|
إصلاح الإصلاحيين !!/د. عمر القراي
|
إصلاح الإصلاحيين !! [email protected] ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)
صدق الله العظيم
لعل من اهم نتائج هبّة سبتمبر / أكتوبر الماضية، ظهور ظاهرة المجموعات الاصلاحية التي انشقت عن حكومة الاخوان المسلمين، وخرجت عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وفضلت شقاء المعارضة، على إثرة المناصب والسلطان .. ولعل ابرز تلك الحركات، والتي حظيت بالاهتمام الإعلامي الأكبر، الحركة التي قادها د. غازي صلاح الدين العتباني، الذي كان مستشاراً للسيد رئيس الجمهورية .. فقد بدأ منذ فترة بتقديم النصائح، ولم يتم الاستماع له، حتى اضطر بسبب قتل المتظاهرين، ان يسفر عن اعتراضه على بعض سياسات النظام، ثم رفضه للمحاسبة التي قررها الحزب الحاكم بشأنه، وشأن زملائه، واخيراً أعلن عن انشاء حزب جديد !! جاء عن كل ذلك (أعلن القيادي في الحزب الحاكم بالسودان د غازي صلاح الدين عن إنشاء حزب سياسي بديل للمؤتمر الوطني في ثاني انشقاق يتم داخل لب النظام الحاكم والذي سبقه خروج مهندس النظام د. حسن الترابي وتكوين حزب المؤتمر الشعبي في العام 1998م. وقال د.غازي في تصريح إن الاجراءات التعسفية والغير قانونية التي اتخذها المؤتمر الوطني حيال مجموعة الاصلاحين بداخله أطلق رصاصة الاعدام على جسد الاصلاح واضاف "وهذا الاجراء فتح الباب أمامنا لتشكيل حزب سياسي جديد لتقديم حزب بديل محترم ومقنع في الساحة السياسية واشار للمشاورات الجارية لتكون ذلك الحزب بشكل كامل ونفى تماما أن يدور في فلك الاحزاب القائمة على رأسها الاسلامية وذكر بانهم سيقدمون اطروحة جديدة)(الراكوبة 26/10/2013م). ومن الاصلاحيين الذين ظهروا قبل المظاهرات الأخيرة، مجموعة "سائحون" التي هاجمت المؤتمر الوطني على صفحتها بالفيسبوك، واتهمته بتشويه الاسلام والفساد، مع ان هؤلاء الشبان قد كانوا من المؤمنين بحركة الاخوان المسلمين، للحد الذي جعلهم يشاركون في حرب الجنوب، ويضحون بأرواحهم، ظناً منهم أنهم يجاهدون تحت رايات الاسلام !! ومن الاصلاحيين الفكريين، الذين استمروا لعدة سنوات في نقد زملائهم من الاسلاميين، وحكومتهم، دون ان يقدموا أي بديل فكري واضح بروفسير الطيب زين العابدين، ود. عبد الوهاب الافندي، ود. التيجاني عبد القادر، الذين قرروا مؤخراً، أن ينشئوا تنظيماً يجمعهم، دعوا إليه كافة المواطنين السودانيين.
لاشك ان خطوة (الاصلاحيين) في إدانة الحكومة، التي كانوا طرفاً منها، بسبب ما ارتكبت من جرائم قتل المتظاهرين العزل، خطوة ايجابية، وموقف يحمد لهم .. ولكننا لا نريد لشعبنا أن يقبله بصورة عاطفية، ولا ان يرفضه بصورة عاطفية، وإنما يجب ان نناقشه من كافة جوانبه، ونوضح ما ينقصه، ليصبح موقفاً ايجابياً كاملاً، يعيد هؤلاء (الاصلاحيين) الى أحضان شعبهم، ويخلصهم من وزر ماضيهم.
أول ما تجدر الإشارة إليه هو أن قتل شهداء سبتمبر / أكتوبر الماضي، بدم بارد، لمجرد تظاهرهم احتجاجاً على الغلاء،- والذي أدانه د.غازي ومن معه وأبعدوا بسبب ذلك من الحزب الحاكم- لم يكن حادث القتل الأول لحكومة المؤتمر الوطني. فقد ضربت الحكومة بالرصاص الحي، وقتلت مواطنين، في مظاهرات قبل هذه المرة .. ولقد كان د. غازي ورفقاؤه من الإصلاحيين، في ذلك الوقت ضالعين مع الحكومة، ولم يكف ذلك القتل لإيقاظ ضمائرهم، كما فعلت احداث سبتمبر / أكتوبر .. أما وقد أفاقوا الآن، وأدانوا قتل المتظاهرين العزل، فعليهم أيضاً إدانة القتل الذي جرى في المظاهرات السابقة، والقتل الذي تم للشبان المجندين في معسكرالعيلفون، وقتل المواطنين الذين اعترضوا على سد كجبار وقتل المواطنين في مظاهرات بورتسودان.
وقبل ذلك، قامت الحكومة الحاضرة، بتسليح مليشيات الجنجويد، وقوات الدفاع الشعبي، ورجال الأمن والجيش، وقتلت حوالي 250 ألف من أهالي دارفور، وشردت أكثر من مليون مواطن سوداني، بين معسكرات اللجوء الخارجي والنزوح الداخلي. ولقد اعترفت الحكومة بأن عدد الذين قتلوا في دارفور حوالي عشرة ألف، ولكنها لم تقدم شخصاً واحداً للمحاكمة !! هل يقبل من دعاة الاصلاح أن يدينوا الحكومة لقتلها حوالي مأتي متظاهر في الخرطوم ولا يدينوها على قتل الآلاف من أبناء دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ؟! إن على حركة الاصلاحيين أن تتبرأ من العنصرية، والجهوية، وسوأة مثلث حمدي، كإبداء لصدق النيّة في الاصلاح.
وإدانة قتل المتظاهرين واعتباره (خطأ) لا يكفي، وإنما يجب المطالبة بالقصاص من الذين ارتكبوا هذه الجريمة النكراء، وما دامت الحكومة مصرة على موقفها، وقد هددت بالمزيد من العنف بالمتظاهرين، فقد كان واجب د. غازي ومجموعته ان يطالبوا بزوال النظام نفسه .. ثم ان ذلك لن يكتمل إلا بالإعتذار لأسر الشهداء، وللشعب السوداني عن الجريمة، التي ارتكبت، وخرجوا بسببها من التنظيم الذي ارتكبها .. هذا بالنسبة لاحداث سبتمبر /اكتوبر، أما الجرائم السابقة، والتي حدثت وكان د. غازي ورفاقه راضين عنها، فإن الاعتذار لا يكفي فيها، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم، لأنها دماء ابرياء، والحل الوحيد لها، أن يتقدموا بدعوى للقضاء، يطالبوا فيها بمحاكمتهم على تلك الجرائم، حسب مسؤوليتهم، التي يحددها وضعهم من السلطة، لحظة ارتكاب تلك الجرائم .. هذا مقتضى المسؤولية القانونية والاخلاقية الدنيوية، أما المسؤولية الدينية، فإن أمرها اعظم بكثير لأن الله لا يعفو إلا إذا عفا المظلومين، وهي على كل حال، قضية فردية، تستوجب الكثير من الندم والبكاء على الذنوب، وإدمان الاستغفار، وتصحيح الحال في التوبة .
إنما ينتقده الإصلاحيون الآن، بمختلف فصائلهم، من فساد، وفشل، وخطأ في السياسات، أوقع البلاد في هذا الوضع المتأزم، ويعرضها الآن الى احتمال التمزق والضياع، لم يحدث صدفة، ولم يحدث لأن اعضاء حكومة المؤتمر الوطني كانوا يريدون ذلك .. ولكنه حدث لأن الافكار الاساسية، التي توجه العقول، والتي سارت عليها الحكومة، مأخوذة من فكر جماعة الاخوان المسلمين، وهو فكر خاطئ، لا يسوق بطبيعته، إلا الى الفشل والخراب !! ثم لأن الفكرة رغم أنها اقامت تنظيماً دينياً، لا تقوم في الاساس على تربية سلوكية، كما يقتضي الدين.. فكأن الجماعة أخذت مظهر الدين، في اقامة الشعائر، ورفع الشعارات الدينية، وبعدت عن جوهره، وهو الاخلاق.. وحين وجد الأفراد أنهم يملكون السلطة، وقد جلبوا بها الثروة من كل حدب وصوب، تهاوت النفوس الضعيفة الفاقدة للتربية في مراتع الفساد، وعبأت منه حتى إمتلأت وفاضت، ثم أخذت تحمي وضعها في الفساد، بالبطش، والقهر، والظلم، والتسلط على الناس.
لقد كان حلم الإسلاميين، بمختلف فرقهم، واحزابهم، وجماعاتهم، ومسمياتهم، أن يصلوا الى السلطة، ويطبقوا الشريعة الإسلامية .. وكانوا يظنون، ويظن كثير ممن تضللوا بشعاراتهم، ان مجرد إعلان الشريعة، سيجعل الله يرضى عنهم، ويوفق حكومتهم الى النجاح في كل مساعيها.. ولهذا حين فشلوا في الوصول الى السلطة، عن طريق الانتخابات، قاموا بالانقلاب العسكري في يونيو 1989م، فما دام الغاية هي تطبيق الشريعة السمحاء، فإن تلك الغاية، تبرر كل الوسائل، بما فيها وسيلة الانقلاب !!
وحين تم انقلاب (الانقاذ) كان د. الترابي هو عرّابه، ومفكره، وكان كل الاصلاحيين جزء منه، ومن مشروع تطبيق الشريعة في السودان، رغم التنوع الثقافي والأثني والديني .. وعلى أساس مشروع تطبيق الشريعة، صعدت حكومة الاخوان المسلمين الحرب في الجنوب، وجمع لها الشبان بالترغيب وبالترهيب، ووظف الإعلام لغسل مخ المواطنين، حتى يتقبلوا ان هذه الحرب هي الجهاد الإسلامي، وقاد الترابي بنفسه، الحملة التي تمنع أهل الشهداء أن يبكوا على موتاهم، وتجبرهم على أن يحولوا المأتم الى (عرس الشهيد)، وأن يفرحوا لأن ابناءهم قد زفوا الى (الحور العين) !! وبعد المفاصلة وخروجه عن النظام، أعلن د. الترابي ان حرب الجنوب لم تكن جهاداً، وان قتلاها ليسوا شهداء، ونفى حتى وجود (الحور العين)!! ورغم أن الحكومة اشاعت في وسائل الاعلام أنها ستستمر حتى تقضي على الحركة الشعبية لتحرير السودان، إلا أنها بعد قتل الآلاف من الشماليين والجنوبيين، في تلك الحرب، عقدت مع الحركة الشعبية إتفاقية السلام الشامل، واصبح د. جون قرنق –رحمه الله- الذي كان يصفه الاعلام الرسمي بالتمرد والكفر، نائباً لرئيس الجمهورية -قائد المجاهدين !! ثم بعد كل ذلك، لم تقم الشريعة، ولم يتحقق الخير والرخاء، بل تم فصل الجنوب !! ثم تدهور الاقتصاد، لأن الموارد وظفت لشراء السلاح، ولأن الفساد نخر في عظم الاخوان المسلمين، فازدادوا طمعاً، وشرهاً، وغنى، وازداد الشعب فقراً وحاجة .. فهل يطرح الاصلاحيون اليوم نفس المشروع ؟! مشروع إقامة دولة الشريعة، ومحاربة غير المسلمين، وكل من يعترض عليها، ومحاولة اخضاعه بالقوة لهذه الرؤية ؟! أم إنهم الآن يختلفون مع هذه الفكرة، ويعترفون بالتنوع الثقافي، والخلاف الفكري حول فهم الإسلام نفسه، ويدركون انه لا يمكن لأي فصيل واحد، سواء ان كان يحمل فكراً إسلامياً أو فكراً علمانياً، أن يفرض فكره هذا على كل السودانيين، ويحكم هو وفصيله وحدهم دون مشاركة الآخرين ؟! هل بلغ الاصلاحيون مستوى ان يروا ان الخطوة الأولى، بعد ذهاب حكومة (الانقاذ)، يجب أن تكون التوافق على نظام يقوم على فصل الدين عن الدولة، وفتح المنابر الحرة، التي يدار فيها الصراع الفكري، حتى يرتفع وعي الشعب، ويختار الفهم الذي يحقق آماله وطموحاته؟! هل فكر الاصلاحيون أن يحاوروا الشعب حول الشريعة، بدلاً من ان يفرضوها عليه؟! هل فكروا في ان هناك صوراً من الشريعة طبقت في الدولة الاسلامية الأولى، وكانت حكيمة كل الحكمة في وقتها، ولكنها لم تعد كذلك اليوم، لإختلاف عصرنا عن العصور الماضية، مثل نظام الخلافة، ونظام الرق، وما ملكت أيمانكم، والقتال بهدف نشر الاسلام، واعتبار المواطنين غير المسلمين أهل ذمة في وطنهم، وعدم المساواة بين الرجال والنساء ؟! إن تطبيق الإسلام لا بد ان يسبقه إجتهاد. ولقد قرر الفقهاء الأوائل، وتبعهم مفكرو الاخوان المسلمين، أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص. وان الاجتهاد يجب ان يكون في الاشياء التي لم ترد فيها النصوص .. وهذا رأي خاطئ، وقد آن له أن يصحح، وذلك لأن الاشياء التي لم يرد فيها نص، لا قيمة لها عن الله. ولو كانت ذات قيمة عنده، لأورد فيها نصوصاً .. فلماذا نجتهد فيما ليس له قيمة عند الله، ونترك ماله قيمة عنده، وقد أنزل فيه نصوصاً واضحة ؟! إن الاجتهاد يجب ان يكون فيما ورد فيه النص، بمعرفة الحكمة وراء النص، والانتقال من نص خدم غرضه حتى استنفده، الى نص لم يطبق في الماضي، لأن وقته لم يجئ آنذاك، وهو الآن أكثر مناسبة لوقتنا الحاضر، وهذا أمر مستفيض، ومفصل، وأمثلته حاضرة، ويمكن الرجوع إليه في مظانه .
إن المجموعة الوحيدة بين الاصلاحيين، التي شعرت بأن هناك اشكالية فكرية، وأنها تحتاج الى ان تتعرف على رؤى جديدة، واجتهادات في أمر الاسلام، وفتحت منابرها لتستمع الى آراء من شخصيات معارضة لفكر الاخوان المسلمين، واهتمت بالحوار والاطلاع على الافكار الاخرى، هي مجموعة (سائحون) !! ولعل طبيعة المجموعة كشباب، ابعدت عنهم إدعاءات المعرفة، والموروث الطويل، الذي يشكل عقبة في طريق التغيير. على إنهم لا زالوا في بداية هذا الطريق الشاق.
إن الحكم على حركة الاصلاحيين، سيتم في الزمن، فإذا ظلوا ينقدون الاجراءات والممارسات، دون ان يتحدثوا عن الفكرة نفسها، فإن هذا لا يصلح إخوانهم، ولا يصلحهم هم انفسهم .. وإنما يصبح نوعاً من الصراع على السلطة، واتخاذ أخطاء الحكومة زريعة لاستبدالها بوجوه أخرى كانت معها، ولم تغير فيما حدث .. وهذا امر لن يجوز على الشعب، ولن يفيد الحركة الاسلامية. أما إذا نقدوا فكرتهم، ونظروا في تطويرها، ورجعوا الى الاسلام السلفي التقليدي، واوضحوا بشجاعة، قصور فهمه عن طاقة وحاجة العصر، فإنها عندئذ تكون حركة اصلاح .. هناك سؤال يقوم في بال القارئ لما سلف من القول، وهو : هل أدعو حركات الاصلاح المنشقة عن حزب المؤتمر الوطني ليصبحوا جمهوريين ؟! الجواب : نعم !! ولكن ليس الآن، وإنما ادعوهم الآن أن يأصلوا أصلاحهم، بالنظر الى الفكر الاسلامي، وينفتحوا بعقولهم، وقلوبهم، على مختلف الافكار والاجتهادات، ويسعوا للحوار الموضوعي، مع كافة خصومهم الفكريين، فإن فعلوا ذلك ستكون عاقبة امرهم خير .. فلقد جاء في إهداء كتاب (طريق محمد) للأستاذ محمود محمد طه ( الى الراغبين في الله وهم يعلمون والراغبين عن الله وهم لا يعلمون .. فما من الله بد) !!
د. عمر القراي
.
|
|
|
|
|
|