عقائد فلسفيه خلف صياغة القوانين الطبيعيه

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 11:22 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-19-2013, 03:49 AM

مجدى محمد عبد الله
<aمجدى محمد عبد الله
تاريخ التسجيل: 01-09-2013
مجموع المشاركات: 563

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عقائد فلسفيه خلف صياغة القوانين الطبيعيه

    بقلم أ.د. محجوب عبيد طه

    ملخص : توضح هذه المقاله أن الحقائق التجريبيه و التعميمات التي تستنتج منها و القوانين الطبيعيه التي تبنى عليها يمكن أن تنتهي الى صياغات مختلفه يعتمد كل منها على موقف فلسفي خفي يدخل مفاهيم جديده لا تقتضيها الظواهر التجريبيه , و يوضح تحليل أمثلة معينة أن أكثر من موقف فلسفي يمكن أن يرتب على ذات الحقائق العلميه و أن تجريد الصياغه من محتواها الفلسفي الخفي يعطي تعميمات لا تثير أيا من الاشكاليات التي تثار عادة حول ما يترتب على العلم الطبيعي من فكر و فلسفه.
    1- عن القانون الطبيعي:
    هناك مفاهيم شائعة عن ماهية العلم الطبيعي و وظيفته , عند عامة المثقفينو أحيانا عند بعض العاملين في البحوث العلمية , مصدرها الكتب المدرسية و الصحف العامة و المقالات السطحية عن العالم المثالي للعلماء الطبيعيين . ملخص هذه النظرة الشائعة أن العلم الطبيعي و قوانينه و نظرياته نتاج فريد لا يخضع للاختلاف بين البشر و لا يختصم حوله من أدركه و وقف عليه , اذ التجربة المعملية هي الفيصل في كل جدال حول مسألة علمية . و الحق أن هذا يصح على جزء من العلم الطبيعي , يصح على قائمة الملاحظات بعد اجراء التجارب على ظاهرة تجريبية معينة . و لكن قوائم الملاحظات , التي سجلها الانسان أو سجلتها المعدات الآلية , ليست الا البداية و العمل العلمي الحقيقي ينتج عن تفاعل الفكر البشري مع هذه القوائم و عما يضفيه عقل الانسان عليها من التسبيب و الربط المنطقي المتماسك . هذا التنظير الانساني ضروري و أساسي و يشكل حقيقة روح العمل العلمي . و بسبب هذا فان العلم الطبيعي في المكان الأول تجربة بشرية تخضع لما تخضع له التجارب البشريه كافة من اختلاف بين الناس و خصومة حول العمل : معناه و جدواه و منتهاه .
    و لعلي أعطي مثالا يوضح المقصود هنا . خذ الجاذبية: من الممكن أن نسجل قوائم كثيرة تملأ بها على مر الأيام آلاف الصفحات , تعطي معلومات عن سقوط الأجسام على الأرض : شكل الجسم , حجمه , كثافته , نوع مادته , ارتفاعه , زمن سقوطه , نوع التربه التي سقط عليها , عمق الحفرة التي أحدثها ...الخ ...دفاتر معملية شاملة و مكتملة تحوي كل " الحقائق " و لكنها لا تحوي "علما" . ينتج العلم عندما يتدبر الذهن البشري هذه القوائم و يتفحصها من كل الوجوه الممكنه و يحاول الربط بينها بحيث يمكن ايجازها في عبارة موحدة (رياضية كانت أو نثريه).
    و يصل الانسان لبداية علم الجاذبية ( بعد قرون من العمل العلمي المنظم ) عندما يعلن أن الاجسام تسقط نحو سطح الأرض بتسارع واحد , ثم تمر عقود و يعلن عن قانون الجاذبية العام و عن الربط بين سقوط الأجسام على الأرض و دوران القمر حول الأرض و الكواكب حول الشمس , ثم تمر قرون و يعلن عن النظرية النسبيه العامة و عن الدور الذي تلعبه قوة الجاذبية في تشكيل السدوم الكونيه و المجرات . و مع ذلك فان علم الجاذبية ما يزال "مفتوحا" و يختلف حول نظرياته الباحثون . اذ هناك أكثر من نظرية و أكثر من "فلسفة" "تفسر" قوائم الملاحظات و لا تميز بينها التجارب المعملية و المشاهدات الفلكية المعلومه . بل اننا فوق ذلك لا ندري عن " ماهية " الجاذبية شيئا , اذ ينحصر سعينا في التوصل لقانون رياضي محكم يعطي وصفا دقيقا للكيفية التي تتحرك بها الجسيمات تحت قوة الجاذبية . أما طبيعة الجاذبية, ماهيتها , كنهها , مصدرها فمن غير الممكن أن تجدي فيه الوسائل المتاحه للعمل العلمي , و في الواقع لا يبدو ممكنا تعريف مثل هذه المفاهيم تعريفا يدخلها في نطاق البحث التجريبي . و مثل هذا يصح على كافة القوى الطبيعيه المكتشفه : القوى الكهربائية و المغناطيسيه و النووية . و يمكن القول بصفة عامة بأن العلم في المستوى الأساسي لا يبحث عن ماهية الموجودات و كنه القوى التي تحكم سلوكها و انما يبحث عن المكونات الأولية للموجودات و عن القوانين التي تضبط عمل القوى التي تحكم سلوكها ..و العلم الأساسي يستهدف استنباط القوانين الطبيعية بين المكونات الأساسية لمادة الكون . فما هو القانون الطبيعي و كيف يتوصل اليه ؟.
    لا شك أن المنهج التجريبي قد تطور كثيرا عبر القرون و استفاد ,ليس فقط من الوسائل التقنية المتاحة للتجريب المعملي في كل مرحلة , و انما من التنظير و أساليب التفكير العلمي التي أثبتت جدواها في تنظيم الحقائق و ربطها . و قد بلغ هذا التطور الحد الذي يمكننا الآن من تحديد الكيفيه العامة التي ينتهي بها البحث لصياغة قانون عام , على الأقل في المباحث التي بلغت درجة عالية من النضج و الدقة مثل الفيزياء المعاصرة . تبدأ هذه الكيفية بتحديد الحالة العامة للنظام قيد الدراسة عن طريق تسجيل المتغيرات المقيسة التي تميز حالة للنظام هن غيرها . ثم تجري التجارب لرصد القيم المختلفة لهذه المتغيرات مع تطور النظام, أي رصد مسار تحول النظام من حالة الى أخرى .ثم يبحث في هذا المسار عن الخواص التي لا تتغير مع تطور النظام , اللامتغيرات أو الثوابت .هذه الثوابت تعطي "قوانين البقاء " للنظام . و بالتدقيق في قوانين البقاء لمجموعة متماثلة من النظم تقدم فرضية لقانون عام يقتضي قوانين البقاء المشاهدة. ثم يختبر هذا القانون بمقارنة تنبؤاته مع التجارب على أوسع نطاق ممكن , و ينظر في امكانية استنتاجه من نظريات أعمق و أشمل . هذه النظريات الشاملة تشكل نماذج رياضية لمجموعات كبيرة من الظواهر الطبيعية تنتظم تحت تفاعلات أساسيه واحده .
    من هذا العرض المقتضب للاستراتيجية التي تمكن من التعميم العلمي المفيد , يتضح أن هناك مستويات مختلفة للتنظير : (أ) مستوى قانون البقاء , و هو تعميم لصيق بالتجربه و يبنى مباشرة على المشاهدة و القياس . و صيغة قانون البقاء أن دالة معينه , تعتمد على المتغيرات المقيسة , تظل بقيمة ثابتة خلال تحول النظام من حالة الى أخرى .
    و بسبب قرب قوانين البقاء من التجريب فانها تشكل الواجهة الأولى عند مهاجمة التجارب النظرية , و هي ركائز يقوم عليها البناء النظري . و لذلك ففان لسقوطها دويا متى سقطت بتدقيق التجريب و تطوير المعدات , كما حدث عندما انهار قانون بقاء الانعكاس المكاني في عام 1957 م ثم قانون بقاء بقاء مضروب الانعكاس المكاني و تضاد الشحنه في عام 1964 م. و يتابع الفيزيائيون حاليا التجارب العديدة التي ظلت تجري منذ سنوات لاختبار قانون بقاء عدد الباريونات , الذي يقول بعدم امكانية تلاشي البروتونات .
    (ب) مستوى القانون العام و هو فرضية تصاغ بحيث تضمن صحة قوانين البقاء المعلومة, و تشكل قاعدة رياضية لمناقشة ظواهر عديدة تشترك في التفاعلات المؤثرة مع الظواهر التي قادت الى قوانين البقاء .و اذ ان الانتقال من قوانين البقاء للقانون العام ليس فريدا فاننا نجد عادة عدة فرضيات رياضية , يعطي كل منها قوانين البقاء المطلوبه و تختلف خارج نطاق التجارب المعلومه .و الفرضيات التي تظل في الساحة هي تلك التي لم ترفضها التجارب بعد .
    (ج) مستوى النظرية الشاملة و تعطي الصيغة الرياضية الموحدة التي يرد بها التفاعل الأساسي , قيد الدراسة , في كل المجالات التي يؤثر فيها .و تكون صيغة التفاعل عادة حدا معينا في دالة مؤثر الطاقة , يستوفي الشروط التي تحقق قوانين البقاء المطلوبة وتعطي أشكال القوانين العامة لمجموعة الظواهر المعينة التي يختص بها كل من هذه القوانين. و يتضح من هذا أن في النظرية الشاملة زيادة كبيرة على التجربة اعمالا ابداعية للفكر البشري من أجل توسيع رقعة صحة المعلومات التجريبية و تعميق المفاهيم المنبثقة عنها.
    و لعلنا في نهاية هذه الفقرة نعطي مثالا لمستويات التعميم المذكورة, و لنأخذ مجال الكهرباء . على المستوى (أ) نجد قانون بقاء الشحنة الكهربائية : مجموع الشحنات الكهربائية يظل بقدر ثلبت قبل و بعد التفاعل . و على المستوى (ب) نجد عددا من القوانين العامة التي تصف تفاعلات محددة يرد فيها الفوتون , مثل تفاعل الفوتون و الالكترون , أو تفاعل الفوتون و البروتون أو تفاعل الفوتون و الالكترون و مضاد الالكترون . أما على المستوى (ج) فنجد النظرية الكهرومغناطيسية التي تصف سلوك الجسيمات المادية في المجال الكهرومغناطيسي بصفة عامة و تحوي في صيغة رياضية موجزة و محددة تماما كل الخصائص التجريبية المعلومة للظواهر الكهربائية و المغناطيسية.
    و انتقل الآن للحديث عن التداخل بين العقيدة الفلسفية و صياغة القوانين و النظريات العلمية , بعد أن مهدنا له بتوضيح أثر الفكر الانساني في التعميم النظري للحقائق التجريبيه

    2- الخلفية الفلسفية في صياغة القانون الطبيعي:
    هناك افتراض أساسي يقوم عليه العلم الطبيعي , هو الافتراض بمعقولية العالم , أي الافتراض بأن الظواهر الطبيعية مترابطة و هو افتراض طبيعي و لعله في فطرة الانسان و تكوينه العقلي و في صورته المتطرفه هو اعتقاد بحتمية التبعية السببية : أي الاعتقاد بأن حالة معينه للنظام الطبيعي تقود دائما و بالضرورة لحالة أخرى تليها. و هذا الاعتقاد بالحتمية المطلقة للقانون الطبيعي هو الذي ساد حتى بداية القرن الحالي , و لقد تغلغل في المنهج العلمي بحيث أن علماء كثيرين باتوا يعتقدون أن احساس الانسان بالحرية في الاختيار ليس الا خديعة نفسية. و في بداية القرن الحالي اتضح أن الحتمية المطلقة تناقض التجربة . و اذ ان التبعية السببية , على نحو أو آخر , لابد منها للعمل العلمي فان التعديل الذي أدخل على فرضية الحتمية كان في أضيق الحدود التي تضمن الاتساق مع التجارب .و أصبح الأمر بعد مقدم النسبية الخاصة أن هناك اتصالا سببيا , لا يعتمد على المشاهد , لكل ظاهرة مع مجموعة معينة من الظواهر, ثم بعد مقدم نظرية الكم , أن هناك حتمية في تطور حالات النظام و لكن هذه الحالات لا تحدد تماما قيم المقادير المقيسة و انما تعطي احتمالات الحصول على قيم معينة لهذه المقادير . و هذا التراجع عن الحتمية المطلقة أفسح المجال لبعض العفوية و سمح بقدر من " حرية الاختيار" للجسيمات الدقيقة , و لكنه أزعج الحس الفطري للفيزيائيين الذي يفضل أن تكون الظواهر الدقيقة منضبطة تماما بالحالات الابتدائية و القوانين التي تحدد مسار التطور.
    هذا موقف فلسفي في طبيعة العمل العلمي و يشترك فيه الجميع بحكم المهنة . و مع ذلك فمن غير الممكن أن يدافع عنه بمنطق مقنع . و انه لمن حسن الحظ أن قدر العفوية المكتشف لم يحل دون فهم الانسان للظواهر الكونية و الاستفادة من خيرات الأرض و السماء.
    و يحدث أحيانا أن يعترض على نظرية علمية متفقه تماما مع التجارب ,في حدود الصحة التجريبية , من مدخل فلسفي ! فلقد انتقدت نظرية نيوتن في الجاذبية الكونية , قبل أن يكتشف لها أي تعارض مع التجربة , بسبب أنها تقول بالتأثير عن بعد , أي تأثير الجسيمات على بعضها البعض دون وسيط . كما عد الباحثون من ميزات النظرية النسبية العامة أنها تحقق , بصورة ما , فكرة ماخ بأن الأجسام البعيده في الكون هي التي تعطي خصائص القصور الذاتي للجسيمات ذات الكتلة . و فكرة ماخ ليست الا أمنية بوجود ترابط وثيق بين البعيد و القريب رأى أنه يعمق مفهوم الكتلة و يجعل تصورنا لأصلها جميلا و رائعا .
    نخلص من هذا الى أن البحث العلمي , على مستوى التفاعلات الأساسيه , كان دائما مقترنا بفرضيات فلسفية أو مواقف عقدية لا تقتضيها بالضرورة التجارب المعملية . و هذا الاقتران مهم لأنه يعطي امتدادا فكريا و حضاريا للمجهود البحثي في العلوم الطبيعية و يمكنه من الاسهام , ليس فقط في مجال التطبيقات التقنية , و انما في مجال الفكر الانساني الذي يطمح في التعمق في فهم الحياة و تنظيمها . و لذلك فاننا نجد أن صياغة كثير من القوانين العلمية الأساسية تجنح لشمولية واسعة , و تقرر مبادئ فوق أبعاد التجربه , فتحدد بذلك مواقف فلسفية معينة و تترك انطباعا واضحا بأن هذه المبادئ الفلسفية بعينها هي ثمرة العلم التجريبي و ما عداها باطل . و لعلي أضرب لذلك أمثلة .
    مثالي الأول من علم التحريك الحراري : كانت الصياغات التقليدية للقانون الثاني في التحريك الحراري منذ البداية شمولية و كاسحة :" من المستحيل صنع ماكينة تحول كل الحرارة الى عمل " أو " يستحيل أن تبلغ الكفاءة قيمتها الكاملة عند انتاج العمل من الطاقة الحرارية " أو " ليست هناك على الاطلاق عملية طبيعية نتيجتها الوحيدة نقل الحرارة من جسم لآخر أعلى منه درجة حرارة ". و واضح أنه ليس سهلا تسويغ مثل هذه العبارات على أساس تجارب محدوده أجريت داخل معمل في مكان ما على الأرض . فهي فرضيات كونية شاملة تتحدث عن طبيعة الموجودات في أي مكان و زمان , و تحقق طموح الانسان في أن يحلق بفكره فوق الآماد و الأبعاد و الكل يفضلها على التقرير المتواضع بأن عددا من الباحثين أجروا تجارب على مواد معينة تحت ظروف معينة محاولين تحقيق الكفاءة التامة عند تحويل الحرارة الى عمل و فشلوا في ذلك ! البون الشاسع بين هذا التقرير و العبارات السابقة لا يرد الى التجارب و انما مرده الى اعمال الفكر البشري و اتخاذ موقف عقدي فلسفي : ما فشلنا في تحقيقه يستحيل أن يتحقق اطلاقا . و الفرضية الأساسية التي " تحصلنا " عليها بهذه الكيفية غنية و يمكن تطبيقها على كل ما في الكون من الظواهر الحرارية , بل و على الكون بأكمله على أنه نظام حراري مغلق يخضع لقوانين معاملنا , فنتنبأ مثلا بالفناء الحراري للكون .
    المثال الثاني من نظرية الكم . هناك قرين لمبدأ اللاتحدديه المشهور , المتعلق بالارتباط بين درجتي الدقة في قياس الموضع و الاندفاع في آن واحد . هذا القرين يربط بين الطاقة و الزمن على نحو الصلة بين الموضع و الاندفاع و يمكن استنتاجه من أسس نظرية الكم بصورة مماثلة و لا يتطلب فرضية اضافية .و العبارة الرياضية التي يرد بها الارتباط بين درجتي الدقة الممكنتين في قياس الطاقة و الزمن معا عبارة بسيطه و متفق عليها تماما , كما هو الحال مع التجارب المعمليه في المثال الأول . اذا قصرنا هذه العباره على حدها المشروع , حسب شروط استنتاجها , نجدها تحدد مدى عدم التوافق بين المتغيرات غير المتوافقه في القياس , في هذه الحالة بين متغيري الطاقة و الزمن . فمتى ورد هذان المتغيران , مع أي مجموعه من المتغيرات الأخرى , في وصف حالة نظام طبيعي فلابد أن يردَا بحيث ان درجتي الدقه في قياسهما ترتبطان بالعلاقة الرياضية المعطاة , و بصفة خاصة لا يردان بقيم محدده تماما و انما بقيم تقريبية متوسطة . و هذا في الأساس من خصائص نظرية الكم . فاذا افترضنا أن نظرية الكم تمثل حقيقة الظواهر اعتبرناه من خصائص الطبيعة المشاهدة و وضعنا بذلك قيدا على امكانية القياس بدقة مطلقة بالنسبة للمتغيرات غير المتوافقة متى اجتمعت في وصف حالة واحدة . غير أن الفرضية الكونية الشاملة التي بنيت على هذا الأمر جاءت كاسحة و تعدت هذه الحدود ببون شاسع : "من الممكن دائما أن يظهر من العدم مقدار معين من الطاقة و يتلاشى خلال فترة زمنية معينه متى ما ارتبط مقدار الطاقة و فترة بقائها بالعلاقة الرياضية المعطاة " . اننا الآن لا نتحدث عن خصائص نظرية تفسر الظواهر المعملية و لا نتحدث عن حدود القياس التجريبي للمتغيرات المقيسه المشتركه في وصف حالة النظام و لكننا نتحدث عن الظهور من العدم و عن الفناء و البقاء . , لا نتحدث عن حدود الانسان و لكن عن مدى الامكان , امكان الوجود الفجائي و التلاشي الفجائي . نستطيع الآن أن نفسر ظهور الطاقة من العدم اذ لدينا قانون طبيعي , محدد بعلاقة رياضية , يوضح امكانية ذلك , بل اننا نتخذ موقفا فلسفيا حول أساس العلم التجريبي : القانون الطبيعي لا يشترط التسبيب . ذلك أن العلاقة الرياضية تربط بين متغيري الطاقة و الومن حيثما وجدا , فان امتدت لتعني امكانية ظهور الطاقة من محض العدم جاز أن يكون ذلك في أي مكان و زمان و بصورة فجائية دون ربط سببي بين هذا الحدث و سوابقه . و رغم أن قدر العفويه و مدى كسر التسبيب ضئيل جدا وفق العلاقة الرياضية , و رغم أن هذه الفرضية على ما فيها من اكتساح تختص بما يمكن أن يشاهده الانسان و يدرسه , الا أن هذا لم يمنع عددا من الباحثين من تقديم نظريات مبنية على هذه الفرضية تفر ظهور الكون كله من العدم , لمدى عمره المديد , دون مؤثر و بلا سبب .
    مثالي الثالث و الأخير من علم الكون : المبدأ الكوني العام . تدل المشاهدات الفلكية على أن المجرات و مجموعات المجرات , و كذلك الاشعاع الخافت الذي يصلنا من كافة أرجاء السماء , موزعا حولنا توزيعا منتظم الكثافة لأقصى المسافات التي تمكن الفلكيون من رصدها . على أساس هذه الحقيقة صيغت فرضية شاملة تعتبر من أعمدة علم الكون المعاصر , هي المبدأ الكوني العام :" يبدو الكون منتظما و متجانسا من أي موضع فيه في كل وقت " . هذه الفرضية تعميم كاسح و تمديد شامل للانتظام و التجانس المشاهد الآن في رقعة محددة من العالم يجعل منه خاصية أساسية لكل الزمان و المكان. و ما من أنموذج رياضي لنشأة العالم و تطوره الا و يعتمد هذا المبدأ و يبني عليه . و الموقف الفلسفي العقدي هنا جلي : ربما يكون صحيحا أننا لا نستطيع أن نشاهد كل الكون و لكن ما يغيب عنا لا يختلف عما يظهر لنا منه . و هذا يعني أن الأشياء و الظواهر التي تثير فكرنا و تستحق اهتمامنا هي تلك التي أثبتت وجودها بالظهور في مراصدنا و أن ما وراءها لا يخفي سرا و لا يحجب مجهودا . و يتيح هذا الموقف للباحثين قاعدة مريحة لتقديم نظريات عن الكون بدلا من العالم المشاهد , الكون الشامخ الفريد الذي يحوي بدايته و نهايته بدلا من العالم المشاهد الذي تتصل أطرافه بالمجهول غير المشاهد و قد تدخله تأثيرات لا يتحكم فيها فكر و لا تجريب .
    في كل هذه الأمثلة الثلاثة طفرة فكرية تجاوزت حدود التجربة و المشاهدة و صيغت بحيث عبرت عن عقيدة فلسفية تعطي الفكر البشري مقدرات لا حدود لها في فهم و تصور و سبر غور الظواهر الطبيعية . و لا شك أن العالم الباحث ينزع دائما لأن يعبر عن الفرضيات العامة بعبارات تمكن من تطبيقها على أوسع نطاق ممكن , ثم هو يمتحن صحتها على هذا المدى الافتراضي بمواجهتها بمزيد من التجريب فيعدلها أو يقلص من نطاق صحتها متى ما اضطر لذلك و أجبر عليه . و لسنا هنا بصدد توجيه النقد لهذا الاسلوب , و لعله في طبيعة تفكير البشر , و لكننا ندل عليها و نبينه و نوضح بصفة خاصة أنه يدخل زيادة كبيرة على مقتضى التجريب و المشاهدة , و أن صياغات القوانين و الفرضيات العامة يمكن أن تتخذ أشكالا مختلفة تعبر عن خلفيات فلسفية مختلفة , هي مواقف عقدية مسبقة لا صلة للعلم بها . و المواقف العقدية التي انطلقت منها الصياغات الواردة في الأمثلة التي ذكرناها متقاربة و تعبر عن الايمان بمقدرات الفكر الانساني : فما يستحيل على البشر هو المستحيل المطلق (المثال الأول) و العقل البشري يدرك كل شئ بما في ذلك القانون الطبيعي الذي بموجبه تظهر الطاقة من العدم ( المثال الثاني ) و المعرفة البشرية تشمل الكون بأكمله و لا يخفى على الانسان من الموجود شئ ذو بال (المثال الثالث).
    هذه في جملتها عقيدة تؤمن بأن ذكاء الانسان و فكره و تدبيره أعلى مراتب الذكاء و الفكر و التدبير في الوجود , و أن ليست هناك خفايا و لا أسرار لا تدركها أجهزتنا و وسائلنا . و ليس غريبا على من اعتقد هذا و آمن به , قبل بدء البحث و الدراسة , أن يأتي بتعميمات و فرضيات صيغت بحيث تعكس هذه العقيده بصورة تلقائية . و يجدر أن نلاحظ هنا بصفة خاصة أن الذي يؤمن بأن تدبير الانسان هو التدبير الأرقى في الوجود و يعلم أن الانسان لم يدبر للكون مساره لن يزعجه أن يجد أي قدر من العفوية في الطبيعة من منطلق فكري غير ايماني .
    غير أن هذه الفلسفة لا يقتضيها العلم الطبيعي و لا تؤثر على تطوره و فعاليته . و ليس هناك ما يمنع من صياغة ذات التعميمات و القوانين بحيث تعكس فلسفة ايمانية تنطلق من وجود الله الواحد الذي خلق السماوات و الأرض و ما بينهما و أوحى للرسل من بني البشر ما أوحى
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de