|
علامات محبة الله للعبد
|
علامات حبِّ الله تعالى كثيرة، وسأنقل لك بعض ما كتبه عددٌ من علمائنا حول هذه العلامات، وهم شيخ الزهَّاد عبد القادر الكيلانيّ في "الفتح الربَّاني"، والإمام الغزاليُّ في "الإحياء"، والإمام ابن القيِّم في "طريق الهجرتين وباب السعادتين"، والإمام ابن قدامة "مختصر منهاج القاصدين". ولأسبابٍ متعلِّقةٍ بتحقيق أعلى فائدة، سأعيد تحرير ما كتبوا دون الالتزام بمَن كتب ماذا، وأنصحك بالرجوع إلى هذه الكتب، وستجدين فيها خيراً كثيراً بإذن الله تعالى.
نقولاتٌ في علامات حبِّ الله تعالى للعبد: - أمَّا محبة الله تعالى للعبد، فاعلم أنَّ شواهد القرآن متظاهرةٌ على ذلك، كقوله تعالى: "إنَّ الله يحبُّ التوَّابين ويحبُّ المتطهِّرين"، "إنَّ الله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا"، ونبَّه على أنَّه لا يعذِّب من يحبه، لأنَّه ردَّ على من ادَّعى أنَّه حبيبه بقوله: "قل فلِم يعذِّبكم بذنوبكم"، وشرط للمحبَّة غفران الذنوب فقال: "قل إن كنتم تحبُّون الله فاتَّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم". وفي الحديث الصحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تعالى يقول: ما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه.." إلى آخره، رواه البخاري.
- واعلم أنَّ المحبَّة يدَّعيها كلُّ أحد، وما أسهل الدعوى وما أعزّ المعنى، فلا ينبغي أن يغترَّ الإنسان بتلبيس الشيطان وخدع النفس مهما ادَّعت محبَّة الله تعالى، ما لم يمتحنها بالعلامات، ولم يطالبها بالبراهين والأدلَّة. والمحبَّة شجرةٌ طيِّبةٌ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح، وتدلُّ تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبَّة دلالة الدخان على النار، ودلالة الثمار على الأشجار.
- إذا صحَّت عبوديَّة العبد لله تعالى، أحبَّه الله تعالى، وقوَّى حبَّه في قلبه، وآنَسه به، وقرَّبه منه من غير تعب، ولا طَلَب له صحبةَ غيره.
- من العلامات حبُّ لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام، فلا يُتَصَوَّر أن يحبَّ القلب محبوباً إلا ويحبّ مشاهدته ولقاءه، وإذا علم أنَّه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت، فينبغي أن يكون محبًّا للموت غير فارٍّ منه، فإنَّ المحبَّ لا يقلُّ عليه السفر عن وطنه إلى مستقرِّ محبوبه ليتنعَّم بمشاهدته، والموت مفتاح اللقاء، وباب الدخول إلى المشاهدة، قال صلى الله عليه وسلم: "من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه"متَّفقٌ عليه.
- ومن أقوى العلامات، حسن التدبير له، يربِّيه من الطفولة على أحسن نظام، ويكتب الإيمان في قلبه، وينوِّر له عقله، فيتبع كلَّ ما يقرِّبه، وينفر عن كلِّ ما يبعد عنه، ثمَّ يتولاَّه بتيسير أموره، من غير ذلٍّ للخلق، ويسدِّد ظاهره وباطنه، ويجعل همَّه همًّا واحدا، فإذا زادت المحبَّة، شغله به عن كل شيء.
- ومنها أن يكون راضياً عن الله تعالى في جميع الأحوال، فلو ضيَّق عليه الأرض برحبها، وسدَّ عليه الأبواب بسعتها، لم يسخط عليه، ولم يقرب باب غيره، ولم يأكل من طعام غيره.
- ومنها أن يكون مؤْثِرًا ما أحبَّه الله تعالى على ما يحبُّه في ظاهرة وباطنه، فيلزم مشاقَّ العمل ويجتنب اتِّباع الهوى، ويعرض عن دَعة الكسل، ولا يزال مواظباً على طاعة الله ومتقرِّباً إليه بالنوافل، وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحبُّ مزيد القرب في قلب محبوبه، وقد وصف الله المحبِّين بالإيثار فقال: "يحبُّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً ممَّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة". ولذلك قال ابن المبارك فيه: تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه... هذا لعمري في الفعال بديعُ لو كان حبُّك صادقًا لأطعـته... إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
- ومنها أن يكون مستهترا (المستهتر بالشيء: المولَع به) بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحبَّ شيئاً أكثر بالضرورة من ذكر ما يتعلَّق به، فعلامة حبِّ الله حبُّ ذكره، وحبُّ القرآن الذي هو كلامه، وحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبُّ كلِّ من ينسب إليه.
- ومنها أن يكون أنسه بالخلوة، ومناجاته لله تعالى، وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجُّد، ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، وأقلُّ درجات الحبِّ التلذُّذ بالخلوة بالحبيب، والتنعُّم بمناجاته، فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذَّ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصحُّ محبَّته؟، قال عثمان رضي الله عنه: "لو سلمت منَّا القلوب ما شبعت من كلام الله عزَّ وجلّ، وكيف يشبع المحبُّ من كلام محبوبه، وهو غاية مطلوبه؟!". فإذن علامة المحبَّة: كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعُّم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كلِّ ما ينقض عليه الخلوة.
- ومنها أن يطمئنَّ قلبه إلى الله، وأن تسكن نفسه إلى الله، وتخلص محبَّته لله، ويقصر خوفه على الله، ويجعل رجاءه كلَّه لله، فإن سمع سمع بالله، وإن أبصر أبصر بالله، وإن بطش بطش بالله، وإن مشى مشى بالله، فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي، فإذا أحبَّ فلله، وإذا أبغض فلله، وإذا أعطى فلله، وإذا منع فلله، قد اتَّخذ الله وحده معبوده، ومرجوَّه، ومخوفه، وغاية قصده، ومنتهى طلبه، واتَّخذ رسوله وحده دليله، وإمامه، وقائده، وسائقه، فوحَّد الله بعبادته، ومحبَّته، وخوفه، ورجائه، وإفراد رسوله بمتابعته والاقتداء به والتخلُّق بأخلاقه والتأدُّب بآدابه.
- ومنها أن لا يتأسَّف على ما يفوته ممَّا سوى الله عزَّ وجلّ، ويعظم تأسُّفه على فوت كلِّ ساعةٍ خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته، فيكثر رجوعه عن الغفلات بالاستعطاف و الاستعتاب والتوبة، قال بعض العارفين: إنَّ لله عباداً أحبُّوه واطمأنُّوا إليه، فذهب عنهم التأسُّف على الفائت، فلم يتشاغلوا بحظِّ أنفسهم إذ كان مُلك مليكهم تامّا، وما شاء كان، فما كان لهم فهو واصلٌ إليهم، وما فاتهم فبحسن تدبيره لهم.
- ومنها أن يتنعَّم بالطاعة ولا يستثقلها، ويسقط عنه تعبها، كما قال ثابت البنانيُّ رحمه الله تعالى: كابدتُّ الصلاة عشرين سنة، ثم تنعَّمتُ بها عشرين سنة. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: علامة المحبَّة دوام النشاط، والدءوب بشهوةٍ يفتر بدنه ولا يفتر قلبه.
- ومنها أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله، رحيماً بهم، شديداً على جميع أعداء الله، وعلى كلِّ من يقارف شيئاً ممَّا يكرهه، كما قال الله تعالى: "أشدَّاء على الكفَّار رحماء بينهم"، ولا تأخذه لمة لائم، ولا يصرفه عن الغضب لله صارف.
- ومنها أن يكون في حبِّه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم، وقد يُظَنُّ أنَّ الخوف يضادُّ الحبّ، وليس كذلك، بل إدراك العظمة يوجب الهيبة، كما أنَّ إدراك الجمال يوجب الحبّ، ولخصوص المحبِّين مخاوف في مقام المحبَّة ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشدُّ من بعض، فأوَّلها: خوف الإعراض، وأشدُّ منه خوف الحجاب، وأشدُّ منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى في سورة هود هو الذي شيَّب سيِّد المحبِّين (إشارةً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "شيَّبتني هود"رواه الترمذيُّ والطبرانيُّ والحاكم بسندٍ صحيح) إذ سمع قوله تعالى: "ألا بُعْداً لثمود"، "ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود"".
- ومنها أن يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"رواه الحسن بن سفيان، ورجاله ثقات.
- ومنها أن يضحِّي بكلِّ شيءٍ لحبيبه، والأمثلة على ذلك كثير، ومنها ما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمِّي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أوَّل قتالٍ قاتلتَ المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليريَّن الله ما أصنع. فلمَّا كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهمَّ إنِّي أعتذر إليك ممَّا صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك ممَّا صنع هؤلاء -يعني المشركين-. ثمَّ تقدَّم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنَّة وربُّ النضر، إنِّي أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قُتِل وقد مثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنَّا نرى -أو نظنّ-: أنَّ هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: "من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلا"رواه البخاري.
- وقد يعطي الله تعالى بعض الهبات الربَّانيَّة لمن أحبُّوا ربَّهم بصدق، كإجابة الدعاء، وعلم بعض الأمور التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، مع التأكيد على أنَّ هذه الأمور ليست شرطا، بمعنى ليس كلُّ من صدق الله تعالى فإنَّه حتماً سينال الهبات والكرامات الربانيَّة، بل هي منحةٌ لا يهبها الله إلا لمن يشاء، والأصل في هذه الهبات التي ينالها عبدٌ ما أن تبقى سرًّا بينه وبين خالقه سبحانه لا يعلمها إلا هو، وعلينا الانتباه إلى أنَّ هذه الكرامات حين تبدو يجب أن يتبعها بيان صلاح حال هذا العبد، على نحو ما ذكرنا في النقاط السابقة، لأنَّ من هذه الأمور غير المعتادة ما يظهر من قِبَل بعض المتعاملين مع الجنِّ والشياطين، وحالهم لا يبدو عليه الصلاح، ولذلك عدَّ الإمام ابن قدامة الكتمان من علامات المحبَّة، فقال: "ومنها كتمان الحبّ، واجتناب الدعوى، والتوقِّي من إظهار الوجد والمحبَّة، تعظيماً للمحبوب، وإجلالاً له، وهيبةً وغيرةً على سرِّه، فإنَّ الحبَّ سرٌّ من أسرار الحبيب، وقد يقع المحبُّ في دَهَشٍ وسكر، فيظهر عليه الحبُّ من غير قصد، فهو في ذلك معذور، كما قال بعضهم: ومن قلبه مع غيره كيف حاله؟....... ومن سرُّه في جفنه كيف يكتمُ؟".
ومن أمثلة تلك الهبات والكرامات الربَّانيَّة: * عن عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقدمه المدينة، ليلة، فقال: "ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة"، قالت: فبينا نحن كذلك، سمعنا خشخشة سلاح –أي صوت سلاح-، فقال: "من هذا؟" قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك؟" قال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ نام.رواه البخاري ومسلم.
* ما ورد بإسنادٍ حسنٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وجَّه عمر جيشا، وولَّى عليهم رجلاً يدعى "سارية"، فبينما عمر يخطب جعل ينادي: "يا سارية، الجبل!" ثلاثا، ثمَّ قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هُزِمْـنا، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتاً ينادي "يا سارية الجبل" ثلاثا، فأسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ربَّ أشعث مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه"رواه مسلم وروى البخاريُّ نحوه. قال الإمام النوويّ: "(مدفوعٍ بالأبواب) أي لا قدر له عند الناس، فهم يدفعونه عن أبوابهم، ويطردونه عنهم، احتقاراً له، (لو اقسم على الله لأبرَّه) أي لو حلف على وقوع شيءٍ أوقعه الله إكراماً له بإجابة سؤاله وصيانته من الحنث في يمينه، وهذا لعظم منزلته وإن كان حقيراً عند الناس". ومن هذا ما روي عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: أصاب الناس قحط، فخرجوا في الصعدات –أي الصحراء- يستسقون، فخرجت في من خرج، فإذا برجلٍ أسود فقير الحال بجانبي يرفع يديه إلى السماء ويقول: "أقسم بالله عليك يا ربِّ أن تسقينا الساعة"، قال ابن المبارك: فما هي إلا لحظات، حتى تلبَّدت السماء بالغيوم، وهطل المطر غزيرا، فلمَّا رأيت ذلك قلت لأتبعنَّ هذا الرجل لأنظر ما حاله، فإذا به متَّجهٌ إلى سوق النخاسة –أي سوق العبيد-، فإذا هو عبدٌ يباع ويُشترى، وإذا بصاحبه قد عرضه للبيع، يقول ابن المبارك: فاشتريته، وأخذته معي، وبينما نحن في الطريق حدَّثته بما رأيت منه، فقال لي: أوَ قد عرفت؟"، قلت: نعم، قال: "فائذن لي أن أصلِّي ركعتين"، قلت: صلّ، فصلَّى ركعتين ثمَّ رفع يديه إلى السماء وقال: "اللهمَّ إنَّ السرَّ الذي بيني وبينك قد انكشف، فاقبضني إليك الساعة"، قال ابن المبارك: فمات في مكانه!!.
- ومن أحبَّ الله فلا يعصيه، إلا أنَّ العصيان لا ينافي أصل المحبَّة، إنَّما يضادَّ كمالها، فكم من إنسانٍ يحبُّ الصحَّة، ويأكل ما يضرَّه، وسببه أنَّ المعرفة قد تضعف، والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بحقِّ المحبَّة، ويدلُّ على ذلك حديث نعمان أنَّه كان يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدَّه (أي يقيم عليه الحدّ) إلى أن أُتي به يوما، فحدَّه، فلعنه رجلٌ وقال: ما أكثر ما يؤتى به!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه، فإنَّه يحبُّ الله ورسوله"رواه البخاري، فلم تخرجه المعصية عن المحبَّة، وإنَّما تخرجه عن كمال المحبَّة.
العوض أحمد الطيب
بتصرف من موقع http://www.islamonline.net/eman/arabic/display.asp?hquestionID=571
مراجع للمحبين: "الفتح الربَّاني" لشيخ الزهَّاد عبد القادر الكيلاني "الإحياء"للإمام الغزاليّ "طريق الهجرتين وباب السعادتين" للإمام ابن القيِّم "مختصر منهاج القاصدين" للإمام ابن قدامة.
هدانا الله وإياكم لمحبته.
|
|
|
|
|
|