يحلو له ان يطلق على نفسه في الحوارات الصحفية) ينال باستمرار أموال الحكومة وحصصا مالية ثابتة، أشبه براتب شهري تحت ستار "تعويضات الحزب عن خسائر المصادرة" التي تعرضت لها أصوله بعد الانقلاب في 30 يونيو أو "قوائم التفريغ" داخل الحزب، كان ابرزها تصريح ادلى به الاستاذ علي كرتي وزير الخارجية في زيارته لواشنطن في خطابه للجالية السودانية هناك بأن (الصادق والميرغني "سجمانين" يفلحون فقط في أخذ الأموال من الحكومة ويكتفون بالنقد الشفاهي ولا يجرأون على التقدم اكثر من ذلك خطوة ضد الحكومة)، وقد نشر موقع (ويكيليكس) الشهير برقية من السفير الامريكي في الخرطوم عقب لقائه مع د.فاروق محمد آدم عضو المكتب القيادي والعائد لتوه إلى صفوف حزب المؤتمر الوطني قوله للسفير (الميرغني والصادق المهدي يبيعون ذممهم لفترة قصيرة ، ولذلك المؤتمر الوطني عندما يدفع لهم اموالاً فانه يعلم أنها تلعب دور المسكن لوقت قصير جدا)، اذاً فالشراكة القائمة حاليا عمادها المال وتكمن فاعليتها في لعب دور المخدر لعناصر المعارضة الأخرى، الذي ربما سيقوم حزب الامة بلعبه مع الأطراف وفق الحكمة الانجليزية (wait and see)"صبر وانتظار" لصالح حزب المؤتمر الوطني. ولكن هل سيغامر صادق بمستقبل حزبه في شراكة محكومة السقف اذا توافرت شروط وإرادة حقيقية للتغيير في الشارع؟؟
    الطبعة الرابعة للإنقاذ:
    الاحزاب الاخرى ذات المشاركة والدور الصغير هي موسمية الجريان، فحزب الاتحادي جناح جلال الدقير قد جرت له عملية رفع الى أعلى وفق القاعدة (kick him up) حتى لا يشعر بان مشاركة الميرغني جاءت خصما عليه، كذلك في بقائه في التشكيلة يمسك صناع القرار الإنقاذي بكرت يضغط على الميرغني بقوة ويساعد على تفكيك أكبر أحزاب الكتلة الوطنية الذي يقوم حزب المؤتمر الوطني بإحلال جزئي بطئ لقواعده واذابتها والتمدد في مساحاته الفكرية (فكرة حزب الوسط، او حزب الحركة الوطنية، ...الخ)، بقية متفككات احزاب الامة (المهندس عبد الله مسار حتى بعد استقالته، د.أحمد بابكر نهار، الصادق الهادي،....الخ) تنظر اليهم الحكومة من زاوية نفوذ شخصياتهم ومراكزها القبلية، فالأول ينحدر من بيت أكبر أعيان قبيلة الزغاوة في دارفور، والثاني من مركز قوى وسط عرب دارفور، والثالث يمثل القيادات الشابة في بيت آل المهدي، ...الخ.
    (يقول إن الترتيب معكوس: نهار من الزغاوة ومسار من العرب)

    المكون الرابع في التشكيلة هو القوى القبلية والجهوية مثل جبهة الشرق ،ومتبقيات حركات سلام ابوجا، والمنشقون من الحركة الشعبية (جناح تابيتا بطرس) بالاضافة الى حركة تجاني سيسي. وهؤلاء يحتفظون بمواقعهم بحسب اهمية الرمزيات التي يمثلونها على السواء أكانت جهوية او اتفاقيات سلام او خلافه.
    بلا أدنى شك ينظر المراقبون الى هذه التشكيلة التي تجلت والانقاذ تدخل على الطبعة الرابعة من نسختها ، فالاولى، التي كانت تحالفا مع الحركة الاسلامية التي يمثلها حسن الترابي، والتي بدأت في 30يونيو 1989 وانتهت في 12/12/1999 او الرابع من رمضان، والثانية التي كانت انقاذا بدون الترابي مع تحالفات صغيرة اهمها الحزب الاتحادي جناح الشريف الهندي والاخوان المسلمون وانصار السنة، ومؤقتا حزب الامة جناح مبارك الفاضل. ونسختها الثالثة بعد توقيع اتفاق السلام الشامل ودخول الحركة الشعبية وانتهت بانفصال الجنوب، وهاهي البوابة الرابعة للانقاذ تفتح في اجواء الربيع العربي بما يشبه الردة التاريخية أو ما يمكن وصفه بــ (تحالف الجيش والطائفية السياسية، السيدين).
    الخروج من النفق:
    يعترف كل القائمين على الامر في الخرطوم، بأن هناك ازمة حكم تطرح نفسها بقوة ،ولكن تختلف اسباب الشرح لها، وبالتالي زاوية النظر للطريقة المثلى اتخاذها، المتابع للشأن السوداني يلاحظ أن رؤية القيادة الحالية للاصلاح او حل أزمة الحكم تتخلص في تبنيها لإستراتيجية تقوم على قاعدة "فقه الإستِيعاب" وهو إشراك وإدخال أكبر قدر من الخصوم والأعداء في العملية السياسية بإقتسام الكيكة معهم، ومن ثم منحهم وظائف في السلطة ونصيبا من الثروة، وقد كانت تجربة الحركة الشعبية (يوليو2005- يناير2011م) هي اوضح نموذج على فشل هذه الرؤية التي كانت كما وصفها في وقت من الأوقات نائب الرئيس علي عثمان "مليئة بالمطبات الهوائية"، ولكنها ما لبثت أن إنتهت بالبلاد وقيادة الحزب إلى مأزق تاريخي يكاد يقضي على ما تبقى من رصيد او مشروعية سابقة، بما جرته من كوارث وازمات متلاحقة تأخذ برقاب بعضها البعض.
    هناك نقطة جوهرية "كما أشار اليها الكثير من المراقبين" ألا وهى أن الإطار الذي يمكن أن يستوعب عمر البشير وجون قرنق وخليل ابراهيم وصادق المهدي وسليمان حامد وعقار وهلمجرا، هو في حقيقة الأمر سياق لا بد وأن يكون مختلا، إن لم يكن هناك الاتفاق على شكل وهيكل واضح للحكم، تُحل فيه القضايا الرئيسية، ويُجاب فيه على كيف هو شكل الحكم؟ وليس من هو الذي يحكم؟ مع العمل على تجنب شعارات الإثارة، فالظن السابق بأن إذاقة هؤلاء من عسل السلطة كفيل بأن يتركهم يتناسون "مظالمهم المدعاة"، ثبت أنه ظن أجوف، لا يقوم على رؤية ناجعة ذات صلة بالوقائع أو تحليل عميق لجوهر الأزمة ومسبباتها الحقيقية، فالأول يتحدث عن مشروع إسلامي، والثاني يتحدث عن مشروع تحرير -لا أحد يعرف تحرير مِن ممن؟- والثالث يحمل الكتاب الأسود، والرابع يبحث عن زعامة سياسية مقدسة تاهت منذ قرن، والخامس يبحث عن حكم علماني، والسادس والسابع ..الخ، كان أجدى وأدعى للصدق أن يتحدث السياسيون في السودان عن الاتفاق على قواعد للعبة السياسية، وطريقة جديدة لإدارة الصراع فيما بينهم عوضاً عن مبدأ المشاركة. فالدعوة إلى "توحيد الجبهة الداخلية" والإتفاق على "ثوابت وطنية" أو تغليب مصلحة البلاد القومية، أو الاتفاق على الأجندة الوطنية، أو غيرها من الشعارات الزاهية التى يُطلقها معسكرا أهل الحكم وأنصار المعارضة، تبقى مجرد شعارات جوفاء إن لم يصحبها تنازل للوصول إلى ارضية مشتركة بين المتلاحين، فإذا كان الحاكمون يظنون أن في امكانهم أخذ كرت تفويض مفتوح من المعارضة والسير به في كل الإتجاهات دون أن يكون هناك ثمن تتقاضاه هذه المعارضة، هو ضرب من الوهم التحليلي أدعي بصاحبه ترك العمل في السياسة والبحث عن مجال آخر للتعبير عن ذاته، وكما قال أحد المعارضين بعد أحداث هجليج الأخيرة عندما دعت الحكومة المعارضة الى التوحد ضد الغزاة(1) "الحكومة تريد منا أن نضحك حين تضحك هي، ونبكي حين تبكي" . وفي القول إشارة إلى استقبال الحكومة لفاقان أموم واحتفالها به في الخرطوم في نهاية مارس قبل الحرب في هجليج بأيام، وفي المقابل اذا كانت المعارضة تظن أن الحكام سيخرجون إلى الناس ويعلنون تنازلهم عن السلطة وإعترافهم بالأخطاء التي ارتكبوها جملة واحدة ودعوتهم لتحديد ممثلين عنهم لتسلم السلطة منها، فهذا هو الجهل بعينه. فنظام محاصر بهذه الطريقة وينظر من جميع الإتجاهات فيجد الطرق مسدودة – من وجهة نظر المعارضة- لن يكون امامه إلا ان يستميت في القتال والدفاع عن نفسه، ولو جر ذلك كل مقدس ومحذور لديه، وغير بعيد التجربة الماثلة في سوريا، إن المثل الانجليزي المعروف يقول: انك لا تستطيع ان تأكل الكيكة وتحتفظ بها في ذات الوقت (you cannot eat the cake and have it too)، ان اطلاق مثل هذه الدعوات لإستخدامها كوقود لإضافة مكاسب آنية للإستمرار في السلطة أو التعجيل بخلع حاكم أو كرصيد ليجري إستغلاله لتمرير أجندة ذاتية، ذلك تلاعب بالشأن الوطني يفتقد الى الحس التاريخي، كما أنه من ابرز ما يضاعف حالات انعدام الثقة ويعمق الهوة بين الاطراف المتخاصمة، وبالتالي يزيد من حالة التوتر القائمة في الساحة الوطنية، ولن يقود إلا إلى المزيد من المخاوف والقلق من المصير المظلم.
    إن الدعوة للديمقراطية التي يصحبها "إصلاح سياسي حقيقي وجذري" في كل المشهد السياسي وليس في حزب بعينه دون الآخرين، هو أمر لا بديل له ولا يتم الواجب إلا به، فلو كانت القيادة السياسية الحاكمة أو المعارضة في البلاد اليوم جادة في التوصل الى ثوابت وطنية تقي البلاد شفا التمزق والتشتت الذي تقف على حافته، فالأجدى بنا الدعوة إلى السعي الحثيث إلى إرساء نظام ديمقراطي مدني حقيقي تكون إرادة الشعب فيه هي الغالبة ،ويقوم على المحاسبة والتجديد وحرية الرأي والتعبير، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال العودة إلى ما قبل 1989م بكل ما تمثله تلك الديمقراطية من عيوب ونهج إستئصالي يقوم على الطائفية السياسية التي تجعل من الشعب ومثقفيه أدوات سيطرة وتحكم عن بعد، ثبت مع الأيام انها –الطائفية السياسية- لا تنظر إلا إلى مصالحها الذاتية ودائرة طموح الأسرة وأفرادها من منظور ذاتي ضيق، على أن ذلك لا يعني أن ما توصلت إليه التجربة الحالية في الحكم من نموذج إحتكاري ضاق حتى بأهله الأقربين، وصادر حرية الرأي والتعبير وانتهى إلى تقسيم البلاد، هو البديل الأوفق الذي نقول بأنه "هو أو الطوفان".
    ان التفكير في طريق ثالث يأتي من اهل الاستنارة والرأي ويحتاج من أولي العزم التشمير والتجرد للخروج بمنوذج مشرف يستلهم تجارب الامم من حولنا ويقود بلادنا الى بر الامان، فلا ينقطع عن إرثه الوطني القومي، ولا ينعزل عن واقعه المحيط وعالمه الذي يحيا فيه ويستمد من جذوره العميقة في أصله الافريقي المبدع ، وحضارته وثقافته الاسلامية والعربية التي تعايشت وتناضحت وتلاقحت مع مكوناته المحلية لأكثر من ألفي عام، ومن ثم يحافظ بذلك على ما تبقى من البلاد ويعمل على انتشالها من وهدة الضياع التي هي موشكة على السقوط فيها.
    نماذج وسيناريوهات التغيير:
    إن هناك حالة شبه إجماع عامة بين المحللين والمراقبين للمشهد السوداني، ترى أن التغيير "حتمي وقادم بلا جدال" بيد أن السؤال يتوقف عند كلمتين: متى؟ وكيف؟ ففي السودان هناك حكومة ولها حزب كبير ومنتشر ومتمدد وأيضا متململ، وهناك معارضة مدنية شاخت وهرمت ولم يعد فيها أمل أن تقود إلى تغيير يؤدي إلى إصلاح حقيقي، مما ولّد حالة من الإحباط والعزوف في الأوساط الشعبية التي تملكها اليأس من هؤلاء خاصة الشباب الناهض، وفي المقابل هناك تصاعد ناشئ في صراع المركز مع قوى الأطراف والجهويات التي تحمل السلاح وتطالب بتغيير جذري لا يشمل اشخاص الحاكمين وأرديتهم السياسية، بل تطالب بأن يمتد إلى أن يتضمن هياكل ونظام الحكم. ومن خلال النظر في هذه المعطيات الثلاثة (حزب حاكم، معارضة مدنية، معارضة مسلحة) يمكننا إعادة قراءات المشهد واستنباط ثلاثة سيناريوهات يمكن للتغيير القادم أن يتبلور من خلالها:
    الاول: الطريقة التقليدية التي أضحت ظاهرة في الدول التي من حولنا "دول الربيع العربي، على الأقل النموذج المصري أو التونسي"على غرار ما جرى في السودان نفسه في اكتوبر 1964م أو أبريل 1985م، وهذا السيناريو لا يتملى في المشهد القائم في السودان الآن بطريقة عميقة ، ليلاحظ الفروقات الكامنة في بنية السلطة الحاكمة حاليا، والتي لا تمثل طبقة "برجوازية بلغة اليسار" حاكمة معزولة عن الشعب كتلك التي في تونس، أو تحالفا بين بيروقراطية عسكرية وأوليغاركية مدنية مثل تلك التي في مصر، بل أن النموذج الأقرب هو القائم الآن في سوريا - مع مراعاة الفوارق ايضا ان قاعدة الحكم الآن هناك تستند الى اقلية مذهبية ،على عكس الموجود في السودان- فالحزب الحاكم في السودان هو حزب يقوم على ميراث عقدي اثبت في معركة هجليج الاخيرة أنه لا يزال يمتلك قدرة هائلة على تعبئة أنصاره والشعب وجعلهم على استعداد لحمل السلاح والموت، بمختلف الدعوات حتى مع حالة تراجع المشروعية الاخلاقية أو التردي الإقتصادي أو طول البقاء في الحكم، وهذه القدرة على تعبئة الجماهير وإلهامها بالقضايا الحقيقية(2)، ودفعها نحو التحرك لإنفاذها هو بعينه ما تفتقر إليه المعارضة بصورة كبيرة.
    الوقود المحرك للتغيير في هذا النموذج هو المعارضة المدنية بكل تشعباتها (أحزاب طائفية، القوى الجهوية، يسار،...الخ) وغني عن القول أن هذه القوى، والتي ليست على جديلة واحدة، ما يفرقها اكثر مما يجمع بينها، وأثبتت التجارب الكثيرة التي خاضتها ضد هذا النظام نفسه، أن الإتفاق على برنامج الحد الأدنى بينها هو ضرب من المستحيل، فتجربة التجمع الوطني الديمقراطي الراحل لا تزال شاخصة في أذهان الكثيرين من قادتها، فالمكون الأساسي لهذا التشكيل هو القوى التقليدية واليسار ومجموعة مناصرين، منهم المؤتمر الشعبي وبعض القوى الجهوية، الكتلة المتماسكة الأساسية والتي لها نفوذ جماهيري هي ما يطلق عليها الإسلاميون " الأحزاب الطائفية" ويُسميّها اليسار بـ "القوى الرجعية" والمتمثلة في أحزاب الامة والإتحادي أو بيت المهدي وبيت المراغنة، فهؤلاء من خلال وجودهم الطائفي أو بقايا نفوذهم في الولايات ووسط زعماء العشائر يتوافر لديهم هامش حركة مقدر يمكنهم من الإتصال بالجماهير والعمل على إستقطابها متى حانت اللحظة المطلوبة للكسب، وهي الإنتخابات، إلا أنها تحبذ أن يتم التغيير بطريقة سلمية بدعوى وطنية صادقة، وهي أن ظروف السودان وطبيعة تماسك نسيجه الوطني والاجتماعي حاليا لا يحتمل التغيير العنيف أو التغيير بالقوة، وهؤلاء تكمن قوتهم الحقيقية في الريف الذي هو ساحة مكشوفة للعمل من خلال جهاز الدولة، حيث صعوبات الإنتقال وسوء وسائل المواصلات تجعل من يمتلك جهاز الدولة هو القادر على تعبئة الريف وكسبه لصفه. لقد أثبتت التجارب المتكررة أن الحاكمين الآن أقرب إلى هؤلاء من حلفائهم اليساريين في المعارضة، فقط كل المطلوب هو تحييد الجيش عن المؤتمر الوطني، أي فتح ثغرة نفاذ يجري بها تمييز بين (البشير والآخرين)، وبالتالي الإتفاق مع رجال الجيش أسهل ما يكون، بدعوى انها مؤسسة الإستقرار البيروقراطي الأولى في البلاد والأكثر إنتشارا والأقوى أداة في تنفيذ قراراتها، بإختصار هي أساس مشروعية الحكم للحكام الآن "من وجهة نظرهم". أقوى دليل على هذا الرأي هو الشراكة السياسية القائمة الآن بين بيت الميرغني وبيت المهدي والرئيس البشير، والتي تُعد تعبيرا حقيقيا لإتفاقات سابقة بينهم، الأول إتفاق جيبوتي في 1999 مع صادق المهدي، والثاني إتفاق القاهرة مع الميرغني2005م.
    المكون الآخر في هذا السيناريو هو أحزاب اليسار (الحزب الشيوعي، البعث، الناصري،...الخ) التي تقوم أفكارها على ضرورة تغيير جذري في هيكل السلطة، وتجد نفسها في وفاق مع البشير في أمر واحد وهو إزالة الطائفية السياسية من الوجود السياسي في السودان، وتخالفه بعد ذلك في كل شئ، وقاعدة إرتكازها وحيويتها تكمن في الخبرة التراكمية الفنية الفائقة في الإتصال والتعبئة الجماهيرية، ولها مقدرة علي التحرك بصورة فعالة وسط القطاعات الحية في المجتمع، مثل الشباب والطلاب والمرأة والمهنيين، لكن تحفيزها للجماهير للخروج بات متراجعا جدا، كما أن روح الفداء وسط عضويتها تكاد تكون صفرية، ولكنها استطاعت أن تستفيد من تجربة العشرين عاما الماضية في اختراق منظمات حقوق الإنسان الدولية مثل (هيومان رايتس) و(امنيستي انترناشونال) و(افريكان ووتش) وغيرها، وتمكنت من تثبيت عضويتها بها ومن ثم المساعدة على التعبئة السياسية من خلال إستغلال واجهات هذه المنظمات لتوفير إدانات دولية تعمل على عرقلة جهود الحكومة في التواصل مع الغرب والتطبيع معه، وبالتالي "إحكام حصار النظام" دبلوماسيا، وما يمكن ان يوفره ذلك من صعوبات اقتصادية تجعل امر الحكم صعبا...الخ. وظهرت فاعلية ذلك في الإدانة المتكررة للجان حقوق الانسان طيلة العشرين عاما الماضية للحكومة، كذلك حمل الإتحاد الأوربي ومركز كارتر على التقليل من شرعية نتيجة الانتخابات الاخيرة 2010م.بالنظر إلى سجل المعاملات فقد دللت التجارب السابقة ان حالة من التشكك والتربص تضرب بين هذا المكون والقوى التقليدية في العمل المعارض، فهؤلاء ينظرون إلى الطائفية التي كانوا يتوهمون أنه يمكنهم ركوبها لإسقاط النظام ومن ثم القضاء عليها، إلا أنها فعلت العكس بهم، فما أن وجدت الطائفية الفرصة مواتية لإتفاق مع الحكومة، حتى تخلت عنهم فعجّلت بهم في غدائها.
    النموذج الثاني في عملية التغيير هو: تمكن المعارضة المسلحة في الأطراف من الإنقضاض على المركز وتتولى حكم البلاد، على قرار النموذج الليبي الذي حاول بعض المهتمين بالشأن السوداني تزكيته في الغرب، مثل عضو الكونغرس السابق الراحل دونالد بين زعيم الكتلة السوداء، والذي قام قبل وفاته بأيام بمخاطبة حشد كبير في إحدي الولايات الأمريكية وقال فيه ما ملخصه (ان نموذج اسقاط القذافي يمكن ان يُلهمنا طريقة للتخلص من حكام الخرطوم)، فهذه القوى الطرفية أو التي تعبر عن مطالب جهوية ربما تكون عادلة في محيطها الريفي، إلا انها تولد مخاوف حقيقية لدى اهل السودان من طبيعة التكوين العرقي والجهوي لقوة الحركات المسلحة المقاتلة هذه، ويذهب البعض الى وصمها بأنها قوى صاعدة "على أكتاف عرقية" تتدثر بمسوح التحرير والتغيير وتجد كامل الدعم من بعض دول الجوار خاصة الدولة الجنوبية الوليدة، ولا يهم إن كان لديها تعاطف خارجي خاصة في الولايات المتحدة طالما أنها غير قادرة على توظيف ذلك في عمل حقيقي يقود إلى إنفاذ مشروعها السياسي، كما فعلت مُلهمتها الحركة الشعبية في الجنوب، غير أنها لاتزال في نظر المراقبين بعيدة كل البعد عن توفير شروط التغيير التي تقود إلى ديمقراطية حقيقة في البلاد. كما أن هذه الحركات ظلت عرضة للإستغلال بصورة متكررة من جهات خارجية، وهو ما كشفت عنه مثلا معركة امدرمان التي نُفِذت تحت راية حركة خليل ابراهيم، ووُجد في الأخير أن ليبيا هي من تولى تمويلها، وتشاد هي التي قامت بتجهيزها وهندسة طرقها وتشوين وإعداد قواتها، كذلك ما كشفه الخطاب الشهير لسلفاكير في فبراير الماضي الذي قال فيه إن (الخرطوم قبل أن تصل إلينا في جوبا عليها أن تقاتل عبد العزيز الحلو وعقار في النيل الأزرق ثم تدخل الينا في الجنوب) . فهذه الحركات مع كل التعاطف الذي تجده من بعض أهل تلك المناطق، ينظر إليها آخرون بأنها تمثل أجندة لدول خارجية تخفض وتزيد من قيمتها الدفترية بقدر ثيرومتر العلاقة مع الخرطوم، وتلك الدول يرتفع أو ينخفض بحساب مصالحها هي لا شئ آخر. حتى اتحادها فيما يُسمى بالجبهة الثورية، هو الآخر إطار غير متسق ولا يحمل رؤية واضحة لحل المشاكل القائمة والمتجذرة في السودان منذ الإستقلال، ولا يجمعه غير هدف مركزي واحد ، وهو إسقاط النظام دون أن يجتهد هؤلاء في السؤال، ثم ماذا بعد اسقاط البشير؟؟ فهل كل مشاكل السودان قد نشأت مع الإنقاذ أو ولدت مع البشير؟؟ لقد عبر عدد كبير من متعاطفي هذه الحركات في الغرب عن مخاوفهم اذا اتيحت لهؤلاء الفرصة للوصول إلى مشروعهم الحربي هذا إلى غاياته مما يمكن أن يُوقع بالإستقرار في السودان والإقليم المحيط به، ومصالح القوى الدولية – من وجهة نظرهم- في المنطقة من شر مستطير أنذر منه قومه.
    الطريق الثالث للتغيير هو ذلك الذي يحافظ على البلاد في إستقرارها ويمكنها من المضي قدما في إكمال برامج التننمية الإقتصادية والإجتماعية ويحافظ على كسبها الذي بدأت به في عهدها الأول في إنتشال البلاد من وهدة التفكك والتمزق من خلال تقديم أطروحة سياسية تبشر بديمقراطية وإصلاح سياسي حقيقي تتسم بالصدق والتجرد، وهو أن يأتي التغيير من داخل أسوار المؤتمر الوطني من خلال تحفيز العناصر الشبابية الصاعدة، التي صارت لديها قناعة حقيقية بالديمقراطية، وضرورة إعتمادها كوسيلة ناجزة لإدارة الخلاف وتنظيم الصراع بين البشر، أولاً بإلزام القيادة الحالية بإقرار نموذج ديمقراطي داخل الحزب وفق رؤية جديدة تحمل وجوها ورموزا جديدة، ومن ثم قيادة التغيير والتحول نحو الديمقراطية خارجه على صعيد الوطن بصورة عامة.
    في حزب المؤتمر الوطني اليوم لم يأت الإيمان بالديمقراطية وحتمية انفاذها في الوطن بطريقة غير مسبوقة ولا تضاهى أو يتصف بها مثيل من بين عضوية الأحزاب الأخرى، من فراغ، بل أتى كنتيجة طبيعية لصيرورة الصراع والمنافسة الداخلية بين مكونات القيادة في الحزب نفسه، وذلك فيما اشرنا إليه من فصول هذا الكتاب، كذلك القناعة الراسخة من أن تغييب الحريات والكبت وما يتبعهما من إحتكار للسلطة لا يولد غير الإنفجار والنهج الإقصائي، الذي تعشعش فيه طفيليات الفاسد وبوم الخراب، وتلك لم تكن في يوم من الأيام رسالة حركة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتدعو إلى إقامة مشروع رسالي ينقل المجتمع إلى آفاق النور والرفاهية تحت رايات الكفاية والعدل الإجتماعي.
    إن قيادة التغيير نحو الديمقراطية من هذا الطريق، كفيلة بأن تحفظ للبلاد إستقرارها وأمنها الإجتماعي وسلامتها الوطنية من المحاذير التي أشرنا إليها بأعلى، وإن التقاط عضوية الحزب – أعني الشباب منهم - لقفاز المبادرة في الدعوة نحو الديمقراطية والإصلاح السياسي في البلاد، كفيل بأن يصبح نقطة تحول جوهرية في مسيرتهم يمكنهم من خلالها أن ينطلقوا لدعوة الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى لتحذوا مسيرتهم، وبالتالي تصبح نقطة يمكنهم البداية منها للعبور نحو مستقبل آمن، ويعود الحزب من خلالها إلى دوره القائد في مسيرة البناء الوطني، في شراكة سياسية قومية عمادها رضاء الناخبين وتجديد مشروعيتهم.
    نظرة في طريق الحل:
    أن اية محاولة للنظر في المشهد السياسي العام في الوطن، لابد وأن تدرس بتأنٍ السياق أو المُصهر الذي يجري إعداد الوضع المراد اصلاحه، والذي تقوم العمد الأساسية فيه على رؤيا للحل تستند إلى المكونات الأساسية في البلاد للمؤسسات الوطنية الثلاث الضامنة لإستقرار وإستمرار الوطن وهي (المؤسسة السياسية، القبيلة، الجهاز البيروقراطي أو ما يمكن تسميته بالدولة) وفي قراءة سريعة للمشهد العام لهذه المكونات يمكننا تسجيل ملاحظات عاجلة مجملة:
    فأولا: هناك المؤسسة السياسية او ما بات يعرف حاليا بـ"المجتمع المدني" بكل فروعه وتصنيفاته (السياسية مثل الأحزاب، أو الدينية مثل الطرق الصوفية، أو القوى الشبابية الصاعدة المتمثلة في الجماعات السلفية، أو الجماعات المطلبية المتجسدة في النقابات، أو جماعات الضغط، أو القوى الحديثة بعلمانييها وإسلامييها ويسارييها..الخ) هذه المؤسسة لها دور كبير وحساس في دفع عملية الإستقرار إلى الأمام، على الرغم مما تعرضت له من ضربات في فترة الأربعين عاما الماضية، ونهش الأنظمة السياسية لجسدها بغرض إضعافها، ونيل القوى الجهوية والعرقية من كيانها، إلا انها لا تزال متماسكة بدرجة ما.
    تعتبر الأحزاب السياسية هي المعني الأول بالحوار فيها وتلعب الدور الرائد في عميلة القيادة والإنتقال تلك، ولكن تعاني هذه الأحزاب من جملة إشكالات بنيوية ضاربة في الجذور أقعدتها عن أداء الدور الوطني المرجو منها: فأولا هناك إشكالات الرؤية والفكرة، خاصة في القضايا الوطنية المعقدة، ثانيا إشكالات القيادة والتجديد، فكل المشهد السياسي الجاثم (حاكما أو معارضا) قياداته تتجاوز السبعين عاما، وبعضهم يرفل في الثمانين "متعهم الله بالصحة والعافية" لا يحيلهم من مقاعدهم تلك إلا "عزرائيل" تلبية للنداء الإلهي الحق، ولكن لا يجب لوم القيادات وحدها، بل العضوية وجماهير تلك الأحزاب التي لولا ركونها وتنازلها عن حقها في التجديد والمحاسبة ،لما استمرأت تلك القيادات إستدامة الإقامة في أبراجها العاجية تلك، بل وتوريث أبنائها، وتجهيزهم لذلك، في ذات الوقت الذي ينادون فيه بالديمقراطية في كل ناد وواد، دون أن يروا أدنى تناقض بين دعوتهم للديمقراطية تلك ، وسعيهم للتحكم في أتباعهم حتى بعد أن يدخلوا إلى القبور بتحديد من يتولى من بعدهم وكيف يفعل ذلك، على ملأ من السماء ومشهد، في القرن الحادي والعشرين الذي سقطت فيه أوهام الزعامة والتوريث في بلاد كبرى مثل ليبيا ومصر وغيرهما. هناك قضايا أخرى شائكة مثل نظرة الولاء وأولوياتها (هل للوطن، أم القبيلة، أم الحزب وانعكاس ذلك على قضايا الهوية ...الخ). أيضا لا بد من الإشارة بكل أسف إلى الدور السالب للمثقفين السودانيين"الذين سماهم الأستاذ كمال الجزولي نبات الظل"(3) هذه الصفوة التي تمالئ هذه الطائفية السياسية لتصعد على ظهورها وتزين لها الطريق من جهة أو تدفع بأهلها من القرويين لمحرقة قتال من جهة أخرى. لكل هذه الأسباب وغيرها لم يعد هناك أمل في المؤسسة السياسية الحالية أن تقود إصلاحا سياسيا أو عدلا إجتماعيا يأخذ الوطن نحو مصاف الإستقرار وشواطئ التنمية، لذلك هجرت القوى الجديدة والصاعدة جدرانها وارتحلت إلى مكوناتها الطبيعية والقبلية تستجير بالأجنبي وتتلفع بظله الذي اضحى ظلا من يحموم لا بارد فيه ولا كريم. إن الأحزاب لها ثلاث مهام لا تتعداها كما يصفها فقهاء العلوم السياسية، الأولى هي أنها تعمل كوسيط بين المجتمع والإدارة القائمة فيه، والثانية هي تربية ورفد الساحة العامة بالأجيال الجديدة، والثالثة أنها التي تصوغ خيارات وبدائل الخطط والمواقف السياسية. ومن هذا يمكننا الحكم على الأحزاب المتسيدة في الساحة الآن بالنجاح أو الفشل من إعمال هذا المعيار.
    المؤسسة الثانية: القبيلة وهي الوحدة العضوية الأساسية في تكوين المجتمع، فهي الضامن الطبيعي لإستقرار وإستمرار النوع، وقد قامت الإدارة البريطانية في السودان بربطها من خلال القيادات التقليدية العشائرية (زعماء القبائل) بالجهاز البيروقراطي في البلاد، وذلك من خلال منح هذه الزعامات سلطة تنفيذية وإيكال بعض الصلاحيات القضائية والإدارية إليها (جمع الضرائب والمحاكم الاهلية..الخ)، مما عزز نفوذها ورسخ من سلطانها في المجتمعات التي كانت تنتشر فيها، وبالتالي قامت بتأمين توطيد أركان النظام الإداري في بقاع كان يستحيل على جهاز الدولة "كما هو حديث ومعروف في وقتها" تغطيتها بطريقة فعالة، فقد وفرت موارد مالية وقدمت خدمة سلطوية ناجزة ومفيدة للحاكم، ولما جاءت الإنتخابات التشريعية لم يكن هناك من هو جاهز غير زعيم العشيرة الذي تسنى له إكتساح الإنتخابات بطريقة مضمونة، مما جعل الأحزاب والزعامات الدينية تتسابق إلى كسب ودهم، الشئ الذي فتح لهم نافذة ربط مع المؤسسة السياسية، حتى صاروا هم العماد الأساسي فيها بسطوتهم في الريف -الذي يمثل مالا يقل عن 90% من أصوات الناخبين- وسطوتهم على سكانه، وقد رأينا كيف أن خوض الإنتخابات على أساس عشائري في الستينات أعاد إلى القبيلة دورها بقوة، مما استدعى اليسار إلى حل الإدارة الأهلية كأول رد فعل بعد انقلاب مايو ووصمها بألفاظ لا تليق(4)، ومع كل الإحتفاظ بالولاء الكائن لدى رجال العشائر للقيادات الطائفية الدينية أو قيادات الأحزاب السياسية إلا أن كل حكم عسكري يجد نفسه مضطرا للتحالف معهم على السواء، إن كانت أطروحات هذا الحكم هي "التحديث والتطوير، أو الإشتراكية العملية، أو التوجه الحضاري الإسلامي، أو التحرير...الخ) وذلك لسبب أساسي بسيط هو أن هذه المؤسسة هي المرجع الأخير لمجتمع يعاني من التكلس الإجتماعي في بنيته التحتية، ويشكو ثالوث الفقر والجهل والمرض، فكون القبيلة هي الملاذ الأخير لكل من يتردى من عالق المؤسستين الأخيرتين فهو بالأمر الطبيعي، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في الردة السياسية الكبيرة التي سقط فيها كبار المثقفين في طريقهم إلى الحكم، مما دفع د.تجاني عبد القادر للتعجب عندما سأله د.الترابي "ألا يوجد من أسلافك من كان شيخاً أو زعيماً؟" قطب التجاني حاجب الدهشة حين أدرك انه قضى سنوات في رسالة دكتوراة اكتشف الآن أنها لا تسمن ولا تغني من جوع في تراتيبية الحزب ومعايير التصعيد الجديدة فيه إلى أعلى(5)، في الجانب الآخر يجد رجال العشائر انفسهم مضطرين إلى مسايرة ومجاراة كل حكومة لسبب بسيط أيضاً وهو ضمان استمرار مصالح مواطنيهم واتباعهم، التي لا تحتمل مخالفة الدولة في صغيرة او كبيرة "خاصة دولة في مثل ظروف السودان تحتكر كل شئ" مهما كان شكل أو نظام البرنامج الذي تطرحه.
    إن الحكمة تستوجب تعهد هذه المؤسسة وحمايتها وليس تعكيرها، ولكن رعايتها لا تتم بتزكية النعرات واحياء روح التنافس – خاصة في ظروف ضيق الموارد والكوارث الطبيعية-، عن طرق حماية هذه المؤسسة أن يقوم المجتمع بتشجيع الترابط الأفقي، عبر التواصل الثقافي وتخليق وجدان قومي مشترك بين أهل الوطن الواحد، وتشجيع التزاوج والتصاهر بين المجموعات العرقية المختلفة لتزكية الإندماج الإجتماعي، وفي الهدي النبوي " تباعدوا" وصولاً إلى إنصهار قومي يؤمّن المجتمع من الفتن والتناحر، ويبقى السؤال: هل يمكن لمؤسسة القبيلة أن تقود مبادرة لإعادة الديمقراطية، الإجابة معروفة وهي أنها مؤسسة تقليدية تجنح بطبعها إلى المحافظة، وبالتالي لا تتبنى أو تشجع المبادرات على ذلك.
    المؤسسة الثالثة: يبقى الجهاز البيروقراطي في البلاد هو العمود الثالث في بنية الوطن باعتباره جهازا نظاميا حديثا للخدمة العامة بمختلف تدرجاتها(عسكرية، مدنية، قضائية،...الخ)، ولكن في ظروف العالم الثالث فهذه المؤسسة وثيقة الصلة بالجهاز السياسي في البلاد، ترتفع بصعوده وتنخفض بترديه، ولعل هذا هو قدر كل الدول في الاقليم المجاور لنا، لكن الجديد في الوضع السوداني، هو الرباط المتصل بدرجة ما، بين هذا الجهاز ومؤسسة القبيلة، التي يحاول بعض ضعاف النفوس استغلال روابطها لتحقيق مأرب ذاتية، فمثلا ما قام به بعض منسوبي الأجهزة النظامية من تواطؤ مع القوات التي غزت امدرمان، اتضح من خلال التحقيقات أن مؤسسة القبيلة قد ضغطت على بقية الإنتماءات بما فيها الإنتساب المهني بل والوطني نفسه، حتى القيادة الحالية قد جرى جرح وتعديل على مستوى شعبي كبير فيما يتعلق بخياراتها في التفضيل بين مساعديها وبطانتها، ثبت من بعد أن الإنتماء القبلي لم يكن بعيدا عنه، عند النظر إلى القبيلة كمؤسسة مؤثرة وحاكمة في بعض تصرفات النخبة السياسية الحالية (بشقيها الحاكم والمعارض) يُلاحظ أنها تتجاوز حتى الجهة"الجهوية" وهو ما اتضح في أزمة دارفور الأخيرة، على سبيل المثال قضية تسرب امتحانات الشهادة السودانية في العام 2003 والتي كانت تصل إلى منسوبي قبيلة واحدة في كل السودان في الوسط أو الشرق أو بقية الولايات.
    الجهاز البيروقراطي للدولة في مقدمته الأجهزة النظامية وعلى رأسها القوات المسلحة، التي تُعتبر المخدم الأكبر في عدد منسوبيها، وتكتسب أهميتها في أنها قوة الإجبار وإنفاذ القانون الأقوى بين مكونات هذا الجهاز، كما أن روح الإنضباط والربط التي تلحم منسوبيها غير متوافرة بذات الإسلوب في أية مؤسسة أخرى، أيضا مجموعة الأفكار والتقاليد السائدة فيها والتي تتجسد في "عقيدتها القتالية" ظلت تقدم الولاء الوطني على كل اعتبار آخر، وهو ما جعلها حتى الآن تنال قبولا شعبيا كبيرا ولم يُقدح في قوميتها على الأقل من منظور جهوي، ولكن في ظروف القرن الحادي والعشرين هل يمكن لمؤسسة عسكرية أن تتولى السلطة وتدعو إلى تحول ديمقراطي في البلاد ويقبل العالم بذلك فلا يبادر إلى محاصرتها وملاحقتها، ذلك سؤال أعقد من الإجابة عليه في هذه العجالة.

    • مبارك الفاضل المهدي في حوار مع قناة العربية، ابريل 2012م.
    • إن عُد هذا انجازا فهو يرجع بقدر كبير إلى الفهم المتقدم لعضوية الحزب وليس لمقدرة القيادة بأي حال من الأحوال.
    • راجع كمال الجزولي "الانتجلينسيا نبات الظل"، سلسلة مقالات في الصحافة مايو-يونيو 2001م، راجع كذلك فصل حوار مع النخبة الوطنية في السودان، في هذا الكتاب.
    • كانت هتافات اليساريين في أول أيام مايو بعد صدور قرار حل الادارة الاهلية "تسقط الادارة الاهلية، يسقط اذناب الاستعمار"، وهو شعار ظل اليساريون يرددونه منذ ثورة أكتوبر1964م.
    • راجع التجاني عبد القادر، مقالات في النقد والاصلاح نزاع الاسلاميين في السودان.
                  

04-09-2013, 07:48 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الدعوة للديمقراطية/ الفصل الثالث
    الطريق نحو الإصلاح، رؤية للحزب
    بلادنا تتجه نحو مفترق الطرق الحالي، نحاول تلمس رؤية للخروج من هذه المتلازمة التي ما انفكينا منها، وهي أن الدعوة للإصلاح الداخلي تؤخذ بين إحدى شقي رحى، الأولى: أنها مؤامرة من أحد عناصر الصف القيادي الذين يطمحون نحو الإلتفاف لتحقيق غاية عبر هذه الشعارات البراقة، والثانية انها دعوة للانشقاق وتفتيت الصف، وبالتالي "تعود عقلية المؤامرة الحاكمة مرة أخرى" تدعو العضوية إلى التنبه من التورط في مثل هذه الدعوات، لهذا يجب تثبيت مبدأ أن العضوية في قاعدة الحزب وصفها الأعلى، تتكافأ دماؤها وتتعادل حقوقها في المبادرة بالدعوة للإصلاح والمسؤولية والمحاسبة والتجديد...الخ، كما يقول بذلك النظام الاساسي للحزب وكل إرث الحركة في الخمسين عاما الماضية دون خوف أو وجل من الصدع بكلمة الحق أو الدعوة للإصلاح دون التلبث في محطات ومتلازمات مانعة وعائقه، أيضا يجب أن نقول: هذه الرؤية لا تقدم وصفة سحرية لحل معضلات الحزب والحركة التي تعود جذورها إلى أكثر من ثلاثين عاما، ولكنها إسهام من الكاتب كجهد متواضع شارك فيه بالتنقيح نفر كريم من الإخوة ربما لا يتسع المجال لذكرهم الآن، ولكن لهم حق إبداء الرأي والنُصح والمساعدة على تطوير وتثوير هذه الرؤى.
    العقيدة القتالية للإصلاح:
    في كل جيوش العالم هناك منظومة القيم والسلوك المتولدة من الدوافع الأخلاقية التي أدت إلى حمل السلاح، أياً كانت (وطنية، قومية ، دينية، عرقية، ..الخ) والتي تعرف إصطلاحا بـ "العقيدة القتالية" فالمبدأ الذي يجب ان يكون ضابطا لرؤية أهل الإصلاح ليتسلحوا به، وهو الإيمان العميق بضرورة إرساء نظام "شوري" أو "ديمقراطي" وفق "مصطلحات السياسة الحديثة" داخل الحزب أولاً، وعلى مستوى الوطن في ذات الوقت. ثانيا أهمية أن تكون الدعوة متزامنة للاثنين وفي وقت واحد لضرورة تلازم عضوي تجعل من أيّ منهما حرساً للآخر، ففي ظل ركود وسكون خارج أسوار الحزب القائد، تتراجع أهمية التحدي وتنشغل العضوية بالصراع الداخلي، كما علمتنا التجارب، لذلك لابد أن تكون هناك تحديات ماثلة بصورة يومية تضعها في مسارها الطبيعي، هذا وحده كفيل بشحذ روح المبادرة والمدافعة في وسط جماهير الحزب وأعضائه، هذا من منظور ذاتي للمصلحة الحزبية الداخلية البحتة، بالإضافة إلى الأسباب الوطنية والأخلاقية الأخرى، التي أشرنا إليها في أكثر من فصل في هذا الكتاب، والتي هي أكثر من أن تحصى، وتستحث الخطو والحافز إلى أهمية التحول الديمقراطي.
    إن تنامي الوعي بالديمقراطية وإدراك حيوية المطالبة بها وإقرارها كوسيلة إستراتيجية وناجعة لإدارة الخلاف السياسي في البلاد، هو الضمان الأول لإستقرار الوطن ومن ثم تصبح هي دالة الارتباط بين الحزب والدولة، فيكون التصحيح وفق مبادئ الشفافية والعدل والتداول السلمي للسلطة داخل أو خارج السور، لقد جاء هذا الوعي كحصيلة تجارب مريرة للصراع داخل الحزب وخارجه، خاصة علاقتنا مع المكونات الوطنية الأخرى التي طال هجرانها والتعادي معها، على كل ما كان من الواجب أن يكون أرضيات مشتركة معهم، ليحل بديلا عنها الصراع ،وتكون النتيجة وبالاَ على الوطن والشعب. إن النصر وليد الإيمان العميق الصلب بالانتصار، فأي عمل مهما تفه أو عظم إذا لم تؤمن إيمانا راسخا بالنصر فيه لن تنجزه، إذ أن الإيمان بالنصر هو الذي يوّلد الصمود والاستبسال والإقدام ومن ثم يقود للتضحية والفداء.
    لقد قام إرث الحركة الاسلامية التي نشأ عليها المؤتمر الوطني على مبدأ (المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) وسواهم هنا المقصود بها عدوهم وليس شريكهم في الوطن والسكن من غير ملتهم، كذلك الحكمة النبوية (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوي)(1) وقد شهد الخصوم بذلك قبل الحلفاء.
    إن غياب مفهوم وممارسة الشورى يكون الرحم الذي يتخلق فيه التسلط والإنفراد بالقرار من الطبقات العليا، وغياب الشفافية يعني تمييع المسؤوليات والتنصل من الاخطاء، وبالتالي إهدار مبدأ المحاسبة. لذلك تكون الدعوة للشورى مقرونة بالشفافية والمحاسبة.
    الصورة العامة للحزب:
    من بعد استعراض المشهد السياسي العام في السودان، وسيناريوهات التغيير أشرنا إلى أن الطريق الوحيد الذي يحافظ على السلامة الوطنية ويضمن الأمن والاستقرار وتماسك النسيج الإجتماعي لإنجاز عبور جماعي آمن لتحول ديمقراطي، ينتشل البلاد من حافة التمزق: هو أن يأتي هذا التوجه للتحول من داخل أسوار المؤتمر الوطني، وذلك لاعتبارات ذكرناها فيما سبق، ولطرح أفكار واضحة في هذا المجال لابد من تمحيص تفصيلي للأوضاع داخل هذا الحزب والمعوقات التي قد تحول دون بروز هذا الإتجاه الاصلاحي، وتقدمه نحو غاياته المنشودة التي فيها خلاص البلاد والعباد من مخاوف الكوارث الماحقة من دوامات العنف العرقي أو شلالات الدم السياسي التي نراها في التجارب الماثلة حولنا في الإقليم، على السواء في المنطقة العربية البعيدة في سوريا والعراق، أو الجوار الاقرب في ليبيا.
    ان الدعوة لعمل مثل هذا لا بد أن تضع في حسابها اشتراطات مهمة، أولها أن الدعوة للديمقراطية وإطلاق الحريات العامة في الساحة الوطنية العامة بالخارج مثل حرية الصحافة والنشر والتعبير "وفق مبدأ الحرية لسوانا ولنا"، لابد وأن تتقدمها وتسبقها دعوة للشورى والديمقراطية الداخلية في "حوش" الحزب نفسه، التي تتمثل في إقرار مبدأ تكافؤ الفرص وحرية التعبير والنقد للسياسات دون أن تكون هناك حصانة أو سقف لذلك لأي شخص كان، حرية الاختيار هذه لا تقتصر على النقد والتصويب بطريقة شفافة، بل يجب أن تستتبعها حرية المجال في الانتخاب او العزل وفق مبدأ المحاسبة والجرح والتعديل الذي تحض عليه كل أدبيات الحركة الاسلامية وميراثها الطويل في ذلك دون تدخل أو إشارة من القيادة بالإنحياز لأي طرف، لما يشكله ذلك من ترجيح واخلال بمبادئ العدالة، ايضا تثبيت مبدأ سيادة المؤسسات، والمؤسسية فوق الأشخاص والمناصب، لأن هذه المؤسسات يفترض فيها أنها التعبير الحقيقي والحي عن إرادة جماهير الحزب ،وليست عضوية الحزب من الكتلة الصماء التي تتوالى بالإشارة بأي حال من الاحوال، او في مقام التابع الذليل الذي يقاد بعصا عمياء، إن أهمية اطلاق الديمقراطية الداخلية تكمن في أنها تساعد علي تنشيط الحراك الفكري وإطلاق حرية الأفكار والمبادرة وما يسهم فيه ذلك من توفير البيئة الصالحة لنمو القيادات وتفريخها بطريقة طبيعية، إن اعتماد الديمقراطية أداة للتواصل الأفقي بين عضوية الحزب لهو كفيل بأن يحقق العدالة الداخلية، ويعيد ترابط العضوية وفق طريقة تبسط المساواة بينهم. واهم نتائج غيابها هو ما نشهده حاليا من ضعف التقاليد المؤسسية وتردي إرادة الشورى والنقاش الحر.الحديث عن هذه الاشياء لا يجب ان يكون فيه مبدأ الاتهام أو التخوين، بل هو نقاش مشروع في الهواء الطلق في حزب يريد أن يصلح نفسه، بطبيعة الحال هذا الامر سيقود إلى حصار وعزل للذين يدعون إليه، بيد أن هذا أقل ثمن واجب الدفع في مقابل إقرار نظام شورى حقيقي، يرتكز على المبادئ والمؤسسية، وليس الافراد والأشخاص أياً كانت قيمتهم أو رفعة مكانتهم.
    الحرس القديم ودعوة الإصلاح:
    يجب تعريف الدعوة للديمقراطية والإصلاح داخل الحزب بأنها (ليست بحثا عن مشروع خيالي هلامي متوهم، أو إنطلاقا من إطار بديل للعمل، بل هي دعوة لإستعادة زمام المبادرة وضخ دماء جديدة متخففة من أثقال الماضي وصراعاته، وتجديد تفعيّل عمل الشورى والنقاش الحر، وإستعادة الحيوية المطلوبة من داخل سياق وأسوار المؤسسات والأجهزة والقنوات الشرعية داخل الحزب)، وذلك بتجديد الدعوة للتطهير الذاتي والإصلاح الداخلي الذي يبدأ اولاً: بإصلاح النفس والتزكية وتجديد قيم الإلتزام الأخلاقي تجاه رسالة إصلاح المجتمع، وتقديم القدوة الحسنة في القيادة، والعضوية في طهارة وعفة اليد واللسان. إن الدعوة للإصلاح اليوم تنطلق في سياق التغيرات الكبرى التي تطل برأسها من حولنا على غير ما ألفنا وتعودنا في المراحل السابقة، لذلك لا بد من إستلهام التراث الثر للحركة الاسلامية وتمتين مرجعيتها في ذلك، دون إستهلاك رصيد الماضي الذي أحال عملها إلى نشاط بلا مرجعية، وهياكل مفرغة من العمل المتصل بالرسالة والهدف الذي جمع الناس بالأساس. إن قاعدة الحركة هي المسؤول الأول عن إصلاح الخلل الشائه في صورتها الذي حفرته سنابك الثلاثة وعشرين عاما الماضية التي حققت الكثير من الإنجازات، ولكنها أيضا سددت طعنات بليغة إلى جوهر ومظهر رسالة الحركة أبزرها الصورة التي تصاعد بها اختلاف رمضان الشهير وخروج القيادات السابقة وموالاتها لاعداء الحركة الذين كانت تجيش ضدهم الجيوش، مما جر البلاد إلى طريق سلام كانت نهايته الواقع المرير الذي نعيشه اليوم، ونبحث عن طريق للخروج منه بأقل الخسائر.
    اننا ونحن نناقش الهوة الواسعة بين سمو المثال الذي كنا ندعو إليه ونسعى لتمكينه، و الواقع صرنا إليه اليوم، نقول إن البداية إلى دعوة للإصلاح يجب أن تكون دعوة للإيجابية ونبذ السلبية واليأس وسط الشباب، وعدم الركون إلى أن هناك قيادة واحدة ملهمة تضع البرنامج، وكل المطلوب من عضوية الحزب هو توقع جدول الأعمال لتقوم بدورها فيه ومن ثم الإنتظار آخر العام لترى المحصلة النهائية لحصيلة ناتج عمل الجماعة.
    إن السعي للإصلاح والطريق إليه هو معركة طويلة بلا بدايات محددة أو نهايات واضحة، أو خطوط قتال مرسومة، بل هي مدافعة متصلة ما استمر في الإنسان تدافع الخير والشر ،لأن الإنتصار على العدو المادي بالسنان أسهل من مدافعة رعونات النفس ونوازع الإنحطاط فيها وهو من الجهاد الأكبر، في طريق الذات قبل الدعوة إليه في إطار الجماعة، هي معركة تدبر وتأمل في الأمس، ورؤى وافكار في هذه اللحظة، ومعركة تشمير وعزيمة في الغد وموالاة وحراسة في بعد الغد. ربما يتم عزل ونفور للمتصدين لهذا ،ولكن ختام المعركة هو للغة وتيار المستقبل الذي عماده الشباب الذين ناصروا سيد البشر عندما انخذل عنه أهل الشيبة والكهول، على سبقهم وفضلهم.
    شروط النجاح :
    الذين يتقدمون للإصلاح لا بد أن يعوا بان هذا الامر سيقض مضاجع كثيرة أناخت في مضارب الوضع الحالي، فربما تتوعد وتهدد، ولكن التاريخ يعلمنا أن "الأصابع المرتجفة لا تصنع التغيير". إن التصدي لقضية الاصلاح والخروج إليه تستدعي الثقة بالنفس، وكما ذكرنا الدعوة للإصلاح وما يمكن ان تستدعيه من مقاومة – خاصة وسط نفوذ القوى المسيطرة وذات المصلحة في استمرار الأوضاع الحالية- يجب ألا يكون صوت تخويف مهما كيل إليها من إتهامات وتحقير، فذلك يطرد بالمثابرة والعزيمة وعدم الإستسلام، إن التراث العميق والخبرة الثرة تميز القيادات النوعية ذات الرصيد الضخم من الإمكانات داخل شباب الحركة، وتجعل هامش التحرك للإصلاح كبيرا داخل المؤسسات المتاحة، لذلك يكون الإستعداد للتضحية والبذل والفداء هو معين الثلة التي تنبري لهذا المهمة الرسالية.إن المواصفات التي يجب توافرها في من يتصدى لرسالة الإصلاح هي ما يمكن اجماله في (الرؤيا vision، الإرادة، المشروعية الاخلاقية).
    ان الوعي العميق بمشروعية هذا العمل والمعايشة المستمرة واللصيقة للواقع والالتصاق بالجماهير هو ضمانة عدم الانحراف، إن الدعوة للاصلاح يجب ان تستصحب القدر الاكبر من عضوية الحزب وتحتمل عثرات مسيرها، فتلك التي هي الوليد الشرعي للحاضنة الاجتماعية التي نمت وترعرعت فيها وعليها الصبر على سير ضعفائها، فلا تُجهد بهم المسير فتغوي المتربصين بطول الامد وتحيلهم الى مشجب تثبيط. ان التجارب البشرية تعلمنا ان التحولات الانسانية الكبرى التي غيرت مسار التاريخ ،جاءت للامم التي كانت تقف طودا شامخا في وجه التحديات التي تتجلى في لحظة المنعرج التاريخي أو المنعطفي الزمني الذي تعرضت له، فتفلت من السقوط نتيجة وعي ابنائها وايمانهم بأهمية إدراك تلك اللحظات التي يتصدرونها، وبعلمهم وتجربتهم بقدر الصعوبات التي يتصدون لها، تعلمنا عِبرات الأمم أن هذه اللحظة التاريخية التي تكون فيها كل الأوتاد في مهب الريح، هي ذاتها التي يكون في ثناياها فرص الإنتقال والتقدم إلى الأمام، ينجو في هذا الإمتحان من يدرك أين تكمن الفرصة وكيف يتسنى له قيادتها وأخذها والتقدم بها ،دون أن يفقد قاعدتها البشرية التي يستند إليها أو يركن إلى ضعاف النفوس من أهل التخذيل ودعاوى الواقعية والتمييع.
    إن البداية تكون بإطلاق الرؤية وتبصير الناس بالخطر المحدق، دون مساحيق خداعة على الصورة، حتى يتسنى لكل أن يتخذ الموقع الذي يناسبه في غير إدعاء لقوة متوهمة أو إنخذال لفاتر متراجع، ومن ثم تصبح نظرة العبور محكمة ومتفقا عليها في ثغرات التقدم إلى المستقبل وفق الرؤية الملهمة التي يتفق الناس عليها، وتتجذر في الوعي الجماهير العميق والوجدان الشعبي المطلوب منه المشاركة والحضور كشريك فاعل وليس كتابع رديف.
    عندما تتصل هذه القيادة الجديدة بجذورها الحضارية المتسقة مع وعيها الوطني ومتمسكة بإرثها الثقافي الذي يمتد لقرون بعيدة، عندها تصبح متخففة من أثقال الماضي الذي عالجت أدواءه في النور دون خوف من نقاط ظلام غير مشرفة أو عثرات صاحبت مسيرتها السابقة كما أشرنا، وتجد أن مشروعية جديدة قد صبت في شرايينها كما سقى الماء الزرع بعد جفاف طويل، وكما فتح النهر مسارا جديدا حمل في جريانه الطمي والفروع والسيقان والماء الزُلال ليسقي الأرض ويُنمي الضرع ويُعيد الحياة إلى البلاد. فتلهم بذلك أفكارا جديدة وتتغذى المشاعر الإيجابية فتحمي الجماهير والعضوية من الإنزلاق إلى مجاهل القبلية والجهوية، وتعود هي القدوة والأنموذج بين شركائنا الوطنيين في ساحة العمل السياسي العام، وتعود كذلك تتزلف إلى قلوب الشعب من خلال تواضعها وإقترابها من تلمس أوجاعهم ومشاكلهم وليس إنعزالها عنهم. هذا هو الرباط الوطني أو العقد الاجتماعي الذي يجمع بين شخص في (محمد قول) وآخر في (######وس)، يتواصلان عبر وسائط الترابط الإجتماعي وتسخر لهم التكنولوجيا تخليق وجدان مشترك يسمو برابطة القبيلة والجهة إلى رحاب الوطن الأم وقضاياه.
    ان الدعوة للاصلاح لا بد وان تأتي في قالب منظم يعيد توزيع المهام والواجابات بين افراد الجماعة والمؤسسة الحزبية ليكون حاصل جمع (1+1 +1=6) هو ناتج "عملي" وليس حسابياً بمعنى أنه من الممكن أن يصل إلى ضعف( 3) وذلك بإعتبار علامات الحساب نفسها تدخل في عملية الجمع وهذه معضلة جديدة، إذاً فهي دعوة لـ"الكيف" و"القيمة" وليست لـ"الكم" و"الرقم" بهذا المفهوم ((إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا)) ومع أن السياق عن قتال الكافرين، إلا أن مكافحة رعونات النفس تستجدي همة قتال الكفارين لما لها من جهاد، إن الطليعة الشبابية التي تقدمت الصفوف وتطوعت للدفاع عن الوطن منذ "الأهوال" وحتى معركة هجيلج الأخيرة هي المعنية بهذا الأمر، والتي يجب عليها أن تنهض لأخذ زمام المبادرة نحو الدعوة للإصلاح، وذلك لما يتوافر فيها من شروط قل نظيرها، أولها الولاء والتجرد ونكران الذات وإستعدادها للجود بنفسها – كما برهنت من قبل ولسنوات طويلة- مما يطرح عنها المطامع " حتى وإن غشت عاديات الدنيا بعضها" إلا أن الأصل لا يزال سليما ، وكل المطلوب هو أن لا يُرمّ الجُرح على فساد، إن إعتماد هذه العبادة التي تصدى لها هؤلاء الشاب باعتبارها "المُصهِر" الذي أذاب كل خبث رعونات النفس، ومن ثم نقل وعمل على إرتفاع النفوس فتسمو عن لُعاعة الدنيا، أجدى في إعادة تعريفها لتكون مكافحة الفساد المادي، المتمثل في التعدي على المال العام أو التلاعب في مصالح البلاد وسكانها، باعتباره جناية تستوجب التشمير لمكافحتها والقضاء عليها، كل ما هو مطلوب هو تبديل وسائل وتكتيكات القتال لتصبح هنا هي الحجة والإقناع والتسلح بالعلوم والمعارف الحديثة ..الخ، من أدوات ومباضع تُعين على التحليل السليم ومن ثم مباشرة العلاج، بدلا عن الـ " ار بي جي أو القرنوف".
    القيادة:
    إن أول خطوات ومؤشرات الإصلاح الصحيحة هي التجديد في القيادة وذلك بإعتماد، منظومة قيادية شبابية، لقد أثبتت الاجيال المتقدمة – مع سبقها وفضلها في كل شئ- أنها قد أخذت فرصتها كاملة لذلك كان لابد من إتاحة الفرصة لقيادة شبابية جديدة، وعندما نقول قيادة شبابية نعني أن تأتي من داخل الإطار والسياق ولكن بذات الطريقة التي ندعو بها للإصلاح أن تأتي وفق وسائل الشورى المتعارف عليها في الحركة منذ عقود، " أوالديمقراطية التقليدية"، وهي الإنتخاب من قواعد الحزب دون تأثير عليها، وليس تلك التي تُفرض على الناس من القيادة ومن الجيل السابق الذي يقوم بعض قادته بإختيار سكرتيريهم ومنحهم الصلاحيات والألقاب، وجعلهم فوق الناس بإعتبارهم القيادات الشبابية المترجاة، وعلى ما في ذلك من حق قد يكون مشروعاً لبعضهم في تمثيل الشباب بانتسابهم لهم وربما كسبهم، بيد أن الاشكال ليس إنكارا عليهم في حق قد يكون بعضهم به جديرين، ولكن في النهج الذي تولوا به المسئولية، فهذه الطريقة تجعلهم في خدمة من بيده امرهم وهي القيادة الفوقية، وليست القاعدة التي من المفترض انها تنتخبهم ليمثلوها كما هو الحال في كل بلاد الدنيا، وبالتالي تستطيع محاسبتهم وعزلهم إن لمست فيهم التقصير، بغير هذا، تتحول هذه الأمانات والمؤسسات إلى مجرد هياكل بلا مرجعيات، وهو ذات الداء الذي دفع بنا في هذه المسارب المظلمة التي ندعو للإصلاح كطريق وحيد وشاق للخروج منها، ربما يكون من المفيد أن نقول في ظل الظروف الحالية ان يُترك للشباب حرية إختيار ممثليهم لسبب بسيط هو أن الأوضاع الحالية للحزب تحتاج إلى تحفيز روح المبادرة والإيجابية ،وليس الركون والتلقي والسلبية، إن كل التجارب الإنسانية تخبرنا أن صاحب كل سلطة في التاريخ تتراكم حوله طبقة من الناس تبقى مصالحها مرتبطة بوجوده شخصيا، وبالتالي تزين له البقاء وإطالة المدة على الكرسي طمعا في تحقيق مآرب ذاتية قد يكون من بينها ما يصل العامة، إلا أن النتيجة النهائية هي أن افضلية الخيارات عند هؤلاء هي إرضاء طموح الذات والإنجراف بلا غاية نحو المصالح الخاصة قبل العامة التي يترجاها الناس ممن يتولى امرهم.
    النظر للمجتمع:
    إن الإصلاح يجب أن ينمو في تربة بيئة طبيعية وهي المجتمع الذي ظلت تحيا فيه وتدعو إلى إصلاحه، وليس اعتزاله والخروج والهجرة عنه للاعداد ومن ثم للعودة اليه . فعند العودة سنكتشف ان المحطة التي أعددنا لها انفسنا ببساطة قد تجاوزها القطار وانتقل إلى غيرها، وهنا تأتي الحكمة النبوية "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهِمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهِم ".
    أن المجتمع السوداني هو الذي وفر الحماية الكاملة للحركة الإسلامية الحالية لتنمو، وهو الذي فرد عليها جناح ستره عندما طاردتها فلول اليسار عقب انقلاب مايو اليساري أو فشل عملية يوليو 1976م، وهو الذي اعاد نميري الى الحكم وأجهض الانقلاب الشيوعي الأحمر، لذلك فهو جدير بكل تقدير وحماية وتعهد بالرعاية والإنحياز إلى صفه عند الضرورة، لقد كانت النظرة السائدة قبل قيام الانقاذ أن العصا السلطانية تستطيع ان تفعل العجائب وان قدرتها التحويلية يمكن أن تدفع بتحقيق شروط التحول التاريخي "كما يصفها الماركسيون" التي تقود إلى إعادة صياغة المجتمع نحو التغيير المنشود، وهي نظرة تتعجل الوصول إلى نموذج رسالي عن طريق فوقي يبدأ من أعلى، وفق رؤية الحركة عوضا عن الاعتقاد الذي كان سائدا وقتها عن ضرورة البناء القاعدي والبداية بالأسرة والمجموعة ثم الجماعة وصولاً للمجتمع، كالتي تبنتها جماعة الاخوان المسلمين الأم في مصر الآن ونالت بها ثقة الناس طواعية، لقد أثبتت التجربة السودانية على مدار ربع القرن الماضي ان تعجل النتائج بحرق المراحل طلبا لهدف بعيد هو قفزة في الظلام دفعت الحركة والمجتمع والوطن الثمن غاليا فيها، فقد وضح بالبرهان أن المجتمع السوداني لديه نفور كبير من مشاريع الهندسة الإجتماعية والدعوة الفوقية السلطانية للأخلاق التي لا تنجب إلا نفاقاً، وذلك بإدعاء إمتلاك الحقيقة المطلقة أو تبرير الإستخدام الأخلاقي للقوة لفرض رؤية وكما في المثل المعروف (قد تحمل الحصان على الذهاب الى النهر، ولكنك لا تستطيع ان تجبره على الشرب) فتلك النظرة قادت إلى جلب عداء وإيغار الصدور على الحركة ومشروعها ،علاوة على أن بعض قيادات وعضوية الحركة سقطت في بعض ما كانت تتحاشاه وتطلب نقيضه ، يظهر هذا في إتساع الهوة بين الأغنياء "والذين جلهم من حواشي أو مناصري حزبنا" والفقراء " الذين هم أهلنا وجذورنا التي انحدرنا منها" وما قاد إليه هذا من إنعزال كبير عن واقع المجتمع و التفاعل الحقيقي وليس المظهري مع قضاياه، والذي يتجلى في بعض المظاهر الخطيرة التي لم يكن يعرفها أهل البلاد مثل المساكن المحروسة –كانتونات – في قلب العاصمة والتي لم تكن معروفة من قبل(3)، أن تكون هناك أحياء محاطة بأسلاك وجدران وحراس معزولة في العاصمة أو الأرياف، الأمر الثاني المظاهر الفارغة التي تتجلى في مناسبات الزواج – وجلها مرتبطة بأسر المسؤولين في الدولة- التي أضحى بعضها مثل حكايات ألف ليلة وليلة، والتي أثارت انتقاد الرئيس البشير نفسه حيث قال في مخاطبته لعضوية مجلس الشوري في يونيو 2011م (نريد أن نتعلم التبسيط في الزواج وأن لا نغالي في الطلبات فنُعقّد على الشباب) وضرب مثلا بالإخوان الجمهوريين وطريقتهم المغالية في البساطة، فصار البون شاسعا بين ماضي الدعوة التي بدأنا بها في الإصلاح الإجتماعي والقدوة الحسنة التي كنا ننادي بها في زواج البركة الأول والثاني وغيره من مشروعات شباب البناء الرائدة. وبطبيعة الحال حدثت عملية إحلال وابدال في المجتمع دخلت بموجبها قوى جديدة إلى الساحة واستغلت إنشغال الحركة بأمور السياسة والحكم التي كانت هي بالأساس لترقية وتنمية المجتمع وتقديم نموذج في العدل الإجتماعي يقوم على أساس الدين والإرث الوطني الكريم. ومن هنا كان الإهتمام بإقامة العدالة الإجتماعية ودعم الشرائح الضعيفة وإقرار مباديء إقتصادية عادلة، فهو عين ما يستوجب تنفيذه من سياسات، وليس إعتماد مبدأ السوق المفتوح وعقلية (آدام إسميث) التي طبقت اقتصاد القرن التاسع عشر في رأسمالية متوحشة لم تُقبل عليها حتى الدول الرأسمالية في الغرب نفسه، مما دمر قاعدة الإنتاج الطبيعية في الريف وحمل الملايين الى الزحف على المدن وقودا لثورة في الأفق(4).













    • يقول د.منصور خالد في كتابه (جنوب السودان في المخيلة العربية) إن المشروعين الذين وحدا اهل السودان خارج اطار القبيلة، وسما بأصحابهما هما الثورة المهدية، ومشروع الحركة الاسلامية الحالية، والتي وصفها بمشروع الترابي.
    • راجع د. حيدر ابراهيم، سقوط المشروع الحضاري، وهو يتحدث عن ماضي الشوري والديمقراطية داخل مؤسسات الحركة الإسلامية بطريقة غير موجودة حتى في ما يسمى بـ "الأحزاب الديمقراطية".
    • يروي منصور خالد أنه بعد تعيينه وزيرا للخارجية، عاد إلى منزل أسرته بأم درمان عقب إنتهاء الدوام اليومي، فوجد والدته تنتظره خارج المنزل بإنزعاج، وعندما استفسرها، علم أن رجال الأمن قد جاءوا صباحا ونصبوا "كشك" حراسة أمام البيت،وانها طلبت منهم المغادرة، ووبخته بقولها (نحن مما قمنا حارسنا الجامع دا) في إشارة للمسجد الملاصق.
    • راجع تيجاني عبد القادر، كتابه المشار اليه، حديثه عن تحطيم قاعدة الانتاج في الريف.
                  

04-09-2013, 07:50 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الدعوة للديمقراطية/ الفصل الرابع
    معالم في الطريق إلى الإصلاح
    مذكرة الألف:
    في مطلع العام الحالي تواثق حوالي ألف عضو من المؤتمر الوطني لتوقيع مذكرة تطالب بالإصلاح في الحزب والدولة، ويرى بعض المراقبين أن المذكرة كانت خفيفة التناول (أي- فطيرة) بيد أن الأهم هو ما أحدثته المذكرة من حِراك وسط القاعدة وكذلك ما كشفته من وقائع، داخل أسوار المؤتمر الوطني والتأثير في الرأي العام وداخل الأحزاب والقوة السياسية الأخرى، نريد أن نقف و نشير إلى جملة من الملاحظات حولها.
    أولاً: المذكرة إعتمدت النهج التحليلي الوصفي، ولم تجنح إلى إصدار أحكام قيمية قد تثير الجدل، بمعنى أن تمضي إلى تخطئة أو تجريم أحد، بل عنت بوصف مواطن الخلل، واكتفت بالإشارة إليها من بعيد بطريقة واضحة ولكن مهذبة، ولم تنسق إلى دعوات بعض الأعضاء المشاركين إلى تعيين مواقع قيادية أو اسماء أسهمت في الأخطاء المشار إليها. لخصت المذكرة الخلل الواقع في شقين الأول مؤسسي في بنية الهياكل الحزبية ومؤسسات الحزب والنظام الاساسي الذي يربط هذه المؤسسات، مثلا تعيين فواصل بين الحزب والدولة وعدم الربط بين الإثنين بحيث لا يصبح مصير البلاد معلقاً بواقع وتصرفات الحزب (الإشارة إلى إستقلالية القضاء ومؤسسات الدولة الأخرى مثل: الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية). والثاني ذاتي "شخصي قائم على ممارسات بعض الأعضاء والقيادات **التي تستوجب المساءلة والحسم، ومنها الإشكالات المتعلقة بقضايا الفساد والمحسوبية وغيرهما.
    ثانيا: تأسيسا على التحليل السابق، اقترحت المذكرة بتواضع شديد نوعين من الإصلاحات الضرورية والعاجلة، الأولى إجرائية تشمل إتخاذ قرارات سريعة ونافذة، والثانية سياسات (Policies) تتطلب تدبرا وتدارسا فيما بين الأعضاء قبل مناقشتها في الهياكل والمؤسسات الحزبية .
    هذا هو ما قالته المذكرة صراحة وعلنا وفي النور، وكانت كل مدالولات النقاش التي تتم في الإجتماعات يجري إرسالها وتوزيعها علي من يهمهم الأمر، إمعانا في تثبيت الشفافية كمبدأ وتعبيرا عن نقاء السريرة ووضوح الهدف وإبعادا لأي شبهة تآمر أو أجندة خفية.
    كان من الواضح للقيادة أن حالة القلق تتصاعد وأن حالة من فقدان الثقة أصبحت تتسرب إلى صفوف الشباب الذين هم العصب الحي للحزب، كإمتداد لحالة الضيق العام من مخلفات إنفصال الجنوب وتصاعد وتيرة العنف في جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي طالت كل بيت وكل أسرة، كذلك الحديث المتصاعد عن إستشراء الفساد الذي تتناقله كل يوم المواقع الاسفيرية، وبدأت تظهر وثائق تضرب بعض المسؤولين أو المتنفذين في الدولة أو أقاربهم أو أحسابهم، بل تجاوز بعضها ليضرب في "العالي جدا" قبل أن تبدأ اتهامات توجه بصورة رسمية مثل ملفي الأوقاف أو الأقطان أو مصنع النيل الأبيض أو غيرها من شواهد وقرائن الفساد، وسواها مما يبعث على القلق ويستحث الخطى نحو الدعوة للإصلاح.
    تولدت قناعة لدى قيادة الحزب بأن الوسائل القديمة لن تجدي هنا مثل الإستقطاب عن طريق الوظائف أو تقديم مساعدات مالية أو وعود براقة ناهيك عن التهديد أو التلويح بمعالجة أمنية كالاعتقال أو توجيه إتهام أو غيرها(1)، فهذه هي القاعدة الشبابية التي يرتكز عليها الحزب، وعلى كل هذا يحسب لصالح القيادة في مثل هذه النظرة.
    الحرس القديم والمذكرة:
    جرت مناقشات واسعة على مدار شهر ديسمبر كإمتداد للقاءات وإجتماعات سابقة بعيدة، تبلورة معها فكرة مخاطبة قيادة الحزب كتابة حول مطالب معينة، خاصة وأن اللقاءات السابقة، التي كانت تجمعهم بالقيادات تتحول إلى حملات تعبوية ممجوجة ويتصاعد معها الهتافات وتنتهي عندها بطريقة لا تقدم ولاتؤخر فاستُبعد معها فكرة طلب لقاء.
    مع بداية الإسبوع الثاني من شهر يناير إنخرط ممثلو الشباب في اجتماعات مباشرة مع نواب رئيس الحزب الأستاذ علي عثمان ود.نافع علي نافع، في الأسبوع الثاني والثالث من ذات الشهر بدأت بعض الأخبار تتسرب إلى الرأي العام الذي كان يعاني من حالة الإحتقان السياسية الشديدة نتيجة العوامل التي ذكرناها آنفا(مخلفات انفصال الجنوب، الازمة الاقتصادية الطاحنة، حالة الحرب في الأطراف النيل الازرق جبال النوبة دارفور) فتلقفها كقميص يوسف في وجه يعقوب أ يطرق عليها، وتردد صداها داخل الحزب حيث احدثت المذكرة حراكا عالي المستوى على صعيد القيادات العليا. ففي حين نقلت الصحف تصريحا متعجلا للدكتور مندور المهدي انتقد فيه الامر ووصفه بانه خروج على مؤسسات الحزب (صحيفة الانتباهة 12يناير 2012)، نقلت ذات الصحيفة يوم 14 يناير تصريحا لوالي شمال كردفان د.معتصم زاكي الدين يقول فيه "إنه يؤيّد مذكرة الشباب دون تحفظ"، وفي ذات العدد من الصحيفة حديث للدكتورة سعاد الفاتح محمد البدوي عضو البرلمان والقيادية التاريخية في الحركة الاسلامية قولها إن الإستجابة إلى مطالب الشباب ضرورة ملحة .ونقلت الصحيفة في العدد نفسه لعضو البرلمان ومستشار الأمن السابق صلاح قوش تأييده لما ذهبت اليه زميلته د.سعاد الفاتح.
    نقلت الصحف يوم 15 يناير تصريحات للدكتور قطبي المهدي يقول فيها إنه يتفق مع هذه المذكرة في كل ما جاءت به وانها لو عرضت عليه لقام بالتوقيع عليها تعبيرا عن تضامنه مع كل ما جاءت به. نقلت صحيفة الاحداث يوم 17 يناير عن البروفيسور ابراهيم احمد عمر مستشار الرئيس وعضو المكتب القيادي انه تلقى نسخة من المذكرة وأنه يرى أنها موضوعية ولم تخرج عن الإطار المؤسسي، ويدعو قيادة الحزب إلى تلبية مطالب الشباب. يوم 19 يناير نشرت صحيفة (الرأي العام) حواراً مع الأستاذ أحمد عبد الرحمن عضو المكتب القيادي والقيادي المخضرم بالحركة الإسلامية يدعو القيادة الإستجابة إلى مطالب الشباب والإستماع إلى رؤيتهم. 20 يناير صحيفة( الاهرام اليوم) ترصد وقائع ندوة فكرية في جامعة الخرطوم يتحدث فيها مستشار الرئيس وعضو المكتب القيادي غازي صلاح الدين ود.أمين حسن عمر وزير الدولة ومسؤول العمل الثقافي في الحزب، يطالبان قيادة الحزب بالسماع لصوت العقل ونداء الشباب والعمل على إدارة حوار بنّاء يتعرف على احتياجاتهم ويخاطب متطلباتهم. يوم 23 يناير تنشر صحيفة (الرأي العام) إستطلاعا صحفيا أجرته الصحيفة يكشف أن "مذكرة الألف" هي في الحقيقة قد جمعه حوالي عشرة آلاف توقيع (يجب ملاحظة ان الصحيفة مملوكة للحزب ويرأس تحريرها أحد اقارب الرئيس البشير وهو شديد القرب منه). 29 يناير صحيفة (سودان تربيون الالكترونية) تنشر ماقالت انه مذكرة رفعها "700 ضابط في القوات المسلحة" يطالبون باصلاحات سياسية واقتصادية، وتعيد الصحف بالداخل نشر الخبر على استحياء إلى أن تصدى الناطق الرسمي باسم الجيش الصوارمي سعد في مطلع فبراير ينفي الأمر جملة وتفصيلا، مما ألقى ظلالا كثيفة حول الأمر بنفيه أكثر من تبديد الشكوك كما أراد. على أن المؤسف - كما هي العادة في السودان- لا تستمر حالات الوعي واليقظة الى منتهى إيجابي كما كان متوقعا، بل تبددت حالة الحكمة التي تلبست القيادات وكشفت الايام انها كانت ظرفية طارئة لم تدم أكثر من ايام، فمع بداية شهر فبراير بدأ التضارب يقع في مكونات القيادة على أعلى مستوياتها في احترام عضويتها.
    جاءت ردة فعل القيادة مدهشة في مطلع فبراير تُعبّر عن حالة تفكك غير مسبوقة تكشف ما يجري بداخل المطبخ السياسي ،ففي الوقت الذي استقبل نواب رئيس الحزب (علي عثمان ونافع علي نافع) الحدث بطريقة إيجابية ومبشرة وتفاعلت معها بقية مكونات الصف الأول في الحزب من برلمانيين واعضاء المكتب القيادي(كما أشرنا بأعلى)، قام رئيس الحزب بشن هجوم غير مسبوق وغير مبرر على المذكرة وعلى من كتبها وقال (اذا كان هؤلاء ألفا، فإن الحزب فيه خمسة ملايين آخرين، ولا يمكن لهؤلاء أن يُملوا إرادتهم على الآخرين) وعلى النقيض من هذا الإستفزاز الصريح فقد اتسمت رِدة فعل الشباب بالإيجابية والأناة ولم تجنح إلى رد الفعل المتسرع المتعجل ليس لأن "ليس لديهم ما يفعلونه" كما علق أحد المعنيين، ولكن لأن داعية الإصلاح لا يستجيب للإستفزاز مهما كان مصدره ولا يعتمد ردود الفعل منهجا، ثانيا لأن هناك قناعة مترسخة في عقل الشباب بأن الحِراك الذي يقودونه هدفه الإصلاح والذي يتصدى لمثل هذا الامر عليه ان يدرك انه شخص رسالي ولديه هدف نبيل يسعى لتحقيقه، فلم يكن يُعقل ان يقول الرئيس خلاف ذلك كما توقع بعضهم، فإن كان في القيادة فساد أو محسوبية فإنها تطاله غالبا، إما بالمسؤولية المباشرة اوبالتستر عليها، وفي كل هو المسؤول.
    فمع أن المذكرة معنونة إلى من أعتبرهم الشباب قيادتهم بصفتهم الحزبية، حيث خاطبت الرئيس باعتباره رئيس الحزب وليس الدولة ونواب رئيس الحزب (علي عثمان، الحاج آدم، ونافع علي نافع) بذات الاعتبار ومن ثم الآخرين مثل أحمد إبراهيم الطاهر، إبراهيم أحمد عمر، غازي صلاح الدين، لكن الرئيس قاد الهجوم على المذكرة ومقدميها بطريقة غير متوقعة. وكقول أبي الطيب
    كلما أنبت الزمان قناة
    ركّب المرء في القناة سنانا
    وَكَأنّا لم يَرْضَ فينَا برَيْبِ الـدّهْرِ
    حتى أعَانَهُ مَنْ أعَانَا
    نظرة من الخارج:
    كتب عبد الوهاب الأفندي معلقا (عندما يلخص هؤلاء الأعضاء ما توصلوا إليه في وثيقة تحدد ملامح هذا التوافق، فهذا مؤشر أخطر، خاصة إذا كان ما اتفق عليه مخالفاً لرأي قيادة الحزب، بل يشتمل على نقد واضح وصريح لهذه القيادة ومنهجها وخياراتها. ويكون الأمر أخطر بكثير حين تكون كل كوادر الحزب القيادية غافلة تماماً عما يجري، حتى تفاجأ بتقدم هؤلاء الأعضاء بآرائهم كتابة فيما يشبه الإنذار. فكل من هذه التطورات يعكس وجود أزمة، وهي مجتمعة تنبيء بأن الأزمة قد وصلت مرحلة الانفجار. وتكشف بصورة غير مسبوقة عزلة القيادة عن قاعدتها الإسلامية العريضة. -الواضح أن الحزب الحاكم في أزمة عميقة، تشكك في فاعليته، بل وفي إمكانية بقائه كحزب، خاصة بالنظر إلى أن معظم هذه الكوادر من المفترض أن تكون قيادية. فهذه الأعراض تشير إلى أن الحزب مصاب بانسداد الشرايين، وانغلاق قنوات التواصل الداخلية، بحيث أن معظم القوى الفاعلة، في قمته وقاعدته معاً، تجد نفسها بمعزل عن مواقع اتخاذ القرار، وتضطر إلى كتابة "العرضحالات" شأنها شأن المواطن العادي. وقد اضطرت عناصر قيادية من قبل إلى تدبير "انقلاب قصر" ضد القيادة، ولعل مظاهر الاحتقان الحالي هي إرهاصات انقلاب وشيك قادم. فعندما تفقد القيادة ثقة كتلتها البرلمانية، وقطاع العمال والشباب والطلاب وكبار الأكاديميين، ثم الآن القطاع الحي في قلب كتلتها الإسلامية، فما الذي بقي-وأهم دلالة لتداول فئة كبيرة من عضوية حزب في شؤونه وفي الشأن العام، بمعزل عن بقية العضوية وخارج أطر الحزب، هو أن هذه الأطر قد فقدت وظيفتها، وفقدت الثقة فيها. وحينما يخفي الأعضاء مداولاتهم عن القيادة، فهذا يعني أنهم فقدوا الثقة في القيادة، وكل من يتصل بها بحيث يمكنه أن يوصل المعلومات إليها. وهذا بدوره يؤكد عزلة القيادة وبُعدها عن هذه القواعد).
    وسيبقي السؤال ما الذي دفع الرئيس البشير ليتصدى للمذكرة بهذه الطريقة؟
    ما تطالب به المذكرة، من تصد للفساد، وإستقلال للقضاء، وتحييد لمؤسسات الدولة وإبعادها عن الوصاية الحزبية، وتوحيد الصف الوطني وضمان نزاهة وعدالة الانتخابات، وغير ذلك من الإصلاحات، هي مطالب محقة، وقد ظلت تلك هي مطالب اهل الإصلاح منذ فجر التاريخ وردحاً من الزمن وما من سميع. سيبقى هذا السؤال معلقا مثله مثل اسئلة اخرى كثيرة من شاكلة ما الذي دفعه إلى قبول نيفاشا بكل ما جرته من خراب وتدمير رغم نصيحة اقرب الناس إليه؟؟ ما الذي جعله يصمت على قضايا الفساد رغم أن خزائن مكتبه مملوءة بالملفات والوثائق التي تكشف بوضوح اسماء واضحة وصريحة؟؟
    الرئيس البشير يعلم ان مقارنة الالف بالخمسة ملايين ليست مقارنة موفقة ولا دقيقة (ما أكثرالاخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل). لذلك عندما جاءت ساعة الجد والحسم بعد أقل من ستة أسابيع، لم يجد من حوله إلا هؤلاء الألف الذين انتقدهم، وقال انه سيقوم بمحاسبتهم. فهؤلاء لم نرهم إلى جوار إبراهيم شمس الدين أثناء الغزو اليوغندي في الأمطار الغزيرة، ولم نجدهم يوم العدوان الثلاثي، كما لم يخرجوا للقتال يوم غزوة أم درمان، إنهم يقِلون عند الفزع ويكثرون عند الطمع. لذلك لم يسع البشير لطلبهم في القيادة العامة منتصف ليل الثلاثاء عندما سقطت هجليج، ولو طلبهم لما استجابوا، ولو استجابوا لما وطئت اقدامهم أرض المتحرك كما فعل علاء زايد و دفع الله الحسين واخوانهما، بل رأيناهم يتلذذون بلبس "الميري والحوامة به" داخل شوارع الخرطوم والتطواف بين مكاتب المسؤولين بحجة جلب الدعم و الاستنفار..الخ"، يقول المثل الشعبي عند أهلنا في دارفور (يوم القنيص ما بنسعى ######) بمعنى أنك لا تستطيع تدريب باز في يوم الصيد نفسه.
    (يطالبك بمراجعة الفقرة السابقة"بالاصفر")
    فكر القيادة والمذكرة:
    لقد كانت الفكرة الأولية السائدة لدى بعض المكونات القيادية أن هذه المذكرة والحراك الكبير الذي احدثته بين بعض العناصر القيادية، أنها جاءت لتعمل على إحداث اختراق تتغير بموجبه التركيبة القيادية، بمعنى أنها من طرف خفي، ولكن مع الأيام ثبت بطلان هذا الإدعاء، وبرهن هؤلاء الشباب أن حركتهم هذه تأتي من منطلق ذاتي مرجعيته الوحيدة صدق النية في الدعوة إلى إصلاح حال الحزب والدولة، دافعهم لذلك القلق والمخاوف من المجهول الذي صارت إليه البلاد في ظل الظروف المحيطة التي أشرنا إليها في أكثر من فصل من هذا الكتاب. يتضح ذلك بصورة جلية من خلال ردة فعل القيادة - في مستوى نواب الرئيس – حيث عمد هؤلاء كما وصفنا إلى امتصاص حماس الشباب من خلال جرهم إلى سلسلة حوارات ممتدة، كان الهدف منها استكشاف ما وراء المذكرة والعمل على استنكاه خطواتهم بعدها.

    خيارات المذكرة وبدائل العمل:
    لقد كان اقتراح تقديم المذكرة بعد أكثر من عام من التداول - كما اشرنا- واحدة من ضمن خيارات اخرى ناقشها الشباب كطرائق عديدة للتعبير عن مطالبتهم بالاصلاح، والحقيقة كان هناك وجود لجناح متطرف يرى أنه لا ضرورة للتواصل مع مكونات القيادة بهذه الطريقة الناعمة، والتي لن تجدي، إلا أن الهدي النبوي )بالمتابعة في السير على خطو ضعفائنا( جعلت الأغلبية تغالب الإندفاع وتعتمد الصبر، مع يقينهم بصدق ثلاثة افتراضات طرحت عليهم اثبتت الأيام صحتها :
    الإفتراض الأول: ان هؤلاء القيادات يعلمون ان هناك ازمة ويعترفون بها. وهو ماحدث فعلا حيث أعترف نواب رئيس الحزب (علي عثمان ونافع علي نافع في لقاءاتهما بالشباب أنهم يعرفون أن هناك أزمة سياسية في الحكم على مستوى الدولة والحزب، وقد وصف علي عثمان الأزمة ببركة الماء الآسن).
    الفرضية الثانية: انهم يعرفون حقيقة طريق الخروج من هذه الأزمة ويعرفون جيدا مستحقات هذا الخروج. وهو تغيير جذري وشامل وعاجل في القيادات التي ظلت متمسكة بمواقعها زهاء الربع قرن "بما فيها رئيس الدولة ونوابه"، يتبعه تغيير هيكلي في السياسات: تمهد لتغيير ديمقراطي شامل، يُعزز من حاكمية الشورى ومنهجها ويحاسب المفسدين، ويعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها. بطريقة حضارية حديثة.
    الفرضية الثالثه: انهم " قيادات الحزب الحالية" لا يستطيعون أن يتحدثوا أو يرفعوا عقيرتهم بهذه الحقائق ولا يقدرون على التصدي لذلك (4) بعضهم لاعتبارات وطنية، والآخر لإهتمامات شخصية، لان سنن التاريخ تخبر بأن كل صاحب سلطة حتى وان كانت روحية او مادية تتكلس حوله طبقة تبقى مصالحها مرتبطة بوجوده شخصيا –كما ذكرنا سابقا- ومن ثم تزين له افعاله وتُرغِبه في البقاء بإعتبار أن وجوده هو "صمام أمان البلاد وإنها مسئولية تاريخية في اختيار الله له لهذا المكان" ولا يدري هؤلاء أن هناك آلاف السنين عاشتها الشعوب على هذه الارض ولم ترتبط بشخص في ذاته، وفي ساعة الجد لن يجدهم لأنهم بطبيتعهم يقلون عند الفزع، والشواهد في تاريخنا الحالي أكثر من أن تعد، من صدام إلى المخلوع القذافي، إلى مبارك...الخ.
    لقد ثبت جليا أن هذا الرأي كان صائبا باكثر مما قدر هؤلاء الشباب وقتها، وقد كشف مسار الأحداث بعد انحسار العدوان في هجليج والمطالبة بمحاسبة المقصرين في الأمر بطريقة جلية أن القيادات تعرف الأزمة وتعرف طريقة الخروج منها ولكنها لا تقوى على المصارحة والمكاشفة بالأمر، حتى نزلت تطورات الأحداث الاخيرة عقب زيادة أسعار الضروريات.
    موقف القوى السياسية:
    كما هي العادة من فقدان الثقة بين القوى السياسية والمؤتمر الوطني كانت ردة فعل القوى السياسية وتصرفها على اساس انها صراع على السلطة داخل من يصفونه بالحزب الحاكم ،وان شباب الحزب يريدون نصيبهم من كيكة السلطة ويريدون إحداث انقلاب قصر، ومن هذا المنطلق فان الامر لا يعنيهم وهو ما عبر عنه في تصريح للصحف في منتصف يناير د.الترابي بان هناك "مذكرة اخرى ثالثة" بطريقة فيها كثير من المكر تهدف إلى صب المزيد من الزيت، بعد كثير من التدبر نقلت صحيفة (الأحداث) تصريح رئيس تحالف الاجماع الوطني فاروق أبوعيسي يوم 23 يناير بـ (ان هذه المطالب جيدة وان كنا نزيد عليها التعجيل بالضغط على النظام لإحداث تحول ديمقراطي سريع يخرج البلاد مما هي فيه).
    من السطحية والجهل النظر الى الحراك الذي يقع داخل سوار المؤتمر الوطني على أنه حادث معزول أو يخص أهله، فمثل هذا الأمر يصح اذا كان عن تعديل النظام الأساسي للحزب أو إنتخاب عضوية المكتب القيادي أو غيرها من إجراءات، لكن عند الحديث عن وضع خطوط فاصلة بين أجهزة الدولة ومؤسسات الحزب أو إستقلال القضاء أو محاربة الفساد أو إجراء محاسبة عاجلة وفورية للمقصرين في الوظائف العامة...الخ ، هذه إجراءات ضرورية يتأثر بها كل مواطن، وتمس حياته مساً مباشرا ولا يمكن أن توصم بأنها أشياء تخص عضوية المؤتمر الوطني والساحة السياسية العامة غير معنية بها.
    الإشراق الذي جاءت به المذكرة على القوى الشبابية الأخرى – أو ما يمكن تسميته بمنطق العدوى - في الأحزاب حيث ظهرت مذكرات أخرى في حزب الأمة حيث تقدم شباب الحزب بمذكرة تطالب بإصلاحات قيادية وتجديد قيادة الحزب وكما هو معلوم تصدى لهم سيد صادق وبناته وأولاده في محاولة مكشوفة لقمعهم إلا أن انتهى بهم الأمر الى الإطاحة بالأمين العام للحزب الموالي لبيت القيادة، وإستبداله بشخص وسطي وفاقي، في حزب المؤتمر الشعبي بادر د.حسن الترابي يقول بأنه بصدد التنازل عن قيادة الحزب إلى جيل جديد، وقال انه ربما تتولى "سيدة" مكانه في سابقة فريدة من نوعها في السودان، وشق من الحركة الاسلامية أن تكون امرأة في إمامة الناس، ولم يعف هذا الإجراء من قيام بعض الشباب بإحتجاجات تطالب بالإصلاح، وربما كان الوضع الصحي للراحل الأستاذ محمد ابراهيم نقد زعيم الحزب الشيوعي وقتها – حيث كان في غيبوبة او حالة موت سريري - حاجزا دون قيام مجموعة شبابية بالتمرد داخل الحزب ولكن مع وفاته التي وقعت في مارس الماضي اصبح الطريق مفتوحا لتصعيّد جيل جديد من شباب الحزب إلى دست القيادة وهو ما جاء بمحمد مختار، أما الحزب الاتحادي الديمقراطي فقد جرت عملية تدجين مبكرة حتى اصبح حزب الحركة الوطنية فرعاً من طائفة الختمية، فبعد ان تقدمت المجموعة القيادية التي كان على رأسها ميرغني عبد الرحمن الحاج سليمان ود.فاروق احمد آدم بما عُرف وقتها بمذكرة الثمانية في نهاية التسعينات في القاهرة، أصبحت الحركة الإتحادية في حالة ولاء تام مع آل الميرغني وتأتمر بأمرهم وتسير وفق رغائبهم وليس أدل على ذلك من الاسماء التي شارك الحزب بها في التشكيلة الوزارية الاخيرة في ديسمبر 2011م (6).


    -1- حاول بعضهم ممارسة نوع من التشكيك أو الإغتيال المعنوي مثل الاشارة إلى بعض اعضاء المذكرة والناشطين فيها بأنهم ينتسبون إلى المؤتمر الشعبي، وكانت أشبه بمزحة ثقيلة. فقائل هذا الكلام كان يتحدث وإلى جواره الحاج آدم نائب الرئيس، مما جعل أحد الشباب يلفت إنتباهه إلى أن الذي إلى جواره لم يكن "مؤتمراً شعبياً" فقط، بل و"مطلوباً للعدالة" كما كانت تصدر باسمه بيانات القضاء للصحف.(غير موجودة بالنص)
    - 2- للإنصاف لم تكن النظرة ان هؤلاء القيادات يخافون من رفع صوتهم والمطالبة بالإصلاح والتغيير، من خشية خوف السجن او الحرمان من إمتيازات ينالونها، ولكن خوفا من أن يقود ذلك إلى تصعيد أو خلق دورة صراع جديدة البلاد في غنى عنه في مثل هذا الظروف.(غير موجودة بالنص)
    -3- بعد التصريح الذي أدلى به بروفيسور إبراهيم أحمد عمر في صالون الراحل سيد أحمد خليفة وقوله ان وزير الدفاع سيخضع لمحاسبة على التقصير الذي حدث في هجليج على مستوى الدولة (في البرلمان على الأقل) وعلى مستوى الحزب، ذهبت بعض القيادات للرئيس لمناقشته في الأمر بجدية بإعتبار أنها طلب من القواعد، فاجأهم الرئيس بقوله (برأيكم من هو الأجدر بالحساب عبد الرحيم، ام الذين جاءونا بإتفاق نيفاشا؟؟). حينها وجم الحضور.
    -4- راجع فصل الحركة السياسية وضرورات التغيير في هذا الكتاب.
    (أين 5 وأين 6)
                  

04-09-2013, 07:52 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الجزء الثاني:
    الإصلاح السياسي في السودان

    (رحم الله أبي ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً)
    إمرؤ القيس










    الإصلاح السياسي/الفصل الأول
    جذور أزمة القيادة في مشروع الإنقاذ
    بعد حل مجلس شورى الحركة الاسلامية عقب نجاح التغيير في يونيو 1989م حدث امر جوهري اثر على مسار المسئولية العامة في الحركة والدولة بصورة مباشرة، وهو ان صار اساس مشروعية العمل داخل المؤسسات الحاكمة يأتي بطريقة معكوسة –من أعلى الى أدنى– في المناصب والمواقع وبالتالي في السياسات المتبعة، عوضا عن الطريقة الطبيعية "التقليدية" بالبناء القاعدي والانتخاب والتصعيد من أدنى الى أعلى مما يمكن من المحاسبة والمتابعة ومن ثم تجديد الثقة او سحبها عن القائمين بالامر الذين تختارهم جماهير وقواعد الحركة كممثلين لها، كذلك القرارات والسياسات التي تتخذ، ولإحكام رؤية للخروج من هذا الوضع الشائه الذي كان يُفترض فيه الاستثنائية ولكنه تحول الى ديمومة وخلف ازمة في القيادة والرؤية معا، لذلك كان لابد من دراسة معضلة القيادة وفحص مكوناتها.
    التنظيم السياسي وجدلية الحزب والدولة
    جذور التكوين:
    يعتبر الاسبوع الاخير من شهر فبراير من العام 1989م عند الباحثين هو التاريخ المرجعي لتقصي التحول النوعي الذي وقع في قيادة الحركة الاسلامية. عندما اجتمع د.الترابي الامين العام لتنظيم الحركة الاسلامية بنائبه الاستاذ علي عثمان محمد طه الذي لمع نجمه السياسي كزعيم للمعارضة سابقا في البرلمان في مواجهة صادق المهدي وهو رئيس وزراء عركته التجارب. وبدراسة كل المؤشرات في الظروف السياسية الراهنة على ضوء مذكرة الجيش (20-فبراير-1989م) التي جاءت معممة في كلماتها وصريحة في دلالاتها تطالب بحكومة وحدة وطنية عمدت الى إخراج الجبهة الاسلامية من السلطة، كانت كل الدلائل تشير الى وجوب التركيز على العمل في القوات المسلحة في محاولة لسبر اغوارها واستنكاه ما الذي يجري بداخلها، ولماذا وجدت الجبهة الاسلامية نفسها –رغم كل ما بذلته للجيش – الآن في مواجهة شبه مكشوفة(1) معه؟ فكان لابد من تمحيص يتقصى الامر.
    انتهى الاجتماع بوضع الامانة الخاصة كلها تحت إمرة المحامي "الكتوم" نائب الامين العام ومصدر ثقته وكان هذا يقع لاول مرة، جاءت توصية المحامي بعد أقل من شهر أن الاحداث تتلاحق وان الصراعات تعتمل في داخل المؤسسة الكبيرة "الجيش" وانه اذا تم تهيئة الأجواء بطريقة مناسبة فان تحركا ناجحا يمكن ان يتم لصالح الحركة ويضعها في المسار الذي تريده. وبالفعل بدأت محاولات اختبارية لعملية تحريك الشارع فيما عُرف بثورة المصاحف وغيرها من التحركات التي شكلت ما يسميه العسكريون "كوموفلاش" سياسي غطت ستائر دخانه على النشاط العسكري الذي دأبت كوادر الحركة في التفاعل فيه،حيث جرى في القطاع المدني ترتيب بعض الأمور العاجلة مثل تدبير الأموال اللازمة لمواجهة الطوارئ، وتم تكليف المهندس محمود شريف ببناء شبكات اتصالات لتقوم بربط التحركات قبل وفي اثناء عملية التحرك، كذلك بناء اذاعة احتياطية أسهم فيها الى جواره عدد من خبراء الحركة مثل د.مصطفي نواري و المهندس ادهم وغيرهما من الجنود المجهولين.
    التغيير
    في الثلاثين من يونيو 1989م جرت الامور على ماتشتهي سفن قيادة الحركة وتم التغيير على النحو الذي ترجوه بطريقة سلسة بيضاء، بجهود الحركة الاسلامية بكافة اجهزتها ومؤسساتها وكوادرها. دخل الشيخ كما قال لاحقا "الى السجن حبيسا وذهب البشير الى القصر رئيسا" معللا هذا التكتيك بأغراض التعمية وابعاد شبهة أن الحركة الاسلامية تقف خلف الانقلاب، وان كان لبعض المراقبين تفسيرات اخرى(2). صحب الترابي الى السجن عدد مقدر من قادة الحركة الاسلامية الظاهرين أسوة بكل زعماء الاحزاب السياسية الاخرى، في حين بقي نائبه علي عثمان بالخارج وفي يده تفويض الامين العام للتصرف بالكامل في كل شئ- الأمين العام نفسه كان قد فوضه مجلس الشورى الذي انعقد قبيل الانقلاب بأن يفعل ما يراه مناسبا دون الرجوع اليه وقد مضى الترابي بهذا التفويض الى الحد الذي حل به المجلس نفسه- شملت كلمة كل شئ هذه التنظيم (بشقيه السياسي والخاص) وأيضا إنجازه الجديد وهو الدولة بكل ما فيها من تعقيدات و صعوبات وقرارات حاسمة وفورية لا تحتمل المشاورة والتأخير.
    بقي الشيخ في محبسه ستة اشهر كان يتلقى فيها تقارير منتظمة ولكن محصورة ومحدودة بما يريد ان يلقنه اياها هؤلاء الذين اختارهم ،ولم يكن في مقدروه الاتصال بسائر عضويته الاخرى التي كانت تتجه الى داره متى شاءت او تلك التي كانت تتحلق حوله في المناسبات الاجتماعية او غيرها فيحس بنبضها ويصله صوتها، فكان بذلك يرى ما يريدونه "هم" ان يراه، ويسمع ما يحتاجون "هم" الى رأيه فيه فقط، أما خارج أسوار السجن فقد كانوا "هم" الحكام المتصرفون في كل شئ في البلاد والحركة بكل مستوياتها، نشأ عن هذا حلف ثنائي تقوى مع الأيام بين ممثلي الجهاز الخاص وقادة الانقلاب الذين كانوا يتلقون كل التوجيهات مما يحسبونه قرارات الحركة ومؤسساتها التي درستها وخططتها لتحقيق مشروعها الرسالي الذي انتدب هؤلاء الرجال (ضباط الجيش) أنفسهم اليه وقبلوا ببذل أنفسهم رخيصة في سبيله.
    خرج الأمين العام من السجن ليتسلم الأمانة التي استودعها عند نائبه، وبقرون استشعار متمرسة بدأ يتلمس طبيعة الاوضاع التي تخلّقت ونمت في غيابه عساه يتفهمها. وفعلا انخرط في سلسلة من الاجتماعات مع أركان حربه القدماء ولكنه لاحظ انه بات أشبه بالغريب بين الحاضرين خاصة العلاقة والتلاحم الذي نما بين اعضاء الامانة الخاصة ونائبه، الذي تركه لتولي تصريف الامور في غيابه فإذا به يجده يُديّر كل الشؤون في حضوره، لقد وضع الترابي نائبه لـ "يُصرّف" شئون الحزب والدولة وفق الخطط التي وضعت مسبقا ولكن هناك فرقا بين الـ "تصريّف" وبين "الادارة" ، على ما يبدو ان ثقة الشيخ في نفسه وتقليله من مقدرة الملاحظات التي جذبت انتباهه جعلته يستهين بالامر، فشكل ما يشبه الهرم القيادي الذي ضم الى جانبه كزعيم نائبه بالاضافة الى قائد الانقلاب الجديد بالطبع، ولكنه قرر أن يضيف تحت إلحاح بعض الظروف نائب قائد الانقلاب العميد الزبير محمد صالح ود.علي الحاج الامين السياسي للحركة واختار أحد الشباب ليكون بمثابة سكرتارية للمكتب وليس عضوا دائما فيه(3)، تكررت ملاحظات الترابي على حالة الانسجام تلك التي لاحظها بين نائبه و رئيس السلطة الجديدة، التي تشكلت في العلن والتي كانت هي الاخرى تثق بطريقة عمياء مطلقة في قيادة الامين العام وتعتقد ان لديه خططا وقرارات جاهزة ستجعل نموذجا من الصحابة يمشون بين الناس، وبعثا جديدا لعمر بن الخطاب الذي ينام تحت شجرة، وفق النموذج الاسلامي الذي سيقام والذي لم يفكر احد في تفاصيله باعتبار ان الشيخ يعلم كل شئ، وأن لديه رؤية متكاملة للذي يُعرف عندهم إختصارا بــ (الاسلام هو الحل). مع الايام بدأت تتكشف هذه الأشياء عن نفسها رويدا رويدا، وبدأ يظهر ان لا جديد عند الرجل مستترا ولا يعلمونه "هم"، كل ما في الامر مجرد شعارات منحوتة ملأت الدنيا، وليس هناك امر مخفيا عنهم غير انها السياسة الإعتيادية التي في استطاعة كل نظام تقليدي ان يسعى للقيام بها من اطعام الناس وتحسين الخدمات العامة من صحة وتعليم وطرق وكهرباء مع مطاردة المبادرات اليائسة في البحث عن فرص لوقف الحرب، التي أصبحت تتذرع بها القيادة كمبرر للتأخير في تنفيذ المشروع الرسالي المرتقب. تراجعت الأدبيات التي تتحدث عن التجديد الفكري وفتح باب الاجتهاد وغيرهما من مطالب التنوير الذي كانت تنادي به جماعات المفكرين في الحركة الذين اصبح دورهم متواريا للغاية وأضواؤهم في خفوت تام.
    رغم ذلك حافظ د. الترابي على حرارة الموقف وزمام المبادرة في يده، فهو الرأس المدبر ونائبه الأستاذ علي عثمان هو القوة المنظمة والمشرف على تنفيذ التوجيهات، والفريق البشير هو الواجهة الفاعلة والمتجاوبة، كما أنه بات لديه مقبولية واسعة من جماهير الشعب وكذلك من عضوية الحركة.
    بوادر الأزمة:
    استمرت الأمور على هذا المنوال غير أنه مع الأيام بدأت تتكشف رغبة الشيخ في الظهور إلى العلن وتسنم دور واضح في الامر(4)، الشئ الذي قاد الى اثارة حفيظة بعض المكونات في القيادة ما لبثت ان تحولت الى نوع من الصدام وان بدا لينا في جوانبه. وقعت حادثتان أظهرتا للرأي العام بجلاء تعجل د. الترابي الى ما يبتغي من الامر، وهو تولي القيادة المباشرة او إظهار أنه المحرك والمدبر للأمر، الأولى تصريحه في العام 1992م وإبان اشتداد المعارك في جنوب السودان بعد تحرير مدينة فشلا الحدودية ذات الاهمية الاستراتيجية العالية في ذلك الوقت، وذلك لكونها تقع في منحنى حدودي ثلثاه داخل الأراضي الاثيوبية، بالاضافة الى انها كانت تمثل مركز ثقل نوعي في خطوط الإمداد اللوجستي للحركة الى ولايتي اعالي النيل والاستوائية، وقد كان تحريرها واستعادتها من قبضة التمرد ضربة بداية موفقة لما عُرف لاحقا باسم عمليات صيف العبور. نقلت وسائل الانباء العالمية عن د. الترابي قوله (ان السودان مدين بالشكر لاصدقائه الاثيوبيين الذين كان لهم دور في استرداد المدينة). أحدث التصريح ردود فعل غاضبة للغاية في وسط الرأي العام الوطني خاصة داخل الجيش، بحسبان ما فيها من تقليل لدور القوات المسلحة التي سارت على اقدامها اسابيع عديدة في ظروف طبيعة ومناخية سيئة وخاضت معارك شرسة لها فيها جرحى وشهداء. لا يخفى ما في التصريح من استهانة وجرح لكرامة الجيش الوطني الذي يستعين باجانب لحماية بلاده، كذلك تسبب في احراج اقليمي خاصة (اثيوبيا واريتريا) اللتين كانتا تساعدان السودان بعد سقوط حكومة منقستو واستقلال اريتريا وكانت حكومتا البلدين تدينان بالفضل للسودان في ذلك، ولكن مسألة التدخل العسكري في حرب اهلية داخل دولة وبقوات اجنبية تسبب لهما احراجا اقليميا ودوليا بالغا في غنى عنه حكومة وليدة لم يتجاوز عمرها شهورا خاصة وحركة التمرد وزعيمها قرنق كانت لها صلات وقاعدة مناصرين اقليمية ودولية كبيرة، طرحت هذه التصريحات التي تناقلتها وسائل الاعلام العالمية كافة وبتركيز شديد تساؤلات عديدة عن ماهية دور الدكتور حسن الترابي ومكانه في السلطة.
    لم ينقشع غبار التصريح السابق بفترة وجيزة حتى أدلى د.الترابي بتصريح آخر لوسائل الإعلام العالمية قال فيه إن مجلس الثورة العسكري الحاكم وقتها في طريقه الى الحل وان السلطة في مسارها الصحيح الي أن تصبح "مدنية" وأن العالم الخارجي سيقبل بها بعد هذا، باعتبارها تمثل الشرعية الوطنية للبلاد، وغير خافٍ ما احدثه هذا التصريح من ردود فعل وتداعيات خاصة داخل المؤسسة العسكرية نفسها التي بدأت تضغط على قيادتها من خلال تقارير الرأي العام العسكري التي تجليها الاستخبارات العسكرية من خلال مكاتب الامن العسكري المنتشرة في كل الوحدات، وأصبح مثار تندر الضباط والعساكر على قيادتهم التي باتت بنظرهم ألعوبة في يد السياسيين، والتي تخدعهم بقولها "ان هذه ثورة الجيش " فاذا بالجبهة الاسلامية تتلاعب بهم، وغيرها من الروايات التي شاعت وقتها وكانت تمثل طعنة نجلاء في كرامة قائد الجيش وشرفه العسكري، الذي كان يتحمل بصبر يحمد عليه وهو يظن ان ذلك قربان واجب سداده في سبيل إقامة المشروع الرسالي الذي آمن به.
    عند مفترق الطرق:
    بدأت بعد هذا التصريح تباعد المواقف بين الطرفين وكان نائب الامين العام وبشخصيته الوفاقية يحاول إحتواء وامتصاص الأزمات بما يماثل حاجز المرونة لتمرير وتفويت كل المطبات التي تعرض لها مركز القيادة وكان الرجل كمن "يسير فوق حبل مشدود" بطريقة لا يحسد عليها فلا هو قادر على ردع الشيخ بطريقة حاسمة وإلجامه، ولا هو يريد ان يتخذ قرارا بالانحياز الواضح للعسكريين الذين تبدى موقفهم في التمحور والتكتل مع كل أزمة (راجع سجال امين عمر وتجاني عبد القادر في صحيفتي "الرأي العام" و"الصحافة" يناير، فبراير 2007، بعنوان العسكريون الإسلاميون شركاء في السلطة أم اجراء فيها). وهنالك ايضا السياق العام و ضغوط الواقع التي باتت تُنذر بالخطر، فمن ازمة اقتصادية خانقة، الى حصار دبلوماسي مطبق، الى سراب البحث عن السلام، الى ضغوط القطاع المدني في الحركة الذي يريد لشيخه أن يتقدم، كانت الأزمات تتفاقم يوما بعد يوم دون بصيص امل في نهاية النفق، أضاف اليها د.الترابي تأسيسه للمؤتمر الشعبي العربي والاسلامي في العام 1991 وما جره ذلك من ويلات على البلاد والعباد، خاصة من دول الجوار التي كان لها نفوذ ومصالح في السودان مثل مصر والسعودية..الخ، الى ان جاء اقتراح بفتح المجال السياسي الى انتخابات عامة وبخروج الحركة الى العلن وفق ترتيب يُتفق عليه.
    جاءت لحظة الحسم في لقاء لمجلس شورى الحركة في العام 1995 والذي كان مقررا ان يتم فيه إعتماد المرشحين للانتخابات العامة المزمعة بعد اشهر قليلة. رتب د.الترابي للاجتماع بان يتم ترشيحه هو من قبل أقرب الناس اليه، وبعد أن تحدث في الاجتماع بطريقته الهلامية التي يطوّف بها حول الموضوع ولا يسميه عينا، قال د. الترابي للحضور أن الأخ نائب الامين العام سيتقدم لتسمية مرشح الحركة لهذه الانتخابات فقام الاستاذ علي عثمان وسمى الفريق عمر البشير، بعد ان قدم نبذة مختصرة عنه، وعن أهمية اعادة ترشيحه بسبب الظرف الوطني الدقيق وحاجة البلاد الماسة لقيادة مستمرة ودور الجيش وأوضاع الحرب في الجنوب وغيرها، وجم د. الترابي لهذا، فطلب الفرصة د. عوض الجاز مسئول الامانة الخاصة وقام بتثنية الاقتراح، الذي تقدم به نائب الامين العام، تقدم ثالث من ذات الأمانة و كرر التثنية، عندها قام الحضور بالتكبير والتهليل كناية عن الاجماع التام – كان يسميه د.الترابي الاجماع السكوتي – وظن الجميع ان تلك مشيئة الحركة ورغبتها، فقد مهد الامين العام لنائبه الذي تقدم بالترشيح ومن ثمّ جاء امين الامانة الخاصة وكرر، وبذلك لن تكون هناك منافسة او تصويت وانفض الاجتماع (راجع التجاني عبد القادر ص 72 وان كان قد ذكر توقيتا مختلفا" فبراير 1994م " وهو ما لا يتفق مع سياق الوقائع، وما ذهبت اليه مصادر اخرى مثل حسن مكي راجع مقاله المنشور بصحيفة "الرأي العام" مارس 2001م).
    الطريق الى الرابع من رمضان:
    لم تعد اللحمة بين الامين العام ونائبه على سابق عهدها بل مثلت خطا متباعدا في الشهور التالية بدأ الشيخ يستخدم لهجة فيها الكثير من الحدة التصعيدية بإضطراد، ولم تعد حالة التمحور والاستقطاب داخل الحركة تخفى على احد في الصف القيادي. ومرت عدة احداث كبيرة عززت من ابتعاد الترابي عن مركز القيادة مثل رحيل النائب الاول الزبير محمد صالح وابعاد البشير لاسم الترابي ود. علي الحاج واختياره لعلي عثمان نائبا اول(6)،كذلك ما خلفته مذكرة العشرة من تداعيات عززت ذات السياق وان جعلت الترابي يفقد النصراء في المقربين منه، ثم سفره للقاء الصادق المهدي في جنيف برفقة زوجته "شقيقة الاخير" وما راج وقتها من البحث عن حلف مصاهرة بين الاثنين يقضي بالإطاحة بالبشير مقابل اقتسام السلطة...الخ، ثم جاء اتفاق جيبوتي بين البشير والصادق، وقبلها كان انعقاد مؤتمر الآلاف العشرة في اكتوبر 1999م الذي حوله الترابي من مؤتمر عام للحزب الى أداة عقابية لخصومه من الجيل التالي له في الحركة. ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير باستفزاز الترابي للبشير في البرلمان في قضية تعديل الدستور، فحسمها البشير بما بات يعرف بقرارات الرابع من رمضان (12/12/1999م) حين حل البرلمان وأردفها بقرارات الثاني من صفر بعد أسابيع قليلة والتي حل بها الامانة العامة للحزب كما هو معروف، وبالتالي خرج د.الترابي وأسس حزبه الخاص (المؤتمر الشعبي ) وانقطعت الى غير رجعة علاقته بالقيادة داخل المؤتمر الوطني وتحول بعدها إلى خانة المعارضة الصريحة المكشوفة والمسلحة المدعومة في بعض الاحيان من انصار حزبه الجديد، أو "الأب الروحي لتمرد دارفور" كما وصفه ناتسيوس في كتابه الاخير.
    زعيم خارج السياق:
    بلا شك يتمتع د.حسن الترابي بقدرات قيادية عالية من النادر توفرها في اي شخص، فعلاوة على المقدرات الشخصية الرفيعة التي يحظى بها مثل إتقانه لعدد من اللغات الحية، والتأهيل الاكاديمي العالي الذي ناله من ارقى الجامعات العالمية (جامعة لندن، السوربون)، وتحصيله للعلوم الشرعية في القرآن والحديث، كذلك مكانته الاجتماعية الكبيرة (من جده حمد النحلان زعيم طريقة صوفية أو مصاهرته آل المهدي) لكن كل ذلك مما يمكن توفره في اقرانه او منافسيه داخل الحركة الاسلامية بصورة قد تفوقه في منحى من هذا او ذاك. ولكنه يختص بمميزات لا توجد عند غيره– على الاقل في محيط الحركة الاسلامية- فبالإضافة الى ما سبق كانت لديه أولا قدرة عالية على الاستشراف ومد البصر خلف الحجب في المجال السياسي، وذلك بالتنبه الى قضايا ومؤشرات لا يراها في حينها اترابه او المحيطون به، بدرجة أقرب ما تكون الى الفطنة، ومع أن هناك مساحة رؤية الهدف ومراحل تنفيذه مما يقتضي التدرج في التخطيط حتى الوصول للغاية المرجوة، خاصة في العمل السياسي في حركة جل قاعدتها من المتعلمين ممن يقدمون الحجة والاقناع على الطاعة العمياء، وحكمة النبوءة تجلت في التوجيه بالمشي بسير ضعفائنا ، فتلمس الطريق عن بعد ينجي من الانزلاق كما يقولون ولكن تبصير العامة به تلمسا لبركة الاجماع والتوحد أجدى، كذلك يمتاز د. الترابي بشجاعة وجرأة نادرة في اتخاذ القرار أوعند التحدث فلا تجده يلتفت حوله تلمسا لنصير أو دليل، وإن كانت هذه الخصلة قد تحولت مع مرور الزمن وتطاول العمر إلى رفض كل رأي مخالف والعرب تقول "حبال الصبر تقصر مع طول العمر"، ونفاد الصبر على تكملة سماع الرأي الآخر فبات لا يحب معاشرة اصحاب الحجج القوية الذين يجهرون برأي معارض أو يبارزونه في المنطق، فاصبح يقصي كل من له رأي خاصة في ايامه الاخيرة في السلطة، كذلك لا يتورع ان يتحدث في اي انسان امام اي شخص بصرف النظر عن مكانته او حساسية موقفه فصفة الشجاعة دائما تقترن بصفة اخرى ملجمة لها وهي الحكمة والا تحولت الى مزيج من التهور والحماقة والاستفزاز بإدعاء فارغ وهو الشجاعة، الامر الاخير لديه تصميم وعزيمة قوية على انفاذ ما يستقر عليه من رأي مستخدما كل ما ذكرناه من علم وثقافة في محاولة لتبرير ذلك وتمريره على من هم حوله يصل به الى درجة الكبر فلا يراجع نفسه حتى في منتصف الطريق مهما كان الثمن او الخسائر، يصف د.احمد محمد البدوي استاذ الادب العربي والنقد ببريطانيا د.الترابي بانه شخص يمكنه التضحية باستراتيجيته من اجل انجاح تكتيك دون مبالاة لهدفه المركزي الذي هو ماضٍ لهدفه، وذلك وصف يعجز عنه الشرح. أصبحت النتيجة من كل ذلك جملة خليط من الاستفزاز و اللامبالاة بالغير، حتى وان كان هؤلاء الغير هم اخلص الناس اليه.
    تركة الترابي الثقيلة:
    بخروج الترابي فقد الحزب العقل الضابط –بعد انكشاف غياب الرؤية عنده- وتلخصت ورثة الدكتور الترابي في القيادة عند شخصين الاول الرئيس البشير الذي اصبح رئيسا بحق في الظاهر وفي الباطن للحزب والدولة الحاكم والمؤتمر بأمره، الثاني هو الاستاذ علي عثمان نائب أول الرئيس في المعلن والمستتر، فبإنتقال الزبير محمد صالح للرفيق الاعلى وخروج د. حسن الترابي الذي أخذ معه د.علي الحاج خلص الامر الى الرئيس ونائبه وأصبحت البلاد بكل ما تحمله من قضايا ومشاغل ومغريات – وافقت هذه الفترة تدفق أموال النفط- تحت أمرهم وتصرفهم، زادت عليهم متاعب عضوية المؤتمر الشعبي خاصة الشباب " المتطرف والمتهور" الذي انضم للدكتور الترابي وأصبح هاجسا أمنيا اكثر منه عبئا سياسيا. كان مشهد القيادة يبدو وكأنه شخص واحد، لا شخصين، فالنائب الاول شخصية وفاقية لا يثير آراء ولا يقدم مبادرات كل ما يهتم به هو احكام السيطرة على الامور بحيث لا تبدو نشازا في اي جانب وليس وضع السياسات مهمته او مما تعود عليه، فهو رجل تنفيذ وإدارة، والبشير لا يحب التدقيق في التفاصيل، لذلك هو يميل الى ان يترك له الامر وهو يتصرف في كل شئ بانيا على الثقة التي نمت خلال الاحدي عشرة سنة الماضية والتي كانت كفيلة للتأسيس فوقها.
    بدأت القيادة جدول الاعمال الملحة والتي جاء في مقدمتها عملية اعادة بناء الحزب فاختير البروفيسور ابراهيم أحمد عمر وهو شخصية مقبولة جدا للعضوية الداخلية وللمثقفين، وإن كان بطبيعته الاكاديمية اقرب إلى المحافظة والنظام، منه الى أن يكون زعيما شعبيا أو شخصية جماهيرية محدود الحركة محسوب الكلمات، ولكن وجود د.نافع علي نافع في موقع أمين أمانة الاتصال التنظيمي (أيضا كوزير الحكم الاتحادي) جعل الاتصال بالحزب في الولايات تحت امره، وهي كعب أخيل القيادة الجديدة في الحزب، فالعاصمة تحت سمع وبصر القيادة العليا تستطيع أن تملأها بكل سهولة من خلال نشاطها وحركتها اليومية، ولكن الساحة التي لا يجب الانكشاف فيها هي الولايات لذلك جرى تركيز عمل أمانة الاتصال التنظيمي في الولايات مما جعل مسؤولها أقرب إلى أن يكون أمين الحزب في الولايات منه عضوًا اعتياديا في امانة المركز العام، مكنه من ذلك القدرات الشخصية العالية التي يتمتع بها من نشاط شديد بالاضافة الى حضور ذهني وملكة في قراءة المعلومات مع التحليل في ترتيبها والربط بين ما هو ظاهر بما يمكن ان قد يكون خفيا، ساعد في ذلك وضعه لتلاميذه علي رأس الاجهزة الامنية (عبد الكريم عبد الله وصلاح قوش في الامن الداخلي- ويحيى حسين نائب مدير للامن الخارجي، أحمد الرشيد في الامن الشعبي) لم يستمر هذا الوضع طويلا خاصة مع ضغوط التسيير اليومي للحزب، واعتذار الامين العام اكثر من مرة نسبة لظروفه الصحية او ربما لإستشعاره بانه في بعض الاحيان غير منسجم مع التشكيلة الحاكمة، فقد بدا وكأن مركز أمين عام الحزب اقرب الى ان يصبح شاغرا ويحتاج الى مرشح كفء ليتقدم. مما بدا معها محاولات لتحريك دوائر النفوذ داخل الحزب في ما يشابه دورة تنافس جديدة بين مكونات الصف القيادي في الحزب.
    صراع الأنداد في حزب الدكاترة:
    لقد أسهمت قوى كثيرة في اقتلاع د.الترابي وهي تريد ان تنال حظها من المسؤولية بعد أن استتب الامر ولا تستطيع أن تنظر بعين المتلقي والامور تتجمد على ما هي عليه، فما لبث ان ظهر تنافس خفي داخل الحزب، غذته عوامل كثيرة داخلية وخارجية الا ان العناصر ذات التأثير الابرز كانت تتحلق حول ثلاثة رجال. كل يرى فيه من هم خلفه الخيار الامثل لملء الفراغ خاصة مع حالة السيولة السياسية المتبدية والتي لا يريد لها احد ان تتجمد وهو بعيد عن مراكز التأثير وصناعة القرار، كان الخيار الاول يطرحه نائب الرئيس علي عثمان كمرشح للامانة العامة للحزب هو د. نافع أمين الاتصال التنظيمي ويتركز الخط الداعم له في الأجهزة الرسمية وخاصة الامنية، والثاني كان تيار أهلي يقف من خلفه بعض قيادات الطرق الصوفية ورجال الادارة الاهلية خاصة في منطقة الخرطوم، بالإضافة إلى بعض القيادات الوسيطة في الحزب ومرشحهم د.مجذوب الخليفة أحمد والي الخرطوم وقتها، التيار الثالث كان ما يمكن وصفه "تيار قيّمي" وهو مسنود بالنخبة المثقفة من صفوة الحزب والقطاعات النوعية الحية مثل الشباب والطلاب والمرأة وبقية رموز الحركة الاسلامية الذين كان مرشحهم د. غازي صلاح الدين.
    يأتي د.نافع علي نافع كشخص اول في سباق قيادة الحزب، وهو رجل متجرد، صادق لدرجة التطرف في آرائه، التي لا يُميز فيها بين ما يمكن ان يقال علنا او في الخفاء، اكسبته مهنته السابقة على السواء في "تدريس علوم الزراعة او المخابرات " براغماتية شديدة من الصعب قبولها في حركة تتصدى لاقامة مشروع رسالي يؤمن بوعد سماوي لها بالتمكين، فبات ببراغماتيته تلك شيئا مما وصفه التجاني عبد القادر (عقلية أمسك لي واقطع ليك)، مع ان منطقه انه لايمارس السياسة بطريقة التسويف والمماطلة بل يرى الحسم والقطع أقصر الطرق بأية وسيلة كان الحسم باليد (المال او السلاح) أو اللسان، وكان مدعوما في تنافسه على مسئولية الحزب من قبل الاجهزة الرسمية –خاصة الامنية- ومُزكى من قبل النائب الاول – بكل ما توفره هذه التزكية من النائب من دعم سلطوي غير محدود و قدرات مالية هائلة -وكان يعتبره ساعده الايمن حتى تلك اللحظة، فهو العضو الأبرز في الامانة الخاصة، ومسئول مركز معلومات الجبهة الاسلامية قبل انقلاب يونيو، ثم مدير جهاز الامن لفترة كانت حاسمة وحساسة من عمر النظام، كذلك كان النشاط الذي يقوم به في الولايات فترة ما بعد الرابع من رمضان جعل صلاته برجال القبائل والادارة الاهلية تتقدم به للغاية على منافسيه. وجعلت جانب رجل البادية في شخصيته أكثر وضوحا ليشابه زعماء العشائر حتى في زيهم ولسانهم وتعبيراتهم.
    الشخص الثاني في المنافسة كان هو الراحل د.مجذوب الخليفة أحمد وهو شخص له همة عالية ومقدرة على المثابرة والتصميم على الاهداف التي يخطها لنفسه او يُكلف بها حتى ينالها مهما كلف الامر او إرتفع الثمن، كذلك له موهبة في تنظيم الاولويات وتوزيع المهام غير معهودة في اقرانه وهو وبحكم مسئوليته كوال للخرطوم لعب دورا رئيسيا في ترجيح كفة البشير وتثبيته سياسيا في فترة مؤتمر العشرة آلاف (أكتوبر 1999م) او في احداث الرابع من رمضان من بعدها، أيضا بحكم ما كان يشغله من مهام قبل التغيير الذي جاء في يونيو 89، حيث كان مسئول الفئات والعمل النقابي وبعدها فان له قاعدة وسط نخب الحزب بحكم كونه مسئول التوظيف السابق في الحزب الذي كانت مهمته الاساسية تتلخص في توفير الكوادر المناسبة في الوقت والمكان المناسبين ومع انها مهمة تنظيمية روتينية الا انه افلح في ان يجعل منها مركز قوة، و صار له إمتداد نفوذ وسطوة "دين اخلاقي" على الكثيرين من الذين قام بترشيحهم لشغل وظائف مهمة وكبيرة، بالاضافة الى علاقاته المتشعبة مع رجال الطرق الصوفية الذين كانوا ينظرون اليه كوريث اسرة له اسهام كبير في إحياء الدين في مناطق نهر النيل، ورجال القبائل المؤثرين على الاقل في محيط الخرطوم، وميزاته التفضيلية الاخرى التي ذكرناها كرجل شديد النشاط والحركة قليل المنام لايهدأ ابدا وتلك صفات يحتاجها الحزب بشدة في مسئولية الامين العام في هذه الفترة بعد الانشقاق الذي وقع.
    التيار الثالث كان يتحلق حول د.غازي صلاح الدين وهو اقرب ما يكون الى مفكر أو رجل دولة عصري، منه الى ناشط سياسي او شخصية تعبوية تتصدى للاعمال الموسمية وحشود الجماهير، ومع ذلك كان ينظر اليه تيار عريض داخل الحزب –خاصة قاعدة المثقفين- بإعتباره الأجدر بمسئولية الامين العام فهو أول مدني يتقلد هذا المنصب بالإنتخاب من قواعد الحزب في مؤتمر عام(7) في يناير 1996م، وهو مقرر مجلس الشورى السابق لأكثر من عشر سنوات، كذلك الوحيد المتبقي من مكتب القيادة السابق الى جانب الرئيس ونائبه الاول (المشار اليه الذي ضم الى هؤلاء د. الترابي د.علي الحاج والراحل الزبير محمد صالح) وهو بذلك مطلع على كثير من أسرار وقرارات تلك الفترة، ويجعله اكثر اقترابا من مكونات القيادة الرئيسية الفاعلة الآن (الرئيس ونائبه الاول)، بالاضافة الى ذلك لديه خطاب جاذب للقوى الحية في الحزب وقد لعب دورا رئيسيا في استمالة قطاعات (الشباب والطلاب والمرأة) في فترة الانشقاق، الا ان العقدة الرئيسية هي ان القيادة كانت محكومة بنظرة الترابي الذي كان في ايامه الاخيرة يفضل الهرب من اجواء الافندية والنخب والثقافة، إلى حشود العامة وجموع الأتباع لذلك كان منطق تأمين مراكز القوى وترضيتها هو الابرز شيوعا.
    اللافت أن الرئيس البشير كان يرى ان الامر لا يعنيه، وأن هذا الصراع في المستوى الادنى منه – بمعنى انه لن يطال كرسيه- وبالتالي ترك الامر يمضي بما تتوافق معه الظروف وسيتعامل هو مع المنتصر من هؤلاء، فهذا الصراع بين "الملكية" وفي ختام المطاف الكلمة الاخيرة له. في وقت كانت فيه البلاد والحزب احوج ما يكونا للاتحاد كقول البرعي اليماني:
    تشتيتهم جمع الاحزان في كبدي
    فالهم مشتمل والركب اشتات
    سياسة المنحنيات الحادة:
    في يونيو 2001 قام الرئيس بتعيين د.غازي عتباني في منصب مستشار الرئيس للسلام وعهد إليه بالبحث عن صيغة سلام مقبولة مع الجنوب، وفعلا بعد جهد كبير استطاع مستشار الرئيس للسلام ان يقنع الوسطاء بدفع الحركة للقبول بمبدأ نظامين في دولة واحدة ومن ثم القبول بالفدرالية لكل السودان مع الشريعة في الشمال ونظام محايد في الجنوب من ناحية التشريعات الاسلامية (كانت العقبة الكؤود في كل جولات مفاوضات السلام هي مسألة الشريعة والكونفدرالية) وتم في 20يوليو2002 التوقيع على بروتكول ميشاكوس الاطاري الذي أعتبر اتفاقا مفتاحيا هيأ لما جاء بعده من اتفاقية سلام، وان اختلفت عنه في جوهر القضايا. تقدم الوسطاء بعد ذلك بمقترح شامل للحل في ما سُمي بوثيقة ناكورو في يوليو من العام التالي والتي رفضتها الحكومة سعيا لحل افضل (راجع فصل سجالات السلام وغياب الرؤية في هذا الكتاب).
    في سبتمبر 2003 التقى النائب الاول للرئيس علي عثمان بـالعقيد جون قرنق زعيم الحركة الشعبية في ضاحية نيفاشا بترتيب امريكي كيني شارك فيه مساعد وزير الخارجية الامريكي المستقيل والتر كينشتاينر ووزير خارجية كينيا كالنزو مسيوكا الذي زار الخرطوم نهاية اغسطس والتقى بالرئيس البشير وحمل له رسالة من الوسطاء وشركائهم تفيد باهمية حضور نائب أول الرئيس الى كينيا للقاء جون قرنق وحسم كل القضايا العالقة (الوسطاء كما هو معروف دول الايقاد، وشركاؤهم الترويكا الاوربية، بالاضافة الي الولايات المتحدة وبريطانيا) وقد كان.
    المنافسة الشرسة:
    على إثر تلك التطورات تقدم مستشار الرئيس باستقالته من منصبه الرسمي لما اعتبره تدخلا من الرئاسة في صميم عمله، وإن اعلن انه باق في الحزب والبرلمان يمارس منهما عمله السياسي. بعد خمسة أشهر من قبول استقالة مستشار السلام انعقد المؤتمر العام للحركة الاسلامية في ابريل 2004 (في نوفمبر2003 اعلنت رئاسة الجمهورية قبولها الاستقالة) وتقدم الوزير حسن عثمان رزق بتعديل على النظام الاساسي بحيث يعاد انتخاب الامين العام للحركة من المؤتمر العام بعد اجازة المقترح، تقدم الشيخ محمد محمد صادق الكاروري بترشيح الاستاذ علي عثمان محمد طه الى منصب الامين العام للحركة وقام الاستاذ احمد ابراهيم الطاهر بتثنية الترشيح – لا يخفى دلالة ان يقوم رئيس البرلمان بتثنية الترشيح- وفي المقابل تقدم د.محمد الحسن التكينة الطبيب الإختصاصي المعروف بترشيح د.غازي صلاح الدين العتباني لمقعد الامين العام قام الشيخ عبد الله بدري القيادي التاريخي بتثنية الترشيح بطريقته الهادئة، جرى التصويت في وضع غير مثالي شابته الكثير من التجاوزات وقام بعض انصار المرشحيّن اللذيّن قفل باب الترشيح عليهما بإستخدام طرق غير مقبولة بالمرة، فمثلا أتى بعض انصار احد المرشحين – وكان وزيرا- بأفراد الحراسة والتأمين للتصويت لأحد المتنافسين وهم يتبعون لجهاز امن الحزب الذي يعرف "بالأمن الشعبي" وليسوا ضمن الأعضاء المؤتمرين ولم يكن لهم حق التصويت (تم عزل الأستاذ احمد الرشيد من مسئولية الامن الشعبي بعد انفضاض المؤتمر بسبب رفضه وإحتجاجه على ذلك) كذلك عملية التصويت استخدمت فيها كاميرا الفيديو بطريقة فيها الكثير من الترهيب وفي انتهاك صريح لقدسية خصوصية الإقتراع أمام الصناديق (وضع صندوقان كل يمثل مرشحا وعليه اسمه ويطلب من كل عضو ان يضع البطاقة التي فيها اسم المقترع في الصندوق المسمى للمرشح المعين في وجود كاميرا الفيديو) ومع ذلك صوت البعض بشجاعة وان افقدتهم منصابهم بعد المؤتمر مثل الوزير صديق المجتبى وزير الدولة للثقافة وآخرون كُثُر. بعد عملية فرز الاصوات فاز الاستاذ علي عثمان بفارق ضئيل(حوالي 4.5% من جملة الذين يحق لهم التصويت) والذي لم يكن باي حال من الاحوال يتناسب والامكانات الضخمة التي حشدت او الاعتبارات التي تسانده في مقابل خصمه المنافس. قضية د.غازي في الحزب تذكر بشخصية عبد الخالق السامرائي (الملقب أبو دحام) في حزب البعث العراقي وهو المفكر والمنظر الاول لافكار البعث في جيله والكاتب لكل الادبيات والرسائل الفكرية التي صدرت في نهاية الستينات ومطلع السبعينات وعين وزيرا للثقافة في أول حكومة لحسن البكر بعد انقلاب البعث في 1968م، ثم قام باعدامه صدام حسين عقب مؤامرة ناظم كزار، وكل جريرته انه كان يؤمن بجدية بافكار الحزب "الاشتراكية والقومية" ويطبقها على نفسه، حيث جاء في عريضة الاتهام انه يأكل السندوتشات من نفس النوع الذي يتناوله سائقه، ويسكن وهو وزير في ذات المنزل الذي كان يشغله وهو يعمل مدرسا، ويستكثر على الآخرين من قيادة الحزب التمتع بمنازل كبيرة وبحبوحة العيش التي ينسى أنها ضرورية لمن هو في السلطة حتى يعرف كيف يعمل ويفكر بطريقة لائقة للمصلحة العامة...الخ.
    منطق العدوى في الحزب:
    خلفت هذه الحادثة أعظم الاثر على القيادة السياسية الموجودة في الحزب، فقد كان المؤتمر العام للحزب على وشك (اكتوبر من نفس العام) والامين العام وقتها د.إبراهيم أحمد عمر الذي يوافق هوى الجميع يضغط بشدة لاخلاء موقعه، والتيارات السابقة تتلاطم حول الحمى في انتظار الفرصة المواتية، وما وقع في مؤتمر الحركة الاسلامية بسوبا شكل درسا قاسيا، وكشف عن اوضاع غير مأمونة للقيادة التي كانت تعتقد انها قد تسنمت زمام الامور بيدها وقضت على كل بؤر المقاومة بخروج الترابي، في من هم دون الرئيس على الاقل، وإن كانت الحركة الاسلامية هي أمر بالدرجة الثانية باعتبار ان عضويتها من الصفوة المنتقاة، لكن المؤتمر الوطني يُعتبر اساس المشروعية المباشرة للسيطرة على مقاليد الحكم وتتركز فيه كل السلطات، وكل مفاصل الدولة تدار عبره، ولا يحتمل الامر حتى مجرد المغامرة. عمدت القيادة الى طريقين لاعادة إحكام قبضتها التي اهتزت في سوبا، الاول التخويف من سيناريو الانشقاق او العودة الى الترابي فجرت عملية احياء وإعادة نشر وتداول لمصطلح "لا للازدواجية" الذي كان له مفعول السحر في أزمة الرابع من رمضان أشبه بطريقة (Never again)، باعتبار أن مستشار السلام السابق مثلا واحدة من أبرز النقاط التي أُخذت عليه هي دعوته المتكررة ومحاولاته المستميته لتوحيد الحركة الاسلامية، وقد نجحت فزًّاعة الترابي الى حين، الا أن ازدياد نقمة العضوية مما تسميه القبضة الامنية لأمور الحزب وحالة النفور والتململ التي بدت مستشرية وسطها كانت –ولاتزال- تدق اكثر من ناقوس. الطريق الثاني جاء مع اقتراب موعد المؤتمر العام للحزب والتركيز على ان المنافسة المتوقعة ستكون على دائرة الامانة العامة في الحزب باعتبارها مركز الثقل المحوري في إدارته، تقدمت القيادة بمقترح لمجلس الشوري العام للحزب بتعديل النظام الاساسي وإلغاء الامانة العامة للحزب من اساسها بمن تشمل" الامين العام وأمناء الأمانات " وما تمثله من رمزية اعتبارية للحزب باعتبار رئيس الحزب هو رئيس الدولة وبالتالي الخلط يجعل الحزب وكالة او فرعا تابعا للدولة وليس شيئا مميزا بذاته،(العذر الذي كان مستخدما هو الحيلولة دون تكرار تجربة الترابي باعتبار ان الامانة العامة تنافس المكتب القيادي وتخلق هيكلا موازيا لا ضرورة له وتعيد "الازدواجية" في القيادة مرة اخرى). وبذلك أوصد الباب وبشكل نهائي امام اي تنافس غير مأمون العواقب واصبح المؤتمر العام مجرد روتين ينعقد، أهم ما فيه الإستماع للرئيس والتقارير الدورية الاعتيادية التي لا تقدم ولا تؤخر، واعتماد اعضاء مجلس شورى الحزب الذين جلهم من الدستوريين وزعماء العشائر ووجهاء الاقاليم وغيرها من الاعمال الديوانية المكتبية. واستعيض عن الأمين العام بنواب يقوم بتعيينهم الرئيس وبالتالي اصبحوا أشبه بالسكرتارية أو الموظفين في الحزب، ولاؤهم وصوتهم لمن بيده إقالتهم وإعادة الثقة فيهم "رئيس الحزب" وليس جماهير الحزب ونظامه الاساسي الذي على اساسه جرى انتخابهم. وصف د.حسن مكي حال الحزب بعد هذا التعديل بأنه أشبه ما يكون رئيس الحزب هو حائط والآخرون مجرد ديكور عليه من ستائر ولوحات زينة وخلافه، وهو تشبيه دقيق وأقرب ما يكون الى الصحة.
    صراع متقدم:
    بتعيينه نائبا لرئيس الحزب مع اضافة تعريف فرعي "للشئون السياسية والتنظيمية" انضم الدكتور نافع الى دست القيادة، وكان وجوده في تلك الفترة (من نوفمبر 2003م وحتى 9 يناير 2005م) موزعا بين الخرطوم ومنتجع نيفاشا حيث تجري المفاوضات بين النائب الاول وجون قرنق، مما كان يتيح له الاتصال بالرئيس البشير الذي ينقل اليه بعض الرسائل من النائب الاول خاصة فيما يتعلق ببعض القضايا التفاوضية التي كانت تحتاج الى مشاورة اوسع من الخرطوم لا تحتملها خطوط الهاتف أو رسائل الشفرة. يجدر بنا أن نشير إلى أن كل أعضاء الامانة الخاصة او الحزب لم تكن لديهم أي خطوط سالكة حتى ذلك الوقت مع الرئيس مباشرة، حيث يتم استصدار القرارات أو التوجيهات عن طريق النائب الاول أو نائب الامين العام وقتها.
    وفي الفترة التي تلت هذه الاحداث وقعت ثلاثة أشياء غيرت من نمط التحالفات داخل البيت الحاكم وأفرزت مسارات جديدة للصراع، اولا غياب النائب الاول لأكثر من ستة عشر شهرا -وهي المدة المشار اليها بأعلى - عن الخرطوم "مركز القرار" وفرت فرصة ذهبية، وفتحت المجال لعدد من رجال الصف الثاني والثالث للتواصل المباشر مع الرئيس كما ذكرنا، مستخدمين حجة منطقية وهي أن طبيعة الأحوال وتصريف شئون الدولة تحتاج الى قرارات عاجلة وفورية لا تنتظر، وسرعان ما توثقت صلة هؤلاء بالرئيس الذي بدأ يستلطف وجودهم مثل (صلاح قوش مدير الامن، أسامة عبد الله وزير السدود، وكمال عبد اللطيف وزير الدولة بمجلس الوزراء،...الخ) فلما عاد نائب الرئيس الأول لمركزه في الخرطوم وجد شيئا طارئا لم يكن قد تحسب له – كما حدث للترابي في فترة غيابه بالسجن تماما- فقد أصبح لهؤلاء رأي وكلمة لدى الرئيس قد تكون متساوية في بعض الاحيان معه وفي بعض الاحيان تتضارب وتتعارض الرؤى!!. الأمر الثاني الذي تغير هو اختفاء شريكه في الاتفاق جون قرنق الذي غيبه الموت والذي جهد النائب ليبني معه تحالفا منسجما يجعل على الآخرين في الحزب من الصعب بمكان التفاهم معه من غيره. الأمر الثالث: نفسي ذاتي مرتبط بطبيعة الرئيس وتكوينه وهو كثرة الحديث عن نائبه الأول الذي أصبح في نظر العامة قد حقق السلام وأصبح رجل الدولة القوي المتواصل والمقبول من المجتمع الدولي(وغيرها من احاديث المجالس) من الاقاويل والوشايات إضافة اليها ارهاصات القرارات 1993 وما بعدها التي صدرت عن مجلس الامن وتتحدث عن محكمة الجنايات الدولية، مثل تلك الاقاويل لم يكن النائب يلتفت اليها في السابق ولا يعيرها اهتماما بناء على الثقة التي تجذرت واشرنا اليها سابقا، ولكنها كانت مسموعة بدرجة مُلفته ومؤثرة ومقلقة في بعض الاحيان.(انظر إلغاء النائب لزيارته التي كانت مقررة إلى لندن بدعوة رسمية من رئيس الوزراء البريطاني _10 Downing Street_والتي كان مقررا لها ديسمبر 2011م ولكن قيل انه قد عدل عنها بسبب حملة صحفية شنها الطيب مصطفي يقول انها دعوة لمؤامرة جديدة على البلاد، لماذا لا تتم الدعوة للرئيس؟؟..الخ) ومع ان الزيارة لو تمت لكانت الاولى من نوعها منذ اكثر من نيف وثلاثين عاما.
    معالم وشواهد للعيان
    عبرت هذه المحاذير عن نفسها في مناسبتين الاولى عند التشكيل الوزاري الاول بعد توقيع اتفاق السلام في سبتمبر 2005م وكان لافتاً ان يكون خاليا تماما من الفريق الذي ساعد النائب الاول في التفاوض من الذين توقع كل المراقبين ان ينالوا نصيب الاسد في الحقائب الوزارية باعتبارهم اقرب الناس الى الشريك الاساسي الجديد في الحكم (الحركة الشعبية) وتوفر هامش من الثقة بين الطرفين بالاحتكاك الذي جرى في فترة التفاوض مما قد يجعل التواصل عبرهم سهلا، فكانت القائمة الوزارية تكاد تكون خالية من الاسماء التي شاركت في نيفاشا حتى الذين كانوا وزراء من قبل ذلك جرى إخراجهم في هذا التشكيل (أمين عمر، يحي حسين،..الخ)، المناسبة الثانية وقعت بعد أشهر معدودة وذلك باستغلال تصريح نقلته وسائل الانباء العالمية منسوبا إلى نائب الرئيس علي عثمان إبان زيارته إلى بروكسل في مارس 2006م قال فيه أن (السودان يمكنه النظر في مسألة القوات الدولية في دارفور بعد التوصل إلى تسوية سياسية في الاقليم) هاجت بعض دوائر السلطة في الخرطوم واضطربت عند عودة النائب الذي دعي على عجل إلى اجتماع قيادي في بيت الرئيس صبيحة وصوله، حضره الرئيس ونائبه وحوالي( 25 ) شخصا دعاهم مكتب الرئيس جلهم من الصف الاول الموثوق بهم، ما لبث الاجتماع أن تحول إلى ما يشبه المواجهة، التي وصلت حد عرض الأمر للتصويت، حيث صوت خمسة اشخاص إلى رأي النائب في مقابل تسعة عشر في الاتجاه الآخر والتزم البشير الحياد، ولما رأى الرئيس ان وقع الامر ثقيل على الحضور بهذه الطريقة اقترح تكوين لجنة من ستة اشخاص ترأسها د.نافع الذي كان يعد حتى تلك الفترة في معسكر النائب وشملت اللجنة (الزبير بشير،غازي صلاح الدين، عبد الرحيم حسين من الاتجاه الرافض للقوات الدولية، أمين عمر، مطرف صديق ونافع) لدراسة الأمر والخروج بمقترحات عملية، عقب الاجتماع دعا مكتب النائب الى مؤتمر صحفي في القصر الجمهوري، وأفاد النائب بلغته العربية الرصينة ان الدولة لها قرار وموقف واحد وهو رفض القوات الدولية وأن وسائل الاعلام نقلت تصريحه بتصرف وحملته دلالات لم يشر هو اليها، فهو كان يعني ان التسوية السياسية يجب ان تسبق كل تفكير في قضايا خلافيه او امر آخر مرت الأزمة في الظاهربسلام بطئ. الحقيقة هي ان النائب بعدها بقليل (في يونيو 2006م) تقدم باستقالة مكتوبة للرئيس وغادر الى تركيا مع اسرته. في محاولة لتلطيف الأجواء صرح عبد الرحيم حسين وزير الدفاع واحد ابطال المواجهة السابقة لوسائل الاعلام ان العلاقة التي تربط بين النائب والرئيس هي من اقوى ما يكون و(ان الرئيس هوالذي طلب لنائب ان يأخذ اجازة حتى يستجم ويرتاح قليلا) وكانت كلمات الرجل على عكس ما أراد لها، فبدلا ان تصب ماءً على النار لتطفئها إذا بها تصير زيتاً يزيدها اشتعالاً وإضطراماً. فقد كان لافتا ان يتغيب نائب الرئيس والرجل الذي قام الانقلاب في يونيو ورمضان على كتفيه عن احتفالات العيد السابع عشر لثورة الانقاذ، التي بدت وكأن أحد اعمدتها الاساسية تهتز.
    أسفين سلفاكير:
    في اغسطس 2009 نقل سلفاكير ميارديت للرئيس معلومات أبغلتها إياه دولة اقليمية صديقة للطرفين مفادها أن مدير مخابراته وبالاتفاق مع نظيره المصري يعملان على تدريب قوات جنوبية في معسكرات في دولة جارة لشمال السودان تحت ستار ان هذه القوة تتبع للعدل والمساواة وفي الحقيقة انهم قوة جنوبية صرفة والمقصود بها تخريب الجنوب قبل نهاية الفترة الانتقالية وايقاف الاستفتاء، وقدم للرئيس أدلة تفيد أن مدير مخابراته يعمل مع نائبه على الاطاحة به وانهم قد فاتحوا الحركة الشعبية لتهيئتها لهذا الامر، إشتاط الرئيس غضبا وكتب أمر إقالة لمدير المخابرات بخط يده(9)، الا ان الرسالة كانت قد خرجت الى من يعنيه الامر(راجع برقية مسربة على موقع ويكيليكس في شكل تقرير من السفير الامريكي البرتو فرناندز نقلا عن دينق الور وزير الخارجية وقتها الى رئاسة الخارجية الامريكية-واشنطون).
    لم يعد خافيا إرتفاع حدة الصراع المستتر بين نائب رئيس الجمهورية من جهة ومساعد الرئيس ونائبه لشئون الحزب في الجهة المقابلة، وان كان بعض أصحاب المصلحة يحاول تجيير الصراع بحسبانه صراعا قبليا (جعليين ضد شايقية)، أصبح كل طرف يترصد للآخر في غياب تام لدور شخص مركزي يشكل مرجعية فوق الصراع تردع الكبار عن الانزلاق في هذه الصغائر الذين ينساقون وفق الاجندة التي تضعها سكرتارياتهم التي تزودهم بالمعلومات المغلوطة وفق اجندتها هي، في وقت كانت البلاد فيه تتجه نحو الانقسام، والكل يحتاج لكل قطرة دم وعرق لمعركة الانفصال وما يتولد عنها، في نهاية شهر مارس 2011 وقعت حادثة في سلاح المدرعات بالشجرة (10) وقد كانت مزلزلة ولكن مطالب الضباط كانت محصورة في اصلاحات مطلوبة داخل الجيش، قام ضابط من السلاح مدفوع من عناصر في الامن (اعترف الضابط لاحقا تلقيه اموال ووعد بالنقل من عنصر في الامن وآخر يشغل وظيفة مهمة في مكتب الرئيس) قام هذا الضابط بالاتصال بالمهندس صلاح عبد الله مستشار الامن القومي الذي دفعه الفضول لمعرفة تفاصيل ما جرى خاصة ان المذكور كان الضابط المناوب تلك الليلة وكانت الحادثة شائعة على لسان العامة في الطرقات بل وتسربت عبر بعض المواقع الاسفيرية، تكررت زيارات الضابط –بالاتفاق مع جهاز الأمن ليرصده- إلى مكتب مستشار الامن والذي قابل الامر ببرود بعد عدة ايام جيء بالضابط في مبنى استخبارات الجيش وقيل انه "شاهد موثوق" وأن المستشار طلب منه تجنيد ضباط آخرين للقيام بانقلاب، كان الامر يدعو للرثاء، فصلاح كما هو معروف عنه أذكى من يُستدرج بهذه الطريقة الساذجة، انكي من ذلك قام الثلاثي الذي اصبح يتحكم في قيادة الدولة والحزب (الاول يخدم في مكتب الرئيس والثاني في مكتب د.نافع والثالث في جهاز الامن) بحملة ترويج وبث للشائعات مستخدمين المال وغطاء السلطة الذي يوفره صمت الكبار الذين يبدو ان اللعبة قد راقت لبعضهم، بالاضافة الى البحث عن بالونة تنفيس لاجواء الاحباط والسخط التي باتت تسيطر على عضوية الحزب وعامة المواطنين جراء الازمة الاقتصادية الطاحنة التي بدت تشد خناق البلاد بعد توقف النفط جراء الانفصال ،و تدهور سعر العملة بطريقة مريعة، فبدت صورة المهندس قوش يُروج لها كبعبع مخيف يريد أن يتآمر على البلاد، وبعد ان بلغ الامر حدا لا يطاق ذهب مستشار الامن للقاء الرئيس بمنزله ليصارحه في الامر ويطرح عليه الازمة التي يريد صغار الموظفين – بممالأة الكبار- الزج به فيها، وطبقاً لرواية المقربين له فقد وجد الرئيس على يقين كامل لا يحتمل حتى النقاش من أن هناك مؤامرة كبرى على وشك الوقوع وأنه أي صلاح الرأس المدبر لها وأن قبيلتهم في الاصل ذات عقلية تآمرية وهو نفسه – أي الرئيس – قد انتفع من هذا الامر من قبل وذكر له رواية مؤتمر مجلس الشورى التي جرى ترشيح البشير فيها للرئاسة عوضا عن حسن الترابي كما كان متوقعا، كان الامر اشبه بدراما اغريقية او غرس سكين الميتادور، فمدير الامن السابق كان من أشد المخلصين للنظام وصل به الامر انه وضع شقيقه الأكبر في السجن لمدة عامين –يُدعى عبد العظيم بسبب ورود اسمه ضمن خلية شيوعية من بورتسودان موطن إقامة الاسرة- لذلك لم يكن يتوقع هذه النهاية في علاقته بالرئيس، استهجن الرجل الامر الذي وجد نفسه في وضع الضحية او كبش فداء-scapegoat- وسط صراعات الكبار، وبحسب الرواية فقد بادر بسؤال البشير برثاء ( أعمل معك بطريقة مباشرة منذ اكثر من عشر سنوات ولا تعلم اني انتسب الى قبيلة العبدلاب وان جدي هاجر الى الشمالية فقط في فترة المهدية ولم أكن ارى اهمية لذكر الامر من قبل)، نقل مستشار الامن لرئيسه الوضع السئ في الجيش والسخط العام وسط ضباطه من وزير الدفاع – في ذلك الاسبوع "الثالث من شهر ابريل" تحطمت أربع مروحيات للجيش لم ينج منها حتى الأطقم العاملة فيه، وقد كانت جميعها ناتجة عن ضعف التشغيل وقلة خبرة الطاقم كما ثبت في التحقيق- كانت إجابة البشير مدعاة للتعجب حيث قال (إن عبد الرحيم من افضل الناس وإنه يحبك – أي صلاح- ولا يذكرك إلا بالخير!! فلماذا الوشاية به؟) كان الأمر مدهشاً للغاية، شخص يتحدث عن مؤسسة مرتبط بها مصير الوطن وكيفية ادارتها، والآخر يتحدث عن العلاقات الشخصية، الا انها تكشف عن حالة فقدان الترابط والتفسير الشخصي بين رئيس ومستشاره، في نهاية اللقاء قال البشير سأبلغك بردى على مقترحاتك عن إصلاح الحزب والدولة والجيش التي ذكرتها بعد اسبوعين. وبعد خمسة ايام دعي صلاح لاجتماع في منزل الرئيس وسلمه الأخير خطاب الاقالة وقال له هذا ردي لك ولمن هم وراءك وكانت – الكاف – ابلغ من الاستفهام عنها.
    أزمة فكر القيادة:
    بعد إقالة صلاح عبد الله الذي كان يعتبر ابرز المخلصين للرئيس في السابق اصبح الطريق داخل القيادة سالكا من مسار واحد .وصار الامر اشبه بقاعدة بوش "من ليس معنا فهو ضدنا" الا انها جعلت الامر داخل التكوين القيادي أشبه بلا توازن أو فرامل. الجميع يتسابقون لارضاء الرئيس وكسب وده، فبعدها بأيام وفي مخاطبته لمجلس الشورى العام قال البشير إن من يريد أن يخرج على "الحزب وقيادته" فإن مصيره سيكون الحسم الفوري، بعدها باقل من شهر (في مطلع يوليو) اجتمع المكتب القيادي للحزب وقدم د.نافع ما قال انها مسودة اتفاق وقع في اديس ابابا بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال تحالفت ضدها قوى من ابعد ما يكون الاتفاق في ما بينها (الطيب مصطفي وعلي عثمان، وعبد الرحيم حسين) الا انها وحدت مواقفها في مواجهة الاتفاق ومن جاء به، وقام المكتب القيادي برفض الاتفاق وجرت حملة اعلامية قوية للترويج لهذا الرفض دون تسبيب موضوعي لهذا الرفض وهو ما اثبتته الايام. فالذي توصل اليه إدريس عبد القادر في مطلع ابريل الماضي –اتفاق الحريات الاربع- كان اصعب من هذا بكثير وبكل المقاييس، أصبح اتفاق د.نافع مثل اليتيم حتى من وقعه احجم عن الدفاع عنه. بعدها بأيام وفي 31 من الشهر نفسه قال نائب الرئيس علي عثمان وهو يخاطب المواطنين في ولاية الجزيرة وأراد لصوته ان يذهب الى من هم أبعد من الحضور( إن كل من يحاول الخروج على الرئيس سنواسيه بسيوفنا) وكان نصل الكلمات احد من السيوف على عضوية الحزب التي كانت تبتغي الاصلاح أو تنادي به ووجدت نفسها تعاود التوهان في مفازة سرابها كان يحسب ماء. أصبح بعد ذلك الطريق الى البشير مثل قضبان السكك الحديدية لا نزول فيه لراكب اختياري بل الصبر والانتظار للمحطة القادمة والتلهي بالحق والباطل لدفع قيمة هذه التوصلة. ففي افطار رمضاني يوم 13 أغسطس بولاية نهر النيل قال د. نافع ان من يحاول ان يخرج على وحدة الصف فان "مصيره الهلاك" بعد أربعة أيام (17 أغسطس)كتب اسحاق احمد فضل الله في عموده بالصحف اليومية " أن ضباط الجيش في حالة غليان من الأوضاع السياسية والاقتصادية وأن الحال أشبه ما يكون الدعوة الى انقلاب وافاد بان الرئيس وعبد الرحيم حسين قد اجتمعا بالضباط ويعملان على تهدئتهم، وذلك عين ما حذر منه مستشار الامن المقال قبل أقل من ستين يوماً. بعدها بثلاثة اشهر "في ديسمبر " الطيب مصطفي – خال الرئيس – يكتب مطالبا القوات المسلحة باستلام الحكم وتوحيد الشعب ضد الجنوب بعد الهوان الذي تضعنا فيه الحكومة قبل ان يعود ويعتذر عما كتب ربما بضغوط اسرية لا دوافع وطنية. قبلها كان الشيخ المخضرم ابوزيد محمد حمزة الزعيم التاريخي لجماعة انصار السنة المحمدية وعلى إثر اندلاع القتال في جبال النوبة وجنوب النيل الازرق يقول في مطلع ديسمبر 2011م في خطبة الجمعة بمسجد الثورة الحارة الاولى (إن الذي يحدث على حدودنا الجنوبية "خطير خطير" ونحن نطالب القوات المسلحة باستلام السلطة حتى تكون هناك قيادة يثق الناس بها ويقاتلون من خلفها لان المستهدف الآن بالتغيير ليست السلطة السياسية بل المجتمع والاسلام في جذوره) ولعل ما ادركه الداعية شيخ ابو زيد بسريرته النقية فشل في التعرف عليه دهاقنة السياسة المتحكمون في الخرطوم.وقد كان مشهده مؤثرا وهو شيخ يخطو نحو الثمانين ويطوف على جرحى العمليات بالسلاح الطبي يضمد أوجاعهم، والآخرون مدّعو البطولة يرفلون مع ربات الخدور في المنازل وداعي الواجب ينادي في هجليج في ابريل المنصرم لايحسنون غير الطواف مع الرئيس او النائب والظهور على وسائل الإعلام، هذه الوقائع منشورة وموثقة في (الرأي العام).
    أوتقراطية منتظمة:
    بعد كل ما ذهبنا اليه لا بد من وقفات في سيرة بعض مكونات القيادة بطريقة ذاتية، وهي بكل تأكيد ليست محاولة لرد السلوك السياسي لخصائص نفسية او شخصية ولكن محاولة لفهم قضية عامة عبر خطوط تماس معقدة فردية.
    يعتبر الرئيس البشير شخص سوداني بحق يتمتع بافضل ما لدى السودانيين من صفات في التعامل الاريحي مع مرؤوسيه بتواضع واحترام وله روح دعابة عالية يرسل الطرفة في الهواء كما يتنفس، ولقد وضعته تقاطعات الظروف في المكان الذي صار اليه دون تدبير منه، فأولا هو يجد نفسه متنازعا بين سلطة ربما يكون زاهدا فيها طوال الوقت انظر الي التعبير المغلف الذي كتبه احد مستشاريه السابقين (شخصية الرجل غير الميالة إلى حصر الأمور في يده لا تزال هي هي . ولذلك ربما يحسن بالمؤتمر الوطني العمل على تمتين مؤسسة الرئاسة) راجع امين حسن عمر مقال منشور بصحيفة (الرأي العام) يناير 2007م، فشخصية الرجل ابعد ما يكون عن الديكتاتورية حيث لا ينفرد بقرار لوحده بل يعمل على اشراك منظومة القيادة التي من حوله، وذلك مما يشهد له به حتى خصومه الألداء (راجع مقال للاستاذ عمر العمر بعنون ديكتاتورية بلا ديكتاتور في السودان)، ولكن غير قابل ليدفع الثمن المطلوب منه في القيادة وهو التركيز في تفاصيل العمل والمتابعة والمحاسبة، في ذات الوقت يجد نفسه مضطرا الى قبول هؤلاء الذين يزيلون عن كاهله هذا العبء ويقومون بالعمل انابة عنه، وهو يعلم انهم لن يفعلوا إلا بما يتوافق مع مخططاتهم من تعليماته، لذلك يعملون على احاطته باشخاص يُفضلون تزجية الاوقات بالتسلية الكلامية والعبارات المضحكة. ومن الأشياء التي تثير الجدل دائما خطبه العامة فهو لايكترث كثيرا لما يقول داخليا او خارجيا فمثلا خطابه في الساحة الخضراء عشية الانتصار الباهر للقوات المسلحة وتحرير هجليج وبتصريحه علانية بتبني اسقاط حكومة الجنوب ونقل الصراع مع جوبا إلى اقصاء أي من الطرفين قدم خدمة كبيرة للحركة الشعبية ودولة الجنوب التي يعاديها ويدعو لاسقاطها، فهذا التصريح قد قدم الامر على طبق من ذهب حيث أعاد الى الحركة التي يود إقتلاعها كل التعاطف الدولي الذي فقدته بتصرفها الاخرق في هجليج، أيضا بذلك التصريح نسف ليالي وأياما وساعات قضتها مؤسسته الدبلوماسية ساهرة في حركة دؤبة على مدار الساعة في كل العالم عبر سفاراتها وبعثاتها ووفودها المتصلة تكشف للعالم الجناية الكبرى التي قامت بها وكان ذلك حدثا باهرا نجح في كسر حالة التعاطف التي تجدها الحركة وحولتها الى جان بعد ان كانت تعيش لعقود طويلة في إهاب الضحية مما حمل علي كرتي وزير الخارجية ليقول في البرلمان في مايو ان التصريحات غير المُرشدة في الاعلام تضر بعمل الخارجية وتنسف جهودها دون ان يذكر الرئيس عينا. والامثلة كثيرة فيما لا يخفى على مراقب مثل حديثه في الفاشر الذي اعتمدته محكمة الجنايات الدولية عن الاسرى وغيرها، لم يتدبر الرئيس في قوله ما الذي سيفيد هتاف وحماس الشباب الذين يقفون امامه وتلك ميزة الحكمة التي جعلت الاربعين هي سن النبوة.
    لقد جرى تحديد وظيفي منذ فترة الترابي لمنهج إدارة الاجتماعات القيادية، بحيث صار الرئيس دوره ينحصر في ان يقوم بإدارة فوقية للإجتماعات وتوز يع فرص الحديث (Mr Speaker)، دون بلورة رأي او طرح مبادرة او الهام الحضور بافكار جديدة، وهو ما انعكس على السلوك القيادي في نهج بقية أجهزة الدولة الاخرى، فمثلا أصبحت الرؤية ان تولي الفريق هاشم إدارة الشرطة وبالتالي البشير مسؤول عن هاشم وليس مسؤولا عن الشرطة، بمعنى إذا وقع خلل أو تقصير في جهاز الشرطة فهي مسئولية هاشم وحده، وهذا قطعا غير صحيح وغير منسجم مع كل مدارس الادارة في كل العصور لان المسئولية تضامنية مشتركة فالبشير مسئول عن هاشم ومسئول عن الشرطة ايضا، وفي ذات الوقت لو ارتكب شرطي خطأ فهي مسئولية هاشم امام البشير، ومسئولية البشير امام الشعب وهكذا.
    الأمر الآخر الذي يجب التنبه اليه وقراءته جيداً، هو جدول أعمال رئيس الجمهورية او برنامجه اليومي الذي يلاحظ امتلاؤه بالفقرات الاجتماعية والزيارات والمناسبات المستمرة، حيث يعتقد بعض المراقبين بطريقة جازمة بانه كانت هناك خطة متعمدة لإشغال الرئيس وضعت فى فترة الترابي لإلهائه بالامور الاجتماعية، وجعله بذلك لا يجد الزمن المناسب لمراجعة تقارير الدولة، ومن ثم المحاسبة والمساءلة، وبالتالي يقوم آخرون بذلك نيابة عنه، ومن ثم اصبح دائم الاعتماد على هؤلاء، لا يبصر الا بعيونهم، ولا يسمع الا بآذانهم كما ذكرنا، حتى اصبح في نهاية الامر كل شئ وفق رؤاهم وتطلعاتهم، فصار لا يقوى أحد على الخروج من النسق الذي يختطونه له، صادفت فترة منتصف التسعينات اشتداد العمليات الحربية في الجنوب، ومن ثم طرحت مسألة زيارة اسر الشهداء وجرحى العمليات، وبالتالي المساهمة في قضية الساعة - وقتها- وهي التعبئة العامة، وكان ذلك مما يمكن تبريره وقبوله بسهولة. إلى أن وصل بهؤلاء الأمر ان قاموا بتسجيل الرئيس – وهو رئيس دولة- في إحدى الجامعات، ليقوم بتحضير رسالة ماجستير عن الثقافة الاسلامية، يذهب عدة مرات في الأسبوع الى الكلية المعنية لتلقي المحاضرات وكذلك لمراجعة الدروس، و كانت تلك واحدة من محن السياسة في فترة الانقاذ.
    البشير والجيش:
    بعد سنة وبضعة أشهر يكمل المشير البشير خمسين عاما في الخدمة العسكرية قضى نحو ربع قرن منها قائداً عاماً للجيش وهي اطول فترة خدمة لضابط أو قائد عام في تاريخ الجيش السوداني على الاطلاق - وربما في جيوش المنطقة المحيطة بنا كذلك – وتقتضي الامانة أن نذكر ان الرجل في ذاته يكن حبا ووفاءً للقوات المسلحة لا حدود لهما، ويشعر بكبرياء شديد تجاه من يمسها او يتعرض اليها ولو بكلمة، ومع ذلك هو بالحساب المتجرد تجد أنه المسئول الأول وربما الاوحد الذي شهد عهده اكبر تراجع في أداء هذه المؤسسة ما جعلها عرضة للتساؤل عن فاعلية المهام التي تناط بها وهي تتحمل بلاوي غيرها – من فشل السياسة وسوء الحكم، فعند فشل الدبلوماسية يزج بالجيش في حرب مع الدول كما في هجليج، وعندما تفشل ادارة الدولة للتنوع الثقافي او العرقي يزج بالجيش لقتال مواطنيه كما في دارفور- يمكن الجزم أن هذا وقع دون قصد مقصود ولكنه نتج عن سوء إدارة وضعف قيادة من تولوا الامور الفنية فيها مثل هيئة الاركان او القيادة العامة أو غيرها من اجهزة المؤسسة القيادية، وفي الحقيقة لو اجريت دراسه متعمقة لاوضاع القوات المسلحة من حيث أفرادها والمنتسبين إليها من حيث الكفاية المهنية أوالفاعلية الوظيفية ، لوجد ان العهد الحالي من أشد الفترات بؤسا في العهود التي مرت على هذه المؤسسة العريقة والحيوية في البلاد. وكما ذكرنا لم يحدث ذلك نتيجة لغرض أو هوى منهم بل العكس تماما ربما كانوا من الاخلاص والتجرد دافعا ملازما لهم ولكن ضعف الملكات القيادية وتراجع الكفاءة لصالح الولاء وتردي الخدمات مما أنتجت سوء الادارة والاهمال، وترك القائد العام الامر للآخرين دون محاسبة او متابعة كافية بل يكتفي في بعض الاحيان بقراءة الملخصات التي يعدونها له وبالتوقيع على المراسيم والفرمانات التي تذبح رجالا وتطيح بأمم. كانت نتيجة ذلك ترد في الاوضاع المعيشية لضباط وجنود الجيش السوداني تراجعت الى مدى مريع وانحدرت الى درك سحيق وقد أشرنا الى ذلك بالتفصيل في فصل خاص به.
    البشير والحركة الاسلامية
    النقطة المركزية في علاقة الحركة الاسلامية بالبشير هي الرابع من رمضان فبعد ذلك التاريخ انتهى عهد التحالف بين الحركة الاسلامية ممثلة في تكوينها المدني بقيادتها التاريخية (الترابي، علي عثمان)وشقها العسكري الذي تمحور خلف قيادة البشير، فبإستخدام العصا العسكرية أصبح الشق المدني في اضعف حالاته، فالجزء الأقوى والحامل لرداء الشرعية والذي تحلق حول الترابي تم ضربه حتى أصبح في حالة احتضار قبل ان يتشظى الى تكويناته القبلية والجهوية، والآخر الذي تبقى مع البشير أصبح يحتمي ويتقوى به، وبالتالي ليس في مقدورهم مناوئته أو مناصحته، وذلك ما أثبتته الايام و التجارب مثل الخلاف الذي نشأ بين نائبه ومستشار السلام حول منهجية ادارة ملف التفاوض مع الجنوب، وما جره ذلك من تنافس في انتخابات الحركة الاسلامية، أو الخلاف بين نائبه ود.نافع في شئون الحزب، فكان السمت الابرز لدوره في كل ذلك هو الحياد السلبي، بدعوى ان هذا صراع في مستوى دونه وبالتالي هو غير معني به. ويعفي نفسه من لعب اي دور مرجعي حين وقوع الخلاف.
    الرجل الثاني في الحركة والدولة:
    الوصف المشهور عن الاستاذ علي عثمان هو أنه شخصية توفيقية لا يحب الصراع والمواجهات، لذلك تجده يصلي الفجر مع جماعة انصار السنة والسلفيين ويدعو إلى مائدته للعشاء المتصوفة عقب صلاة العشاء ويجد السلوى في مدائحهم ومؤانستهم، أو على أقل تقدير يحاول تجنب الدخول في معارك مباشرة، وينتهج اسلوب إدارتها من خارج الميدان (كما وصفه تجاني عبد القادر في كتابه المشار اليه)،وهو يحب دائما ان يكون بعيدا عن المغامرات غير المحسوبة أو مضمونة النتائج ، ولديه طاقة تحويلية في فترة الأزمات المستعصية ليصير كتلة من النشاط والحركة الذاتية التي تولد عنده عقيدة راسخة انه يستطيع ان يحول الحديد بين يديه إلى ذهب موظِفا كل جهد سبقه الى رصيد في يده، كان الاستاذ محمد طه محمد أحمد يطلق عليه لقب (هداف الثواني الاخيرة) بمعنى اللاعب الذي يلج الى ميدان الملعب في الدقائق الاخيرة ويجد الكرة الى جانب مرمى الخصم فيسددها هدفا، وبما انه لا يحب الاضواء ولا يعمل في الضوضاء فإن ظهوره في الدقائق الاخيرة يجعل صورته اكثر رسوخا. كما أن لديه حذر دائم من أن الأقدار تضعه بين خيارات صعبة ومصيرية وفي بعض الاحيان مكلفة. فمثلا الصراع مع الترابي كان عليه ان يختار اما الانحياز بقلبه الى الترابي وفاء لتاريخه وعلاقته معه أو الى العسكريين ليحول دون وقوع فتنة كارثية، ليصبح عقلا ضابطا لهم يمنعهم من الانجراف الى الدم (التجربة الماثلة امامه دائما نموذج نميري في يوليو 1971م وتجربة السوريين في حماة)، ففي تحمله لأخطاء الآخرين ولو على كره دون محاسبتهم يكون قد رم الجرح على فساد، او على طريقة ابراهيم اللقاني صاحب الجوهرة:"ليس مجبورا، ولا اختيارا، وليس كل يفعل اختياره " (راجع حوار صحيفة الانتباهة مع د.علي الحاج مؤخرا، وحديثه عن عدم إجتماعات نائب الرئيس "الزبير" ووزير الخارجية ومدير جهاز الامن وابراهيم شمس الدين...الخ عن السلام وموقف الوزير من ذلك).
    الصراع مع الترابي خلف لديه أثقال تحميل الامور بأكثر مما تحتمل فصارت عقدة حجبته عن الصدح بالحق وبذل النصح في أوقات تكون القيادة فيه احوج ما تكون اليه من الطبطبة وتسكيّن الألم بدعاوى خشية الفتنة وذهاب الريح، حتى وان كانت الفتنة تكبر بالصمت عنها، ففي ذهابه بمشروع السلام مع جون قرنق الى الحد الذي مضى به وما ترتب عليه من إنفصال جنوب السودان بتلك الطريقة العدائية وما جرته من ويلات وتبعات في الاقتصاد والامن الحدودي في النيل الازرق وجبال النوبة او القضايا المعلقة مثل أبيي وغيرها، صارت خصما إستراتيجيا من رصيده السياسي وربما الشخصي ولاجيال قادمة ستتحمل هذا العبء، دون ان يقبض هو او الحزب او الوطن اي ثمن في المقابل، فحتى السلام الذي كان مؤملا في تلك الفترة بات اشبه بالسراب بعد مناكفة الشريك اللدود "الحركة الشعبية"، كذلك استمرار اشتعال الاوضاع في دارفور بطريقة لم يشهد لها مثيل ودور الشريك في ذلك.(راجع فصل السلام في هذا الكتاب). ولن يجدي معه مظاهر التشدد التي يحاول بعض مساعديه طرحها عنه الآن في الاعلام وتصويرها وتسويقها للرأي العام كرجل حسم مثل (Shoot to kill) وهو قاضي سابق ومحامي قديم لا يمكن ان يضع رجال الادارة في موضع القاضي والخصم.
    رصيد القيادة:
    أزمة القيادة والرؤية كما أشرنا اليها تتجلى في المنظومة القيادية وتركيبها وتراكم الاحداث الذي قاد الى الوضع الحالي، لقد أنتجت كل هذه السياسات مخلفات لا تطاق فأولا هشاشة التكوين القيادي والذي يظهر بصورة واضحة في القرارات التي تصدرها رئاسة الجمهورية ولا تجد طريقها الى التنفيذ، إن رئاسة الجمهورية تقف على قمة نظام رئاسي في بلاد تمر بأزمات عاصفة وأن إعادة الرؤية في تنظيم رئاسة الجمهورية التي هي اشبه بالمخ في الجسد وما يتبعه من اعصاب وخلايا وأنسجة دقيقة تتحرك بدقة فائقة وفاعلية شديدة تستدعي وجود شخصيات تمتاز بالأناة والتعقل والانسجام والمقبولية في السمت والتصرف،وحين تطلب تجاب، وعندما تأمر تطاع بما فيه مصلحة الوطن، ولا يجب ان يكون الدافع المحرك هو ثقافة البادية التي يمتهنها اهل السودان والتي تجعل الرعاة متساوين في المأكل والمنشأ وبالتالي لا يعرفون فضلا لبعضهم على بعض، من ذلك ان كل موظف في الدولة يعتقد انه شريك للرئيس – الاحساس بالشراكة في المسئولية والهم الوطني جيد ومطلوب ولكن قطعا ليس في سلطة اتخاذ القرار حيث يرى الموظف الجانب الذي يخصه ولا يراعي المؤسسات الاخرى وهذا دور الرئاسة كمؤسسة فاعلة- يروي الراحل السفير أحمد عبد الحليم القصة التالية(( بعد أن خف التوتر بين مصر والسودان بنهاية التسعينات، قبلت الحكومة السودانية إعادة عقارات مملوكة لمصر كانت قد صادرتها إبان التنازع. ويروي أنه رافق مسؤولاً مصرياً كبيراً وصل إلى الخرطوم للقاء الرئيس السوداني الذي أصدر توجيهات بتسليم العقارات المعنية فورا، وذهب ومعه المسؤول المصري للقاء مدير مؤسسة حكومية كانت تشغل بعض العقارات لتنفيذ التوجيه "الرئاسي". إلا أن الموظف المعني بدأ يتلكأ قبل ان يرفض تنفيذ الأمر. وعندما أبلغه وزيره المعني بأن هذه تعليمات الرئيس أجاب الموظف: إن للرئيس اجتهاده ولي اجتهادي! فتساءل المسؤول المصري مستغرباً: هل تعليمات الرئيس عندكم هنا تخضع لاجتهادات كل موظف؟) ولعل هذه القصة توضح بجلاء كيف ينظر بعض موظفي الدولة الى تعليمات رئيسهم الاعلى).
    أساس الملك والحكم
    (أرجو ان نعيد التأكيد على نقطة اننا نعني بكلمة القيادة المنظومة القيادية للحزب والدولة والحركة وليست شخص الرئيس او نائبه او مساعده، حتى وان نقلنا نصا محكما لأحدهم فهو للتعبير بمثال حي).
    الامر الآخر الغائب في تكوين القيادة هو صفة العدل خاصة بين مناصريها ناهيك عن بقية الشعب، فالذي يتابع مسيرة القيادة الحالية منذ تعاملها مع عثمان احمد حسن مرورا بخلاف محمود شريف مع عوض الجاز وصراع اسامة عبد الله مع د.مكاوي، وحتى الطريقة التي تمت بها ادارة ملف) سونا( مؤخرا وإقالة وزير الاعلام ووزيرة الدولة، يلاحظ ان القيادة لديها جوانب ترجيحية في قراراتها لا تتعلق بصفة العدل بل تغلب الجانب الشخصي، ففي مثل هذه القضايا يجب التعامل بالتساوي بين كل الاطراف المتنازعة والذي يقتضي ان تقف الدولة وقيادتها على مسافة متساوية من الخصماء ولا تغلب جانب احد بدافع تأثير العلاقة، والامثلة والشواهد كثيرة على هذا النمط من التعامل والذي اوشك ان يكون سياسة عامة او سمتا مميزا لهذه الحقبة من الزمن، كاد في بعض الاحيان يقضي على قضايا استراتيجية تمس الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد مثل الانحياز الى بعض المكونات القبلية في دارفور ضد خصومها والذي إنتهى إلى تفجير أزمة عالمية، ومثل تبني استراتيجية سياسية لحل مشكلة الجنوب بناء على الثقة الشخصية في فرد واحد، دون قراءة أوارق او مناقشة مختصين بل اسكات وقمع المعترضين بقوة الاجهزة الرسمية، هذا فيما يتعلق بالسياسات اما على صعيد الاشخاص فيمكن التدبر في الكيفية التي جرى بها ادارة ملف مستشار السلام الاسبق مكي علي بلايل حين اختلف مع وزير الدولة التابع له فتمت اقالة الاثنين اطيح بالأول الى خارج السلطة وجرى تعيين الثاني بعد ايام في منصب سياسي كبير، كذلك ما وقع من تلاحٍ بين د. نافع علي نافع والمهندس صلاح قوش كان انحياز الرئيس بدافع قبلي كما قالت بذلك الصحف وتداولته وسائل الإعلام المملوكة للسلطة (راجع كتابات الطيب مصطفي وكمال حسن بخيت وان كان الاخير كتب لينفي ابريل 2011م).وعلى غرار الطريقة التي حلت بها مستشارية مكي بلايل يتوقع ان تتطابق مع وزيرة الدولة بالاعلام التي راحت ضحية صراع متنفذين في السلطة وربما يجري تعيينها في منصب آخر حتى قبل طباعة هذا الكتاب!! الشئ ذاته يمكن قوله عن إخراج رجال امثال قطبي المهدي وحسن رزق والراحل عبد الله بدري وغيرهم من القائمة الطويلة التي لا تستسيغها بعض مكونات القيادة لجهرها برأي لا تحبه، ويواليها البشير بالصمت على ذلك فلا يُنصر ضعيفا من الذين يقاتلون خلفه ناهيك عن رعيته الأبعد، لا تنظر الرئاسة الى مثل هذه التصرفات و ما يمكن ان تجره من سلوك ارتدادي معاكس من غبن ومشاعر سالبة تجاه اناس ناصروها في يوم من الايام، وهذا يقود الى مناقشة المثلب الآخر لسلوك هذه القيادة وهو الوفاء.
    ذكاء العاطفة:
    الخلاف الذي جرى مع د. الترابي رغم خروج الأخير على كل القواعد المتعارف عليها في الصراع النظيف الا انه لا يبرر التعامل الامني والقمعي الذي تمت به ادارة الخلاف مع من هم دونه في الحزب من الذين شايعوه أو تعاطفوا معه، فمعظم الشباب الذين استهدفتهم الآلة الامنية للحكومة كانوا من الذين انخرطوا في يوم من الايام في معارك الشرف والكرامة ضد المتمردين في الجنوب او الشرق، ولم يكن من اللائق ان يجري التعامل معهم بهذه الطريقة الفجة والمهينة ،وهم الذين حملوا أرواحهم على اكفهم في يوم من الأيام بذات القناعات التي حملتهم على الاختلاف في الرأي مع القائمين على الامر، وكان أجدر بالوفاء والعرفان ان يُتبع في مثل هذه الحالات، أيضا التعميم الجائر دفع الالف من هؤلاء الى التعصب الاعمى كرد فعل لما شعروا به من غبن و جور ودعاهم الى تكرار قولة عبد الله ود سعد (من ما خِلقنا نسويها عوجة وعقب الله بعدلها) هذا العوج دفع بهؤلاء الى سلوك اسوأ الطرق بعد أن ادلهمت بهم السبل. فشاهدنا ما فعلوه من حرائق بديار اهلهم في دارفور، بل وبعضهم بالتصريح بقبول الذهاب الى اسرائيل إن هي دعته وقال بذلك على الملأ كناية عن ضيق وليس تلمسا لنصير هم ادرى الناس به، لا يمكن ان تكون القيادة بغير احساس تاريخي او انساني فلا تتدبر في عاقبة هذه الامور التي أوكتها بيدها فتعلل كل شئ بأنها عمالة وارتزاق وغيرهما من المبررات الرخوة، ولا تراجع نفسها ولو مرة واحدة وتتحمل مسئوليتها ولو بواحد في المائة مما يجري وتحجم عن منطق مسألة الاصابع اجنبية وغيرها من التفسيرات الفطيرة وغير المقنعة، ان الله عز وجل قد مدح النفس اللوامة التي تجهد نفسها في المراجعة واعادة التدبر والاعتراف بالخطأ ومن ثم العمل على ضمان عدم تكراره، مهما تقطعت بنا السبل. كيف ننظر الى حدث مثل مقتل خليل ابراهيم على انه قصاص رباني؟؟ ان خليلا اقد أشعل فتنة بين اهل القبلة الواحدة وهو مسئول عن هذا، وبلا شك ارتكب اخطاء قاتلة وتعدى على كل المحرمات والمحاذير وهو ليس بمعصوم، وأمثاله في التاريخ كثيرون، ولكن الحكومة نفسها اعترفت بأن لديه شيئًا من الحق – نقول شيئا من الحق- وبعثت له الرسل وعرضت عليه الوظائف ودخلت معه في تفاوض، فكيف كانت تسعى القيادة للشراكة مع من تعتقد ان عليه قصاص رباني ، في ذات الوقت الذي تترحم فيه علي جون قرنق !! ( راجع قول رئيس البرلمان في الجلسة التي اعقبت موت قرنق حيث قال) نسأل الله أن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء)لمراجعة نص الدعاء سمعته يقول "رحمه الله" استدعى هذا غضب الشيخ عبد الحي يوسف فعلق في خطبة الجمعة اغسطس 2005م ما هذا الهراء الذي نسمع اين الوفاء للشهداء.
    قيادة ردود الأفعال:
    إن الصفحات المؤلمة التي قلبناها سابقا يجب أن لا تحجبنا عن قول الحق في الصفات الحميدة والمكاسب الكبيرة التي حققتها القيادة الحالية ولكنها حين تضع مستقبل البلاد والحزب في كفة ومصيرها هي في كفة اخرى معتمدة على ملخصات سكرتاريتهم وخلصائهم الذين لا يرون الى ما خلف خط الافق، يتدرعون بهم في السلطة ويتحامون بهم عن الطريق القويم، لا نجد لأنفسنا عذرا عن الجهر بالحق والقول بما نؤمن دون تلجلج ومما نؤمن به وتؤكده الايام وما اقتبسناها من سيرتها في الصفحات السابقة أن القيادة الحالية هي على هذا المنوال لا يمكن بأي حال من الاحوال ان تكون هذه قيادة انتقال نحو تطور ديمقراطي، أو أن تبادر إلى إصلاح سياسي، فالحزب ظل منذ أكثر من عشرة أعوام لا يطرح أية مبادرات، بل يعيش يستلف أردية الآخرين الفكرية والسياسية (تطلق قاعدة الحزب بتهكم وصف هذا النمط من ممارسة السياسية بـ "سياسة رزق اليوم باليوم" كناية عن تعامل الدولة والحزب مع القضايا بأسلوب ردود الأفعال) ليصبح الحزب عالة على هؤلاء الذين يبادرون فيبيعونه بضاعة مزجاة قد تكون صالحة للترويج السياسي في الخمسينات او الستينات من القرن الماضي، ولكنها قطعا لن تجدي او تفيد في بلاد تعيش في عصر الديجتال والشرائح السيلكونية من القرن الحادي والعشرين.
    إن قيادة تقضي سحابة يومها رهينة للسكرتارية التي تتحكم فيها من خلال رفدها بمعلومات تتوافق ومصالحها الذاتية وتقييدها ببرامج ومقابلات استهلاكية تجعلها تدور في محور حلزوني متصل لا ينقطع فلا تجد الوقت المناسب للتفكير في القضايا الاستراتيجية او البعيدة المدى، وتلاحظ ذلك من طريقة التحدث تجد القيادة تخاطب الرأي العام وكأنها محلل سياسي وليس شخصا مسئولا ينهي ويأمر، بل تسمع تصريحات من قبيل "طالب" النائب الاول بكذا أو "انتقد" الرئيس كذا وكأنه معلق رياضي وليس رئيساً مسئولاً يسمع ويطاع أو يأمر فينفذ له. ولعل تلك من أبسط سمات القيادة من الأمر والطاعة. وما ستتبعه من تحمل المسئولية فحديث الرئيس في مجلس شورى الحركة الاسلامية الأخير وإنتقاده لعضوية الحركة وقوله إنهم افسدتهم السياسة والسلطة، ناسياً أنه هو المسؤول الأول عنهم، وبالتالي عن فسادهم وكل تصرفاتهم التي اجترحوها، فلو كانت شيمة اهل البيت الرقص في ظل وجود رب الدار فلا غنى عن القول إنه إن لم يكن قارعا للطبل فهو مقر للفعل على أقل تقدير.

    • كانت الجبهة الاسلامية قد قامت بخطوات متقدمة تخطب بها وُد القوات المسلحة فقد سيرت عقب الانتفاضة موكب أمان السودان، وأردفته بدعوات متكررة لحملات نصرة القوات المسلحة أبرزها تبرع نواب الجبهة في الجمعية التأسيسية بسياراتهم لصالح دعم الجيش وسلموها للقيادة العامة، واتسم خطابها بالعداء الشديد لحركة التمرد (قرنق) وكانت تقوم بتجريم اليسار الذي يصف قرنق بالمناضل وتسميهم الطابور الخامس، وقد نظمت القيادة العامة للجيش إجتماعات رسمية وزيارات لزعيم المعارضة لجبهات القتال في جنوب النيل الازرق ومناطق العمليات الاخرى، في مبادرة فريدة في تاريخ السودان. وكان لذلك اعظم الاثر في نفوس القوات راجع السر احمد سعيد، السيف والطغاة ص 148.
    • ذكر الترابي في مؤتمر صحفي يوم 14/12/1999م -بعد الرابع من رمضان - هذا النص )قلت له اذهب الى القصر رئيسا وذهبت أنا الى السجن حبيسا) ويرى الأستاذ محمد طه محمد احمد أنها كانت مغامرة للبشير ربما يدفع حياته ثمناً لها لأن الطريق إلى القصر لم يكن سالكا بهذه السهولة في حين ان الترابي أمّن نفسه ما لو ان الانقلاب فشل او انكشف امره فلديه تبرير واضح انه كان في السجن وربما يقول ان الجيل الثاني في الحركة هو من دبرها، راجع صحيفة الوفاق ديسمبر 1999.
    • وقع الاختيار على الدكتور غازي العتباني ليكون سكرتيرا لهذا المكتب وليس عضوا فيه.
    • راجع كتاب د.تيجاني عبد القادر نزاع الاسلاميين في السودان.فصل دحرجة العسكريين الاسلاميين.
    • بعد أحداث الرابع من رمضان ذهب البشير وكقائد عام في طواف على الوحدات العسكرية ليقوم بشرح القرارات الاخيرة التي اتخذها وعندما اتاح الفرصة للأسئلة في اللقاء الذي كان طابعه تعبويا، قام أحد الجنود وقال بصورة مستثارة (بعد كده مافيش دقون) وأشار بيده الى نحره في اشارة الى الذبح.
    • راجع كتابي: التجاني عبد القادر نزاعات الاسلاميين في السودان، والاسلاميون فتنة السلطة لـ د.عبد الرحيم عمر محي الدين حيث نقل الاخير رواية يس عمر الامام عن ترشيح الترابي لنفسه.
    • يشكك البعض في نتيجة تلك الانتخابات، ولكن لو صحت واقعة التلاعب بالنتيجة فانها قطعا تحسب على من أمر بها أو شارك فيها وأقرها ولو بالصمت (على السواء: البشير، الترابي، غازي)باعتبارهم كانوا من الحاضرين ولم يأمروا بإعادتها أو بمحاسبة المتواطئين فيها وتعاملوا على اساسها وكأن شيئا لم يقع. وان كانت الواقعة تكشف الكثير من التمحور القبلي والجهوي الذي بادره المجموعة التي حول الترابي بطريقة تقارب الخيانة، ولم تكن الحركة الاسلامية تعرفه من قبل.
    • في الاصل كان مرشح هذا التيار لشغل مسئولية الامين العام هو د.عوض الجاز وهو شخصية صفوية لا تتمتع بحضور جماهيري ومن ثمّ جرى تغييره إلى ترشيح النائب الاول علي عثمان، نقل بعض الحضور ان الرئيس سيقوم بنفسه بترشيح علي عثمان، فما كان من احد الشباب المتحمسين إلا ان سارع للبروفيسور عبد الرحيم علي رئيس الجلسة أن يثني الرئيس، وإلا فإنهم سيحرجونه بأن يطلبوا منه إقالة نائبه الاول الآن، لأنهم يريدون أميناً عاماً متفرغاً، أو سيتقدمون بمرشح آخر مما سيضاعف الإحراج، ويبدو ان عبد الرحيم علي نقلها بطريقته التوفيقية الهادئة للرئيس، الذي عدل عن مسعاه.
    • بحسب افادة مساعد المستشار القانوني للرئيس فقد بعث مكتب الرئيس في وقت باكر ورقة مكتوب عليها بالقلم الاسود بخط يد الرئيس النص التالي "يرفت صلاح عبد الله الشهير بقوش من منصبه ويعين نائبه محله الى حين صدور امر آخر" ولاحقا جرى تعديلها الى مستشار رئيس واضاف صلاح "مستشار أمن" من عنده ولم تصدر في القرار الرسمي. يمكن ملاحظة اللهجة العسكرية في كتابة الرئيس مما يدل على الغضب الشديد وهو بلا شك لم يكن غضبا لانتهاك حرمات الله في دارفور او جنوب السودان.
    • راجع فصل القوات المسلحة تجد هذه الواقعة بالتفصيل.
                  

04-10-2013, 07:26 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الإصلاح السياسي/ الفصل الثاني
    السلام والرهان علي الكرت الخاسر
    تعتبر قضية جنوب السودان من أخطر القضايا التي اثرت في مسيرة العمل السياسي لكل الحكومات المتعاقبة في تاريخ البلاد منذ الاستقلال كما هو معروف. لذلك كانت الحركة الاسلامية تتطلع الى هذه القضية من منظور مختلف عبرت عنه في ميثاق الجبهة الاسلامية، كما انها عمدت على ان تكون لها أذرع تنفيذية تعمل على التفاعل مع المجتمع الجنوبي من خلالها، حيث جرى استقطاب الكثير من القيادات الجنوبية حتى غير المسلمة، مستفيدين من تجارب التحالفات السابقة التي مثلت "جبهة القوى الجديدة" في حقبة الستينات نموذج لها التي كانت تضم جناح الحركة الاسلامية السياسي المتمثل في "جبهة الميثاق الاسلامي" وحزب الأمة جناح صادق المهدي والزعيم الجنوبي الراحل وليم دينق ممثل حزب سانو الجنوبي. بعد المصالحة مع نظام مايو ووفق الإستراتيجية العشرية التي تبنتها الحركة الاسلامية (1) جرى التركيز على الدخول الى المجتمع الجنوبي بخطى متزامنة، الأولى استقطاب قيادات خاصة الشبابية والطلابية، والثانية من خلال العمل الاغاثي والطوعي (منظمة الدعوة الاسلامية، الوكالة الافريقية الإسلامية للإغاثة، لجنة مسلمي افريقيا ،..الخ(والعمل على زيادة الصف الحركي مع الاشراف على وسائل العمل من خلال مكاتب هيكلية مقامة في المناطق النائية وليست القوافل التجوالية المؤقتة التي تروح وتغدو.
    أثمرت نتيجة هذا العمل فوز الجبهة الإسلامية بعدد من الدوائر الجغرافية في الجنوب والجزء الأغلب من دوائر الخريجين في انتخابات العام 1986م، حيث بدأ العمل مبشرا وواعدا، فتم تفريغ د.علي الحاج الأمين السياسي للجبهة الاسلامية للعمل في ملف الجنوب والتواصل مع مكوناته الإجتماعية، باعتبارها واحدة من أهم الملفات السياسية والقضايا الحيوية التي تثير جدلا في الساحة الوطنية. كانت رؤية الجبهة الاسلامية للقضية تتلخص في ثلاثة محاور :
    اولا: العداء المطلق لحركة التمرد (الحركة الشعبية التي يقودها جون قرنق) باعتبارها حركة ماركسية كما اعلنت، تُريد تغيير هوية السودان وتعمل على استئصال الثقافة العربية والاسلامية. وتستتبع هذه الخطوة تقديم المساندة والدعم للقوات المسلحة بتمكينها من الوسائل والمعدات التي تجعلها تعيد التوازن في الميدان وتقدر على كسب الحرب، وبإسنادها معنويا وإعلاميا (2).
    ثانيا: العمل علي تمييز الأغلبية الوطنية الصامتة في الجنوب عن مناصري الحركة وحثها علي أداء دور وطني ايجابي لصالح الوحدة الوطنية، ويترتب علي ذلك التعامل مع المجتمع الجنوبي مباشرة دون اعتبار وكلاء محليين (بمعني العمل علي استقطاب شباب وبناء قاعدة عضوية للحزب فيه)، ويبقى التركيز على الخط الإستراتيجي في العمل علي نشر الإسلام من خلال الواجهات والمنظمات الدعوية والخيرية.
    ثالثا: توظيف الموردين أعلاه للعمل السياسي في المركز بمعني محاصرة نصراء الحركة الشعبية في الخرطوم الذين كان يغلب عليهم الصبغة اليسارية.
    وكان الاختراق السياسي الوحيد الذي حققه د.علي الحاج في هذا الملف في تلك الفترة هو نجاحه في لقاء ممثلين للحركة الشعبية (التقي د.لام اكول مسئول الاغاثة والعمل الخارجي في الحركة) علي هامش ندوة في مدينة بيرجن بالنرويج في فبراير 1989م. في ذات الوقت الذي كان فيه مبارك قسم الله زايد وفضل السيد أبو قصيصة وعبد السلام سليمان واحمد الرضي جابر ومئات من خلفهم يعلمون في صمت وخفاء وفق الاستراتيجية التي ذكرناها.
    بعد الانقلاب :
    بعد التغيير بدأ ملف السلام يتخذ أولوية أكثر صعودا، وظل د.علي الحاج وبتشجيع كامل من القيادة (بالاخص د. الترابي) يتحرك بقوة، وان كان الواجهة الرسمية الفاعلة تمثلت في تعيين العقيد محمد الامين خليفة مسؤولا رسميا عن ملف السلام كوجه عسكري مقبول ومتحدث لبق، لكن بقي الشخص الذي يمتلك كل مفاتيح الملف هو د.علي الحاج.
    بدأ النظام يكشف رويدا عن توجهه الفكري وبدأت حركة قرنق تتصلب في مواقفها وتشدد في مطالبها، لكن الوقت بدأ في تلك الفترة تجري رياحه بما لا تشتهيه سفنها، فقد وقعت ثلاثة تطورات دراماتيكية كبيرة و مترابطة قاد كل منها للآخر أو ساهم فيه، وكان لها أثر كبير على مجمل مسار القضية، تمثل التطور الأول في التغيرات العسكرية الكبرى التي حدثت في أثيوبيا بسقوط الحليف الإستراتيجي لقرنق وهو منقستو هايلي ماريام وإنهيار نظام الدرك الماركسي فيها، وبالتالي تلقت الحركة ضربة قاصمة بفقدان نصير إقليمي قوي كان يوفر قواعد خلفية وسند لوجستي وغيرها من ضرورات القتال والعمل السياسي، التطور الثاني كان هو التقدم الهائل للقوات المسلحة بكافة المحاور في ميادين القتال المختلفة وكسر شوكة الحركة، وإعادة زمام المبادرة إلى يد الدولة في مسارح العمليات الحربية المختلفة، التطور الثالث والأخير تجسد في الإنشقاق السياسي والعسكري الكبير الذي وقع في صفوف الحركة بخروج أبناء أعالي النيل والإستوائية منها، (رياك مشار، لام اكول، كاربينو كوانين، وليم نون، أروك طون.. الخ)، أو خروج النوير على الدينكا و تبعتهم قوميات أخرى كبيرة ومؤثرة في مجتمع الحركة المناصر لها. النتيجة النهائية وكإمتداد لما ذكرنا في الفصول السابقة، فقد عجزت السياسة عن ترجمة وتوظيف هذه التطورات الكبيرة والهامة في خدمة تقدم إستراتيجي لحسم القضية سلما او حربا، بل تركت الامر معلقاً كشأن كل القضايا الاخرى في انتظار بروز عوامل ضغط للتغير من أولوياتها ( لاحظ حديث د.علي الحاج في الحوار الصحفي الذي نشرته الإنتباهة مطلع يونيو عن الإنقسام وتشتت الرأي في القيادة السياسية تجاه عملية السلام).
    على صعيد الحرب كان الجيش يعمل على أمل ان السلام وفق رؤية القيادة الجديدة، التي كانت خالية الوفاض من أية رؤية متكاملة، ويؤكد ذلك وقوع امرين يكشفان بطريقة جلية غياب الرؤية الواضحة للحل في مخيلة القيادتين السياسية والتنفيذية للحركة والدولة (بشقيها المدني والعسكري) في تلك الفترة، الأول في إجتماع عقد في مدينة فرانكفورت بألمانيا في يناير 1993م حيث جمع لقاء بين د. علي الحاج مسؤول الملف و د.لام اكول اجاوين القائد في حركة إستقلال جنوب السودان، التي كانت تحالفا يضمه مع د.رياك مشار بعد إنسلاخهم من الحركة الشعبية التي يقودها قرنق، تضمن الإجتماع طرح مسألة تقرير المصير، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتسلل فيها هذا المصطلح إلى قاموس السياسة السودانية، عند عودة د. علي الحاج إلى الخرطوم، وفي إجتماع مشترك للقيادة (جرى في منزل د.الترابي) وفي رد على سؤال عن مدى التفويض الذي ناله ليقدم مثل هذا المقترح لممثل الجنوب في اللقاء، أجاب د.علي الحاج انه تحادث مع د. الترابي "عبر الهاتف" وأنه نال مباركته على هذا الامر- يكشف هذا بجلاء كيف أن قضية محورية لا تمس السودان فحسب بل تتجاوزه إلى القارة الإفريقية جمعاء يجري تفويض شخص فيها عبر إتصال هاتفي مع آخر، بغض النظر عن الثقل الذي يمثلانه- شبّه أحد الحضور الأمر بأنه وكأنه "منزل يريدان بيعه أو إيجاره" وليس وطناً يعيش عليه ملايين من البشر.
    الأمر الثانى كان المقترح الذي قدمه الرئيس البشير في إجتماع لدول الإيقاد جرى في كينيا في عام 1993 بطلب للتوسط لحل أزمة جنوب السودان، فما كان من قادة المنظمة التي يمثلها رؤساء الدول المجتمعين إلا أن صمموا ما أسموه إعلان المبادئ (Declaration Of Principles) أو ما أصطلح على تسميته بـ(DOP) والذي بُني على إختيار أيّ من طريقين وضعا كشفرتي المقص، الأول دولة سودانية موحدة، ولكنها علمانية يُعزل الدين عن السياسة فيها تماما، والثانية تصور عام لنظام كونفدرالية يربط بين دولتين واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب، قبول المقترح بهذه الطريقة جعل الأمر وكأنه إما انتحار سياسي بقبول فصل الدين عن الدولة، في ظل قيادة ترى أن مشروعية بقائها في الحكم مرتبطة بتثبيت الشريعة الإسلامية كنظام للحكم، فمعروف أن الشريعة الإسلامية هي جوهر دعوة التحالف الذي جاء بالإنقاذ إلى سُدة الحكم، وقبول ذلك يعني القضاء على المشروعية الأخلاقية للقيادة الموجودة، على الأقل أمام أنصارها، والثاني ذبح للوطن بقبول مبدأ الكونفدرالية كأساس للعلاقة بين الدولة المركزية وإقليم تابع لها، مما يعني التسليم والقبول ضمنيا بإنفصال الجنوب، بعد كل الانتصارات العسكرية التي تحققت وشلالات الدماء التي سالت والتضحيات الجسيمة التي وقعت.
    هذا في ظاهر الأمر في الخفاء وخلف الكواليس كان هناك صراع من نوع غريب، الأول بين نائب الامين العام (وزير التخطيط الاجتماعي وقتها) الأستاذ علي عثمان محمد طه، والثاني بين د.علي الحاج محمد مسؤول ملف الجنوب (مسؤول بيت التمويل والإستثمار- بدرجة وزير مركزي وقتها)، الأول أقرب الى خط العسكريين والثاني أقرب إلى د.الترابي، كان بين الشخصين منافسة غير مرئية ولكن تبلورت في إستراتيجية كل منهما ورؤيته للحل، فالأول يرى أن الرهان على تحالف يربط بين الإنقاذ وقبيلة الدينكا هو صمام أمان الحل المفتاحي لقضية الجنوب، وله في ذلك جملة إعتبارات أهمها وجهة نظر معقولة: وهي أن القبيلة هي الأكبر عددا بين سكان الجنوب، و يُعتبر أبناؤها الأكثر ثقافة بما فيهم قادة حركة التمرد الحاليين(وقتها)، لذلك التحالف معهم يجعل تحقيق السلام والإستقرار خيارا إستراتيجيا في الجنوب. ويعتبر القاضي ونائب الرئيس الأسبق ابيل الير هو الشخص المفتاحي بالنسبة له في التواصل مع هؤلاء، وهو على علاقة جيدة به منذ فترة حكم النميري.
    بالمقابل يرى د.علي الحاج أن النوير هم الخيار الأوفق، وله وجهة نظر مقبولة: مستندا الى العلاقات التاريخية التي تربطهم بالحركة الاسلامية، كما أن الثروات المتوقعة جلها في أراضيهم، وهم معقولون في مطالبهم، ليسوا مثل الدينكا الذين يتطاول طموحهم إلى ما بعد حدود الجنوب، ويحلمون بحكم السودان كله، كذلك هناك نظرية إجتماعية أصبحت أشبه بالقاعدة الثابتة منذ فترة الاستعمار في التعامل مع المكونات الإجتماعية في محيطها، تقول حين يكون عليك الترجيح في التعامل بين أغلبية سائدة في مجتمعها او مكون آخر دون الأغلبية بقليل فإن إختيارك يجب أن يتجه إلى من هم دون الأغلبية بقليل، لأن كونهم دون الأغلبية يجعلهم في حاجة دائمة إلى حليف خارجي بإستمرار –والذي تمثله هنا الدولة المركزية أوالحركة الاسلامية في هذه الحالة بالذات- مما يعني عدم تفكيرهم في الإستغناء عن الشمال، على عكس لداتهم في الجنوب وبالأخص الدينكا. ومع أن هذا شكل من الإنحدار" أن تصبح رؤية حركة تسعى للتحديث والتنوير عبر هذا المسلك القبلي المنغلق" إلا أن دخوله في مضمار الصراع والمنافسة، جعل كل طرف يتصيد الآخر، ويحاول استرداد زمام المبادرة بإعادة الملف إلى حوزته. وقعت جمله من الشواهد في مفاوضات ابوجا ونيروبي الأولى والثانية وأديس ابابا فيما بعد، ولكنها جميعا لم تكن ذات بال.
    في أبريل 1997م جاء اتفاق الخرطوم للسلام وأصبح د. رياك مشار مساعدا لرئيس الجمهورية ورئيسا للمجلس التنفيذي الحاكم في الجنوب(كان يسمى مجلس تنسيق الولايات الجنوبية، ولكنه لم يكن جهة تنسيقية بل كان مجلسا تنفيذيا بما له من هياكل وفروع تنفيذية حتى وإن كانت جوفاء(. كانت حالة الإستقطاب بين القصر والمنشية –كما عرف لاحقا- تجرى تحت الأرض على أشدها في قضايا أخرى لا علاقة لها بملف السلام ولكنه بحكم الحيوية التي نالها أضحي جزءاً من الصراع السياسي الدائر، وبالتالي كان كل طرف يعمل على عرقلة الآخر، بل واستدراجه للخطأ في بعض الأحيان.
    جاء تحول كبير في فبراير 1998 بإنتقال نائب أول الرئيس الزبير محمد صالح إلى الرفيق الأعلى، ومجئ الأستاذ علي عثمان محله، وبوفاته فُقد عنصر توازن مهم في الصراع المذكور، بعدها بأشهر قليلة تم تعيين د.نافع علي نافع مستشارا لرئيس الجمهورية للسلام، وإبعاد آدم الطاهر حمدون الذي يُعتبر حليف د.علي الحاج ورجله التنفيذي في الملف، اتخذ الصراع منحى أشد حدة حين جرى إغراء بعض القادة العسكريين التابعين لمشار للخروج عليه وقد كان. حيث انسلخ القائد فاولينو ماتيب عن حركة مشار وأعلن إلتزامه بالإتفاقية، وما تلاها من أحداث. وبدأ كأن مسئول ملف السلم الجديد يعد للحرب بسند نائب الرئيس الجديد. وفي غمرة قرارات الرابع من رمضان بعث د.رياك مشار استقالته من جميع مناصبه من كينيا عبرالفاكس إلى رئاسة الجمهورية.
    بعد الرابع من رمضان:
    كان الإنتقاد الأبرز للدكتور علي الحاج أنه لم يكن يحمل اية رؤية او يناقش أحدا في التفاصيل، ولكن الحقيقة هي أن القيادة نفسها والتي يجب أن تضع الخطوط الإستراتيجية لأية سياسة تنفذ، كانت غائبة أو متنازعة أو مشغولة بأمور أخرى، منها ما أشرنا إليه في الفصول السابقة، حتى صار السلام وهو قضية حيوية وحساسة عرضة للتنازع والشد بين الأطراف المتصارعة إمتدادا للصراع السالف ذكره.
    يقول د.عبد الوهاب الافندي القيادي المشارك في جميع جولات السلام في تلك الفترة (3) (إن كثيراً ممن عملوا في ملف الجنوب، وهو أهم ملف في عهد الإنقاذ، لم يكونوا يطرحون أسئلة حول التوجهات الاستراتيجية حول الجنوب، ولم يكن هناك منبر لهؤلاء لمناقشة التوجهات الكبرى والقرارات المحورية حول هذه القضية.(
    بعد قرارات الرابع من رمضان وإنفراد أحد الجناحين بالسلطة، لم تكن القيادة الجديدة متحمسة للوصول إلى إتفاق خاصة في الشهور الأولى، ربما بسبب المزايدات التي كان يطلقها حزب د.الترابي بأن الحكومة أصبحت ألعوبة في يد الغرب بعد طرده منها، مما يمكن معه تفسير الوصول إلى إتفاق سلام أنه صفقة غربية كمقابل تحويل ولاء النظام، لعل ذلك ما يبرر تكليفهم لوزير الخارجية د.مصطفي عثمان بالإستمرار في جولات التفاوض التي كانت تُعقد في اديس ابابا تحت مظلة الايقاد التي أصبحت تراوح مكانها وصارت محض لقاءات باردة. كذلك إتجه صُناع القرار إلى تفعيل المبادرة المصرية-الليبية المشتركة وبث الروح فيها، فتم تكليف د.غازي وزير الإعلام للتعامل معها، إلا أن الحكومة كانت تتعامل بفتور مع القضية او بطريقة روتينية على أقل تقدير، وذلك ما يكشفه تحويل الملف في أقل من عام إلى أربعة أشخاص، تكليف د. مصطفي وزير الخارجية بإدارة العملية التفاوضية، ثم تعيين أحمد إبراهيم الطاهر مستشارا للرئيس لشئون السلام، بعد الحاجة لتفريغ د.نافع للعمل في إعادة بناء الحزب بعد انشقاق الترابي. وفي أكتوبر بعد نهاية الإنتخابات وإختيار أحمد إبراهيم الطاهر رئيسا للبرلمان كممثل لإقليم كردفان، تم تعيين مكي علي بلايل وهو دبلوماسي شاب وعضو برلماني مستشارا للرئيس للسلام ومسئولا عن الملف. هذه التغييرات جرت في أقل من عشرة أشهر، من يناير الى أكتوبر،(تحويل الملف من د.نافع، تكليف د.مصطفي بالتفاوض، تعيين أحمد ابراهيم الطاهر، ثم إستبداله بمكي علي بلايل)، وجميعها ترسل جملة من الإشارات الخاطئة أن الأمر كله لا يعدو أن يكون مجرد تصريف أمور، وليست هناك نظرة إستراتيجية محكومة بمنهج محدد لمعالجة القضية، في حين احتفظ القصر لنفسه بالخطوة النهائية. وذلك ما ظهر عند إقالة اللواء جورج كنغور أروب التي جاءت مفاجئة حتى للعاملين في الملف في الدولة، وجرى إتخاذها بقرار فوقي للغاية لم يتم عرضه للتشاور أو الحوار، بل صدر خطاب "إقالة ورسالة شكر" بعث بهما الرئيس لنائبه المقال، والذي كان محل احترام من جميع من عملوا معه بسبب أمانته وولائه الشديد للدولة التي كان يخدمها، كل تلك الصفات جعلت المتعاملين مع الملف في حيرة من أمرهم. وحين جاء تعيين بديله بعد فترة كان شخصية أكاديمية لم يُعرف عنها شئ او مساهمة في العمل السياسي مسبقا، وهو بروفيسور موسس مشار الذي كان يشغل منصب مدير جامعة أعالي النيل قبل تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية، وعليه لم يفاجأ الكثيرون عندما إنضم للحركة الشعبية حين جاءت عقب إتفاق نيفاشا، وحتى قبل إقالته من منصبه(4).
    إدارة ورؤية جديدتين:
    في يناير من العام 2001 جاءت إلى البيت الأبيض إدارة امريكية جديدة، تمثل الحزب الجمهوري المدعوم من اليمين الديني كما هو معروف بعد غياب ثمانية أعوام عن الحكم، ترافق معها نشر تقرير صدر عن مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية الأمريكي والمعروف إختصارا بـ (CSIS) ، قدمه في يوليو من ذات العام وترأس فريق البحث كل من الخبير الأمريكي المعروف ستيفن موريسون ود.فرانسيس دينق كرئيس مشارك (Co-chair) جاء التقرير الذي موله معهد السلام (USIP) التابع للكونغرس بمشاركة فريق عمل من خمسين باحث يمثلون كل ألوان الطيف الأمريكي من الوكالات الرسمية، وجماعات الضغط، ...الخ، قدم التقرير وصفة حل للمشكلة السودانية من ثماني نقاط بالتركيز على انهاء الحرب وتحقيق السلام كأولوية عاجلة، ولخص الحل في تبني مشروع سلام بدعم ودفع الأطراف المتنازعة للوصول إليه عبر صيغة اقترحها التقرير وهي (إقامة دولة واحدة بنظامين، إسلامي في الشمال ومحايد في التعامل مع الأديان في الجنوب). في مايو من العام التالي أذاع جون قرنق رئيس الحركة خطابا بمناسبة الذكري التاسعة عشر لتأسيسها، قال فيه إن صيغة دولة واحدة بنظامين قد تبدو أقرب إلى فكر الحركة، وكان لهذا ما بعده، يجب التنبيه إلى أن التقرير وُضع ونُشر قبل وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر بحوالي ثلاثة أشهر.
    في يونيو 2001م قام الرئيس في خطوة غير متوقعة (5) بتكليف د.غازي عتباني وزير الإعلام بمهام مستشار رئيس الجمهورية للسلام ومنحه التفويض الكافي للعمل في ملف الجنوب بكل تعقيداته المعروفة (عسكريا امنيا سياسيا دوليا اقليميا والعقدة المركزية هي تقاطع كل هذا مع علاقات مراكز السلطة الداخلية في الخرطوم)، إعتكف مستشار الرئيس الجديد لعدة أيام وقام بقراءة الملفات المكونة لمسئوليته الجديدة، قام بعدها بعدة جولات خارجية خاصة في الغرب، علي إثرها توصل إلى رؤية محددة قوامها، إن مبادرة الإيقاد غير محبذة أو تمثل الحد الادني من المقبولية، بيد أنها تبقي الأكثر ترجيحا ولديها القابلية للعمل وفق التعقيدات المتشابكة في هذا الملف دوليا وإقليميا ومحليا. قام مستشار الرئيس الجديد بوضع منهج تفاوضي يقوم علي التدرج في إتخاذ القرار (تشكيل وفد تفاوضي يُباشر الاعمال الروتينية) فلا تجرفه التفاصيل، ويصبح متفرغ تماما هو لإتخاذ القرارت الحاسمة بعد التشاور مع الخرطوم. تزامنت بداية مجهوداته مع هجوم الحادي عشر من سبتمبر وما حملته من تطور في العلاقات السودانية الأمريكية بنحو قد يكون إيجابي فقام بتوظيف هذه الأجواء الجديدة التي خلفها "تعاون المخابرات الأمريكية مع نظيرتها السودانية" والتي أطلت ببعض الظلال الإيجابية في علاقات البلدين الدبلوماسية، في حين أن الولايات المتحدة وهي تتجه إلى ضرب العراق وافغانستان كانت حريصة علي توجيه رسالة للعالم العربي والإسلامي: انها ليست ضد الإسلام ولا العرب والدليل أنها الآن تساعد علي إخماد أطول حرب أهلية في العالم العربي والإفريقي في السودان.
    قام الرئيس جورج بوش (الإبن) بتعيين القس السناتور جون دانفورث عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ميسوري، والمرشح السابق لشغل منصب "نائب الرئيس الأمريكي" في سبتمبر 2001م والذي استهل عمله بزيارة الي الخرطوم قام خلالها بالإتفاق مع مستشار الرئيس بوضع إستراتيجية من اربع خطوات للبدء في مسيرة تفضي إلى إقرار سلام شامل كانت أولي تلك الخطوات هي: إتفاق جبال النوبة، الذي جري التوقيع عليه في المانيا في يناير 2002، وتم تتويج الجهود تلك الفترة بالتوقيع علي إتفاق ميشاكوس الإطاري في 20 يوليو2002م بين ممثل حكومة السودان د.غازي صلاح الدين مستشار الرئيس للسلام والقائد سلفاكير ميارديت نائب رئيس الحركة الشعبية، أعقب الاتفاق وبعد اسبوع منه إجتماع مباشر بين الرئيس البشير وجون قرنق رئيس الحركة في العاصمة اليوغندية كمبالا، رتبه الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني، من أجل منح إرادة السلام دفعة أكبر.
    في الخرطوم بدأ النجم السياسي لمستشار الرئيس في الصعود، دون إنتباه إلى التعقيدات التي ذكرناها داخلياً، وبعد أقل من شهر من الإتفاق بدأت جولة المفاوضات الثانية والتي بدأت تناقش التفاصيل، وفجأة قامت القوات التابعة للحركة الشعبية بالهجوم علي مدينة توريت في نهاية اغسطس، وتحت الضغط العسكري غير المتوقع بعد الأجواء الإيجابية التي خلفتها إتفاقية ميشاكوس، ونتيجة للتعبئة الاعلامية الكبيرة المضللة التي خلقت انطباعا عاما لدي جنود وضباط الجيش أن السلام بات وشيكا، وبالتالي تراجعت عندهم الرغبة في القتال، إضطر الجيش لإخلاء المدينة وقامت قوات الحركة بدعاية إعلامية كبيرة لهذا الانتصار المتوهم، ردة فعل القيادة في الخرطوم كانت إعلان الإنسحاب الفوري والعاجل من المفاوضات والتعبئة العامة لإعادة تحرير المدينة من أيدي التمرد. من ناحية مبديئة وفنية صحيح أنه لم يكن هناك إتفاق لوقف العدائيات أو وقف إطلاق نار موقع بين الطرفين، ولكن برتكول ميشاكوس ولقاء الرئيس بقرنق بالإضافة إلى الدعاية الإعلامية المتفاءلة بقرب السلام خلقت شعورا زائفا بأمر هو قادم ولكنه لم يصل بعد.
    كانت هناك أيادٍ تلتقي في الخفاء بطريقة غير مفهومة وغير مدبرة بين الخرطوم وأكتوس وناروس –مراكز قيادة قرنق- ففي الاخيرة كان هناك من يقود التصعيد بغرض تعطيل مسيرة السلام، التي كما بدت من إتفاق ميشاكوس فإن الحركة لم تنل شئ، بل وكما صرح د. امين حسن عمر في الخرطوم بعد توقيع الإتفاق "من يريد أن يناقشنا فإن مرجعيتنا في هذا الإتفاق هي ميثاق الجبهة الاسلامية القومية وليس المؤتمر الوطني" كناية عن أنهم قد حققوا أهدافا أوسع مما يظن الناس، وهذا علي خلفية بعض المزايدات التي كان يثيرها منسوبي المؤتمر الشعبي، والتي تستهدف النيل من الإتفاق بإعتباره صناعة أمريكية وأن الحكومة باعت نفسها للغرب ..الخ. كان جون قرنق يشعر بانه غُرر به وأنه لم ينل شيئا غير تقرير المصير وهو أمر قد أخذه في السابق، فالإتفاق يتحدث عن الفدرالية كنظام للحكم مما يعني الوحدة ودولة موحدة، حتي الفترة الانتقالية صارت ستة اعوام ونصف، في حين أن إتفاقية مشار في الخرطوم كانت أربع سنوات، ويتحدث الإتفاق عن حدود 1/1/1956م وعن الشريعة في كل الشمال بما يعني أن العاصمة، وأبيي ذهبت إلى خارج مظلته، كذلك التنازل عن حلفاءه في التجمع وغيرها من القضايا التي كان يماطل فيها ويناور، لذلك لابد له من أن يكسر من حدة قوة الإندفاع الحكومية، ويعيد زمام المبادرة إلى يده، فأصدر الأوامر بدفع قواته العسكرية وإحتلال توريت لإحداث نوع من الفرامل ومن ثم التغيير في الصورة تمكنه من إعادة التقييم والسيطرة.(راجع منصور خالد في كتابه الآخير "قصة بلدين" وهو يعدد ما نالته الحركة في ميشاكوس ص 915، والتي يحصرها في ديباجة الإتفاق : إعتراف النظام بالمظالم التاريخية، تحديد فترة إنتقالية، إعتراف بوقوع خسائر مادية وبشرية وإقتصادية، القبول بمراجعة الدستور وتكوين حكومة قومية) وكلها كما يُلاحظ القارئ ألاّ جديد فيها.
    الأغرب كان ما يحدث في الخرطوم، حيث كان هناك من يترقب النجم الذي صعد علي رافعة إتفاق ميشاكوس، دون أي اعتبار لأوضاع القوي الحقيقية في معادلات السلطة بالداخل، او تمكنه لأىّ من عناصرها، فوجد هؤلاء في هجوم توريت الأخرق من الحركة، ضالتها لتضع العصا في دولاب السلام المتحرك بغية إعادة إمتلاك زمام الأمور في يدها علي الأقل داخليا، وهناك صوت لوم وتقصير واضح لقادة الجيش في الدفاع عن المدينة وعدم قدرتهم علي إيجاد تبرير مقنع للإنسحاب منها، ومعروف حساسية إنتقاد الجيش أمام الرئيس، بالتالي كانت فكرة سحب الوفد من كينيا هي الفكرة المثالية التي يمكن تسويقها لإقناع الرئيس بانها توفر الغطاء السياسي الأنسب لعملية خسارة مدينة مثل توريت، وقد كان، حيث تصدر الرئيس للأمر بنفسه وأذاع خطابا من منزل الشهيد خالد علي عبد الله يعقوب الذي قضى في معركة إخلاء المدينة، وأمر بسحب الوفد الحكومي المفاوض وطلب منهم العودة بأسرع ما يمكن.
    لم تعد الأمور علي ما كانت عليه، حتي بعد الجولات المكوكية التي قام بها الجنرال الكيني لازاراس سمبويو سكرتير المبادرة بين الخرطوم ومناطق الحركة في الجنوب، والتي نجحت في إمتصاص أثآر الصدمة، خاصة بعد إستعادة الحكومة للسيطرة علي المدينة، بل والتقدم علي كافة محاور القتال المختلفة، وإعادة الفرقاء إلى طاولة التفاوض مرة أخري بعد إشتراط الخرطوم توقيع اتفاق وقف العدائيات قبل بداية أي جولة تفاوضية جديدة، وهو ما قد كان.
    تُعتبر الفترة التي تلت حادثة سقوط المدينة و إلى منتصف العام التالي فترة عمل تفاوضي ميت يراوح مكانه، حيث يتواصل الفريقين دون نتيجة تذكر، فباستثاء إتفاق وقف العدائيات الذي تم التوصل إليه في نهاية شهر سبتمبر، والذي كان يُجدد كل شهرين ككرت ضغط من التمرد لم يحدث أمر ذا بال.
    إلى أن جاءت وثيقة ناكوروا، التي قامت الحكومة برفضها بعد أن قدمها الوسطاء في مطلع أغسطس من العام التالي (2003م) بعد ذلك جرت عملية تعبئة شامل في الإقليم، طافت فيها وفود رئاسية من الخرطوم كل دول الجوار الايقاد أولاً ثم شركاء الإيقاد بعدها لشرح الموقف، وكانت رسالة الخرطوم واضحة أن سكرتارية الإيقاد تريد أن تعطي الحركة بيدها اليسري ما لا تستطيعه، أو حتى تملكه الخرطوم في اليمني، فمعظم الترتيبات التي وردت في الوثيقة المقترحة منهم تذهب إلى ترتيبات جوهرها إنفصالي ولا يتحدث عن الوحدة التي حملت روحها ميشاكوس: حيث يوجد في الوثيقة أن الحركة تحتفظ بقواتها خارج المدن ولا تقوم بتفكيكها أو دمجها في الجيش الوطني، كذلك حقوقهم في الثروة والسلطة أعتبرت الوثيقة أن الحركة هي الجنوب فإنفردت لها بكل شئ ولم تُراع المكونات الوطنية الأخرى في الجنوب بما فيها حزب المؤتمر وأنصاره هناك، وغيرها من القضايا الشائكة. كانت رؤية بعض أعضاء الوفد الحكومي المشارك في التفاوض براغماتية للغاية بأن الورقة معقولة وأن طريقة مستشار الرئيس – المسؤول عن الملف - في رفضها غير مبررة، من جانبه كان مستشار الرئيس يري أن الورقة جنحت كثيرا خارج سياق الوحدة، ويريد أن يُعيّد ترتيب الأمور وقيادها إلى يد الحكومة، فمثلا تثبيت أن الحق القانوني والشرعي بما لا لبس فيه أن الجنوب للدولة السودانية، بما يترتب علي ذلك أن الجيش لن ينسحب ولن يكون معه قوة أخري لها شرعية مثل أي مليشيات أي كانت " حتي وان كانت هذه المشروعية اسميه فقط" ، ثانيا إن كل ما تمنحه الحكومة المركزية للجنوب هو من المركز وللجنوب بالعموم ولا يعني أن الجنوب بأي حال من الأحوال يجب إختصاره في الحركة الشعبية، وغيرها من القضايا.
    في منتصف ذلك العام وقع الكونغرس قانون سلام السودان (Sudan peace act) وحظي بدعم أطراف عديدة في غرفتي الكونغرس من مجلسي النواب والشيوخ وأقطاب الضدين، الديمقراطيين ويقودهم دونالد بين، والجمهوريين وعلي راسهم فرانك وولف– اشرنا الي ذلك في فصل العلاقات الخارجية من هذا الكتاب، الحالة الوحيدة التي يتفق فيها الضدان هي السودان - والقانون يدعو إلي فرض عقوبات فورية علي الحكومة السودانية ودعم التمرد بطريقة فعالة إذا لم تثبت الحكومة جديتها في الوصول إلى سلام. علي أثر هذا التطور وصل الي الخرطوم والتر كينشتاينر مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الافريقية برفقة مبعوث الرئيس بوش دانفورث والتقي بالبشير وعلي عثمان وغازي مسؤول الملف، بعدها طار إلى كينيا ثم عاد إلى واشنطون، في منتصف اغسطس وبعد أيام من رفض وثيقة ناكورو قام نائب أول الرئيس بزيارة إلى لندن لعدة ايام رافقه فيها ثلاثة من أعضاء الوفد المفاوض في كينيا (يحي حسين نائب مدير المخابرات، د.مطرف صديق وكيل الخارجية، سيد الخطيب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية) وكان ملاحظاً غياب مسؤول الملف مع أن المحادثات في لندن ستجري مع ممثلي المجتمع الدولي (أمريكا، بريطانيا) التقى نائب الرئيس مرة واحدة بجاك استرو وزير الخارجية البريطاني الذي جاء لزيارته في مقر إقامته بوليسدين قرين، كذلك انخرط النائب ووفده في عدة إجتماعات مع الجانب الأمريكي الذي ترأسه كينشتاينر الذي كان يقضي آخر أيامه في الخارجية ويستعد لمغادرتها. عاد الوفد للخرطوم في ظل هدوء متوتر للعالمين ببواطن الأمور، وبعد عدة أيام من رحلة لندن قام نائب الرئيس بزيارة إلى دنقلا في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس، وصل في ذات الوقت إلى الخرطوم كالنزو مسيوكا وزير خارجية كينيا، حاملا رسالة من" دول الإيقاد" و"شركائهم" إلى الرئيس البشير، تحثه ضرورة عقد لقاء عاجل بين الرئيس شخصيا او ممثل له لابد أن يكون بـ "مستوى عالٍ جدا" وجون قرنق في كينيا في الاسبوع الأول من الشهر القادم (سبتمبر) وموافقة قرنق تعتمد على الإسم الذي يجب أن يحدده الرئيس الآن.
    بين نائب الرئيس ومستشار السلام:
    العلاقة التي تربط بين النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه ود.غازي صلاح الدين، يمكن وصفها بأنها من نوع مميز، حيث ربط بينهما على الصعيد العملي، التعامل المباشر بينهما في وقت عصيب ألا وهو فترة الانقلاب وما تلاها، حيث كان د.غازي من فريق المدنيين المساعدين لنائب الامين العام وقتها، قبل ان يصبح غازي بمثابة مقرر مكتب القيادة السداسي (الذي ضم د.الترابي والبشير والزبير وعلي عثمان وعلي الحاج، راجع فصل القيادة)، كذلك في فترة الخلاف مع الترابي في منتصف التسعينات كان لسمو العلاقة بين د.الترابي ود. غازي تجعل توطيد نائب الرئيس لعلاقته بغازي أكثر من ضرورة سياسية، ثم تلت فترة الإنشقاق التي اختار غازي لنفسه أن يقود فيها المواجهة ضد الترابي(في مذكرة العشرة أو بعد قرارات الرابع من رمضان) وإن كان يفعل ذلك من منطلق مختلف، إلا أن الفاعلية التي أبداها، خاصة في الجوانب الفكرية، مستفيدا من ثقافته وإطلاعه الواسع، كان لها القدر الأكبر في إنحياز قطاعات كبيرة)خاصة من الشباب والطلاب والمرأة( التي لم يكن خطاب الآخرين جاذبا لها، بل على النقيض ربما كان منفرا، ثم جاءت الفترة التي تلت الإنشقاق والتي كانت الحكومة تحتاج إلى شخص يتعامل مع المجتمع الدولي في القضايا الحيوية مثل السلام والعلاقة مع الغرب، يكون في هيئة مُفكّر اكثر منه ناشط سياسي او رجل دولة (لديه إلمام ومتابعة للحركة الفكرية في الغرب ولغة انجليزية عالية وغيرها من ضرورات التواصل) فكان اختيارهم له، دون منحه الموقع المناسب –كان يخدم كوزير إعلام في تلك الفترة- كل هذا إضافة الى علاقة أسرية وشخصية تجمع الرجلين(6) ولكن في دنيا السياسة وصراعات السلطة هل تخدم كل هذه الروابط وتكون عاصمة من قواصم المكائد؟؟. لقد خدم الإثنان لفترات طويلة بإنسجام حتى في ملف السلام نفسه قبل إستقالة غازي منه آخرها رحلتهما لأبوجا للقاء قرنق بدعوة ورعاية الرئيس النيجيري اوباسانجو الذي كانت له صلات حميمة بقرنق وحركته، أيضا بعد توقيع اتفاق نيفاشا إستمرت العلاقة المميزة، في ملف دارفور وفي البرلمان حتى مع الجنوب نفسه في اللجان المشتركة. لقد وصف البعض الخلاف بين الإثنين بانه خلاف بين منهجين وليس خلافا شخصيا وربما كان في هذا توضيح لبيان د.غازي الذي نشره عشية قبول الرئيس استقالته مطلع نوفمبر 2003 حين قال (إنني أرى أن منهجية التفاوض قد تغيرت ولا أستطيع أن أعمل في ظل الأوضاع الجديدة). بالاضافة إلى هذا، هناك أمر مرتبط بالطبع الإنساني، ولكنه لعب دوراً فعاّلاً من بعض أعضاء الوفد المفاوض -الذي اختاره غازي من أبناء جيله – هؤلاء من الممكن ان يقبلوا بالوقوف في الصف الثاني إذا كان في الأول الرئيس أو نائبه، وليس شخصا من جيلهم، وبعضهم كانت لديه إتصالات بقيادة الحزب والدولة في الخرطوم بطريقة فعالة.
    عند المفترق :
    في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر سافر نائب الرئيس علي عثمان إلى كينيا للقاء جون قرنق بعد محاولات مضنية وصادقة جرت لإقناع مستشار الرئيس بمرافقته، والذي تشدد في موقفه بالرفض، شارك فيها الأمين العام للحزب إبراهيم أحمد عمر وأحمد عبد الرحمن محمد القيادي التاريخي بالحزب، طلب غازي من نائب الرئيس مهلة ثلاثة أيام ليسبقه إلى نيروبي ويقوم بترتيب أجندة التفاوض وإعداد المواقف التفاوضية وتجهيز السيناريوهات البديلة التي يجب طرحها، ولكن تحت ضغط "مساعدي" نائب الرئيس الذين صوروا الأمر بانه محاولة "للعرقلة" (7)كما سماها أحدهم لم يستجب النائب، عندها قرر غازي رفع إستقالته وخرج من الملف، وكانت قرأته للذين من حوله بانه يتوقع:
    (قرنق رجل شديد الذكاء وقبوله للقاء نائب الرئيس بهذه الطريقة (سافر نائب الرئيس وهو على خلاف مع بعض قيادات حزبه - استقالة مسئول الملف – كذلك هناك الظرف الدولي مضت فقط خمسة اشهر على غزو العراق وصدر في الكونغرس قانون سلام السودان، أيضا تأكيدات الامريكان لقرنق بعد لقاءات لندن بانه سيلتقي برجل مختلف) قرنق بدهائه سيعمل على ابتزاز النائب بجره إلى مفاوضات طويلة تبعده من مركز قراره في الخرطوم مما سيجعله مع كل يوم يتأخر فيه سيكون مضطرا لتقديم تنازل أكبر بسبب حساسية موقفه من مركز السلطة– باعتباره صانع القرار الاول- فلا يمكن ان يعود دون ان يحل أكبر واعقد قضية تواجه البلاد).
    اللعب خارج المضمار:
    بدأ اللقاء بتنازل كبير وإن كان تكتيكيا، إلى أنه أفضى إلى ضياع إستراتيجي، من جانب المفاوض الحكومي بأن ترك للطرف الآخر وضع الاجندة، وتلك كانت أول الخطوات في الإتجاه الخاطئ، حيث قام جون قرنق بكتابة أربعة بنود رئيسية لم ير المفاوض الحكومي فيها غضاضة.
    الأول: الترتيبات الأمنية والعسكرية، وكان منطق قرنق فيها: أنه رجل غابة ومتمرد، وأن قيمته في بندقيته ولذلك يريد أن يعرف أين يضع هذه البندقية، وعلى ضوء هذا تتحدد الخطوات التالية؟؟ ولم ينتبه المفاوض الحكومي لهذا الفخ الكبير، وكان هذا غريبا لأنه في كل سوابق إتفاقيات السلام فإن الترتيبات الأمنية والعسكرية تكون ملحقا مدرجا بنهاية الإتفاقية ولا يتم البدء بها مهما كانت الظروف.(اتفاق أديس ابابا 1972م، اتفاقية السلام المصرية الاسرئيلية، مفاوضات باريس للسلام في فيتنام، ...الخ( وهو ما أشار إليه الرئيس البشير نفسه بتعحب "بعد أن وقعت الفأس في الرأس" في اللقاء التلفزيوني في 3 فبراير 2012 عندما قال من أجل السلام قبلنا بمبدأ (Fight and talk).
    البند الثاني قسمة الثروة.كان أخطر ما في هذا البند هو خروج المفاوض الحكومي على ماتم إقراره في السابق بأن الثروة التي في باطن الأرض ملك عام لكل البلاد ولا تخص أهل الإقليم الذين تنحدر منهم. الأمر الآخر إنعكاس هذا البند على مجمل مسار التفاوض، وذلك بتقنين مبدأ 50% أو المناصفة بين فريقين غير متكافئين لا من حيث المبدأ ولا الحجم ولا القدرة أو الوجود على الأرض.
    البند الثالث المناطق الثلاث( جنوب النيل الأزرق، جبال النوبة، أبيي). هذا البند كان المفاوض السابق يرفض مناقشة الحركة فيه، ووصل الرفض إلى درجة التهديد بإعلان الإيقاد وسيط غير محايد، لأن المبادرة تتعلق بجنوب السودان وهذه الإقاليم لا تقع ضمن حدود الجنوب المعترف بها، خاصة أبيي التي تم حسمها في بروتكول ميشاكوس بأنها ضمن حدود 1/1/1956م. اضطرت الإيقاد ومع تشدد المفاوض الحكومي وقتها إلى إفراز مسار منفصل لمناقشة ما أسمته مطالب أهل هذه المناطق من الذين انضموا للحركة، في نوفمبر 2002م عقد هذا المسار عدة جولات في يوغندا بعد إتفاق ميشاكوس لمناقشة ما سمته الحركة "مناطق مهمشة" وتمسكت حكومة السودان بموقفها بعدم السماح للجنوبيين بحضور هذه الجلسات، وقالت إنها تريد أن يلتقي ممثلو الحكومة مع أبناء المناطق الثلاث في الحركة لبحث مطالبهم المتعلقة بالتنمية وغيرها من القضايا مثل المشاركة السياسية..الخ، كذلك قام المفاوض الحكومي بإشراك ممثلين للمجتمع المدني من أبناء هذه المناطق بالداخل في تلك الإجتماعات، والآن بعد الحرب التي يدور رحاها في جنوب كردفان والنيل الأزرق غني عن القول الإشارة إلى ما جره هذا البند من كوارث وويلات على البلاد بعد الانفصال من ناحية عسكرية أما من المنظور السياسي فمن المتوقع أن تتفجر الألغام تباعا فيما يسمى بالمشورة الشعبية أو تمرد الجنوب الجديد كما يسمونه في جبال النوبة جنوب النيل الأزرق ( وصف أحد قادة الحركة الشعبية بالجنوب المشورة الشعبية بقوله "لقد تركنا لكم المشورة الشعبية وهي طفل إنفصال، قالها بالحرف Baby of secession).
    البند الرابع قسمة السلطة. وهذا هو الذي كان يريد أن يتعجل نقاشه المفاوض الحكومي ولعلم قرنق بذلك عمل على تأخيره ليكون آخر ما يُبحث.
    امتدت المفاوضات لستة عشر شهرا كما توقعها مستشار السلام المقال(من أول سبتمبر 2003 وحتى يناير 2005 تاريخ التوقيع على الإتفاقية التي تركت قضايا أيضا معلقة جرى تعيين مفوضيات لحسمها)، وكان أخطر ما في العملية التفاوضية هي عدم إدراك المفاوض الحكومي لنقاط قوته ليقوم بتعزيزها وحمايتها، ونقاط ضعف الخصم ليشدد التركيز عليها، وفق مبادئ صن توزو الفيلسوف الصيني في ابجديات القتال، فأصبح من الواضح أنها ليست مفاوضات بين حكومة شرعية معترف بها (ولو بشرعية الامر الواقع) (7) من كل العالم ولها ممثل في المنظمات الدولية مع حركة متمردة وليست لديها أي مشروعية غير ما وصفها قرنق ببندقيته وهو محق في ذلك،(راجع تصريحات قرنق في رمبيك عندما قال قبلنا بإتفاق الترتيبات الأمنية لأنه سينظر إلى جيشنا بإعتباره قوات رسمية في الدولة ورفع يده بعلامة النصر الحرف V) بل كان التفاوض يتم على أساس أشبه بممثلي حزبين ذوي وضعية متساوية يتم تقاسم كل شئ بينهما بالتساوي (انظر اتفاق قسمة الثروة ومبدأ 50% لكل). كذلك الحركة لم تكن لديها أي سيطرة على مناطق محورية أو مركزية في الجنوب أو حتى نقاط ذات طبيعة إستراتيجية مثل عواصم الولايات أو مناطق البترول أو تهديد للعاصمة أو غيرها، من القضايا التي تجعل المتفاوض يقدم تنازلات إستراتيجية. لقد استخرج قرنق أجندة قديمة وبدأ يجري المفاوضات على أساسها، فمثلا اتفاق الترتيبات الأمنية، المقترح الذي قدمه فيها كان يتطابق مع خطاب بعث به قرنق وهو نقيب في اواخر عام 1971م، الى قائده جوزيف لاقو يقترح عليه الإتفاق مع الشمال على تكوين ثلاثة جيوش واحد للشمال والآخر للجنوب والثالث وحدات مشتركة بين الإثنين(9).
    تعامل المفاوض الحكومي بإستسلام تام لفكرة أن الحركة تمثل الجنوب كله، وفي هذا جناية وطنية كبرى على رجال ظلت علاقتهم بالدولة المركزية "الوطنية" علاقة إستراتيجية، مثل السلطان عبد الباقي أكول زعيم دينكا أويل والذي كانت تربطه صلات قوية بالسيد عبد الرحمن وجعفر نميري و يدير خلاوي ومنظمات تعمل بين أهله على نشر الاسلام في المنطقة منذ عهد المهدية، وقام أهله بمقاومة الإستعمار عندما حاول تنصيرهم واحرقوا كنائسه، كذلك السلطان إسماعيل كونجي زعيم قبيلة المورلي في أعالي النيل "البيبور" والتي تُعرف أن جُل أهلها مسلمون ويتعرضون لإبادة حقيقية الآن على يد خصومهم التاريخيين (دينكا بور) دون أن ينجدهم أحد، هذا يهم الحركة الإسلامية خصوصاً في مجال الدعوة بإعتبارها حركة بعث وتنوير إسلامي تعمل على هداية الناس فكيف تسلم إخوانها على طبق من ذهب لخصمهم الألد مهما كان المقابل، بالنسبة للدولة الوطنية فالفاجعة أكبر فقد جاء الإتفاق بما هو أدهى وأمرّ مما يشابه الكارثة في وقوعه، وذلك لأن الحلفاء العسكريين الأقوياء للجيش قد "تم التخلي عنهم" في عبارة ملطفة أو "بيعهم " بحسب تعبيرهم الذي قالوه في الجنوب، وهذه ليست أسماء على السطور بل رموزا لقبائل تمتلك وتبسط سلطانها على الأرض بالرجال والسلاح والثروة، وتسيطر على الموارد والثروات الطبيعية من زعماء ورجال القبائل أمثال كلمنت وانيّ زعيم قبيلة المنداري أقوى قبائل بحر الجبل و الاستوائية الذي ظلت قبيلته تشكل الدرع الواقي لمدينة جوبا وكان لهم دور بارز وفعال في استعادتها عند سقوطها مرتين في عام 1992م من يد قرنق، وفاويلينو ماتيب زعيم قبائل غرب النويرالذي قدم حماية إستراتيجية لمناطق البترول و قبلت الحكومة بالتضحية برجل في قامة رياك مشار مقابل الإحتفاظ به وحمايته، وأيضا قادة شرق النوير مثل قوردنق كونق شول وسايمون قارويج وغيرهم من قبائل اللاتوكا والتبوسا في الاستوائية وغيرها من الأسماء التي لم يسمع بها المتفاوضون السابقون أو اللاحقون، بيد أن دورها في حماية البوابة الجنوبية للسودان وقتالها الى جانب الجيش كان له أثر عظيم في الإنتصارات التي كان يطرب لها الناس في الخرطوم فيترقى بها الجنرالات أو في تدفق الثروات التي شُيدت بها العمارات والجسور والطرقات ولا ترد أسماؤهم في البيانات الرسمية ولا يعرفهم أحد بغير كلمة القوات الصديقة، لقد تم إهدار جهدهم وتقديمهم كبش فداء في مذبح التنازلات الفتاك، عن صوت هؤلاء عبر د.رياك قاي -الذي كان يتعرض لضغوط شديدة على الأرض- في اجتماع مجلس الوزراء عقب إجازة اتفاق الترتيبات الأمنية وذلك حين قال للرئيس "لقد تم بيعنا بثمن بخس ونحن قد قاتلنا إلى جواركم كل هذه الفترة كجزء منكم"، غضب البشير وكان غضبه في غير محله، حيث لم يتدبر مظلمة هؤلاء والغُصة التي تملأ حلوقهم – راجع فصل أزمة القيادة – بل قال بطريقة جافة (يجب ألا تُزايد علينا فهذا ثمن السلام) حينها صُعِق الرجل وسكت. ولم يلمه أحد من العارفين ببواطن الأمور عندما قام بتسليم دور الحزب وممتلكاته بالجنوب وانضم للحركة الشعبية، ولكن بعض صحافة النفاق في الخرطوم كتبت تصفه بأنه "تاجر سياسة " وغيرها من الكلمات غير الكريمة، في حق رجل كان يجب احترامه والبحث عن اسباب مظلمته والدوافع التي حملته على سلوك هذا الطريق، لأن من فعل به هذا وهو يقاتل الى جواره ربما يفعل ما هو اشد بصحفي يكتب معه الآن ويمكن ان يقدمه ثمنا لامر قادم. (10)
    يلخص الناطق باسم الوفد المفاوض ذلك بطريقة غريبة حين يقول (أهمية إتفاق الترتيبات الامنية هو اشاعة جو من الثقة، فتح الطريق لمناقشة الخطوات الاخرى بناء على الثقة المتولدة، كذلك سيجعل تجاوز العقبات في المستقبل من اسهل ما يكون)،(كذلك راجع قول علي الحاج في اللقاء المشار اليه: المفاوض الحكومي كان يريد الوصول إلى سلام بأي ثمن(.
    بداية حلف الكراهية:
    قام قرنق بما هو أبعد من ذلك، حيث أوعز إلى شريكه في الطاولة أن مشكلة دارفور بيده حلها إذا جرى التوصل إلى اتفاق معه حول الجنوب. وكانت تلك قمة الإبتزاز والتدليس، حيث كشفت إتصالات هاتفية تم إلتقاطها وتسجيلها بواسطة جهاز مخابرات صديق وتسليمها لنظيره السوداني في ذات الوقت لقرنق وهو يعمل على صب أطنان من الزيت في نار دارفور المشتعلة على كافة الأصعدة: عسكريا، لوجستيا، وسياسيا، بل ويحرضهم على عدم الوصول إلى اتفاق وهم على طاولة المباحثات في انجمينا وأبشّي، وبعد التوقيع كانت طعنته النجلاء هي قوله: ان الحكومة بعد أن أعطت الجنوبيين حقوقهم عليها ان تقوم بالعمل ذاته مع الاقاليم الاخرى، وكانت تلك بحق قمة الابتزاز السياسي لرجل يضع قدمه اليمنى في عربة الحكومة واليسرى في مركب المعارضة.
    وقع أمران في أثناء فترة التفاوض كان لهما أثر عظيم على مسار العملية التفاوضية، الأول المنافسة التي جرت في إنتخابات الحركة الإسلامية التي كانت في أبريل 2004م، والتي كشفت أن صانع القرار الذي يفاوض في نيفاشا يتعرض مركز سلطته إلى إهتزاز عنيف، وبات عرضة للإنكشاف بطريقة عسيرة (11)، مما استوجب العودة إلى الخرطوم سريعا وفي غضون ايام، الأمر الثاني إقالة مبارك الفاضل المهدي في أكتوبر 2004م والطريقة التي جرت بها – حيث أرسل له البشير خطاب إقالة صباحا في مكتبه- كان مبارك على علاقة وثيقة بقرنق، فوفد الحركة الذي بُعث به إلى الخرطوم في ديسمبر 2003م كان من بين دور الأحزاب القليلة التي دخلها في الخرطوم دار حزب مبارك، كان الهاجس الأكبر لدى قرنق هو حركته السياسية بعد ان قام بتأمين موقف جيشه في بروتكول الترتيبات الأمنية والعسكرية، وتشكُكه الدائم هو أن المؤتمر الوطني لا يريد أن يمارس معه هوايته المعهودة في شق الأحزاب بعد توقيع اتفاق سلام معها أسوة بما فعل مع الآخرين (على سبيل المثال الصادق المهدي) وقد طرح صراحة هذه القضية على جليسه في الطاولة (حليفه المرتقب) ولم يجد إجابة مقنعة تشفي غليله، كما نقل للآخرين فيما بعد، الا أن الحادثة ظلت تلقي بظلال كثيفة على عملية التفاوض، فجعلته يتمسك بأدق التفاصيل مما بعث الوسطاء والمراقبين على الملل والتضجر بإستمرار.
    أصداء المطاولة في الخرطوم:
    توهمت قيادة الدولة والمفاوضون أن قرنق سيكون حليفا صادقا لهم هو وحركته، وكان في الخرطوم من يقرعون الأجراس مثل د. قطبي المهدي الذي كان يشغل منصب المستشار السياسي للرئيس، والذي كان في نصيحته حادا بعض الشئ، ولكن تم تصوير الأمر لصانع القرار، بتبسيطه، بانها غيرة من صعود النائب وذلك أمر له جذور تمتد إلى ايام الدراسة الجامعية كما ذهب بذلك المشاؤون. تشكلت على الافق بعض جبهات المقاومة الناعمة مثل الطيب مصطفي والمهندس أحمد خليل والشيخ عبد الله بدري وانضم اليهم قطبي المهدي لاحقا، إلا أن القيادة المنساقة خلف النشوة اللحظية الفوارة، لم تكن على استعداد لسماع أي شئ غير معزوفة السلام التي بدأت تطرب لها بشدة وما صاحبها من حشود وتطبيل يصم الآذان، وفيما عدا ذلك فهو هراء ليس لديها الوقت الكافي لسماعه. وهو ماقاد إلى تشققات الجسم القيادي بصورة أقعدت به وأضرت بالبلاد بطريقة كبيرة (راجع فصل ازمة القيادة من هذا الكتاب).
    في ذات الوقت الذي سارت فيه الحركة الشعبية على وتيرة قائدها الذي رحل وخلف (الغاما بدأت تتفجر تباعا) داخل الحركة نفسها قبل غيرها ولكنها كانت تتجاوزها بطريقة ماهرة تحسد عليها، بشغل قادتها بالتركيز على وحدة الهدف، وهو الإنفصال والإنتقام من الشمال جملة، بإستثمار لا أخلاقي في اللعب على تناقضات الأحزاب الشمالية، ساعدها على ذلك الأغراض الشخصية في تصفية الثأرات والإنتصار للذات لدى قيادات تلك الأحزاب غير المسؤولة. فكانت تلك لأول مرة في التاريخ ان يصبح حزب سياسي ولمدة سبع سنوات كاملة شريكا في الحكم يتمتع بكل لذيذ ومطائب الحكم من نفوذ وسلطة وإحتكار للإعلام ومال لا يحصى ولا يعد، وفي ذات الوقت يركب حصان المعارضة ليس رديفا فيه بل قائدا له، يضع الأجندة، ويحدد المسارات، ويقود التظاهر، ويحرض القريب والبعيد على الدولة التي هو شريك في قيادتها، وليس في السر بل في رابعة النهار علنا، في شزوفرينيا لا تخطئها عين. وليت الأمر استمر شهرا أو عاما، بل ظل سبع سنوات كاملة، لا يساعدهم على ذلك إلا هوان وخور القيادة التي تشاركهم في السلطة وتسمح لهم بممارسة هذا النوع من الابتزاز والعبث غير المسؤول بمصير البلاد. والتي جاءت اليوم تعض بنان الندم وتقول أنها خدعت فيهم – وتصفهم بالحشرات والثيران وغيرها من النعوت- وأنها كانت تظن بهم حسنا. لقد كانت تلك السنوات السبع كفيلة بأن يعلم القاصي والداني هذا الخداع والتضليل والمراوغة التي بدت منذ أول لحظاته جليةً.
    لقد كانت القيادة تتصرف في البلاد لوحدها دون مشورة كافية أو حوار داخلي حقيقي في المؤسسات)البرلمان او الحزب او الرأي العام) مما افقدها الرؤية المتكاملة والسند الجماهيري، وذلك بفرض وصايتها على المؤسسة واتباع سياسة الإملاء حتى على مناصريها، وهو ما اتضح عند مقاومة نواب في البرلمان لقانون الاستفتاء بحسبانه آخر كروت الضغط التي في يد الحكومة في مواجهة الحركة الشعبية الجنوبية واشتراط حل القضايا العالقة قبل توقيع الرئيس على قانون الاستفتاء وإنفاذه، وعدم ترك الأمر معلقا حتا لا تراوغ الحركة بعد الانفصال فتتحول المفاوضات من حركة شعبية ودولة السودان، الى مفاوضات بين دولتين، وهو لسوء الحظ ما وقع وحوّل القضية الى مجلس الامن الآن بنص التفويض الذي ذهب به الاتحاد الافريقي، فبحسب وسائل الإعلام في منتصف العام 2010م جاء الدكتور نافع على نافع، مساعد رئيس الجمهورية، واجتمع مع الهيئة البرلمانية للمؤتمر الوطني ووجه الأعضاء، في مخالفة واضحة للإجراءات البرلمانية، بإعادة القانون إلى منصة التداول وحذف الفقرة التي تشترط حسم القضايا العالقة قبل الإستفتاء. واستند نافع في هذا الطلب إلى اتفاق تم بين نائب رئيس الجمهورية على عثمان، ورياك مشارك نائب رئيس حكومة الجنوب. وبالفعل تم لنافع ما أراد، وأعاد النواب صياغة القانون، ضاربين بلوائح المجلس- حتى لا نقول مصالح البلاد- عرض الحائط كما علق بعض المحللين، ولكن الأدهى وأمر هو العقلية التي تم بها مساومة قضايا إستراتيجية بهذه الطريقة تمس أمن البلاد ومستقبلها.
    التحكم من القبر:
    لقد اصبحت القضية الواضحة للعيان، إن الحركة الشعبية الشريك الأصغر في السلطة، لا تزال هي من يضع الأجندة بإمتلاكها لزمام المبادرة (إنسحاب وزرائها، لعب دور المعارض والحاكم معا في شراكة معقدة مع احزاب المعارضة الشمالية ولعبها على التناقضات، ثم حتى بعد الإنفصال: إغلاق آبار النفط، الهجوم على هجيليج).
    مابعد الإنفصال:
    نتيجة لكل هذا الذي اوقعت الحكومة نفسها فيه، لم تكن مفاجأة أن تأتي نتيجة استفتاء تقرير المصير لجنوب السودان لصالح الإنفصال أو الإستقلال كما باتوا يسمونه، وأن تواصل قيادة الدولة غفلتها في التجاوز عن حسم الامور العالقة قبل توقيع قانون الإستفتاء وقبل الإعتراف بنتيجة تقرير المصير وقبل الذهاب إلى الامم المتحدة، والتي تتلخص في قضايا الحدود وعلى رأسها منطقة أبيي، والمناطق الاخرى المختلف عليها "جودة، جبل المقينص، كاكا التجارية، كافي كنجي، حدود الهبانية مع دينكا ملوال في جنوب دارفور"، ومياه النيل، والجنسية، والبترول، والديون الخارجية. والتي تحولت إلى تعميد بالنار، فأحالت كل حمامات السلام التي أُطلقت في سماء جنوب السودان في ليلة الإنفصال إلى رماد تذروه الرياح.
    إن الأحداث الأخيرة كشفت بجلاء زيف ادعاءات السلام الخداعة فبعد ان كانت المعارك في نمولي وكايا وديم زبير أصبح القتال داخل أم درمان (بل والخنادق تحفر داخل القيادة العامة الخرطوم نفسها بعد هجوم خليل الأخير)، إضافة إلى ماجرته على البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، جراء تلاعب الحركة الشعبية بها ووضعها للخطوط و التحكم في المسارات التي نتخذها، بسياسات خفضت عملتنا الوطنية بحوالي 120% في أشهر معدودة (من اكتوبر 2010 وحتى ابريل 2012م)، بالإضافة إلى تفكك النسيج الإجتماعي، وما يحدث في المناطق الطرفية وتصعيد للصراع بين المركز والأطراف (جبال النوبة جنوب كردفان دارفور وربما الشرق)،
    ويبقي الأسوأ هو ما كشفت عنه أحداث هجليج مؤخرا، فقد كان المراقبون يعبرون عن قلقهم لمساعي حركة قرنق في تقسيم السودان إجتماعيا إلى "عرب وغير عرب"، إلا أن التطورات الأخيرة في هجيلج، قد كشفت أن الحركة يمكنها أن تحدث إختراقا أكبر من ذلك، وذلك ليس عبر تحييد قبائل عربية كبيرة مثل المسيرية والرزيقات، ولكن بتجنيدهم وتوظيفهم في حربها (وذلك بإيغار صدورهم على المركز من خلال تذكيرهم بالمظالم التي يوقعها المركز عليهم، وتصويره بأنه الهدف المشترك الواجب إزالته، لاحظ تراجع لفظ جلابة في ادبيات الحركة حاليا) وهذا من الخطورة بمكان حيث أنه سيعيد السودان إلى ما قبل اتفاقية البقط كما ذكرنا في مقدمة الكتاب.
    حصاد الهشيم:
    لقد جنى الناس اليوم الحنظل المر لذاك الغرس الذي وقع في نيفاشا في غفلة من المجتمع وصمت وتواطؤ مريب من قادة الأحزاب التي تسمي نفسها وطنية حتى العقلاء الذين شاركوا في هذه المهزلة التاريخية ولو بالصمت العاجز يتحملون نصيبا من وزر الجرم، من هؤلاء من رضي لنفسه الإبتزاز لكي يسكت – بإدعاء ظنين هو أن المرحلة لا تحتمل النقد- ومنهم من سكت لمصلحة ذاتية ومنهم كان يبحث عن "أية طريقة للفكاك من المؤتمر الوطني وقبضته القمعية" كما كانوا يروجون لذلك، متناسين أن المؤتمر الوطني إلى زوال، شأنه شأن البشر وأن هذا الوطن هو الباقي على مر التاريخ، وفي التاريخ سيذكرون بإعتبارهم أسهموا في هذا الخراب الكبير للبلاد، وقضت جنايتهم على مستقبل أجيال في رحم الغيب ستقوم بلعنهم صباح مساء كلما تقرأ سطرا في تاريخهم، ناهيك عن الحاضر الذي يحمل بين طياته شباباً، قاتلوا وذهبت تضحياتهم سدى، منهم من جاد بنفسه وتزين صورته جدران بيته، يتأملها اهله صباح مساء وهم يرون دماءه قد ذهبت هدرا، لا يجدون إجابات مقنعة تفسر لهم الحاضر، ولا يرون إنجازا واقعيا سياسي hأو إقتصاديا ثمرةً أو ثمناً لهذا الخذلان، ومنهم شباب فقدوا أطرافهم وأعضاء من أجسادهم، يقفون الآن وأسرهم على حافة الفقر، يتطلّعون بكل حسرة وندم، على سنين كانت في نضارة الزهر أنفقوها في طاعة قيادة اتضح أنها لم تكن تنظر إلى أبعد من أنفها، وغيرهم وغيرهم لا يملكون غير اللجوء الى علام الغيوب، الذين خرجوا في يوم من الأيام يبتغون وجهه صادقين له أن يجعل لهم من أمرهم مخرجا.
    لقد اوضح تعامل الحكومة مع قضية الجنوب أن قيادة الدولة المركزية تفتقر إلى رؤية شاملة، وهو ما اشرنا اليه في المقدمة، وقد فهم من حولها خطأ أنها لا يجدر التعامل معها إلا بالضغوط (سياسية عن طريق المجتمع الدولي، او عسكريا في الميدان ) وتلك هي الطريقة الوحيدة لتأخذ منها ما تريد بظنهم، وقد فهمت الحركة تجاوزا ومن ورائها حلفاؤها الإقليميون والدوليون هذه المسألة وعملوا على إستغلالها وإستثمارها إلى أبعد مدى ممكن، وهو ما وقع في التعامل مع الأطراف الأخرى من الوطن، وهو أفرز ما نعانيه الآن في جبال النوبة وجنوب كردفان ودارفور والشرق، الذي تجري محاولات مستميتة الي دفعه إلى حافة العنف، بإستغلال ضعف التنمية والفقر وغياب الرشد والوعي في مركز السلطة في الخرطوم (انظر قرار مجلس الامن الاخير 2046 ومهلة التسعين يوما والتي يصفها فقهاء القانون الدولي بانها ظاهرة فريدة في نسق العلاقات الدولية).
    الدعاية لقرنق وسط شباب الحزب
    في نهاية هذا الفصل لا بد من التطرق إلى قضية وان كانت معنوية وتبدو ثانوية ولكنها شديدة الإلتباس والإرتباط بما ذكرناه، فما أن دخلت الحكومة في معجنة التفاوض المشار اليها، إلا وأصبحت بعد ذلك العجلة تدور بها مع كل يوم وتتطاول الجولات التفاوضية، يصبح قرنق وأنصاره مادة إخبارية علي صدر الصحف في الخرطوم ونشرات الأخبار العالمية يترقبها المواطنون، بعد أن كانت آلة الدعاية والإعلام الرسمية والحزبية تصفه بأبشع التهم مثل "العمالة والإرتزاق".(12) كانت تلك الصور تخط بدماء الشباب، فمثلا برنامج في ساحات الفداء قدم ما يقارب العشرين شهيدا من مراسليه الحربيين (كما اعترفت بذلك( BBC) في المعارك الحربية، إضافة إلى عشرات الآلاف من الشباب من القوات المسلحة والشرطة والدفاع الشعبي، الذين سقطوا وهم يرون أنهم يدرأون عن بلادهم خطر هذا "المرتزق والعميل" كما كانت تقول لهم قيادتهم. لم تُقدّر القيادة السياسية أثر الإنتقال النفسي من الهزة المعنوية القوية التي يتعرض لها فلم تعمل على تخفيفها أو التقليل من آثارها، بل تركت الحبل على الغارب، لقد كان من المفهوم في ظل الإنكشاف الذي أحدثه الترابي وضغوط العالم أن يكون هناك ثمن لتوقف الحرب وتحقيق السلام، و ليس لذلك وسيلة أجدى من التفاوض وتقديم التنازلات، ولكن ان تأخذ التنازلات شكل الترويج لقرنق وتصويره بأنه مناضل وأنه وطني غيور، وأن بعض القيادات كانت تدعو له في السر بالهداية وغيرها من "الخطرفات" التي أصبح يُروج لها في الرأي العام في نظر هؤلاء الشباب، لم تُراع القيادة خطورة هذه الفترة الطويلة من التعبئة ضد قرنق وحركته، وبالتالي لم يكن يدور في خلدها أنها تحتاج إلى مجهود أكبر لعلاج نفسي يقوم على تفريغ هذه المعضلة وحلها، ولكن بتركها معلقة جعلها تتطور لتأكل من مصداقيتها وتقضم من مشروعية هذه القيادة، ليتحول الأمر في نهايته إلى أن يصبح أزمة ثقة بين القيادة وقواعدها، خاصة القواعد الحية (مثل الشباب والمجاهدين والطلاب) في العمل المدني أو وسط الجيش، وهو ما أشرنا اليه في الفصول الأخرى من هذا الكتاب. فالقيادة تعتقد أنها إذا قنعت بشئ فإن القواعد ستتبعها كجنود وكتل صماء، دون بذل الجهد الكافي لإقناع أو إدارة حوار أو إعمال نقاش وكما يقول الانجليز ( taken them for granted ). فلم تنظر إلى أسر الشهداء والجرحى الذين أقعدتهم الحرب أو شردت ذويهم، كيف كانوا ينظرون إلى البشير أو نائبه او وزرائه الذين جاءوا يبشرونهم بإستشهاد راعيهم أو ابنهم، فإذا به يتقاسم الضحكات ويطري بثناء على القاتل، الذي لم يعترف بجرمه أو يقل خيرًا في أحد، وأثبتت الأيام أنه كان يدس السم في الدسم، في غمرة تلك الاحتفالات والرقصات وضحكات القيادة الطروبة.

    • راجع المحبوب عبد السلام، الحركة الاسلامية دائرة الضوء وخيوط الظلام، فصل قضية الجنوب.
    • راجع ما أشرنا اليه في فصل القوات المسلحة من هذا الكتاب.
    • راجع عبد الوهاب الافندي مقال صحفي، القدس العربي، لندن، فبرابر2012م.
    • تشير بعض الروايات الى أن إقالة اللواء جورج كنغور جاءت بمقترح من ابيل الير لنائب أول الرئيس علي عثمان، بإيعاز أن الير قد يقبل الدخول في الحكومة ولكنه بعد فترة اعتذر وقام بترشيح موسس مشار.
    • كان هناك خلاف بين الوزير المسؤول عن السلام (مستشار الرئيس) مكي بلايل ووزير الدولة في المستشارية د.مطرف بسبب تواصل الاخير مع القيادة من خلفه، علي اثره قام الرئيس باقالتهم جميعا ومن ثم تعيين د.غازي بعد عدة أيام بطريقة مفاجئة، وربما كان لبلائه في مسألة المبادرة المصرية الليبية المشتركة هو ما جعل الرئيس يقوم بتكليفه.
    • علي عثمان وغازي عتباني تربط بينهما صلات اسرية وشخصية قوية فالإثنان متزوجان من بيت زعامة قبلية وانصارية كبير في النيل الابيض، يجمعهما مع د.الترابي وصادق المهدي.
    • كان نائب الرئيس يميل الى الموافقة و لم تكن لديه أية تحفظات، ولكن من الواضح ان التأثير الكبير الذي كان يمارسه عليه اثنان من أقرب مساعديه كان شديدا(د.عوض الجاز وزير الطاقة، ود.نافع علي نافع وزير الحكم الاتحادي وقتها، يرون أن مستشار السلام يجنح إلى التجاوز و لديه طموح زائد دون إرتكاز على قاعدة قوى حقيقية داخل الحزب، وأن اعجاب الرئيس به غير مبرر) راجع ايضا حوار علي الحاج المشار اليه، فيه بعض الاشارات إلى هذا، كذلك يقول علي الحاج ان إبعاد غازي عن الملف تم إستجابة لطلب غربي.
    • راجع لام اكول من داخل ثورة تحرير افريقية حيث يقول: إن الحركة تعمل وفق استراتيجية تقوم على الاعتراف والتفاوض مع ما تسميه (the Government of the day) أي حكومة الامر الواقع في الخرطوم.
    • راجع ابيل اليرSouthern Sudan: Too Many Agreements Dishonoured، والذي ترجمها بشير محمد سعيد بـ : جنوب السودان التمادي في نقض العهود والمواثيق.
    • من الطريف أن أحد قادة المليشيات علق لموظف شمالي يعمل في مستشارية السلام - وقتها – على إثر حوار دار بين الاثنين حاول فيها الموظف التقليل من آثار الاتفاق بقوله انتم اخواننا تقاسموننا كل شئ فكيف نتخلى عنكم، فرد القائد بلهجة جنوبية مريرة (هوي يا أحمد إنتو بيعتوا أخوانكم المسلمين وسلمتوهم للأمريكان( وفي القول كما لا يخفي إشارة إلى الإتهامات التي كان يزايد بها حزب الترابي في فترة الإنشقاق أن الحكومة سلمت الإسلاميين الذين إستجاروا بها من دول الجوار إلى أعدائهم.
    • راجع فصل أزمة القيادة في المؤتمر الوطني في هذا الكتاب.
    • بعد توقيع اتفاق ميشاكوس اصطحب د.غازي وفداً استشارياً شعبياً يضم شخصيات حزبية معارضة وممثلين للمجتمع المدني، وعند اجتماعهم بقرنق قال لهم في ختام اللقاء مداعباً)هأنتم التقيتم بي واستمعتم الى وجهة نظري هل ترون أنني قرد او أن أسناني بارزة في الخارج مثل الغوريلا) وضحك الجميع، وقد كانت تلك هي الصور التي يعرضها التلفزيون له في فترة الحرب وخاصة برنامج في ساحات الفداء ويطابق صورته مع القرد، ويبدو أن الصور إنحفرت حفراً عميقاً في دخيلته مما يدل على الأثر والإنطباع الشديد الذي تركته الدعاية الإعلامية حتى لدى قرنق نفسه.
                  

04-10-2013, 08:05 AM

Mohamed Hamed Ahmed
<aMohamed Hamed Ahmed
تاريخ التسجيل: 01-31-2013
مجموع المشاركات: 327

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    ثم ماذا بعد في السودان ؟ على رأي محمد حسنين هيكل
    ولماذا يسكب كل هذا المداد هدرا[/
    B]بعد أن صارت البلاد جزرا
    وأصبح المتأسلمون ذمرا ذمرا
                  

04-10-2013, 08:47 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: Mohamed Hamed Ahmed)

    الإصلاح السياسي/ الفصل الثالث
    الفساد وإصلاح الخدمة العامة وجهاز الدولة:
    فدريشن في مركزية شمولية:
    قال الرئيس البشير في السادس من فبراير الماضي وذلك لدى لقائه قيادات الخدمة المدنية بأن سياسة التمكين التي كان نظامه يعمل بها قد ولت وانتهت، يذكر هذا القول بتصريح له سابق ابان تصاعد العمليات العسكرية في دارفور في الصيف الماضي (2011) والذي قال فيه اننا ورثنا مشكلة دارفور من العهود السابقة، وفي سنن ابي داوود من صحيح الاحاديث ( لايُتم بعد البلوغ) كيف لنظام استمر في الحكم ثلاثة وعشرين عاما أن يتحدث عن تركة من كان قبله ؟؟ مثل هذا الحديث يمكن ان يأتي بعد أشهر من تقلد المسئولية، او قل عاما أو عاما ونيف، ولكن لا يليق بالرجل وهو قد بلغ الحلم واشتد عوده وصار في حكم المكلف، ان يطالب بمعاملة اليتيم ويأخذ امتيازاتها.
    في كتابه الثورة والإصلاح السياسي شبه د. عبد الوهاب الافندي (1) قضية إدارة الحكم في السودان بنظرية الثقوب السوداء التي يُدعى ان الكون تكون منها ونقل عن د.جعفر محمد علي بخيت قوله عن الحكم المركزي في فترة الاستعمار البريطاني ودور الحاكم العام البريطاني بالشمس التي تدور حولها افلاك القوى السياسية الاخرى باختلاف وتنوع أجهزتها، وبأفول شمس الاستعمار وغياب الحاكم العام حدثت الفوضى ووقع هذا الانتقال غيرالمنظم الى نظام لا مركزي دون تدريج او تهيئة، ويمضي د.الافندي في تشبيهه ذلك الي أن العهد الذي تلي تغيير 30 يونيو يعتبر من أشد العهود إنكماشا في تاريخ السودان الحديث علي الاطلاق –يقصد مركزية- فقد سعى النظام بعد التغيير مباشرة الي اعتماد سياسة التفكيك ومن ثم التركيب بما يوافق الاستراتيجية التي يجب أن يتم بناء الدولة عليها وفق رؤية د.الترابي لها مع تعقيدات الواقع وتشعباته(2). وما خلفه ذلك من صراعات تكشفت علي الارض مع كل يوم يمضي لتُزاح مع تعرية كل طبقة صراعات مراكز القوي في الحكم الجديد(3). فكما أشرنا إلى الرئيس البشير ومن خلفه جهاز الدولة البيروقراطي التقليدي (الجيش، الشرطة، الخدمة المدنية،...الخ)، ود. الترابي ومن خلفه المكون السياسي للحركة والتي يُفترض ان تواليها أجهزتها التنظيمية والتي كان علي رأسها نائبه علي عثمان، الذي أصبح مع الايام يقف على مسافة متساوية من الطرفين قبل ان يجد نفسه في صف البشير ويحمل معه ما استطاع من أجهزة الحركة التنظيمية، في أثناء عملية الإنتقال هذه كان كل طرف يحاول أن يجعل لنفسه آليات وروافع يتسند عليها عند الضرورة، وذلك ببناء أجهزة للحكم تماثل أو توازي مؤسسات الدولة التي يسيطر عليها الطرف الآخر، أوضح مثال علي ذلك ما وقع بعد خروج الأمن القومي من يد الترابي ووجد أنه لا يستطيع ان يملي قراراته على القائمين على امره (خاصة بعد محاولة الرئيس مبارك في أديس ابابا) فسعى إلى تعزيز قدرات جهازاً الأمن الشعبي، ومده بموارد مالية كبيرة وكوادر بشرية مميزة – بالطبع في هذه الفترة لم تكن الغالبية العظمي من عضوية التنظيم تستشعر أن هناك صراعاً تحت الارض بين قياداتها ولكنها كانت تتعامل بكل ثقة أن هذه الأشياء جزء من إستراتيجية الحركة العامة لإنفاذ مشروعها الرسالي- الأدهي والأمر ّ هو ان الشيخ مضي ابعد من هذا حين أسس جهاز للأمن الشعبي الخارجي بل وضع علي رأسه احد العسكريين ولكنه كان صاحب ولاء شخصي للشيخ وغير مرغوب فيه من أترابه في الجيش. في خطابه بعد قرارات الرابع من رمضان عن صعوبة الحكم في ظل وجود "إزدواجية في القيادة" لم يكن يدري أنها في الحقيقة "تثليثية" بمعني أن الولاء لم يكن مزدوجا ومقسما بينه و د.الترابي، بل كان هناك ولاء ثالث، من باب الانصاف أنه لم يكن مقصودا لعلي عثمان في ذاته ولكن تحلق الكثيرون من أبناء الحركة حوله، رغبةً وطلباً في مستوى متوسط، لا يريد صداما بين قطاعات الحركة السياسية والعسكرية علي طريقة الترابي، ويرغب ان تمضي الامور بسلام لما فيه مصلحة البلاد والعباد، عبر عن هذا التيار شخصيات محترمة مثل البروفيسر عبد الرحيم علي، مهدي ابراهيم، عبد الجليل الكاروري..الخ.
    بعد الرابع من رمضان (ديسمبر 1999م) ولتوفر الثقة التامة بين اطراف اتخاذ القرار في القيادة لم يتم ازالة التشوهات السابقة والعودة الى تقوية المؤسسات الرسمية في الدولة بل على النقيض من ذلك جرى تقنين الامر ببرامج وقرارات رئاسية جعلت قول "اندريه مورواه" (ما اشبه الليلة بالبارحة) واقعا معاشا، ولكن دون قيادات حقيقية قوية، او مؤسسات مبنية تحكم، مما خلّف هذا الوضع الشائه الحالة الراهنة وما تمثله من تبعات وفي بعض الاحيان تضارب، فالحكومة لديها وزارة زراعة اتحادية ووزارات زراعة في كل ولايات السودان (خمس عشرة) ومع ذلك لديها برنامج النهضة الزراعية الذي هو ليس مستوى سياديا يذلل العقبات، او منتدى فكريا يضع الموجهات، بل جهازا تنفيذيا لديه دوائر وميزانيات وصيغ له قانون و كادر مالي خاص به، وغير ذلك من صميم اختصاصات الوزارة المعنية. ذات الشئ يمكن ذكره عن وزارة الاستثمار والمجلس الأعلى للإستثمار، كذلك ما كان من وزارة المالية وهيئة السدود التي تتبع لرئيس الجمهورية مباشرة، فقط بناء على علاقة المسئول الشخصية برئيس الدولة وليس إستنادا الى خطط وبرامج مدروسة وأولويات محددة(4)، وهناك مركز الدراسات الاستراتيجية والمجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي.
    كل ذلك على مستوى الجهاز التنفيذي أما في رئاسة الجمهورية فالوضع أشد عجبا وعدد لا يقل عن خمسة عشر مستشارا للرئيس دون اعباء محددة او ملفات مسمية وهم بدرجة وزير مركزي Minister without portfolio)) وتستمر هذه الحالة فيما يشبه الفوضى فتنشأ مستشارية لشئون الجودة الشاملة ودرجة وزير او مستشار رئيس لشخص بالاساس يقيم خارج البلاد مع وجود هيئة عامة للمواصفات والمقاييس مع وجود عشرات المستشاريات الاخريات. هذا الى جانب الخبراء الوطنيين الذين يأخذون مخصصات وزير مركزي وهم في درجات وظيفية اقل (روي مستشار قانوني من ديوان النائب العام انتدب للعمل بالقصر الجمهوري أنه طيلة ستة عشر عاما قضاها الرئيس نميري في الحكم، قام بتعين خمسة عشر شخصا بدرجة خبير وطني، وأنهم قاموا بعمل احصائية هذا العام – كان ذلك في العام 2006م- وجدوا انه قد صدرت اوامر جمهورية بتعيين أكثر من خمسمائة خبير وطني في خلال 17 عاما الماضيةاي منذ 30 يونيو) في يونيو من العام الحالي صرح المهندس حامد صديق امين الاتصال التنظيمي بالحزب أن بالحكومة الحالية «650» دستورياً بالولايات «178» وزيراً ووزير دولة بالمركز، في بلاد تواجه ازمة اقتصادية طاحنة وتدعو الشعب لشد الاحزمة.
    وفي ظل ضعف القيادات وتردي فاعلية المؤسسات اصبحت بعض القيادات الحاكمة تستغل جهاز الأمن وتحاول ان تقوم ببعض اعمال الدولة من خلاله، وهذا بدوره يطرح قضية محورية ترتبط بالدعوة لعودة الديمقراطية الحقيقية إلى البلاد، لا بد أن تبدأ من إخراج المؤسسات المحورية، وعلى رأسها القضاء والقوات النظامية والخدمة المدنية من دائرة الصراع السياسي والحزبي، لذلك ومنعها لأي شكل جديد للإزدواجية، كما يجب إجراء عملية فصل كامل بين الحزب " الذي سيحكم" وجهاز الدولة حتى لا يتغول أيُهما على الآخر.
    ويسألونك عن الفساد:
    في وجود هذه القائمة الطويلة من المؤسسات الموازية إما أن تصيب أجهزة الدولة التقليدية بالشلل والإتكالية، ومن ثم تمييع المسئوليات، او تتغول عليها وتقوم بضمها تحت جناحها، النتيجة الواضحة التي تقود اليها هذه العملية في نهايتها الطبيعية هي الفوضى والفساد، وللحديث عن الفساد نجد صعوبات حتى نفسية في تناول هذا الملف الجارح الذي يقدح في مشروعية التجربة ويأكل من رصيد عظمها الاخلاقي بطريقة بشعة. ان هناك أمرين لابد من الإشارة اليهما، الأول هو أن الفساد ظاهرة تعبير عن ضعف إنساني طبيعي، لم تسلم منه أمة من الأمم أو شعب على مدار التاريخ، حتى الذين كانوا في رفقة الأنبياء كما يخبرنا القرآن والسيرة النبوية المشرفة، ولكن المفارقة تكمن في طريقة الإعتراف به والاعلان عنه ومن ثم كيفية التصدي له، وهذه هي التي تحدد أين يقف الناس من حكامهم ومسئولييهم، فالحاكم الذي يعترف بكل شجاعة ومن ثم يقوم بإجراء المحاسبة و الحسم والردع لكل من تسول له نفسه التلاعب بالمصالح العامة، يجد كل الإحترام والثناء من شعبه وتابعيه، والذي يقوم بعكس ذلك بمطاردة الصغار والضعفاء من اللصوص والتستر على " القطط السمان" من المحظيين، عليه ان يستبشر بالهلاك المبكر، كما قال نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها(، الامر الثاني والأخطر هو التطبيع النفسي مع هذا القضية العظيمة ومحاولة التعايش معها، وهو في نكرانه وفحشه أكبر من الجرم الأول " التستر عليه"، والله عزوجل يقول )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( فالإمتناع عن النهي عن المنكر والتطبيع معه يستوجب لعنة الخالق على فاعله، فالأول يجلب الهلاك بنص الصحيح من الحديث، والثاني ينذر باللعنة والعياذ بالله بمحكم التنزيل.
    سنحاول في هذه السطور التطرق للقضايا التي طفت في الرأي العام واقرت بها الحكومة، ولن نذهب لتناول ما تناقلته المواقع الاسفيرية من أنباء ربما- نقول ربما - تكون مجروحة في شهادتها طالما ان الدولة لم تعلق عليها. فعلى سبيل المثال كانت الطريقة التي اعلن الرئيس البشير بها عن املاكه الخاصة في الحوار التلفزيوني الذي اُجري معه في فبراير الماضي – وسبقت الإشارة إليه- الماضي شكلت قمة الشفافية، إلا أن الطريقة التي جرى التعامل بها مع الأكاديمي بروفيسور محمد زين العابدين الذي كتب مقالا في الصحف يسأل الرئيس عن أملاكه هذه من اين ومتى اكتسبها؟؟ وبطبيعة الحال طالما أن الرئيس أعلنها بهذه الشجاعة فهذا يعني أنه يعرف كيف يرد بالوثائق والمستندات وهو متحدث لبق، ولكن أن يتم إغلاق الصحيفة واعتقال الكاتب، دون بيان أو توضيح كان أمرا مخجلا ومحرجاً لا يمكن فهمه أو تبريره، حتى بيان جهاز الامن الذي تحدث عن الأمر ووصفه بأنه "حماية للمقاتلين الذين في الثغور" لم يكن مقنعا، لأن الذين في الثغور يجب حماية اموالهم من التعدي عليها، ومكافحة الفساد الذي يأكل اقوات اسرهم وحليب اطفالهم.
    إستراحة محارب:
    لا شك الجميع يعرف العلاقة الانسانية التي تربط بين الرئيس البشير ووزير الداخلية السابق عبد الرحيم من حب وولاء شديدين، إلا ان الحق أجدر ان يتبع والقرآن يقول(كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم) فعلى الرغم من اجتهاد الوزير المقدر وطاقته الدافقة في الدفاع عن الدولة وسهره في ذلك الليالي الطوال، الا أن ما حدث منه في صيف عام 2005م عندما إنهارت بناية جامعة الرباط التابعة لجهاز الشرطة، وما تبعها من تداعيات جعلت الامر مسيئا ليس للوزير فحسب بل لكل النظام بكل من ينتمي له قبل ان تكون دفاعا عنه، فحتى إنهيار المبنى كان كل شئ في حدود المعقول وما تبع ذلك من تعيين لجنة تحقيق وتقصي حقائق ترأسها المدعي العام وشملت عضويتها مختلف التخصصات من المجلس الهندسي الى البوليس...الخ، وصدر تقرير اللجنة بعد مطاولات وضغوط في الرأي العام، وجاء في صدر التقرير ادانة واضحة لموقف الوزير وطريقته في ادارة الملف واشارت الى اطراف ليست بعيدة عنه انها كانت تتلاعب في المواصفات وامرت باخلاء عدد كبير من المباني التي أنشأتها هذه الشركة باعتبارها دون الحد الادنى من مواصفات السلامة المطلوبة ليشغلها الناس(5)، وحال صدور التقرير الذي تحدث عن سلسلة أخطاء لا لبس فيها ارتكبها الوزير "او تمت تحت حمايته" قام الوزير بالإعتراف بإرتكابه هذه الأخطاء والإقرار بما جاء في تقرير لجنة التحقيق فلم يطعن فيه أو يقل أنه غير صحيح أو ظالم، بل أقر بذلك وعضد هذا الإقرار بتقديمه إستقالة مكتوبة لرئيس الجمهورية، الذي بدوره أقر المشهد المتكامل الذي امامه بقبوله للإستقالة وإعلان ذلك للرأي العام، مما يعني الموافقة أو "مباركة" هذه السيرورة، وحتى الآن الأمور تمضي بطريقة مثالية لا تختلف عن كل الحالات التي تعالج بها أم الديمقراطيات مثل هذه القضايا في كل العالم، لكن غير المفهوم هو أن يتم ونتيجة لأشياء غير مفهومة تماما إعادة تعيين الوزير الذي قطعت الدولة كل هذا الوقت في التحقيق في "أخطائه"، ومن ثم أعيد المحارب القديم من استراحته، ليس في وزارة جانبية تعيد له الإعتبار، ولكن في أم الوزارات التي تحمي البلاد من الداخل والخارج. ربما يُكن الرئيس عاطفة زمالة ومودة شخصية شديدة للوزير، وهو وفاء قد يستحق التقدير، والوزير ربما هو أهل لهذه المودة، إلا أن خلط هذا بالعمل العام ومصير البلاد على المحك، فهذا بلا شك تفريط لا يمكن الصمت عليه.
    علل وأدواء الخصخصة:
    في العام 2005 وبعد توقيع اتفاق نيفاشا للسلام قامت الحكومة السودانية بخصخصة أهم خمس شركات مملوكة للدولة في مقدمتها الخطوط الجوية السودانية والنقل النهري وشركة هجليج لخدمات النفط، وتحولت ملكيتها لمؤسسة اقتصادية كويتية كبيرة، وبعد اسابيع معدودة خرج وزير الاستثمار الذي كان يفاوض نيابة عن الحكومة في خصخصة هذه المؤسسات من التشكيل الوزاري واصبح رئيس مجلس ادارة المجموعة الممثلة للمالك الجديد في الخرطوم!!!
    في خريف العام 2011 قام البرلمان باستدعاء وزير الزراعة على خلفية تداول بعض المعلومات الخاصة بالتلاعب بدخول اسمدة فاسدة – لم تكن قضيتا فضيحة مؤسسة الاقطان، أو القطن المحور جينيا قد ظهرت في ذلك الوقت- جاء الوزير ليلقي بيانه أمام البرلمان وبداخله نواب الشعب المنتخبين، في اليوم التالي تناقلت الصحف وبالخط الأحمر أن وزير الزراعة قال تحت قبة البرلمان وعلى مشهد من وسائط الإعلام (إذا مضى هذا التحقيق إلى الأمام فإن رؤوساً كبيرة ستقع) وتم تحويل الملف إلى وزارة العدل للتحقيق ولم يسمع به أحد بعد ذلك.
    كذلك قضية الأوقاف أو "قضايا الأوقاف" التي أعلنها الوزير بنفسه واتهم فيها وكيل الوزارة والوزير السابق ولم يعرف أحد ما الذي حث بعد ذلك، كذلك قضية الأقطان، المستشار مدحت، وسكر النيل الابيض الذي تحول إلى فضيحة إقليمية لحضور الضيوف الأجانب من الممولين لمشاهد من العرض المخزي، ولم نسمع بشخص تمت محاسبته أو مجرد التحقيق معه. حتى إن ثبت أن هناك تحقيقا فما جدوى التحقيق مع مدير وإيقافه عن العمل بعد تسببه في ضياع (1.2 مليار دولار). إن العقوبة لمثل هذه الجرائم في الشريعة الاسلامية التي نتبجح صباح مساء بعزمنا السير عليها وعلى هداها واضحة كما ذهب إلى ذلك جملة الفقهاء "القطع من خلاف" وهو حد الحرابة إن لم يكن القصاص، في بلاد يموت فيها الناس من الأدوية الفاسدة والأطعمة المسرطنة وتنهب مئات الملايين من الدولارات ويموت الاطفال في مستشفى سرطان الاطفال لعدم توفر جرعات العلاج (في الأسبوع الأول من شهر يونيو 2012 مات عشرة أطفال في مستشفى الخرطوم قسم العلاج النووي مصابين بسرطان الأطفال لنقص حاد في الجرعات الكيمياوية التي يتعالجون بها، تحججت الحكومة بعدم وجود عملة حرة).

    • د. عبد الوهاب الافندي، الثورة والاصلاح السياسي، ص96.
    • راجع المحبوب عبد السلام، الحركة الاسلامية دائرة الضوء- خيوط الظلام، ص207.
    • المصدر السابق ص210-211.
    • العلاقة القوية جدا بين الرئيس البشير والوزير اسامة عبد الله أثارت على ما يبدو فضول السفير الامريكي في الخرطوم البرتو فرناندز، ومن الواضح أنه حار في تفسير طبيعي لها، حيث كتب في إحدى برقياته لواشنطون - كشفها موقع ويكيليكس الشهير- إنهما متزوجان من شقيقتين وذلك قطعا ليس صحيحا.
    • راجع التقرير الصادر عن وزير العدل الذي أعلنه في مؤتمر صحفي وزير الدولة، علي كرتي وقتها.
                  

04-13-2013, 10:23 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    .
                  

04-15-2013, 10:00 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الإصلاح السياسي/ الفصل الرابع
    الجيش ونظام الحكم في السودان
    تعتبر الأحداث التي وقعت في منطقة هجليج وما مهّد لها من مقدمات أو تلاها من تداعيات أجدى وأفعل المحفزّات في إعادة النظر إلى القوات المسلحة السودانية وعلاقتها بالسلطة القائمة أولاً من جهة سياسية، وثانياً وظيفياً وأخيراً التشابك بين الجيش من جهة وبين الوطن بكل مكوناته (تاريخ وجغرافيا) وكما في السجال المشهور بين شارلي ديغول وونستون تشيرشل فإن الحرب أكبر من أن تُترك للجنرالات وحدهم كما كتب الأخير، وكذلك أكبر من أن تُترك للسياسيين وحدهم كما رد معلقاُ ديغول، من هذا الباب ومع طبول الحرب التي تُقرع في كل محليات السودان يبقى الحديث عن الجيش أمرا لا مناص منه، فلماذا يُطلب من المواطن أن يقدم نفسه أو ولده أو يستقطع من ميزانية تعليمه وصحته ـ على محدوديتها ـ ليشارك بها في المجهود الحربي إن لم يكن مسموحاً له بالإطلاع على مجريات الأمور والإلمام بمواطن الخلل وكيفية معالجتها، في هذا الفصل نحاول إدارة حوار موضوعي هادئ على ضوء المصادر المنشورة عن مؤسسة الجيش وعلاقتها بالسلطة الحاكمة.
    الجيش والدولة:
    التلخيص غير المخل لعلاقة الجيش ببقية مؤسسات الدولة يمكن اختزاله في كلمة "الأمن القومي" والأمن القومي بمفهومه الشامل يعني ما هو أكبر من السلاح حيث يتصل باللوجستية والمواصلات والاتصالات والكساء والغذاء والدواء والتعليم والإدارة الرشيدة... إلخ وغيرها من ضرورات المعيشة التي تجعل الحياة ممكنة على أرض الوطن . وكما هو معلوم فإن اتصال حلقات هذه الأشياء تجعل مفهوم الأمن القومي أبعد من حمل السلاح أو العمل الشرطي فالشح في التنمية والخدمات الصحية والتعليمية أو غياب التعليم أو تأخر الانصهار القومي يقود إلى حروب أهلية وفوضى وإنهيار للأمن ومن ثمّ يُدعى الجيش للتدخل مقابل سوء الإدارة الحكومية ... إلخ. ومن ثمّ تجد القوات المسلحة نفسها في خضم الأحداث وتقع المسئولية على عاتقها.
    فكل الأحداث التي تقع داخلياً أو خارجياً تعود بصورة أو بأخرى لهذه النقطة. فمثلاً إذا حدث سوء في إدارة علاقات الدولة الخارجية ربما يتطور هذا التوتر إلى أن يصبح عملاً عسكريا فيكون البديل للدبلوماسية هو السلاح والقتال هذا وفق ما قال به كلاوتزفيتس، كذلك سوء إدارة التنوع العرقي والثقافي أو الفجوات والتفاوت في التنمية في أي وطن مع انسداد أفق الحوار الوطني أو إنعدام وسائله يقود إلى حرب أهلية ويكون الجيش هو المتحمل الأكبر لهذا العبء.
    أذاً فالجيش هو أمين الشرعية (المفترض) وهو الحرس الوفي والمرجع الأخير لحماية التوافق الوطني الموجز في دستور البلاد كما في النموذج التركي، وهو المدافع عن التهديد الخارجي للوطن، وهو أكبر مؤسسة بيروقراطية في الدولة، ولها الكلمة الأخيرة في كل ما يتهدد أمن الوطن وسلامته ( يُشبه أصحاب المدرسة البنيوية الجيش بالهيكل العظمي في بنية الدولة والذي لا عوض لجسم أي إنسان عنه، ويقول عنه آخرون إنه المؤسسة القومية الأكثر تنظيماً وأقوى تلاحما وإنضباطا). بهذه الصفات فإن كل تحرك شعبي يتجه نحو تغيير أي نظام حكم يذهب صوب القيادة العامة للجيش، هذا ما حدث في انتفاضتي اكتوبر 1964م وأبريل 1985م في السودان على الرغم من أن حكام البلاد كانوا يتقلدون تلك السلطة باسم القوات المسلحة، إلا أن الجماهير كانت تحب ولو غريزياً أن تميز دائما بين السلطة وجيش الوطن حتى وإن كانت قيادات الجيش في تلك الفترة من أخلص أنصار الحاكم. وهي ذات الأشياء التي أدت إلى تعطل انتفاضتي اكتوبر وسبتمبر 1995-1996م اللتين فاقتا بحسب شهادة المراقبين انتفاضة أبريل 1985م إلا أن عدم انحياز القوات المسلحة لجانب المتظاهرين أقعدهما عن اكتمال المسيرة المرجوة.
    النقطة الثانية في تشابك علاقة الجيش بالوطن هو التفاعل الداخلي في بطن مؤسسة الجيش نفسها فكل ما يعرّض جيش الدولة للخطر يجعل مصير هذه الدولة في مهب الريح، وكلما انكسر جيش دولة ما في الميدان فإنه يُرجع السبب في تلك النكسة أو الهزيمة إلى السلطة السياسية أو عوامل داخلية فيها، ومن ثم ينقضّ على السلطة في المركز باعتبارها خانت الأبطال الذين يحمون ثغورها في الميدان. والنماذج في دول العالم الثالث كثيرة ابتداءً من إنقلاب عبد الناصر في مصر الذي تُذرع له بهزائم القوات المصرية في معارك فلسطين 1948، أو إنقلابات البعث المتكررة في سوريا والعراق وليبيا إنعكاسا لهزيمة العرب في 1967م، وحتى إنقلابيّ جعفر نميري مايو 1969م أو البشير يونيو 1989م فإن التراجع والخسائر الكبيرة في ميدان القتال كانت هي العوامل الرئيسية في تحريك الرأي العام العسكري لقبول الإنقلاب على السلطة المدنية وعدم اعتراض القيادات العسكرية الأخرى على المنقلبين أو التصدي لهم بالمقاومة.
    الجيش والوطن:
    تعتبر القوات المسلحة السودانية من أعرق الجيوش الوطنية في أفريقيا بحيث تعود جذور تأسيسها إلى دخول محمد علي باشا إلى السودان أو ما يُعرف بالغزو التركي المصري (1821-1885م) كجذور متصلة ومتسلسلة غير منقطعة عبر الأجيال. يذهب بعض المؤرخين العسكريين بالتحديد إلى أن تمرد الجنود السودانيين في حاميتي جنود كسلا 1844- 1865 ثم واد مدني هو أول تاريخ موثق للقوات المسلحة السودانية(1).
    كان الجيش التركي في السودان يضم ستة أورط من الأتراك (6000 جندي)، واثنتي عشرة أورطة من السودانيين (12000 جندي)، وقد شاركت هذه القوات بعد نقل جزء منها إلى مصر في حروب الإمبراطورية التركية، مثل حرب القرم التي قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4 أكتوبر 1853، واستمرت حتى 1856م. وحرب المكسيك التي قاد الأورطة السودانية فيها البكباشي جبر الله محمد والصاغ محمد ألماظ والتي عملت في ماكسميلايان في عهد نابليون الثالث، وقد نالت أسمى آيات التقدير من الخديوية الحاكمة، وأصدر الأمير عمر طوسون كتيباً صغيراً أشاد فيه بحسن بلائها وعدّد انجازاتها، كذلك كتب عنها أحد المؤرخين الإنجليز كتاباً باللغة الإنجليزية. اتصلت هذه القوات حتى بعد حملة عرابي وتحرير السودان على يد الثورة المهدية، ومن ثم صارت قواتا مصرية تتبع للتاج العثماني تحت السيادة المصرية، ولكن تحت إمرة ضباط بريطانيين حتى جاءت حملة إعادة استعمار السودان التي قادها هربرت كتشنر، والتي كان الإسهام المصري فيها هم بقايا الأورطة السودانية السالفة من الجيلين الأول والثاني. ومن ثم أضحت هذه القوات تحت القيادة البريطانية (الإنجليزية ـ المصرية اسماً والبريطانية فعلاً) حتى تاريخ إنشاء قوة دفاع السودان (SDF).
    في نوفمبر 1924م في القاهرة قُتل الميجر جنرال سير لي ستاك وتبع ذلك توجيه إنذار شديد اللهجة من المبعوث السامي البريطاني في مصر اللورد اللينبي بطرد الجيش المصري من السودان وما تلاه من أحداث مثل قيام ثورة اللواء الأبيض (1924م) في السودان التي يلاحظ أن بعض قادتها في جناحيها المدني والعسكري نفر من أولئك الضباط ممن كان منهم في الخدمة مثل عبد الفضيل ألماظ أو في التقاعد مثل علي عبد اللطيف. وبعد إكمال خروج الجيش المصري من السودان أصبح التاريخ الرسمي لإنشاء القوات المسلحة السودانية هو العام 1925م تحت مسمى قوة دفاع السودان (Sudan Defense Force)(SDF). ولكن الواقع أنها بُنيت على الجذور السابقة للأجيال التي ذكرناها وفق الأعراف والتقاليد التي وضعت والتي توضح بجلاء عراقة وأصالة هذه المؤسسة (مقارنة مع الدول المحيطة بالسودان جميعاً ربما باستثناء مصر التي تنتسب المؤسسة العسكرية في جذورها المتصلة جيلاً إثر جيل إلى محمد علي باشا وبعثاته العسكرية إلى فرنسا بعد العام 1831م).
    صدر قرار التأسيس من الحاكم العام البريطاني الجنرال لي هدلستون ـ وهو في الأصل ضابط انجليزي ـ الذي أصبح أول قائد عام لقوات دفاع السودان، فأُعيد افتتاح الكلية الحربية التي أصبحت تمنح براءة الحاكم العام في السودان عوضاً عن براءة الخديوي الأميرية التي كانت تُمنح في السابق ويؤدي بموجبها الضابط السوداني يمين الولاء لخديوي مصر(2) ويصبح بالتالي ضابطا في الجيش المصري، فأصبح الولاء الجديد لحاكم السودان ـ البريطاني الأصل ـ وتم استيعاب كل الضباط السودانيين من القوات السابقة في الجيش الجديد الذي صدر بموجب قانون جديد وبنفس رتبهم ومخصصاتهم بل جرى تحسين بعض شروط خدمتهم(3). وتم وضع عقيدة قتالية تقوم على أساس الولاء للسودان وحكومته الماثلة والتي كانت هجيناً لا هي حكومة احتلال ولا سلطة إنتداب وتعرف بأنها "إدارة بريطانية تنوب عن السودانيين في تسيير أمور الدولة".
    يرى كثير من المؤرخين أن الاصرار الشديد للموظفين البريطانيين على منح السودان استقلاله عن بريطانيا ومصر، كان عرفاناً للدور الكبير الذي اضطلعت به قوات الدفاع السودانية ـ خاصة في الحرب العالمية الثانية في معارك اثيوبيا وشمال الصحراء في ليبيا (راجع محمد خير البدوي، بطولات سودانية) ـ وممانعتهم لإجراء مقايضة السودان بتركه لمصر مقابل منح امتيازات مصرية لبريطانيا في منطقة قناة السويس، وصل هذا الاصرار في بعض الأوقات إلى تمرد الموظفين البريطانيين في السودان على قيادتهم في لندن، عند تراخي نظرة لندن للسودان في صالح مصر، ويعلل هؤلاء المؤرخون هذا الاصرار والتمسك إلى عهد قطعته الإدارة البريطانية لقوة دفاع السودان (الجيش السوداني) بأنها إذا قاتلت إلى جانب بريطانيا وكسب الإنجليز الحرب فإنها ستمنح السودان (الحكم الذاتي وحق تقرير المصير) استقلاله التام وهو طلب زكاه وقوف كل النخب السودانية الدينية والوطنية إلى جوار حكومة الإنجليز خلال فترة الحرب. فأصبح بذلك الشعب السوداني مديناً لجيشه بالفضل في استقلاله، (راجع مقال "استقلال السودان والجنود المجهولون" في العدد الرابع من مجلة سنار) وتكشف بعض الوثائق البريطانية(4) أن بريطانيا عندما جردت حسابات ما بعد الحرب فإنها وجدت نفسها مدينة بمبلغ مليوني جنيه استرليني للسودان وقتها كجزء من اسهامه في المجهود الحربي، قامت الإدارة الاستعمارية بتحويلها إلى جامعة الخرطوم.
    الجيش والسياسة:
    بعد الاستقلال أصبح الجيش مؤسسة متداخلة في الشأن العام بطريقة مستمرة، إلا أنه لم ترصد أية محاولات اختراق من القوى السياسية المنظمة لكيان القوات المسلحة باستقطاب ضباط أو جنود لتجعل منهم كائناً عضوياً أو امتدادا لها، بل اكتفى الجميع بوسائل التأثير الناعمة والعامة مثل الصحف والكتب ودوريات النشر وغيرها لبناء الأفكار ومن ثمّ قواعد ولاء لهم في الجيش. استمر هذا الوضع حتى ثورة اكتوبر على الرغم من تسلم الجيش للسلطة في نوفمبر بواسطة القائد العام وبطريقة سلسة من رئيس الوزراء المنتخب مما فتح الباب لبعض القيادات الحزبية لإتهام حزب الأمة بأنه فعلها كمؤامرة ضد غريمه التقليدي الاتحادي الديمقراطي الذي توحّد بجهود ناصرية. إلا أن استلام السلطة عن طريق القائد العام وليس ضباط دونه يؤكد خلو المؤسسة من التنظيمات السياسية، حتى الحوادث المتفرقة التي وقعت مثل إنقلاب كبيدة أو علي حامد فإنها جميعاً تصنف ضمن اطار الصراع السياسي داخل المؤسسة ذاتها وبين ضباطها حتى وإن تأثروا أو اتصلوا بشخصيات حزبية فإنه كان اتصالاً فردياً محدوداً، لكنه قطعاً دون بناء تنظيمي عضوي داخل الجيش (أُتهم الرشيد الطاهر مرشد الإخوان المسلمين في احدى هذه المحاولات الإنقلابية وتم عزله من قيادة الجماعة لاحقاً بعد اكتوبر، حتى محاولة برات وحسين دارفور فانها كانت تجارب فردية، كذلك راجع أوراق منشورة على الانترنت في شكل تقرير لحزب البعث العربي الاشتراكي تحمل توقيع كسباوي، لمزيد من الاضطلاع على أثر ثورة اكتوبر واختراق اليسار للجيش.
    يعتبر "تنظيم الضباط الأحرار" الذي كان يرأسه محمود حسيب هو النقطة الأبرز في تاريخ إنشاء تنظيمات سياسية للضباط في القوات المسلحة تعمل كامتداد عضوي لتيار سياسي خارج المؤسسة، وتمتد جذور هذا التنظيم إلى ما بعد ثورة اكتوبر كما أورد الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر أحد أبرز منفذي إنقلاب مايو، وإن كان قد حمل على المكون الشيوعي في التنظيم باتهامهم بالتخاذل قبل التنفيذ بحجة أن اللحظة الثورية غير ناضجة(5). ورغم احتوائه على متناقضات بنيوية واضحة إلا أن الصبغة اليسارية أو "مدرسة الاشتراكية القومية" كانت متجذرة في العقل والفكر السياسي والعسكري للتنظيم، لكنه بلا شك يُعتبر التنظيم السياسي الأبرز داخل الجيش في تلك الفترة، ويؤكد ذلك نجاحهم في تنفيذ إنقلاب 25 مايو 1969 بطريقة سلسة دون إراقة دماء، ومن ثم أوصلوا الرئيس جعفر نميري إلى الحكم في سابقة متقدمة مستلهمة النموذج الناصري.
    إذاً فاليسار السوداني هو أول من قام بعمل سياسي منظم داخل القوات المسلحة السودانية باستقطاب ضباط يصلون إلى السلطة لحساب فكرهم السياسي والعمل على توجيههم من خارج المؤسسة العسكرية. اتسم البنيان الفكري والسياسي لهذا التنظيم بالهشاشة وهو ما أظهر الفوارق والتناقضات الكامنة فيه والتي قد عبرت عن نفسها في مرحلة لاحقة في صراع الضباط القوميين والمجموعة الشيوعية داخل التنظيم والتي كان وجود جمال عبد الناصر شخصياً كمرجعية لها احترامها عاملاً حائلاً دون تفجّر الخلاف. وهو ما يؤكده اعتقال عبد الخالق محجوب بعد أيام قليلة من جنازة عبد الناصر (حوالي أسبوعين) وعزل الضباط الشيوعيين في السلطة بعدها، مما قاد إلى مواجهات دموية بعدها بأشهر كما هو معروف (في يوليو 1971م) عندما وقع الإنقلاب على النميري ثم الإنقلاب المضاد الذي أعاده إلى السلطة مرة أخرى.
    عمد النظام المايوي بعد تلك الأحداث إلى فتح عينيه على آخرهما لرصد أي تيار أو حركة سياسية لبناء قاعدة علاقات لها قوة تتكتل داخل الجيش من أي إتجاه كان، لم تنج من تلك العيون حتى العصبة المحيطة بنميري نفسه والقابضة على زمام الأمور، فلم تسلم من الإتهام والمقابلة بالردع الحاسم متى توفرت معلومات كافية عن أي منهم (لم يسلم من مثل هذه الإتهامات حتى وزراء الدفاع المسئولين عن الجيش مثل خالد حسن عباس أو عبد الماجد حامد خليل في مرحلة لاحقة من الإتهام ببناء شعبية خاصة أو قاعدة تأييد مما يمكن توظيفها واستغلالها.
    هذه العيون المبثوثة جعلت هامش العمل لإحداث تغيير في السلطة من داخل أسوار المؤسسة محفوفة بالمخاطر ومكلفة في الوقت والجهد، فكان هو ما دفع القوى السياسية الوطنية إلى الإتجاه إلى العمل المسلح من الخارج، وهو ما أثبت فشله في عملية يوليو 1976م التي أثارت حفيظة الجيش الذي هب وثار للدفاع عن كرامته وقد وصمت تلك الانتفاضة المسلحة باسم غزو المرتزقة حتى بالرغم من كون قائدها من أميز الضباط السودانيين (العميد محمد نور سعد)، ولكن لاستخدامه قوات من خارج مؤسسة الجيش التقليدية ومن ثم قيامه بتدريبهم وتمركزهم وتعيين نقاط انطلاقهم من خارج البلاد، أصبح الإجهاز عليهم وتعبئة الشعب ضدهم من أسهل ما يكون، وهو ما جرى عندما تم وصفهم بأنهم مرتزقة وأجانب، فطاردت الجماهير من فهمت أنهم غزاة من الخارج يريدون احتلال الوطن، ولم يدر بخلد أحد أن هؤلاء هم طلائع الثورة الشعبية لإخراج الشعب من قبضة السلطة المايوية.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de