|
السفير الاديب جمال محمد ابراهيم في مقال بديع
|
لوحه أدبيه خطها يراع الاستاذ السفير جمال محمد ابراهيم والرجل يجف مداد قلمي ان حاولت ان أكتب عنه فهو أديب ابتلعته الدبلوماسيه كما فعلت من كثيرين من أمثاله.أرجو أن يستجيب السفير جمال لطلبي ويكتب لنا عن الادباء الذين اعتقلتهم الدبلوماسيه فهل يفعل ؟ هذا المقال ورد اليوم في صحيفة سودانايل. عن مي غصّوب *: من يعزف مزامير الخلود ؟
رسالة إلى الصديق عمر السوري **
جمال محمد إبراهيم/بيروت [email protected]
لقد حدثت بشجن و الحديث شجون ، وأصاب قلمك وللأقلام متون ، واغتسل قلبك – دون شك – من أوشاب الحاضر المرتبك ،فخرج مقالك مترفاً بذهب السبعينات ، بريقه يأخذ بالألباب ، يزيد من غوايتنا بأيام ٍ خوالي ، لم تفلح ولن تفلح العشرية الأولى من قرننا الجديد، ولا التي ستليها ، في أن تمحو كتابها المحفور في صخر التاريخ ، بأزاميل الصحو ، ومزامير الخلود . لقد نظرتُ ملياً في كتابتك ، فأيقنت أن من كانت تحلم بضحكة طفل فأيقظت أمة ، ومن نصبت منحوتة من صنع يديها ، فمنحتنا طوداً بحجم "دار الساقي" ، لن يكون مناسباً أن يتسق حلمها مع استغماية لعبة السياسة التي اصطادتنا في مفتتح القرن ، إذ لم يكن ثمة قطب يوازي هذا المنفلت ، فيردّه إلى صوابه وهو آفل . وإني لأنظر مرة بعد مرة ، فيزيد يقيني أن للكون ثبات واعتدال ، فإن لم يقم على توازن قطبين أو ابتلع قطب ٌ قطبا ، فسيطغى القطبُ الواحد على الجميع ، و الجميع هم في آخر القصة ،ذلك الجمهور الأغلب في العالم الثالث . ولقد كان القرن العشرين حقيقاً ، هو عصر الأيديولوجيا التي سمتْ بقدرات الفرد واحترام كرامته ، على "استعبادية" الإستعمار تلك التي تحدّرت إلينا من بقايا ظلام العصور الوسطى . لربما يقال إن عصر "الأيديولوجيا"- وبعد نفاد دورها في بداية التسعينات - قد اضمحل تماماً . تضاءل بريق الماركسية و بقي شعاعها الإشتراكي في جيبٍ أو جيبين في امريكا اللاتينية . استنفدت أغراضها الوجودية ، و بقي قليلها يترّسم خطىَ لم تعد تبين لمن يتقصّدها . بزوال القطب المقابل ، وجد القطبُ الأوحد الأمريكي فرصته ، فأعمل فينا أنيابه وأظلافه و "صليبيته" ، إن صح الزعم الذي أجبروا كبيرهم أن يبتلعه خشية أن تبين السوأة . إذاً فالأيام الماثلة ، هي أيام البراجماتية ، وأنها صارت رديفاً للغات العصر الماثل ، لغة عصر الوجبات السريعة و الثقافة السريعة و المضاجعة السريعة ، ألا ترى كيف ارتجافنا شرقا و غرباً من وباء الطيور ، أو ركوننا مذهولين إلى الإنترنت يستعمر كامل أيامنا ، أو رعبنا من " السيدا" وقد سدّت علينا الأبواب إلى ما ألفنا من مراهقات صبية الستينات و السبعينات ؟ قيام القطب الواحد يتغطرس فينا ، هو قيامتنا في "العالم الثالث" . و لعمري فإن " العالم الثالث" تعبير تجاوزته القواميس ،إذ لن تجد له تعريفاً مقنعاً ، حتى في ماكينات البحث التي استحدثتها لنا "غوغل ".
لسنا من الداعين لتقديس الماضي ، بمثلما يفعل الشلك بأجدادهم ، تتجذر العقيدة عندهم عبادة لسلف ٍ شبع موتا ، أو مثل الجالسين يتحرّون البركة تحت قبة شيخ ٍ ، أو مدفن وليّ . الشجن الذي حكيت َ أنت عنه هو شجنُ عصر ٍ ، نما و كبر و أثمر بين قطبين ، شغلتهما "الحرب الباردة" ، فانفسح المجال لبؤساء القرن العشرين - شعوب آسيا وافريقيا - الذين غنى لهم قصيداً تاج السر الحسن ، و موسقه لحناً ُيغنّىَ ، عبد الكريم الكابلي . تلك قصة باندونق عام 1955 . كانت انتفاضة القارتين نائمة في أحشاء حربين كونيتين طاحنتين ، كتب الله صحوتهما في منتصف القرن العشرين . اجتاحت القارتين رياح التغيير و طلبتا في إثر ذلك براءتهما من غشم الإستعمار و هجمته الظالمة . سبقتنا لبنان إلى نيل الإستقلال . تململت مصر من دوس المندوب البريطاني بحذائه الثقيل ، تاج مليكها العربيد . وفي "جاه الملوك ، نلوك" ، كما يقول العامة عندنا : تشجعت نخبنا في السودان ، بتأثير وتأثر بمصر ، فثارت في وجه المستعمر ، وأنشأت مؤتمر الخريجين ، على غرار مؤتمر الهند ذلك الذي وقف شامخا يناطح التاج البريطاني، فأسقط رداء السيطرة وارتدى لباس شراكة الكمونولث . وأخيراً ، لم نأخذ من الهند "عمامتها " ، بل أيضاً "مؤتمرها" . تململت بلدان افريقيا : في غانا ، يدمدم نكروما بإستقلال واشتراكية . في غينيا يرفل في عباءة الإستقلال ،سيكوتوري ... ورجال مثل موديبو كيتا ، وجومو كينياتا ، وبن بيللا. . . أوه .. من يتذكر هذه الرموز ، في اشتغالنا بكل ما هو سريع الآن ، من أكل ومطالعة و معاشقة معجلة ، من يتذكر ؟
لا أعرف لمه أثرتَ شجني عن أيام القرن العشرين الجميلة ، تلك التي قصصت أنت عنها في كتابتك البديعة ؟ لكن أعود فأسأل نفسي : أليست مي غصّوب ، هي وردة ٌ في بستان تلكم الأيام الجميلة . . ؟ ألم يكن الراحل جوزف سماحة ، شمعة على شجرة ميلاد وطن ٍ شبّ كبيراً ، بجبران وميخائيل نعيمة و الشاعر القروي وإليا أبو ماضي و بشارة الخوري وأمين نخلة وخليل حاوي وسعيد عقل ، و أيضا حنا مقبل ، في المسافة الفاصلة بين قطبين ؟ ألم يزهر في " الهدنة التاريخية " التي أسميناها فترة الحرب الباردة تمويهاً ، فأتيح له نموّاً باذخاً ، أسهم خلاله في تشكيل عالم ٍ جديد ٍ ، سعى العالم الثالث ورموزه لاستغلال سانحة التاريخ وفرصتها الذهبية ، لصياغة معادلة لكون ٍ جديد ، عبر شراكة مع الكبار في العالم . .؟ كان ثمة مفكر فذ ، إسمه شارل مالك ، تمكن في "الهدنة التاريخية" الواقعة بين قطبين ، أن يضع بصمة في الأمم المتحدة . شارل مالك كان سفيراً ومندوباً للبنان في المنظمة الدولية في الخمسينات ،ثم وزيرا للخارجية أيضا . حتى في مرحلة الزلازل القاتلة في الشرق الأوسط ، كان ثمة من هدر بصوته الرخيم في أروقة الأمم المتحدة ، لساناً ينطق بقرارات العرب بعد حرب يونيو 67 ، وزير ذرب اللسان ، إسمه محمد أحمد محجوب . في "الهدنة التاريخية" ، نجحنا في أن نبتني جسوراً قوية ومتينة مع أنفسنا ، ومع العالم الشبيه من حولنا . أجمل ما في " الهدنة التاريخية" ، أنها بالفعل هدنة ، و لكنا حققنا فيها - في عالمنا الثالث - بعض نجاحات ، غير أن إخفاقاتنا كانت أكبر . و تلك حقيقة لا مهرب من أن نقرّ بها . "الهدنة التاريخية" التي أطلقوا عليها اسم الحرب الباردة ، لم تكن بلا أسنان ولا براثن . في ثنايا هذه الهدنة ، قامت ثقافات و بادت أخرى . تآكلت أحلام وردية مما رسم نكروما ،وبنى أسد يهوذا :هيلاسلاسي . وفي الشرق الأوسط تآكلت دعاوى القومية العربية ، و التي "تسلطنا" فيها على أيام الناصرية . و في عشّ دبور ٍ قصيّ ، استرهن أنور خوجة أرناؤوطه ، فأهمله العالم السادر بين قطبين ، و لم يلتفت إليه قطب . كتبت أنت عن هولوكوست جاكارتا و ضحايا سوهارتو، وصدق قلمك . ساعة توالت الإنهيارات ، لم تسلم البانيا بعد تناثر الإتحاد السوفيتي ، هباءاً في أفق آسيا ، إرباً أوزبكية وأرمنية و طاجيكية وآذرية . وخنق نفسه الأبرتايد واستولد ديمقراطية بهية من شموخ مانديلا . نفضتْ ريشها كوريا ولم ترتد . وفي كوبا، لم يبق من كاسترو غير خيال فزاعة ٍ ، يحرسه الأطباء ، أدرك أخيراً قراصنة العولمة ، أن جزيرة عنده ، يحسن أن تستغل لإيواء جرذان الإرهاب الدولي ، ممن تصطادهم براثن القطب الواحد في استفردها بنا ، و بعالمنا الآفل في بهائه.
كيف لا نستمريء - إذاً - لعبة استرجاع الماضي الذهبي الذي ألفنا في الستينات والسبعينات، وهو حنيننا الطقوسي لوليمة "الهدنة التاريخية" التي نعمنا بها قليلاً ، ثم هجمت علينا نمور العولمة من كل حدب ٍ وصوب ، ووحوش صياغات الشرّ الجديدة ، من نوع "دوبيا بوش " * ** ، ذلك الذي لبس طاقية الإخفاء ، ساعة كان ينبغي أن تبين شجاعته . . ! في ألم النوستالجيا ، يرحل أناس مشعّون مثل النجوم ، بل هم إشعاع تمثل بشراً من مجرات بعيدة ، لو رحلوا بأجسادهم ، هم باقون شعاعاً و ضوءاً . يا لك من محظوظ . . رَصَدَ "الهدنة التاريخية" بعين ، و كتب عنها بعقل ، وبكاها بقلب ، وما حظيت أنا بمثل حظك ، فعرفت بعضاً ممن كتبت عنهم أنت . لم أكن أعرف الراحلة مي ، وإن تعاملت مع "دار الساقي" على أيامي في لندن ، كما لم ألتق ِ بالراحل سماحة ، وإن كنت شغوفاً بكتابته في "الأخبار " البيروتية ، امتدح بعضها مع صديق ٍ ألفت ُ إليه ، هو إبراهيم عوض ، و شقيقه الأكبر وليد صاحب "الأفكار "المجلة الأسبوعية في بيروت . كم أحسست ُ بقوة انتمائي للراحل ، لحظة دخلت معزياً في دار نقابة الصحفيين قبالة الكورنيش ، وأحتضنت معزياً طلال سلمان، صاحب "السفير"- الصحيفة البيروتية الأشهر- وهو يحبس دمعة ، والحضور في وجوم الحزن ، لفقد قلم ٍ جليل ، إسمه جوزف سماحة . أليس هو من جيل "الهدنة التاريخية" ، ذلك الذي ارتوى من رحيق الستينات و السبعينات و الثمانينات ، وكاد أن يأخذه الشهيق في زمن القتال الناشب بين بيروتين ، في الشرق واحدة وفي الغرب أخرى ؟ لا ، ليس حنيناً لماض ٍ فحسب . لم تكن تلك السنوات ، إلا تبراً صُراحا . و الذي ننعيه حين يغادرنا ، نعرف أنه يأخذ جزءاً عزيزاً من تاريخ ينتمي للعصر الذهبي ، للسنوات الملتهبة في حمأة الذهب وهو يتأهب لأن يتشكل إبداعا ، لا يماثله إبداع من أي نوع ، في أيّ عصر ٍ آخر، وأيّ زمان آخر .
لو سمعت من يحدثك عن "الجاهلية" ، فأنت مدركٌ أيّ عصر ذلك . حين تسمعهم يحدثونك عن "القرون الوسطى" ، نعرف جميعنا ما المقصود . لو جاء ذكر "عصر النهضة" ، ذلكم هو "الرينيزانس" ، حقبة بهية في تاريخ البشر . تماماً حين نسمع عن " العصر الذهبي " ، فالمقصود هو عصر اينشتين و هيجل و ماركس و طه حسين و الفيس بريسلي وبرناردشو و مارلين مونرو و جان بول سارتر و العقاد و التجاني يوسف بشير و الأخطل الصغير ونزار قباني و تاج السر الحسن وفيروز وأم كلثوم .. وأيضاً ... مي غصوب وجوزف سماحة . لقد شهدنا ، أيها الصديق ، طرفاً من زمن البهاء المحفور في ذاكرة التاريخ . .
_______________________________
* الراحلة مي غصوب هي صاحبة "دار الساقي" أول دار نشر ومكتبة عربية في العاصمة البريطانية.
**هذه رسالة جوابية على تلك التي نشرها الأستاذ عمر جعفر السوري في موقع :
http://www.haq-nfdm.com/module.php?p=ns.php&id=173 بتاريخ2 أبريل 2007.
*** دوبيا بوش هي النطق الأمريكي "الفصيح" لدبليو بوش، كما يقول صديقي عمر السوري.
بيروت – مارس 2007
|
|
|
|
|
|