|
|
 الشاعر سيداحمد الحردلو ما بين حب الوطن ورمزية صرة الفلوس
|
الحردلو من المفترض ان يكون رمزاً وقامة في كل الوطن العربي ولكن آفة التواضع هي التي تحد من انطلاقتنا .. وهؤلاء الرموز احياناً يتم تقييمهم خارج نطاق الوطن وتأتيتنا معانيهم مأطرة بإطار انساني عالمي وبعد ذلك نبدأ في تمجيدهم .. كما في حالة الطيب صالح أو الفيتوري .. وفي هذه القصيدة يظهر عمق واصالة الشاعر .. لنقرأ معه ما وراء السطور :
سَاعةَ الطياره
يا دوبَكْ تقوم
وتِنْتَكي فوقْ بُري
أو بحري ...
وتحومْ
فوق المزارعْ
والمصانعْ
أو تكورِك في سَمَا الخرطومْ عُمُومْ
وقبْلِ ما تَسْتعْدِلَ السِكه
تقومْ في راسَكْ العَكَه
ويكوركَ الشوقْ
لم أتخيل ان يكون هناك احساس واحداً لكل البشر في لحظة ما من العمر .. لم اصدق ان يصور احداً تلك اللحظة التي مرت بي وأنا اغادر مطار الخرطوم في اول رحلة لي الى عالم الاغتراب .. كيف تقمص هذا الشاعر الجميل نمط هذه الحالة التي تحدث للكثيرين ممن يتركون الوطن خلفهم .. لقد وهب سبحانه وتعالى هؤلاء القوم ( واقصد الشعراء ) قدرة فائقة على قراءة خفايا احساس البشر .. ولم يؤتى مثل هذه الخاصية إلا الشاعر الحقيقي ولا أدري لماذا في كل حالة ابلغ فيها قمة النشوى السمو في قراءة الشعر اتذكر الراحل حمزة الملك طميل وتعريفه ( للشاعر بأنه المتأمل وغيره ليس شاعراً ) .. وقد تقصمتني هذه الحالة واكاد استحضر ذلك اليوم الذي غادرت فيه الوطن بعد وداع اخواني من كوة ضيقة في مطار الخرطوم وتوجهت نحو الطائرة وبعد الاقلاع بقليل كان لابد من القاء نظرة وداع على الوطن :
سَاعةَ الطياره
يا دوبَكْ تقوم
وتِنْتَكي فوقْ بُري
أو بحري ...
وتحومْ
فوق المزارعْ
والمصانعْ
أو تكورِك في سَمَا الخرطومْ عُمُومْ
هي لحظة فراق الوطن ونفس الصورة والتي أستطاع ان يعبر عنها الشاعر بكلمات بسيطة دون سفسطائية او تعقيد او تعابير ديكورية مفخمة تذهب بروعة الاحساس واللحظة .. وجاء تعبيره بكلمات في غاية البساطة لفظاً ولكن بعمق لا حدود له .. فهذا هو الابداع الحقيقي أن تأخذ الناس الى حيث انت وسط صور من الجمال والابداع بدون تعقيد .. وكأن الشاعر هنا يفيض بكرمه على عامة الناس وينثر عليهم درراً وذهباً دون اقصاء او تمييز او استعلاء معرفي او ثقافي ويجعلهم مشاركين له في هذا الاحساس دون أن يحصر دعوته على النخبة او على من اوتوا خبايا اللغة والقواعد .. وهذا هو الشعر الحقيقي والمؤثر وهذا هو نموذج الشاعر الرسالي الذي يخاطب العقل الجمعي لكل مستويات البشر ..
وكتْ نَمرُقْ
نشوفَكْ يا وَطنْ
مَالي المكانْ
مالي الزمَانْ
مالي البدَنْ
وهنا جاء الشاعر بهذا الجدل الازلي المثار في كل منابرنا في الوطن والمهاجر .. لماذا نفيض شوقاً وحباً ووطنية للارض عندما نكون في المهاجر ولا نحمل نفس الاحساس في دواخلنا عندما نعيش في الوطن ؟ هنا يحدد الشاعر اللحظة والزمان ( وكت نمرق .. نشوفك يا وطن ) وبلغ الشاعر درجة من التضخيم لهذا (الشوف) ولم يقل الحب وكلمة ( الشوف ) له معنى اعمق من الحب لأن الحب احساس غير مرئي ولا يراك احداُ وانت تحب ما لم تترجم هذا الحب الى ( شوف) .. ولكن ( الشوف ) هنا يختلف عن ( النظرة .. عادة النظر ) وتفسيره متروك لكل قاريء حسب احساسه .. و( الشوف ) يظهر اثره على تعابير الوجه وحركة الجسد ولكن الحب مكبوت وغيبي .. ولأن مدى الحب واسع جداً وفضفاض وبلا حدود مما يعطي نوع تمييع في التفسير . ولكن (الشوف ) محدد بخطوط محسوسة اذا كان شوفاً بالعين ولكن اذا كان الشوف بالقلب والذي يقصده الشاعر فله مدى اوسع والشوف هنا عند شاعرنا مزدوج ( بالعين وبالقلب ) ويشمل كل المكان والزمان والبدن .. ورغم كل هذا التشبب اللفظي بالوطن .. مازالت هناك المشكلة الازلية التي نمارسها واقعياً هو الحب اللفظي للوطن تماماً كما تفعل تلك الدجاجة بصغارها ( تحضنهم ولكن لا ترضعهم من ثدي ) وهو حب بلا مردود مادي .. فهنا اثار الشاعر هذا الحب الذي يكون بلا مردود حقيقي وفعلي للوطن بل وغير مترجم الى واقع عملي يمارس من خلال العقل والجسد كإنتاج ملموس في المزارع والمصانع والمدارس والمناجم وفي شتى دروب الحياة .. وسوف يأتى الشاعر بهذه القيمة المفقودة وهي الاهم في بناء الامم وثباتها وديمومتها .
مَالَكْ
مسولتْ بينا
في كُلَّ المدنْ
مَالَكْ
مساسِقْ بينا
في الدنيا العَبُوسْ
ملعونْ
أبو الفقر
اللي خَلانَا نكوسْ
في بحورَ الحزنِ
عن صُرة
فلوسْ
ملعونْ أبو الفقرِ
اللي خَلانا نعوسْ
في بلادْ عالمْ مجوسْ!
فالشاعر في هذه الابيات يبوح بالمسكوت عن شخصية السوداني ونمطية التبرير بالرمي بكل وزره على الآخر.. أنظر هنا كيف أخرج لنا تلك الصورة وعلى نسق نظرية (رمتني بدائها فإنسلت ) ويقول الشاعر ( مالك مسولت بينا ؟) وقد صور المتحدث أنه وبدون الشعور وفي صغية استفهامية استنكارية ودون تحفظ ( مالك ؟) وهي في العامية تستخدم كتعبير استفهامي ليس للاستفسار والتأكد فق ولكن للاستنكار أيضاً عن فعل ما .. ( وهنا روعة الشاعر بأن المتحدث قد حكم مسبقا وتوصل الى القرار بدون حيثيات ليبريء ذاته ) .. واستخدم عبارات مثل ( مسولت ومساسق ) وهي عبارات تدل على الاستمرارية والتكرار دون الوصول الى النهاية ويقصد به ان هذه الدوامة والمستندة عل تلك الاعذار الواهية سوف لن تتوقف ولا نهاية لها طالما أن نمطية حب الوطن مختلفة عندنا .. وكأن الوطن هو الذي صنع الفقر مع اننا نصنف من اكثر دول العالم تمتعاً بالموارد الطبيعية .. حيث النيل والصحراء والجروف والامطار والمراعي .. وكيف لنا ان نلوم وطناً وفر لنا كل هذه المعطيات وغيرنا لا يملك شيئاً مقارنة بمعطياتنا ولكنه يعرف كيف يحب وطنه وهل نخلط بين الحكومة والوطن .. ولكن عذرنا ان الحكومات لا تفرق بين منظومتها وبين الوطن فهؤلاء يحكمون كأن الوطن ملكهم او خلق من اجلهم وطول فترة الحكومات الدكتاتورية هي جعلت رسمت هذه الصورة للوطن في اذهان العامة .. ويظل الشاعر رحمه الله يبلغ هذه الرسالة الصادقة والامينة :
اللي خَلانَا نكوسْ
في بحورَ الحزنِ
عن صُرة
فلوسْ
ملعونْ أبو الفقرِ
اللي خَلانا نعوسْ
في بلادْ عالمْ مجوسْ!
وهنا خرج الشاعر من قوقعة الاحزان وآلام الفراق والحيرة والشوق وبدأ يدخل في عالم آخر جسده برمزية ( صرة الفلوس ) وهل البقاء في الوطن مرتبط بصرة الفلوس ؟ عجبي من نظرتنا للوطن والذي من المفترض ان يكون سترة حال لابنائه وحضن وملاذ لكل من يعاني .. ولكن ترجمة الواقع من خلال المادة جعلت تفسيرنا الدائم هو (الغربة سترة حال ) .. وهل جمع المال والتميز في مجتمع يسود فيه الفقر والحاجة هو المثل القيم لنا وهذه هي الصورة التي نراها اليوم ويجسدها اهل الحكم .. هل تكديس الاموال وتمتع بكماليات الدنيا وزخرفها وسط هؤلاء المحرومين وانت تنظر اليهم من خلال الشواهق من المباني هو النموذج المثالي .. وكأنه يستهجن مثل هذا السلوك في نبل يسمو يرقى الى درجة الايمان ..والذي يدعون الايمان لا يشعرون بذلك ..
وصدق الشاعر في هذا الاحساس الذي كان ينتابنا ونحن على ظهر تلك الرواحل وبعد لحظات من التخلص من وعثاء فراق الاهل والاحباب .. وكأننا سوف نعود بالغنائم من دنيا الاغتراب والذي اعتبرناه عالماً مهيئاً للكسبً السهل الميسر والسريع دون بذل المجهود الجسدي والذهني وهذا النمط هو المحبب لدينا او نتهم به بأننا نتكيء عليه كثيراً في حياتنا .. رغم أننا من اصلاب رعاة ومزارعين جبلوا على والعطاء .. وهكذا صور الشاعر ببراعة ومعايشة دقيقة لرحلة الامنيات واحلام اليقظة .. وخصوصية العودة بالغنائم ( صرة فلوس ) الى مجتمع فيه طعم خاص لقيمة المال وسط كوم من الحرمان ..
هكذا يدعونا شاعرنا الى المثالية والتوازن عند المقدرة المالية وعدم ممارسة السادية المادية وسط المحرومين والكادحين ..
هذه قراءاتي وربما تكون هناك قراءات اخرى .. ومن الظلم ان نحصر رجلاً بقامة الحردلو في نطاق ضيق ولغة محدودة
|
|
 
|
|
|
|
علي عبدالوهاب عثمان
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست