دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: الدكتور منصور خالد (1) ـ «السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام قصة بلدين (Re: Tanash)
|
د. منصور خالد (2): «السودان أهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين» التاريخ سيدين زعماء السودان لعجزهم عن تحويل التنوع السكاني والحضاري إلى مصدر قوة لندن: عيدروس عبد العزيز * إخفاقات الزعماء الشماليين كادت تصبح كتابا مدرسيا يتعلم منه الآخرون كيف تتحول الفرص إلى خيبة
* صفق السياسيون السودانيون لتجربة المؤتمر الهندي ولم يفهموا مضمونها
* رفض العروبيون السودانيون الإرث الحضاري القديم بحجة أننا «أمة عربية واحدة»
* يقول الدكتور منصور خالد وزير الخارجية السوداني الاسبق ان التنوع الذي حظي به السودان في موقعه الجغرافي ومناخه وتشكيلات سكانه وتداخل حضاراته وثقافاته المختلفة لم يكن «نعمة» عليه.. بل كان «نقمة»، بسبب حكام الخرطوم المتعاقبين الذين فشلوا في استغلال ذلك التنوع لخير البلاد. واشار في كتابه الجديد «السودان اهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين»، الذي يروي قصة 50 عاما ـ الاخيرة في السودان، الى ان دولا كثيرة في العالم في مثل مساحته او اكبر منه استثمرت الفوارق بين اقوامها بفضل بعد نظر زعمائها وحكمتهم، ومن بين هذه الدول الهند. واوضح خالد الذي يعمل حاليا مستشارا لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق، ان السودان ابتلي بـ«ازدواجيات» متعددة لم تعرفها بلاد الله الاخرى، خلفت آثارا سيئة للغاية، ومن تلك الآثار تولدت تعقيدات عانت منها البلاد بشدة. وضرب مثلا بازدواجية الجماعات الدينية المسيسة مثل طائفتي الختمية والانصار اللتين كما يقول «نشبت بينها خلافات عدائية وشخصية ومزاجية نابية.. لا تمت لاولويات الدولة او الوطن». ويذكر الدكتور منصور خالد الذي شغل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس السابق جعفر النميري ان الادراك السليم لهذه التعقيدات «يستلزم تحليلا لها تقام فيه الحجة بالدليل ـ فلها اكثر من غيرها ـ يعزى فشلنا في جعل التنوع مصدرا للقوة». وفي ما يلي حلقة ثانية من الكتاب:
* ازدواجيات سودانية:
* احتدمت الازمة السودانية حتى دخلت في مرحلة استعصاء تاريخي مرده عجزنا عن، او تجافينا، الخوض في عرق المشكل، لو فعلنا، لتوصلنا الى الرحم الموبوء الذي انسربت منه السياسات المدمرة التي اوردت البلاد موارد الهلاك، ولما اصبح الاستعصاء اختبارا للوطن كله. ما هي تلك الازدواجيات المتعارضة التي يصادم بعضها بعضا: بادئ ذي بدء، هناك الازدواجية الاستعمارية التي كان يعبر عنها باسم السودان الانجليزي ـ المصري. تلك الادزواجية احدثت انقساما بين السودانيين في سعيهم نحو استقلال بلادهم بطريقة لم تعهدها اي حركة تحرير وطني في العالم. ثانيا: ازدواجية الجماعات الدينية المسيسة (الختمية والانصار)، وما كان لتلك الازدواجية في حد ذاتها ان تصبح اداة تمزق، لولا ما انتهت اليه من خلافات عدائية نابية. مصدر الاختلاف هو ان اغلب الخلافات بين قيادات الطائفتين كانت شخصية ومزاجية ولا تمت لأولويات الدولة او الوطن بصلة. ثالثا: ازدواجية الشمال والجنوب التي افضت اليها عوامل ثقافية وسكانية وتاريخية وجغرافية. وفي هذا لم تكن الحالة السودانية حالة فريدة، اذ تعرضت لنفس الظروف دول اخرى، الا انها تجاوزت ازماتها بحكمة قياداتها. لنأخذ على سبيل المثال الهند، ثاني دولة في العالم من حيث تعداد السكان. تغلبت الهند على اختلافات عرقية ودينية ولغوية اكثر بكثير من تلك التي تعرض لها السودان. وما كان ليتسنى للهند ان تتخطى تلك الانقسامات، وترسخ دعائم اقوى ديمقراطية في الدول النامية قاطبة ـ بل نقول في العالم اجمع بحكم حجم جمهور ناخبيها ـ لولا حكمة زعمائها. ومما يبعث على الحيرة ان نضال الهند الوطني لاقى ترحيبا كبيرا من رواد الاستقلال السودانيين، بل انهم اتخذوا من المؤتمر الهندي نموذجا يحتذى عند انشاء مؤتمر الخريجين، اول تجمع سياسي سوداني. الا ان تأثر خريجي السودان بالمؤتمر الهندي كان تأثرا شكليا خاليا من المضمون. لم يستلهم رواد استقلال السودان من قادة الهند الافكار التي استهدى بها اولئك القادة في بناء وطنهم وتجاوز انقساماته الحادة. وليته كان للرواد بديل فكري نظير، فالخطاب السياسي يؤمذاك كان خطابا بلاغيا: فصاحة في القول وعنة في الفكر، خاصة الفكر الذي يتناول مشاكل السودان كما هي على وجه البسيطة. وعندما تتسيد الفصاحة على الخطاب السياسي ـ كما حدث بالامس ويحدث اليوم ـ يسحق الفكر، ويعتري السياسة هزال وغثاثة. اخفاق الزعماء السودانيين في تحويل تنوع السودان الاثني والثقافي والجغرافي الى تنوع خلاق يفيد شعبهم ـ كما فعلت الهند ـ يمثل ادانة تاريخية لتلك الزعامات. اشد سوءا ان السياسات الوبيلة التي اتبعها الزعماء الشماليون لمعالجة قضايا التنوع في السودان كادت تصبح كتابا مدرسيا يتعلم منه الآخرون كيف تتحول الفرص الى خيبة، وكيف تصبح اطلالة شمس الحرية فجرا كاذبا.
* القوى الحديثة:
* كما لو لم يكن في كل تلك الازدواجيات المتعارضة ما يكفي، برز على السطح تصنيف ايديولوجي سياسي جديد ليتضام الى سلسلة الازدواجيات الأُخر. فمنذ اوائل الستينات سيطر على السياسة السودانية استقطاب جديد: «القوى التقليدية» ضد «القوى الحديثة» او «القوى الديمقراطية» و«اليمين» ضد «اليسار»، والدعاة لـ«الدولة العلمانية» ضد اولئك الذين ينشدون «الدولة الدينية». ذلك الاستقطاب ـ اضافة الى عوامل التمزق الاخرى ـ جعل من تحليل السياسة السودانية كابوسا لعلماء السياسة ومؤرخيها. ولربما كان تصنيف القوى السياسية السودانية بهذه الصورة انعكاسا للفكر الايديولوجي الثوري الذي كان سائدا منذ الخمسينات وحتى السبعينات. فالاحزاب التي ارتكزت على قاعدة دينية، او تلك التي نسبت نفسها للدين، صنفت في عداد اهل اليمين، بما فيها تلك التي نهجت نهجا ليبراليا، او سعت للفصل العملي بين الدين والسياسة من دون ان تجهر بذلك لأسباب تكتيكية. من الجانب الآخر، ضم اليسار الحزب الشيوعي والمجموعات التي كانت تدور في فلكه، الا من عصم ربي من الانشقاق عنه. اولئك المنشقون كانوا يحشرون حشرا ـ وفق تقويم ذاتي ـ في زمرة اليمين بل كان يقال عنهم ـ بلغة لينين ـ انهم بتخليهم عن حزبهم الطليعي قد سقطوا عموديا حتى القاع. تلك كانت هي افكار آباء الكنيسة الاوائل، وفقهاء الاسلام منذ عهد المعتصم، في بعضهم البعض. نحمد الله ان لم يكن للحزب الشيوعي السوداني محاكم تفتيش تنبش ما في القلوب، او سفود يشوى جلود الزنادقة كما شوى المنصور جلد ابن المقفع. تلك الفروق اصبحت بلا معنى منذ اواخر السبعينات ـ وأكثر من ذلك عقب انهيار الاتحاد السوفياتي ـ حينما افتقد الخيط الذي كان يفصل بين اليمين واليسار شرعيته المزعومة. تعبير القوى الحديثة نفسه تعبير تجهله ادبيات السياسة، فالجماعات السياسية ـ بوجه عام ـ تعرّف على اساس الفروق الاجتماعية والاقتصادية فيما بينها. ولكن المعلقين السياسيين في السودان ظلوا ـ وما برح بعضهم ـ يطلقون هذا الوصف، مع عموميته، على الصفوة من ابناء العاصمة والشمال النيلي الناشطين في النقابات والاتحادات المهنية والطلابية، علما بأن الرباط الوحيد الذي يجمع بين هذه الجماعات هو حرصها على الدفاع عن حقوقها المهنية ومصالحها الاقتصادية، بغض النظر عن الانتماء الحزبي او الطائفي والايديولوجي للعناصر المكونة لها. ومع الإقرار بأن اعادة بناء السودان سوف تبقى منوطة لفترة طويلة بالطبقة الوسطى التي تعتبر النخبة المسيسة من بينها هي القاطرة الفكرية المحركة، الا ان هذا لا يبيح التقسيم القسري للقوى السياسية الى «جديد» و«تقليدي»، من دون اي نقطة استدلال (Reference Point) ترد اليها الامور. ويبدو التناقض الناجم عن هذا التصنيف العسفي اكثر وضوحا في حالة الاخوان المسلمين، اشد الاحزاب تعصبا لتوجهها الفكري في تاريخ السودان الحديث، ونبذا لافكار القوى الحديثة. تلك المجموعة نمت في نفس الارضية التي أنبتت القوة الحديثة: حركات الطلاب والاتحادات المهنية، ولم تكن تعرف لها ـ عند نشأتها ـ قاعدة جماهيرية مثل الاحزاب التقليدية.
* الأحزاب التقليدية:
* على صعيد آخر، لا تحسب ان الاحزاب التقليدية، تقليدية بالمعنى القاموسي للكلمة، اي انهم يحاكون آباءهم واسلافهم ويتبعونهم من غير حجة او دليل. هذه الاحزاب تضم بين صفوفها كثيرا من العناصر التي تنتمي لما يسمى بالقوى الحديثة، بل ان بعضها ـ في فترة او اخرى ـ تبنى افكارا وشعارات القوى الحديثة وان كان ذلك من باب التملق الكلامي الكاذب (Lip Service)، هذا بالطبع لا ينفي ان بين المنسوبين للتقليدية جماعات عقدت العزم على الحفاظ على المؤسسات والقيم والمفاهيم المتوارثة حفاظا على مصالح اقتصادية وسياسية مكتسبة، حتى عندما اثبتت التجارب المعاصرة عدم ملاءمة الافكار والمفاهيم للواقع الراهن. لهذا كله، نتخذ موقفا محايدا حيال هذه التصنيفات التي لا تستند الى قاعدة معرفية ثابتة. فعندما نشير الى الاحزاب التقليدية في هذا الكتاب لا نعني بذلك غير الاحزاب التي قامت عضويتها تاريخيا على الولاء القبلي والطائفي. وبهذا المعنى، ينطبق وصف التقليدية ايضا على اغلبية الاحزاب الجنوبية التاريخية التي اتسمت اجندتها السياسية بمحدودية اقليمية لا تتناسب مع اهتمامات السودان الكبرى. من ناحية اخرى، يشير تعبير القوى الحديثة ـ كما ورد في الكتاب ـ الى التنظيمات السياسية التي لا ترتكز الى قاعدة اجتماعية تقليدية. اما تعبير القوى الديمقراطية فهو احد مسكوكات الخطاب الشيوعي ويشير الى المجموعات المستقلة في النقابات واتحادات الطلاب التي لا ينتمي افرادها الى القوى التقليدية. ويكاد تعبير القوى او الجبهة الديمقراطية ينكر بهذا المعنى على كل المنتمين للقوى التقليدية صفة الديمقراطية. صحيح ان الاحزاب التقليدية تفتقد الديمقراطية بسبب من الطبيعة الوصائية لقياداتها، ولكن صحيح ايضا ان الحزب الشيوعي الراعي لما يطلق عليه القوى الديمقراطية، كان يفتقد، هو الآخر، الديمقراطية الداخلية بحكم وصائية اخرى هي وصائية الحزب المهيمن، واحتكار الحقيقة وفق منظور ايديولوجي صارم. ولكيلا يكون خلاف بيننا في هذا الموضوع، نقول ان الديمقراطية التي نعنيها في هذا الكتاب هي الديمقراطية الليبرالية التي تواصينا عليها بآخره. وبما انه لم يعد هناك معطى جاهز للتعبيرين «ان هي إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان» (يوسف: 12 /40)، يحتاج تعبيرا «القوى الجديدة ومضمونه السياسي، والقوى الديمقراطية وماهيته، الى مزيد من البحث من جانب محللي السياسة». تجافينا لاستخدام تلك التصنيفات يقتضيه سبب آخر: عدم جدواها في تناولنا للموضوعات التي نحن بصدد تناولها مثل الحرب، السلام، الهوية الوطنية. فخلف المظهر الكاذب للتجديد الذي تشير اليه تعبيرات مثل «الديمقراطية والتقدمية والحديثة تكمن خبايا ما زال، مثلا، بين العناصر التي تقف في طليعة الديمقراطيين الداعين للتجديد وتحرير السودان من رباق الماضي، شرائح لا تختلف نظرتها للجنوب ومناطق الاطراف ـ حيث الحرب والتهميش الاقتصادي والخصائص الثقافية المتميزة ـ عما ينادي به التقليديون. فهم يتوافقون مع اولئك، مثلا، في القول بحتمية هيمنة الشمال العربي ـ الاسلامي على الجنوب هيمنة ثقافية. هناك ثمة فرق بين القول بأن الصيرورة الطبيعية للتواصل الحياتي بين اقوام السودان ستفضي الى ان تصبح الثقافة العربية مصهرا لكل ثقافات السودان المتنوعة، وبين الدعوة لتحقيق ذلك قسرا.
* نظرية الهيمنة:
* لنظرية الهيمنة الثقافية هذه منطلقاتها الايديولوجية، فعروبيو السودان المؤدلجون ظلوا يرفضون رفضا مطلقا حتى نهاية الثمانينات وجود اية هوية ثقافية مميزة للسودان. لم يقف هؤلاء عند انكار اسهام الخصائص الثقافية لغير العرب من اهل السودان في تكييف شخصية السودان الثقافية، بل شمل ايضا التنكر لكل مواريث السودان الحضارية المتحدرة من الممالك النوبية. فالعروبيون لا يرون في تلك المواريث الا اثرا بعد عين، وان كانت لها اية قيمة، فهي ـ في تقديرهم ـ قيمة متحفية. تلك النظرة لا تولي ادنى اعتبار لما خلفته تلك الحضارة من اثر باق في شخصية الشمال الثقافية في فضاء التفاعل التاريخي، كان ذلك في المصطلحات او التقاليد والعادات. مصدر تلك الفكرة المتشددة في رفض مواريث السودان الحضارية القديمة، وثقافاته غير العربية الراهنة، هو الاعتقاد الراسخ عند العروبيين ان هناك امة عربية واحدة (قومية) يفترض ان تسمو على اجزائها المعروفة بالوطنيات. ويزيد من الخلط في الامور ان المصطلحين (قومية ووطنية) باللغة العربية مرادفان للكلمة الانجليزية (Nationalism).
* الهوية الثقافية:
* من بين المجموعات المنظمة في «القوى الحديثة» كان للحزب الشيوعي السوداني موقف فريد في قضيتي بناء الوطن والهوية الثقافية انعكس في اربعة اشياء سنشير اليها لأهميتها لموضوع بحثنا، خاصة عند موازنتها مع مواقف القوى السياسية الاخرى. اولا: من ناحية البناء الوطني افلح الحزب الشيوعي في إقامة حركة نقابية تجاوزت، منذ نشأتها، نطاق الاقليم والقبيلة والاصل العرقي. ذلك اسهام ليس باليسير في بناء الامة (Nation - Buliding). ثانيا: الحزب الشيوعي ـ بجانب الحزب الجمهوري ـ كانا اول من اعترف من بين كل احزاب السودان الشمالية بخصائص الجنوب المتميزة. ولكن، حين دعا الحزب الشيوعي في عام 1954 لحكم ذاتي للجنوب، ذهب الجمهوريون منذ ديسمبر (كانون الاول) 1955 للمناداة بنظام حكم فيدارلي لذلك الاقليم. ثالثا: كان الحزب الشيوعي رائدا في انتقاء المسؤولين السياسيين لمراقيه الحزبية العليا من دون تمييز على اساس الجنس او الاصل العرقي، حيث اقدم منذ الخمسينات على ما لم يقدم عليه حزب شمالي آخر: استيعاب الناشطات من النساء، والمرموقين من ابناء من كان يطلق عليهم الاستعمار اسم الزنوج المنبتين (ابناء وأحفاد قدامى الأرقاء) في هياكله القيادية. رابعا: كان هو الحزب الشمالي الوحيد الذي عبر عن درجة من الحذر حيال الهيمنة الثقافية على الجنوب. مع كل هذا الانجاز كمنت ازمة الحزب الشيوعي يومذاك في اعتقاده الذي لا يتزحزح في نجاعة الفكر الماركسي في تفسير كل الظواهر. والفكر (بما في ذلك الفكر الماركسي كمنهج للبحث الاجتماعي) عندما يتحول الى ايديولوجية صارمة يخدر العقل، ويضعف من حدة قرون الاستشعار. ولعل هذا هو الذي اخل بقدرات ذلك الحزب على تحليل وضع الجنوب كحالة فريدة من نوعها لا تنطبق عليها مقولات ستالين حول القوميات، او احكام ماركس حول نمط الانتاج الآسيوي واسقاطه على كل انماط الانتاج قبل الرأسمالي. هذه مواقف اخذ الحزب في التخلي عنها. خصنا الشيوعيين والعروبيين والجمهوريين بالاشارة يعود الى ان هذه المجموعات ظلت ترفد السياسة السودانية بالفكر، بصرف النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع ذلك الفكر. هذا لا يعني إلغاء الاسهامات الفردية لبعض رجال الاحزاب التقليدية، مع التأكيد على ان تلك الاسهامات لم تكن جزءا من منظومة فكرية متكاملة تبنتها الاحزاب. كما لا يلغي دور الاخوان المسلمين. وبصورة عامة، اوهن فشل السياسات في الاربعين عاما المنصرمة من شرعية كثير من الافكار التي كانت تسيطر على الساحة، جاءت من «اليمين الى اليسار». تلك حقيقة ما زال البعض يتعامى عنها رغم الفشل الذريع الذي منيت به السياسات، وبالتالي الافكار التي انبتت عليها تلك السياسات. ومن المؤسى وقوع ذلك الفشل، رغم وجود بدائل مطروحة كان من الممكن ان تقيل السودان من عثرته. جميع تلك البدائل انطلقت من الافتراض، بأن لا سبيل لاستقرار السودان قبل انهاء الحرب، ولا امل في انهائها من دون استقصاء جذورها الدانية والبعيدة. ويبدو جليا ان انهاء الحرب لن تعين عليه الافكار المرتهنة لنظريات الهوية السودانية العربية الحصرية، ولن يساعد على الوصول اليه تقرير مصير الدولة الوطنية على اساس ديني، ولن يتحقق مع انكار ظاهرة التهميش الاقتصادي لمجموعات كبيرة من اهل السودان خارج الشمال النيلي، كما لن يفيد في شيء تعليق مشاكل السودان كلها على مشجب الاستعمار، رغم كل جرائره، بعد ستة واربعين عاما من رحيله. كان من الممكن ان تصبح تلك الافكار المرتهنة لرؤى ذاتية قابلة للتطبيق، لو اقتصرنا السودان على الجزء الشمالي النيلي، الا ان الاقدار التاريخية قضت بأن يكون السودان مربعا لأقوام عددا مختلفي اللغى والأديان والمنابت. من هؤلاء من رعرع (انشأ) الله اسلافهم فيه، ومنهم من وفد اسلافهم الى رُباه وطاب لهم المكان فاستقروا فيه وأقاموا. لهذا اصبحوا جميعا اصحاب حق اصيل في البلاد. هذا التنوع ـ حسب نظرة المرء له ـ قد يكون مصدر خير داني النتاج، كما قد يصبح ذريعة شر وفتنة، «ونبلوكم بالشر والخير فتنة». فالذي يبتغي الخير يتقصى ما في التنوع من إثراء خلاق، والذي ينشد الشر لا محالة ملاقيه ان استتر بما في التنوع من تضاد، واستذرع بما فيه من خلف. ويخطئ من يقدر ان المنهج الثاني سيفضي الى بقاء السودان موحدا. وقد درج اغلب حكام الشمال ـ وما زال النظام القائم يحاول ـ على معالجة المشكل بسياسات الاسترضاء والاستيعاب للنخب الجنوبية، او تلك التي تنتمي للمناطق المهمشة، من دون ان يفتطنوا الى ان صراعا بهذه الدرجة من التعقيد لا يمكن حسمه بارضاء طموح النخب. (يتبع)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الدكتور منصور خالد (1) ـ «السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام قصة بلدين (Re: ابنوس)
|
د. منصور خالد (3) ـ من يتحمل أوزار «تجارة الرقيق» في السودان: صام الشماليون عن ذكرها فاشتعلت الحرب في الجنوب من الظلم تحميل كل الشماليين ذنبا ارتكبه بعض أسلافهم ولكن هذا لا يعفيهم من المسؤولية الأدبية * الاستعمار لعب دورا في تعميق الأزمة بين الشمال والجنوب لكنه لا يتحمل حصريا المسؤولية لندن: عيدروس عبد العزيز
* لولا مراوغة حكام الشمال في تناول قضية الرق لانتهت «القضية» منذ زمان كما انتهت في مناطق أخرى * أسهم بعض السياسيين الجنوبيين في إخراج موضوع الرق عن سياقه التاريخي حتى أصبح ذريعة افتتان * ظلت مشكلة «تجارة الرق» احدى اهم النقاط الساخنة في تاريخ السودان القريب وقد صام كثير من الشماليين عن الخوض فيها اما تحرجا او لا مبالاة، مما أدى الى اشتعال الحرب الأهلية في الجنوب. لكن الدكتور منصور خالد وزير الخارجية السوداني في عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري فتح الباب على مصراعيه لبحث هذه القضية التي تسببت في صدمة نفسية دائمة للجنوبيين قادت بدورها الى ردود فعل غير معافاة وحروب. ويقول في كتابه الجديد «السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين» الذي يروي قصة الخمسين عاماً الأخيرة في السودان، ان المستعمر البريطاني لعب دورا كبيرا في استرجاع اسوأ الذكريات المتعلقة بتجارة الرقيق بهدف تعبئة الجنوبيين ضد الشماليين لذلك أخذ الجنوبيون ـ وما زال بعضهم مثابرا على ذلك حتى اللحظة ـ يحملون اهل الشمال كله المسؤولية عن خطأ ارتكبه اسلافهم. ويوضح ان «الادانة لشعب بأكمله على اخطاء ارتكبها نفر من اهله في الماضي تتسم بالظلم ويفتقد الحكمة». ورغم اعتراف الدكتور منصور خالد الذي يشغل حاليا مستشارا لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق بالقضية الا انه اشار الى ان تناوله لها يؤلمه كما سيؤلم القارئ، الا انه لام حكام السودان بعد الاستقلال ونخبة من المفكرين فيه، لابتعادهم عن هذه القضية او «مراوغتهم» في تناولهم آثارها على السياسات المعاصرة. وقال «لولا تلك المراوغة لانتهى الحديث حول الرق منذ زمان كما انتهى في بلاد اخرى، ولكان في نهايته شفاء للامة من جراحها المثخنة». ما فتئ جزء هام من نخب الشمال في السودان ينظر لأهل الجنوب وكأنهم بفطرتهم، أدنى مرتبة من الشماليين. هذا التصنيف وتداعياته الرمزية طال حتى مواقع العمل التي يفترض ان يحتلها المرء بحكم تأهيله العلمي وقدراته الفكرية، لا أصله العرقي. مرد ذلك التقسيم الزري هو الصور الذهنية للسيد والعبد التي تركتها ثقافة الرق في المخيال الجمعي الشمالي، والتي أسفرت عن صدمة نفسية (trauma) دائمة بين الجنوبيين، قادت، بدورها، الى ردود فعل غير معافاة: هذه هي الحقائق التي أوصدنا عنها في الشمال عقلنا بمغلاق متين، إما تحرجاً أو لا مبالاة. ولولا ان حكام السودان بعد الاستقلال ونخبه المفكرة ذهبوا الى المراوغة في إقبالهم على تناول الآثار الحقيقية والمفتعلة لتلك الظاهرة على السياسات المعاصرة، لانتهى الحديث حول الرق منذ زمان، كما انتهى في بلاد أخرى، ولكان في نهايته شفاء للأمة من جراحها المثخنة. بسبب من تلك المراوغة، استحال محو الصور الاستزرائية التي شحنتها ثقافة العبودية في الأذهان. لم يدر بخلد القيادات والنخب ان واحدا من اهم دواعي الاحتقان في نفوس الجنوبيين وغيرهم من المهمشين مثل النوبة والفور وقبائل الأنقسنا، هو استدامة تلك الصور في العقل الجمعي الشمالي. على النقيض، سعت القيادات بدأب ملموس لمسخ الوقائع التاريخية بهدف انكار صلة العبودية بالأزمة الحالية في السودان. هذا ايضا كان هو موقف أغلب مؤرخي الشمال، كشطوا تلك الصفحة من التاريخ فانكشط للناس سرهم. هذا منهج معيب لأن الأمر تجاوز الاستخفاف بظاهرة اجتماعية تركت وراءها أثراً بارزاً، الى تزييف وقائع التاريخ. والتاريخ، كما نعرف، ليس جوهراً صافياً، اذ فيه الزكى الطيب، وفيه الفاسد العطن. صحيح ان التاريخ ليس بريئاً من كل عيب لأنه لا يعبر الا عن رؤية كاتبيه، وكما يقول المؤرخ المعرف إ.هـ. كار (E.H.Carr) ليس للتاريخ وجود مستقل عن الذين يترجمونه (history has no free-standing from those who interpret it)، ولكن هذا لا يبيح طمس الوقائع. فالمؤرخ الذي يزيف الوقائع، بطمسها أو تغييبها، يخدش ضمير التاريخ نفسه. وكثيراً ما يكون تغييب الحقائق ناجماً عن تحيز منهجي أو معرفي يدفع المؤرخ لانتقاء الوقائع التي تثبت موقفه المنحاز، واستثناء تلك التي تتعارض مع ذلك الموقف. هذه مناسبة لأن نشيد فيها ـ مرة أخرى بجهد ـ الاستاذ محمد ابراهيم نقد في إجلاء الحقائق عن ظاهرة الرق في فترة المهدية، كما نشيد بالجهود المتواترة للدكتور أحمد العوض سيكيانقا حول الرق في السودان بصفة عامة. تلك قضية لا يملك المؤرخ الرصين إغفالها أو بترها، وان فعل فلن يكون في تاريخه مقنع للباحثين عن الحقائق المجردة، لأن المعرفة البتراء تحيد بالمرء عن الصواب. لهذا السبب أولينا تاريخ العبودية في السودان جزءاً هاماً من هذا الكتاب عبر كل الحقب، حتى وان كان في ذلك هز للصور المعرفية السائدة في العقل الشمالي والعقل الجنوبي. ففي الحالة الاولى اسهم المؤرخون الشماليون بإغفالهم لتلك الظاهرة، إسهاماً كبيراً في ترسيخ الصور السائدة. وفي الحالة الثانية لعب بعض السياسيين الجنوبيين دوراً كبيراً في إخراج موضوع الرق عن سياقه التاريخي حتى اصبح ذريعة افتتان. مواقف حكومات الشمال حيال الجنوب لم تكن لتسهل دون تعاون طائفة من الساسة الجنوبيين الرحّل (nomads) الذين واظبوا على التنقل من حزب شمالي الى آخر، ومن حكومة شمالية الى اخرى ببراعة مذهلة. تلك الطغمة من الانتهازيين لم تبال بأن يكون لها موقع في كل حكومات الشمال حتى تلك، مثل نظام الجبهة، التي لا يتوقع عاقل ان يكون لجنوبي غير مسلم مكان فيها بحكم توجهها الديني الانغلاقي، وسياساتها الجهادية نحو الجنوب، وازدرائها للديانات الأخرى. رغم كل هذا، وجد طريقه الى ذلك النظام، المحارب الجنوبي القديم، والقس الذي لا يحتشم، دعك عن انتهازيين من الدرجة الثالثة ما فتئوا منذ الستينات يتدافعون على موائد لا يستمرئ طعامها الا بصباص (متملق) لئيم. دور المستعمر لعب المستعمرون ـ بلا جدال ـ دورا كبيرا في استرجاع اسوأ الذكريات المتعلقة بتجارة الرقيق بهدف تعبئة الجنوبيين ضد الشمال كله. نتيجة لذلك، اخذ الجنوبيون ـ وما زال بعضهم مثابراً على ذلك حتى اللحظة ـ يحملون اهل الشمال كله المسؤولية عن خطأ ارتكبه اسلافهم. على ان الادانة لشعب بأكمله على اخطاء ارتكبها نفر من اهله في الماضي، أمر يتسم بالظلم ويفتقد الحكمة. هذه النظرة الموضوعية الباردة يجب ان لا تعفينا في الشمال من المسؤولية الادبية عن آثار ذلك التاريخ الشائن، فالشمال وحده هو الذي جنى ثمار الاسترقاق، كان ذلك في الدفاع عن نظام حكمه (الدولة المهدية)، او في بناء قاعدته الاقتصادية (الاقطاع الزراعي)، او في العناية بمرافقه الخدمية. ومع الاعتراف بتعميق الاستعمار لعوامل الانقسام الراهن بين الشمال والجنوب، فان تحميله ـ بصورة حصرية ـ المسؤولية عن كل مآسي السودان الراهنة لا يعدو ان يكون مزحة سخيفة. فمنذ الاستقلال توفرت لساسة الشمال فرص لمعالجة الاخطاء الموروثة من عهد الاستعمار، وضمد الجراح، والتوجه بالسودان في طريق البناء والرفاه في ظل تعايش متناغم بين ابنائه. ولكن استمرار الحرب نصف قرن من الزمان بعد خروج الاستعمار يظهر ان ثمة شيئاً متعفناً في مملكة الدنمارك (There is something rotten in the Kingdom of Denmark) هـذا العفن عجزت انوف الطبقة الحاكمة في الشمال عن شميم رائحته الساطعة. وعندما بدأ الجنوبيون يطالبون بمكانهم تحت الشمس، باعتبار ان ذلك حق مشروع لهم، لم ير اهل الحل والعقد في الخرطوم في تلك المطالب الا تعدياً على خصوصيات الشمال، بل وعلى حقه الموروث في ان يقرر بمفرده مصير القطر كله، بدلاً من اهتبال تلك الفرصة لإصلاح الأخطاء التاريخية. من تلك الخصوصيات الشمالية، كما قلنا، اعتبار رواد الحركة السياسية منذ ثلاثينيات القرن الماضي ان الثقافة الاسلامية العربية، المحدد الوحيد والمكون الاساس للهوية الوطنية السودانية. ولو جاء ذلك الطرح في بيئة اكثر معافاة من البيئة التي تسودها ثقافة الاسترقاق، وتطغى عليها النظرة الاستهجانية لغير العرب ـ بمن فيهم ابناء واحفاد الارقاء في شمال السودان والذين اصبحوا شماليين بكل ما تعني الكلمة من معنى ـ فلربما كان لرواد الحركة الوطنية ما أرادوا. ولكن في ظل الثقافة الشمالية الاستعلائية، والنظرة البطرقية الطاغية من جانب الشمال للجنوب، كان رد فعل اهل الجنوب هو الاستمساك بخصائصهم الثقافية ودياناتهم المحلية وعاداتهم الموروثة. لم يتحملوا الالم في صمت كما افترض السادة ظناً منهم ان العبد ينبغي ان لا يعصى لسيده أمراً. المهدية والرق وفي سرده لمراحل تجارة الرقيق في السودان، تحدث الكاتب عن الدولة المهدية (1889 ـ 189، وقال: في سبيل اقامة دولتها اباحت المهدية ايضاً سبي المسلمين المتنكرين لدعوتها بعد ان قررت ان انكار المهدية والكفر سواء. وفي التاريخ شواهد موجعة على اباحة سفك الدماء وبيع المسلم الحر في ذلك العهد. فمنشور المهدي فيما يتعلق بالاسترقاق كان واضحا: ان يسترق بحد السيف كل من لم يهده الله الى الاسلام من غير المسلمين او ينكر الاعتراف بالمهدي المنتظر، مسلما كان ام غير مسلم. وبهذا اتجهت المهدية بالجهاد وسبي الحرب اتجاها غير مألوف، بل مبتدع، اذ يحرم الاسلام سبي المسلم للمسلم. ويروي شقير ان محمود ود احمد قد بعث للخليفة بـ 234 جارية من المتمة يمثلن خمس السبي الذي سباه من فتيات الجعليين، مما حمل اخواتهن، حسب رواية شقير، على القاء انفسهن في النيل تفضيلاً للموت على حياة الفضيحة والعار. وكان سبي النساء والرجال بين القبائل المسلمة التي انكرت المهدية كالكبابيش والشكرية والجعليين اكبر عامل في تبغيض المهدية لقبائل الشمال حتى للحد الذي دفع بعضهم، كالشكرية مثلا، للتضرع الى النصارى لكي ينقذوهم من دولة الاسلام التي اذلت قومهم والحقت بهم الهونى. عن اولئك عبر شاعرهم الحردلو: أولاد ناس عزاز مثل الكلاب سوونا ـ يا يابا النقس، يا الانكليز الفونا. استقصى نعوم شقير (مؤرخ) ايضا تسري المهدي بثلاث وستين فتاة من بنات الاسر الشمالية، سُبين في الحرب. في حين لم يتسر الرسول رغم كل حروبه الا بأربع، اثنتان منهن من سبايا الحرب: ريحانة بنت يزيد من سبي بني النضير وقعت في سهم ثابت بن يزيد فكاتبها على تسع اواق لم يؤدها فأداها عنه الرسول وتزوجها، وجويرية بنت الحارث (من سبي بن المصطلق)، واثنتان أُهديتا اليه (ماريا) ام ولده ابراهيم اهداها المقوقس عظيم القبط، واخرى اهدتها له (زينب بنت جحش). وفي حقيقة الأمر اهدى المقوقس الى رسول الله جاريتين تأمى بواحدة منهما هي ماريا، واهدى الثانية (سيرين) الى شاعره حسان بن ثابت، وكانت تجيد الغناء ونقر الدف، ولعل رسول الله اختار لها من يتغنى بشعره. المهدية والجنوب ومع تمكنها من فرض هيمنتها الكاملة على الشمال، لم تنجح المهدية في تحقيق سيطرة تامة على الجنوب، اذ توقفت سيطرتها جنوباً عند مناطق في بحر الغزال وأعالي النيل. بعض هذه المناطق (مثل الرجاف) اصبحت حاميات يعزل فيها، او ينفى اليها المنشقون عن المهدية. وبوجه عام، فان اكثر ما يستذكره الجنوبيون من المهدية هو سعيها لفرض اسلام طهراني قاس عليهم، واطلاق العنان من جديد لتجارة الرقيق. تلك النظرة السلبية للمهدية لدى اهل الجنوب سبقها شهر عسل قصير بينهم وبين الدولة المهدية، لاسيما وقد توسموا فيها الخير، وحسبوا ان لهم فيها منجاة من عسف الأتراك. في شهر العسل ذلك، يقول فرانسيس دينق، نظم الجنوبيون الاماديح في المهدي، وعده الدينكا تجلياً لأحد آلهتهم هب لتحريرهم من نير الحكم التركي. وفي حواراته مع شيوخ الدين روى دينق ايضا قولاً للزعيم قيرديت جاء فيه: على الرغم من ان المهدي قد بدأ كمحرر للناس الا ان حكمه اصبح سيئا حيث اراد ان يستبعد الناس. أما الزعيم ماكوي بيلكوي فقد اشار الى معاناة الدينكا من الاتراك الذين اتوا مهاجمين وما ان استولوا على قبيلة حتى استعبدوها ثم استخدموها لغزو قبيلة اخرى. ويضيف ماكوي ان الدينكا تبعوا المهدي في البداية باعتباره قائدا عفيفا ومستقيما ولكنهم عندما اكتشفوا الطبيعة التدميرية لحكم المهدي قالوا له: لقد خذلت شعبنا. تحريم.. وتكريس لا شك في ان المهدية قد حرمت تجارة الرقيق التي كان يمارسها الجلابة ولكن، في حقيقة الامر، لم تفعل هذا بسبب الطبيعة اللاانسانية للرق، وانما خشية من انشاء تجار الرقيق جيوشاً خاصة بهم من العبيد (بازنقر) يتحدون بها الدولة، او ان يجد الرقيق طريقه لمصر فيستعين به الاتراك لاعادة فتح السودان. ذلك هو السبب الذي دفع الخليفة لمنع تصدير الرقيق لمصر، وتوجيهه لقائده في الشمال، ود النجومي باعتراض قوافل الرقيق المتجهة اليها. لهذا وجهت منشورات الخليفة باخضاع التداول في الرق لقواعد يضعها الحاكم، وعلى ان لا يتم التصرف فيه الا عبر بيت المال. بهذا الفهم، اصبح منع التجارة الخاصة في الرق، في حين الابقاء عليها تحت امرة الدولة، تأميما لتلك التجارة، لا إلغاء لها. اما موقف المهدي نفسه حيال التحريم فقد كان واضحاً لا لُبس فيه; ففي رسالة لمحمد خير عبد الله خوجلي في برير كتب المهدي معاتباً وكيله لتردده في اعادة الرقيق الذي حرره الاتراك الى مالكيهم «الشرعيين». وفي جنوب السودان لم يختلف الوضع كثيرا، اذ استعرت من جديد نيران الاسترقاق التي أطفأها غردون وبيكر. لم يكن ذلك امرا لا ينبغي ان يفاجئ احدا، خاصة والرجل الذي ولاه الخليفة على بحر الغزال كان هو تاجر الرقيق القديم، كرم الله كركساوي. وكان على رأس المهام التي انيطت بكرم الله تجنيد المشاة السابقين (الجهادية) في الجيش التركي للاستعانة بخبراتهم في جيش المهدي. سعت المهدية ايضا لتوسيع حملتها الى الاستوائية، والتي كان يديرها يومذاك حاكم الماني يدعى ادوارد شنيتزر اطلق عليه اسم امين باشا، رغما عن النصيحة الحكيمة التي قدمها للخليفة عمر صالح، قائد جيوش المهدية في تلك المنطقة، ودعاه فيها لايقاف الهجمات على قبائل الاستوائية لانهم بعاداتهم وتقاليدهم الموروثة لا يستسيغون الانموذج الديني الطهراني الذي فرضته المهدية. ولعل الخليفة ـ بجانب حرصه على اقتناص قدامى المحاربين الذين تمرسوا على الرماية والقتال في جيش صموئيل بيكر ـ كان يروم ايضا محو آخر اثر للترك في السودان: المديرية الاستوائية. وصدق حدس عمر صالح حول عدم استساغة الجنوبيين للطهرانية المهدوية، رغم كل ما منحته المهدية للرقيق العسكري من امتياز. فعلى سبيل المثال، تمرد فريق منهم بين عامي 1885 و 1887 في مدينة الابيض ضد الحكم المهدوي، وقاموا برفع العلم التركي تعبيرا عن عدم شعورهم بالرضا، كما انتقوا من بينهم قائدا اطلقوا عليه، بحماقة متناهية، لقب الباشا. تلك الثورة اخمد نارها بعنف حمدان ابو عنجة. في نهاية المطاف وجدت المهدية نفسها امام عقدة مزدوجة، ففي الشمال زادت سياسات النظام من اغتراب العلماء عنه، وحقد القبائل عليه. وفي الجنوب تحول الذين استقبلوا المهدية بالابتهاج في بداياتها الى اعداء بسبب عودة الاسترقاق وفرض نموذج ديني غريب عليهم. من ذلك نخلص الى ان المهدية تركت آثارا على الجنوب والشمال حافلة بالنقائض. فمن ناحية، خلقت في الشمال بؤرة من الكرامة الوطنية توحد حولها السودانيون رغم كل مآخذهم عليها، وفي ذات الوقت دمرت المهدية روح التسامح الديني والسياسي في الشمال الذي تميزت به الممالك الاسلامية السابقة مما خلق انقسامات قبلية حادة استغرقت ازالة آثارها سنين طوالا، وجهدا جهيدا من قادة المهدية الثانية. أما في الجنوب فقد قوضت سياسات الاسلمة القسرية المجتمعات القبلية، كما خلقت صورة للاسلام بغضت الجنوبيين فيه. فالدولة المهدية قبل ان يدمرها الاستعمار دمرت نفسها بسياساتها. ومن الغريب ان يورد كاتب اسلامي معاصر (عبد الوهاب الافندي) ان تدمير الدولة المهدية هو نتاج مباشر لتدخل القوى الاجنبية ورغبتها في تصفية المشروع المهدوي. هذا المشروع، في رأي الكاتب، اتجه الى ازالة الحواجز بين اقاليم السودان وقبائله واحلال السودان موقعا متميزا بين الامم، وكأن كل المغامرات الخارجية والعنف الداخلي، والاوهام الايديولوجية، والذهول الكامل عن القضايا الحياتية لاهل السودان، لا يد لها في ذلك الفشل، او كأنها امور يخلق بالسودانيين نسيانها مادامت الدولة قد نسبت نفسها للاسلام. هذا النوع من التبرير هو الذي يفقد كل دعاوى الاسلامويين اية صدقية، ويفضح تكاذيبهم عن السماحة في اسلامهم. فالعنف الذي مورس ضد القبائل التي رفضت المهدية لا يمكن ان يكون هو الاسلوب الذي توحد به الامم، والاعتداءات على الدو ل المجاورة والتحرش بالدول النائية ليسا هما السبيل الامثل لان يكون للسودان اسم ومكان على النطاق الخارجي. فطوال ستة عشر عاما من الحكم كانت الوظيفة الوحيدة للحاكم هي شن الحروب الداخلية لقمع الآخرين، وتعبئة الموارد المحدودة لنشر الاسلام المهدوي في العالمين، وتحريض القبائل على بعضها البعض حتى فقد شعب السودان نصف اهله بنهاية الحقبة المهدية (من 8 الى 3.5 مليون نسمة).
عـــودة إلى عنــاوين الأخبـــار All Rights Reserved
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الدكتور منصور خالد (1) ـ «السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام قصة بلدين (Re: ابنوس)
|
د. منصور خالد (4).. «السودان أهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين» ـ الترابي قال إنه يريد تلقين أوروبا درسا عن الديمقراطية
الإنقاذ استهدفت مصر وليبيا، واستعدت إثيوبيا وإريتريا رغم مساندتها للخرطوم في أول الانقلاب * نظام الجبهة الإسلامية لم يكن يتسع لغير الجبهويين، و«أنصار كل من غلب» * غامرت الجبهة بمساندتها للعراق ابان غزوه الكويت رغم إزدراء الترابي المعلن لصدام حسين لندن: عيدروس عبد العزيز خصص الدكتور منصور خالد وزير الخارجية السوداني الاسبق جزءا كبيرا من كتابه الجديد «السودان اهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين» للحديث عن نظام الانقاذ الوطني وحزب الجبهة الاسلامية القومية الذي اتى للسلطة في يونيو (حزيران) 1989. وقال في كتابه الذي يروي قصة الـ50 عاما ـ الاخيرة في السودان، ان «الجبهة الاسلامية لم تفلح ابدا في ان تقنع اهل السودان بانها نظام يعترف بمبادئ حقوق الانسان، ويأخذ الناس ـ مسلمهم وغير مسلمهم ـ بالحسنى. ويقول ان «النموذج المثالي للحكم الذي صنعه الترابي وتولاه بالرعاية لم يكن يتسع منذ البداية لغير الجبهويين، ومن والاهم، مسترخصا لنفسه، ومرخيا زمامه لهم». وأضاف: «تساقط على النظام، وبحماس منقطع النظير، معميون، هم انصار كل من غلب». واشار الى ان «جميع هؤلاء كانوا في تقدير النظام اما مغفل نافع، او رديف مطاوع. لم يبتغ النظام من تأييدهم غير التعفية على خدعه»، وأبان ان للترابي، يومذاك، رأيا صريحا في التعددية السياسية. فقد قال لصحافي اميركي، «انها وجه آخر للطائفية والقبلية». واوضح خالد ان «كثيرين لا يختلفون مع حكم الترابي بأن الطائفية الدينية والقبلية ما زالتا، رغم تبديل الازمان، تلقيان بظلهما الكثيف على الحياة السياسية في السودان. ولكن القبلية والطائفية حقيقتان من حقائق الحياة في السودان يلغيهما التطور، لا الاوامر الفوقية المشتطة، او فوران الانفعالات». وفي ما يلي نص حلقة اخرى من الكتاب اندفع الترابي في حديثه لصحافي اميركي يقول ان الانتخابات في اوروبا تشويه لارادة الشعب بسبب نفوذ الطبقات القادرة على التأثير على مسار الانتخابات بما تملك من مال ونفوذ. هذه الرؤية للديمقراطية الليبرالية لا تختلف عن تلك التي كانت سائدة بين الشيوعيين في الماضي حول الديمقراطية الليبرالية، والتي كانوا ينعتونها بالبرجوازية انتقاصا منها، ولربما تبريرا لديمقراطية النظام اللينيني الشمولي. وكما افاد الشيوعيون من الديمقراطية البرجوازية في اوروبا وغيرها حتى اصبح لهم نفوذ كبير في بعض الدول (ايطاليا والهند مثلا)، استغلها الترابي ايضا في السودان بحيث اصبح حزبه هو الحزب الثالث في موازين السياسة. فمع صدق حديث كليهما عن الدور الذي يلعبه المال والاعلام اليوم في الانتخابات البرلمانية في الغرب، ما برح حزب العمال في بريطانيا ودول سكندنافيا يعتمد في تأييده على النقابات العمالية في الانتخابات، وما انفك الحزب الشيوعي الايطالي والحزب الشيوعي الفرنسي (قبل انهياره اخيرا بانهيار الشيوعية وجموده السياسي) يحتلان مواقع مرموقة في برلماني بلديهما، استنادا على قاعدتيهما العماليتين. وعلى اي فان إلقاء مثل هذه الاحكام على عواهنها لا يصح من رجل محقق يملك ما يملكه الترابي من علم وافر، ومعرفة لصيقة بالغرب، خاصة هو الذي اختار لسكناه في باريس (ابان الدراسة) منطقة فيترى، قلعة الشيوعيين المنيعة. * تعددية الترابي * افصح الترابي ايضا في حديثه مع الصحافي الاميركي عن رغبته في تلقين اوروبا درسا عن الديمقراطية. وفي سبيل ذلك الهدف، قال لا يهمه شيء في هذه الدنيا لأنه يؤدي واجبا دينيا. ما هو الدرس الذي انتوى الترابي تلقينه للغرب؟ وما هو النموذج الديمقراطي البديع الذي قدمه للصحافي كبديل لديمقراطية الغرب الشائهة؟ اقترح الترابي نظاما بعيدا عن الفهم، لا سيما ان كان مراده هو اقناع صحافي غربي بجودة نموذجه الاسلامي. قال: انني توحيدي، انادي بالوحدة للشعب السوداني.. وأساس عقيدتنا ان الله واحد، وحزبنا واحد، وطريقنا الى الله واحد. هذا حديث لا ينجع في سامعه، فمن ذا الذي يزعم بأن الوجه السياسي للعقيدة التوحيدية هو الحزب الواحد؟ وكيف يمكن للداعية لمثل هذه الشمولية السياسية ان يقول ان الاسلام يتسع لكل الفرق والملل والنحل؟ ثم كيف يبيح لنفسه اي سياسي يحس التقدير، الدعوة لنظام شمولي في الوقت الذي اخذت تنهار فيه جميع النظم الشمولية في العالم؟ واخيرا يصعب على المرء ادراك عجز رجل استفاد فائدة كبرى من التسامح في مرحلة التعددية الحزبية، عن احتمال ذلك التسامح بعد ان ولى الحكم. في حجة الترابي الواهية، لتمكين نظام استبدادي باسم التوحيد، خلط غير موفق بين المقدس والدنيوي، وبين الديني والسياسي، بل في جملة واحدة قسم الترابي الامة كلها الى حزب الله وحزب الشيطان. وليت حزب الله الذي تحدث عنه الترابي، كان ذا شبه بحزب الله اللبناني، وليت إمامه نهج منهج الإمام موسى الصدر. سأل الدكتور مراد وهبة الإمام الصدر عن رأيه في العلمانية، فأجاب: الفكر الديني الصحيح يؤمن بأن الانسان مخلوق ارضي له بعد سماوي، ومن هذه الزاوية يتلاقى الدين مع الفكر العلماني. هذا الرد استثار وهبة لتوجيه سؤال آخر: ألا يثير هذا قضية فصل الدين عن الدولة؟ أجاب الإمام الصدر: الرأي عندي، ان الربط بين الدين والدولة كان في خدمة الطغاة والظالمين، والفصل بينهما كان له الفضل في ابعاد الظالمين الذين كانوا يحكمون باسم الله. ثم سأل وهبة الإمام عن الارضية المشتركة مع العلمانيين، فرد قائلا: «سعادة الانسان». * إعدام الضباط * في سودان الترابي الوحداني، كان مصير كل من تحدى النظام الالهي الجديد الاعدام من دون ابطاء، او السجن من دون تريث، او التعذيب بلا رحمة. فعلى سبيل المثال، قام النظام في احدى دواماته الانتقامية العنيفة، باعدام 28 ضباطا بالجيش في ابريل (نيسان) 1990 بعد فشل المحاولة الانقلابية التي شرعوا فيها، قتلوا جميعا لم يُستحيا منهم احد. ونفهم اقدام النظام على محاكمة من حاول الانقلاب عليه من العسكريين (كما تفعل بعض الانظمة)، الا اننا لن نفهم على الاطلاق الاسلوب الذي تمت به المحاكمة، اذ استغرقت اقل من ساعتين، اي كان نصيب كل متهم فيها دقيقتين للاستجواب، والدفاع، والحكم، ثم التنفيذ. ولو كانت هذه هي العدالة الاسلامية، فلا شك في ان كثيرا من المسلمين سيقولون: نحن براء. لا يفعلون هذا جحودا بدينهم الذي عرفوه، ولكن استنكارا لاسلام غريب على ما ألفوه. اسلامهم الذي عرفوا وألفوا اوصى باللين حتى مع الفراعين، فوصاة الله تعالى الى موسى وهارون عندما بعثهما لفرعون: «اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى» (طه: 20/43 ـ 44). وفي الحالات الاخرى احتجز من لحق بهم الاتهام في بيوت الاشباح، وكان حراس تلك البيوت، بل مباشرو التعذيب فيها، يوارون وجوههم دوما خلف قناع سميك لا تبدو من خلاله الا العيون اخفاء لهويتهم. هذا الاسلوب الجبان في التعامل مع الحبيس لا تعرفه الدول التي تحترم القانون ـ اسلامية كانت ام غير اسلامية». كان طبيعيا، والحال هذه، ان تتدافع جماعات حقوق الانسان عبر العالم لادانة تلك الانتهاكات، والتجاوزات، والتعديات المريعة على حقوق الانسان. وسرعان ما لحقت لجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة بهذه الجماعات، لا سيما بعد ان اخذ العنف بعدا غير مسبوق، وكان اكبر مظاهره التطهير العرقي في جبال النوبة. امام هذه الفظائع، عينت اللجنة الدولية في 30 مارس (آذار) 1993، مبعوثا خاصا (القانوني الهنغاري جاسبار بيرو) لمراقبة اوضاع حقوق الانسان في السودان. وفي تقريره الاول (1993)، رسم بيرو صورة قاتمة لأوضاع حقوق الانسان بالسودان جاء فيها ان جميع السودانيين الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة هم ضحايا كامنون او محتملون لاساءة وانتهاك حقوق الانسان. تلك الادانة الدامغة ابانت ان العنف الحكومي ضد الخصوم لم يكن بالامر الطارئ، وانما هو مكون بنيوي للنظام، بل ارهاب حدد النظام سقفه. اورد التقرير حالات عديدة من القتل بلا محاكمة، والاعدام المستعجل، والاختفاء غير الارادي، والتعذيب، والمعاملات القاسية المذلة وغير الآدمية، بالاضافة الى حالات الاعتقال التعسفي والانتقامي. ومن امثلة الاعتقال الانتقامي، اشار بيرو للمعاملة القاسية التي اوقعتها قوات الامن على اليابا جيمس سرور وهو السياسي الجنوبي المخضرم الذي يترأس اكبر حزب جنوبي (يوساب)، وهو حزب مظلي ينتظم اغلب الاحزاب الجنوبية. وكانت جريمة سرور رفضه الانضمام الى الحكومة. في حادثة اخرى، اعتقلت اجهزة الامن سيدات سودانيات، منهن امهات مسنات من خيرة نساء المجتمع من امام مكتب الأمم المتحدة حيث جئن للقاء مبعوث حقوق الانسان الأممي، وبقين رهن الاعتقال امام مكتب الأمم المتحدة حتى مغيب الشمس حين تم جلدهن بالسياط في ظلمة الليل حتى تكتمل عناصر الدراما. وبالتأكيد، لم يكن المجتمع السوداني (قبل مجيء الجبهة للحكم) يولي اعتبارا كبيرا لحقوق المرأة، فالنساء كن ضحية للتمييز في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جانب كل انظمة الحكم السابقة، ولكن لم يحدث ابدا ان ألحقت بهن الاساءة بالجلد، فجلد النساء الامهات عيب في تقاليد اهل السودان.
* وإذا الموءودة سئلت؟ * هذا العيب اقدمت على فعله، واستمرأت ذلك، الجبهة الاسلامية. تمادت الجبهة في اعتقال الفتيات الطالبات امام مدارسهن وسجنهن وجلدهن علنا بتهمة السلوك الذي يتنافى مع الاخلاق العامة. لأجل هذا أدرج النظام المادة 152 في قانون عقوبات السودان لعام 1991 بدعوى حماية السلوك العام. وعندما سأل الترابي صحافي اميركي عن هذه القوانين المزرية، انكر علاقتها بالاسلام. قائلا: ان الملبس مسألة خاصة. على ان الفضول الصحافي دفع الرجل لأن يلجأ لطبيب سوداني كان يعالج ثلاث فتيات اصبن بحالة نفسية نتيجة لجلدهن علنا، اربعين جلدة لكل منهن. جريمة هؤلاء الفتيات كانت هي الظهور امام الناس من دون غطاء للرأس. ألم نقل ان للترابي رسالتين: واحدة للخارج والثانية للداخل. * مآثر «آل كابون» خارج السودان * مآثر حكم الجبهة لم تقف عند حدود السودان، بل استفاضت لتشمل القاصي والداني. ومن الواضح ان الجبهة كانت موقنة اشد اليقين بأن الله قد مكن لها في الأرض، باعانتها على اعادة تشكيل الثقافة التعبدية للمسلمين، ووعدها بنصر من عنده وفتح قريب. فكيف، اذن، لهذه العصبة من اولى القوة ان تجفل عن مجابهة «الارجاف في العالم، من بعد ان قضت (او هكذا ظنت) على المرجفين في المدينة؟ وهكذا انشأ الترابي في صيف 1991 المؤتمر العربي الاسلامي الشعبي واصبح امينا عاما له. وكما يشير اسمه، لم يكن المؤتمر مؤتمرا اسلاميا فحسب، بل ايضا تجمعا ضم المتطرفين من كل حدب، لكل واحد منهم برنامجه الثوري. وكان اسم المؤتمر في البدء المؤتمر الاسلامي الشعبي، الا ان كلمة العربي اضيفت اليه بعد انضمام الزعيمين الفلسطينيين نايف حواتمة وجورج حبش اليه، وكلاهما مسيحي. وحسبما اورد تقرير لأحد فرق العمل بالكونغرس، شارك في الاجتماع التمهيدي للمؤتمر في منزل الترابي بحي المنشية في الخرطوم، الفريق البشير، عباسي مدني (الجزائر)، مهدي ابراهيم، وآخرون، ومن الآخرين هؤلاء ذكر روهان قوناراتا، مستشار الأمم المتحدة لمكافحة الارهاب في كتابه الاخير اسماء اسامة بن لادن، الملا مهدي كروبي، المتحدث الرسمي باسم المجلس الاسلامي في طهران، وعبد الله جاب الله عضو البرلمان الجزائري، والذي اعلن رفضه، فيما بعد، للجماعات المتطرفة. في ذلك الاجتماع تم الاتفاق على طبيعة المؤتمر، واجندة اعماله، كما ووفق على تحويل مبلغ 12 مليون دولار اميركي لجبهة الانقاذ الاسلامي الجزائرية من خلال احد البنوك الاسلامية بالخرطوم. ذكر التقرير ايضا اسماء عدد من المعسكرات التي انشئت لتدريب الكوادر الاسلامية في السودان وهي الكدرو ـ جبل الاولياء ـ الكاملين، بالاضافة الى تكوين فريق عمل كنواة للعمل السياسي الاسلامي في اوروبا، كان من بين المشرفين عليه الطيب ابراهيم (سيخة). وهكذا حول نظام الجبهة السودان الآمن الى معقل للعنف السياسي عابر القارات، ومعبر لتهريب الاسلحة للدول المجاورة، ومصدر لتحويل الاموال من خلال اجهزته المصرفية الى المجموعات السياسية المناهضة للحكومات في دول الجوار. وكان للترابي المهيمن على دولة العنف الاسلامي رأي غريب اورده في خطابه الافتتاحي، قال: ان ابناء الشريحة القيادية لحركة الاسلام كانوا قد عاشوا عهدا طويلا ايام الدعوة الاولى في غربة وجدال وخصام اذ احاط بهم طيف من عشاق المذاهب الاشتراكية والليبرالية، ثم لما بلغوا اشدهم فاقتحموا السياسة عهدوا صنوف المشاقة والمؤاذاة من متعصبة الطائفية رميا بالحجارة وضربا بالعصي ليصدوهم ويحموا الاتباع من الوعي. ما احلى القذف بالحجارة والضرب بالعصي ازاء وجوه التعذيب الاسلامي التي وصفها مراقبو حقوق الانسان الدوليون. * استهداف مصر وليبيا * كانت مصر وليبيا من اوائل الدول العربية التي استهدفها النظام الجبهوي رغم مساندة هاتين الدولتين له عند انشائه. فحين مدت ليبيا حكومة الخرطوم بدعم مادي هام تمثل في توريدات الوقود في وقت كانت في اشد الحاجة اليه، قامت مصر بتسويق البشير لدى العالم العربي بوصفه مصلحا وطنيا بلا انتماءات ايديولوجية. ولربما اعتقد الترابي ان ليبيا هي اضعف حلقات السلسلة، ولهذا قصد السيطرة عليها من الداخل عبر الجماعات الاسلامية الليبية. ولربما ظن ايضا، انه لو تحققت له تلك السيطرة فسيسهل عليه التحكم في شمال افريقيا، ثم الانطلاق بمشروعه الثوري الاسلاموي نحو اوروبا. تطلعات الترابي، بلا شك، اخذت تتجاوز الخيال، كما لم يتردد ذهنه، فيما يبدو، بين الشك واليقين في قدرته على تحقيقها. ففي خطاب جماهيري له بمدينة كسلا (شرق السودان) قال: ان كان الاسلام قد انطلق الى اوروبا في ماضيه من قلعة الامويين في دمشق، فانه سينطلق اليوم اليها من السودان. تقابل الترابي، حسبما ورد في تقرير فريق العمل الاميركي، مع عدد من المنشقين الليبيين للتخطيط للاستيلاء على الحكم في الجماهيرية الليبية. في ذلك الاجتماع، كما يقول نفس المصدر، اثنان من كوادر الجبهة. وفيما نلمح، كانت تلك الجماعة تعتقد ان السير الى طرابلس لن يكون اكثر من نزهة بلا عناء، كما كان الترابي على يقين بأن القذافي في موقف ضعف شديد تجاه «الحركة الاسلامية» في بلاده. ففي حديث مع صحافي اميركي قال: ظل القذافي، في الآونة الاخيرة، يدعو الحكومة السودانية، بطريقة واضحة لا لبس فيها، لإبعاد الدين عن السياسة وعدم الخلط بينهما. حقيقة الامر، ان القذافي في غاية القلق من الظاهرة الاسلامية التي تحيط به من كل مكان. المهمة لم تكن بالسهولة التي توقعها الترابي، بل انتهت بسرعة لم تتوقعها حتى العناصر التي كانت حسب ظنه تحيط بالقذافي من كل مكان. اعتقل النظام الليبي كل هذه العناصر وتم اعدامها، بل اعدام كل من لحقت به شبهة التعاون معهم، كما توقفت ليبيا عن مد السودان بالنفط. في الوقت ذاته، امتدت ايدي الجبهة ايضا الى المغرب القصي: موريتانيا المسالمة. ففي 3 اكتوبر (تشرين الاول) 1994، اعلنت صحيفة «موريتانيا الجديدة» القبض على خمسة اشخاص ينتمون الى جماعة الجهاد الاسلامي بينما كانوا يخططون لحملة ارهابية في موريتانيا لزعزعة استقرار نظام الحكم. وجاءت هذه المجموعة، طبقا للمعلومات الامنية التي توفرت للصحيفة، من السودان. اخطر المغامرات الخارجية للجبهة تمثلت في مساندتها للغزو العراقي (او بالحري غزو صدام) للكويت، رغم ازدراء الترابي المعلن للرئيس العراقي. ففي محاضرته بجامعة فلوريدا، وصف الترابي صدام بـ«عدو الاسلاميين الذي لن ينخدع الاسلاميون ابدا بدعوته المتكررة للجهاد». وحين كان الترابي يجاهر باستيائه من صدام في تامبا بولاية فلوريدا، كانت حكومته في الخرطوم تقدم جزءا من ارضها كمخزن لأسلحة الدمار (صواريخ سكود) العراقية حماية لها من هجوم القوات المتحالفة ضد العراق. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2002، ادلى وزير الداخلية السعودي، الامير نايف بن عبد العزيز، بحديث لجريدة «السياسة» الكويتية ونقلته عنها صحيفتان سعوديتان. قال الامير نايف ان وفدا ضم الغنوشي (تونس)، والترابي (السودان)، والزنداني (اليمن)، واربكان (تركيا) زاره عند احتلال العراق للكويت واجتمع مع القيادة السعودية للتوسط في النزاع. وعندما جابه المسؤولون السعوديون الوفد بسؤال محدد: هل تقبلون احتلال بلد لبلد؟ اجابوا بأنهم ما اتوا الا ليسمعوا، ولكن ما ان وصل الوفد بغداد حتى اعلن تأييده للعراق. هل كان التناقض بين حديث الترابي في تامبا، واعماله في الداخل توزيعا للأدوار، ام هو جزء من استراتيجية الحديث بلسانين: واحد لمخاطبة الخارج، والثاني لمخاطبة الداخل؟ وكان الامير نايف صريحا في حديثه حول الترابي في التصريح الذي اشرنا اليه آنفا، قال: «لقد عاش الترابي في المملكة ودرّس في جامعة الملك عبد العزيز، وكنت اعتبره صديقا، وكان يمر عليّ دائما، خصوصا عندما عمل في الامارات. كان لا يأتي المملكة الا ويزورني. وما ان وصل الى السلطة حتى انقلب على المملكة. ذلك هو نفس التفكير الذي رمى بالترابي العالم الى مساندة الجماعات الاسلامية المتطرفة في الجزائر، رغم كل جرائمها وجرائرها التي لا تشرف مسلما ولا الاسلام. كان واثقا من انتصارها في النهاية، مثل ثقته في انتصار نبوخذنصر العراق، ولهذا صمت عن كل فتاواهم التي احلوا بها قتل النساء والاطفال من اهلهم تأسيا كما زعموا، بابراهيم: «قد كان لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده» (الممتحنة: 60/4). * إثيوبيا وإريتريا * الذي يظن انه قادر على تحقيق هذه التطلعات العملاقة، لن يتردد كثيرا في الظن بأن اقتحام اثيوبيا واريتريا هو مجرد رحلة صيد. ولكن الواقع اثبت خلاف ذلك. اذ ادمى النظام انفه في تلك المغامرة. ففي البدء تشكت اثيوبيا واريتريا من مغامرات النظام في بلديهما مما جعل رئيسي البلدين يوجهان انذارا مشتركا لنظام الخرطوم. وفي يوليو (تموز) 1994، تقابل الرئيسان افورقي وزيناوي مع الرئيس البشير في العاصمة الاثيوبية، وكانت رسالتهما اليه انذارا اخيرا: «اما ان توقف التدخل ومحاولة التأثير على المسلمين في بلدينا، وتحتفظ بنموذجك الاسلامي داخل حدود بلادك، او سيكون لنا شأن آخر». في رده على ذلك الاتهام نفى البشير اي نيات سيئة للسودان تجاه البلدين. وقبيل عامين من لقاء البشير مع نظيريه الاريتري والاثيوبي في اديس أبابا، ابلغ الترابي صحافيا زائرا بأن دول القرن الافريقي: السودان، والصومال، واثيوبيا، واريتريا سوف تصبح مثل الجماعة الاوروبية (E.C) جماعة «اسلامية واحدة تختفي بينها الحدود». هذا التصريح، لا بد ان يكون اصاب غير المسلمين الذين يقطنون هذه المنطقة برعشة، فالمجموعة الاوروبية ليست مجموعة دينية وانما هي كيان سياسي اقتصادي يضم دولا متعددة الاديان واللغات، وتفاخر بذلك التعدد. وكما قال الصحافي ان الذي يقلق ليس هو رؤية الترابي لوحدة دول القرن، وانما كيف سيحول هذه الرؤية الى حقيقة. اهل القرن الافريقي يعرفون كيف، ففي نفس العام الذي التقى فيه البشير مع رئيسي اثيوبيا واريتريا اعتقلت السلطات الاريترية عشرين متسللا من «جماعة الجهاد الاسلامي الاريتري» وابادتهم. ولو كان جميع هؤلاء من الاريتريين لحسبنا الامر جزءا من صراعات الاريتريين فيما بينهم، ولكن المجموعة ضمن عناصر من المغرب، وتونس، وافغانستان، وباكستان. ويستحيل ان يكون الدافع وراء تسلل هؤلاء هو الرغبة في قيام مجتمع شرق افريقي موحد، او اشعال معارضة وطنية ضد النظام الاريتري من جانب بعض مواطنيه. ازاء هذا قررت اريتريا في اول يناير (كانون الثاني) 1995 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع السودان. * محاولة اغتيال مبارك * ثم جاءت محاولة اغتيال الرئيس مبارك. ولربما يثبت المستقبل براءة البشير والترابي عن تدبيرها، رغم اغضائهما عنها. اصابع الاتهام تشير الى عناصر كانت، في ذلك الوقت، قريبة من الترابي، واستمرت تحيط بالبشير، وقد اثبتت الدلائل التي جمعها المحققون الاثيوبيون تورط اجهزة امن النظام في تلك المحاولة بصورة مباشرة عن طريق التسهيلات التي قدمتها لفريق الاغتيال بمنح افراده جوازات سفر سودانية مكنتهم من الدخول الى اثيوبيا، ونقل السلاح عبر الحقيبة الدبلوماسية، وتوفير الدعم لهم من خلال المنظمات الخيرية الاسلامية المنتشرة في اثيوبيا والتي كان امرها موكولا لعناصر من الجبهة او قريبة منها، ثم تهريب من نجا منهم بعد الحادث الى السودان عبر الحدود برا او على متن الطائرات. على رأس هؤلاء كان مصطفى حمزة الملاحق من قبل سلطات الامن المصرية. ومن سوء حظ النظام ان ينبري احد المؤامرين (صفوت عبد الغني) للكشف عن تفاصيل ذلك الحدث الاجرامي، ودور النظام السوداني فيه، لاحدى الصحف بعد مضي خمسة اعوام على محاولة الاغتيال. صفوت واحد من المجرمين الأحد عشر الذين قاموا بالعملية، خمسة منهم لقوا حتفهم في الحال، وثلاثة تم اعتقالهم من جانب سلطات الامن الاثيوبية منهم صفوت، وقدموا من بعد المحاكمة (حكم عليهم بالاعدام)، في حين هرب ثلاثة آخرون الى السودان، او بالحري هربوا اليه. وبالفعل اعدت طائرة خاصة (قيل لمن شارك في اعدادها بأن وجهتها كوالالمبور) ليستقلها المتهمون الثلاثة الى طهران، بعد ان منحوا جوازات سفر سودانية جديدة وأطلقت عليهم اسماء وهمية. وكانت طهران محطة عبور، اذ كان الهدف هو نقلهم الى افغانستان. تلك العداوة لا تنسحب، بالضرورة، على مصر كلها، او على رئيسها الحالي. جزء من هذه الحقائق يعرفه اهل السودان، وأدق تفصيلاتها كانت متوفرة لاجهزة الامن الخارجية التي كانت ترقب وترصد كل تحركات النظام داخل وخارج السودان، لهذا كان اول سؤال وجهه مبعوث الرئيس كلينتون، هاري جونستون، للنظام في اول زيارة له للسودان: ما الذي حدث للمتهمين بمحاولة اغتيال الرئيس مبارك، وأين هم الآن؟ ذلك السؤال ظلت توجهه ايضا، من دون جدوى، اجهزة الامن المصرية لحكومة السودان. مهما يكن من امر، تبع الحادث قراران هامان: الاول هو طرد ثلاث عشرة منظمة خيرية اسلامية من اثيوبيا، وهكذا اخذت اثيوبيا البريء بالجاني، اذ لا يتوقعن احد منها ان تثق في اي واحدة من هذه التنظيمات بعد ذلك الحدث الخطير الذي هدد امنها الداخلي، واساء الى علاقتها بالدول، وكشف عن المواقع التي يمكن للارهاب ان يتسلل عبرها. والثاني هو اصدار مجلس الامن للقرار رقم 1054 (عام 1996) بإدانة الحكومة السودانية، وأمرها باتخاذ اجراءات فورية لتسليم المتهمين الثلاثة الى اثيوبيا. فرض مجلس الامن ايضا عقوبات على السودان تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة مما جعل السودان للمرة الاولى في تاريخه منذ الاستقلال مكان اتهام من الأمم المتحدة، ليس فقط بسبب انتهاك حقوق الانسان، وانما ايضا بسبب تهديد السلام الدولي. لم يكن للترابي، كما اسلف القول، دور مباشر في التخطيط لاغتيال الرئيس مبارك، الا ان ابتهاجه الغريب بالحدث بعد وقوعه خلق انطباعا بأنه كان وراءه. ففي حديث للسفير الاميركي في الخرطوم قال: عندما تجرأ مبارك بالذهاب الى اديس أبابا لحضور قمة منظمة الوحدة الافريقية، كان المسلمون من ابناء النبي موسى له بالمرصاد. تصدوا له، واربكوا خططه، وردوه الى بلده. وبالطبع، اراد الترابي، بنسبته القتلة المجرمين الى موسى، ان يستدعي الى الذاكرة فرعون.
| |
|
|
|
|
|
|
|