دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
أفاق الابداع : موريس ماينر.......بقلم:الحسن محمد سعيد
|
(3) هتاف
التشكيلي سليمان سعيد مــــورس مـــاينــر
الحسن محمد سعيد عندما دخل بيت صديقه اليمني في منطقة بيت بوس بصنعاء، لم يهزه ذلك البيت الجميل، في شكل فيلا باهرة البنيان.. ولم يثر إعجابه، ذلك الحجر الأخضر الزاهي الذي شُيدت به .. ولم يلفت نظره ذلك التصميم الذي جمع بين المعمار اليمني المتميزّ بشكله وقمرياتة، والمعمار الأوروبي الذي يمثل روح العصر وحضارته.. ولم يحركه ذلك الأثاث الفاخر ، الذي هو مزيج بين بذخ الشرق وترف الغرب .. إنما الذي شدّ اِنتباهه من بين كل تلك الأُبهة الجليلة، سيارة (مورس ماينر) قديمه مركونة بعناية في فناء الحوش الفخم، تحيط بها حديقة ذات مهرجان من الزهور وأشجار الموالح والموز، كأنها عروس اِكتملت زينتها وحُسن طلَّتها..
توقف مأخوذاً من هذا الذي يشاهد !! جاءت دهشته من وجود هذه السيارة القديمة التي لا وجود لها الآن.. فقد عرفها جيداً في يوم ما من عمره ..عايشها وعايشته زمناً في السودان، للدرجة التي أصبحت فيها جزءاً أصيلاً من أيامه التي خلت.. ومع ذلك فهي تاريخ حيّ التذكار ، نبيل السيرة، دائم المزار، حينما تزداد وطأة الحياة وشِدَّتها ، وهي كثيرة .. ذلك أولاً .. أما ثانياً ، فإن اندهاشه ينبع من العناية الفائقة التي أُحيطت بها هذه السيارة العتيقة، التي يظهر عليها جلياً، أن الزمن لم ينل منها شيئاً ، فأضحت كما هي فتية تتحدى الأيام وكرورها الذي يقود إلى النهاية والعدم..
قال وقد أصبحت كل تفكيره:
- من أين لك بهذه السيارة؟ ! اِستغرب الصديق من سؤال صديقه، الذي لم يلفت نظره في هذه الفيلا الباذخة، وتلك المناداة التي تعجّ بها تلك الأُبهة، وهاتيك الروعة التي تدير عنق كل غافل مهما كانت غفلته ، وكل تلك الاِحتفالات والكرنفالات المضيئة، إلا هذه السيارة العتيقة ، فسأله مستنكراً:
- من هذا القصر المُنيف ، لم يلفت نظرك شيء ، إلا هذه السيارة القديمة ؟! قديمة ، نعم !! وهذا سرُُّ تفرَّدها .. قديمة ، نعم !! وهذه هي عظمتها التي لا يدركها إلا من عجنتهُ الأيام معها ، كحاله .. قديمة، نعم !! وهذه هي الأصالة التي لا يعيها إلا من عركه الزمن مثله .. قال جاداً:
- هذه هي التاريخ .. والشيء لا يصبح تاريخاً إلا إذا كان ماضياً .. والماضي لا يمسي كذلك، إلا إذا كان قديماً.. وقديمنا أصبح أجمل ما فينا !!
تعجب الصديق من تعليق صديقه .. إلى هذا الحد تمثل عنده عربة (المورس ماينر) أمراً له قيمة .. يجلَّها، كأنما يتعّبد فيها ؟ ! هو لا ينكر قيمتها بالنسبة له ، ولكنها ، ليست إلى هذه الدرجة من الحفاوة.. هي تمثل بالنسبة له شيئاً ، نعم !! ولكن مهما كان ذلك الشيّ ، فإنه لا يقارن مع قصره المُنيف، وهو لا يقبل أن يكون هناك تجاهل له تحت أية ، وبأي مسمى، حتى وإن كان ذلك، التاريخ نفسه.. قال:
- أنا أمتلك هذه السيارة من عدن، ورثتها عن أبي .. كان والدي يراعيها، كما يراعينا.. وظلت على حالها التي كانت عليها منذ أن اِشتراها ، ولا زالت .. عندما وقعت من نصيبي، لم أهتم بأمرها، بل أخذتها على مضض، لأن نصيبي في القسمة جاء هكذا .. وليس من حقي أن أعْترض.. أهملتها في اِنتظار مشترٍ لها ..وقد لا تصدق، من يوم دخولها بيتي ، ورزق الله هَلَّ علينا بلا حساب !! .. لاحظت زوجتي ذلك، ولفتت نظري إلى هذه الظاهرة.. ظاهرة وفرة الرزق بقدوم ( المورس) ، بيد أني تجاهلت هذه الملاحظة ، واِعتبرتها خرافة من زوجتي ، فأهملت قولها.. لكنها كانت – ويا للغرابة – تُصر على معتقدها، فتكرر ملاحظتها في كل مناسبة يأتينا فيها الرزق الوفير..وحين بدأت في بناء هذه الفيلا، كان إيماني بخرافة معتقد زوجتي لا يزال في مكانه .. كنت متهيباً من البناء وتكلفته ، ولكن حدث ما يذهل .. رفضت زوجتي بيع ( المورس) .. وكنت أريد بيعها بأي ثمن لأستعين به على البناء ، خاصة وقد كثُر طلابها فجأة .. هددت زوجتي بترك المنزل إن أتممت البيع .. كنت أنسى خرافة زوجتي بسر ( المورس) الذي جلب لنا الرزق الوفير وسهل أمورنا، ولكنها كانت بين الفينة والأخرى تعيد عليّ حديثها، ونحن نرى الفيلا تكبر أمام أعيننا، وأمر الإنفاق عليها يسهل عندي إلى أبعد الحدود.. بدأ عنادي بخرافتها يُوهن شيئاً فشيئاً، وأخذت أسترجع الأيام، من اللحظة التي اِمتلكت فيها (المورس) .. فرأيت شيئاً عجباً.. وتأكد لي ذلك الظن عند بناء الفيلا ، وتيسير أمر تشييدها.. فآمنت كما آمنت زوجتي .. إنه سر لا يقدره ولا يؤمن به ، إلا من عايشه ويعايشه مثلنا..
توقف الصديق قليلاً ليشرب بعض الماء ، ثم أردف ضاحكاً : - لكن التفاؤل بهذه السيارة العتيقة شيء ، وروعة هذا القصر المُنيف شيء آخر، وكان المفروض هو الذي يدير عنقك !!..
لم يعقب الصديق .. وإنما غاب في ملكوت باطني آخر ..
من قال لك أنه لم يعايشه ؟! لقد عايشه، ولكنه كان سرَّاً من نوع آخر لا يعلمه إلا الصابرون هناك في أرض الجزيرة في السودان، وعند ملتقى النيلين..
كانت هناك عربة ( مورس ماينر) أخرى شبيهة من حيث الشكل بعربتك..أشتراها ذات يوم ماطر في مزاد علني ، أعلن عنه مشروع الجزيرة .. كان مزاداً متنوعاً، لا يجود الزمان بمثله في هذه الأيام .. عربات ، تراكترات، مواتر،مضخات، وأكوام من قطع الغيار لآليات مختلفة ..
في هذه اللحظة تجسد أمامه كل ماضيه مع ( المورس) .. في المزاد العلني، تحسس نقوده القليلة ، وهو يرى فطاحلة الأسواق يدخلون ساحة المزاد بجلاليبهم الفضفاضة ، وجيوبهم المنتفخة.. من يا تُرى يقارع هؤلاء ، صيادي الفرص الريانة المترهلة.. لقد جاء إلى عوالمهم بالخطأ .. تطفل عليهم .. وأبخس مضارباتهم !!..
يئس من مسعاه، وأقنع نفسه بأن يتفرج على هؤلاء القوم، كيف يديرون شؤون أعمالهم.. وجد متعة في الفرجة، دون شك ، وهو يرى العروض تتصارع فيما بينها.. تتلاقى وتنفصل بتعارض، ترغي أفواه وتضحك ثغور، تكتئب ملامح وتنشرح أخرى.. ويجتهد ناظر المزاد لزيادة الحصيلة..
هو الوحيد بين هؤلاء القوم ، الذي كان لا تعنيه حاجة مما يدور حوله، غير الفُرجة ، والتمتُّع بإنكسار الخاسرين .. دنيا يراها لأول مرة !!
عندما قارب المزاد نهايته بقيت سيارة ( مورس ماينر) بيضاء ، تبدو وحيدة ، دون أشياء المزاد التي تسابق عليها المتسابقون .. أيعقل أن يغفل هؤلاء التماسيح عنها، وعن هذا البهاء؟!.. فلْتقرأ سورة يس ، لعل الله يعمي بصرهم وبصائرهم.. أي تدخل من أحد التماسيح ، أضاعة هو وآماله، في صحارى الفقر، وضعف الإمكانات، ووهن الإستطاعة..
أعلن ناظر المزاد عن ( المورس ماينر) .. فأخذ صوته يجوب الآفاق:
- عربية بحالة جيدة .. عملت في مشروع الجزيرة، مع مفتش التنمية الاجتماعية.. عمرها لا يتجاوز الخمس سنوات.. صُنعت خصيصاً للسودان وأرضه، وطقسه ، وأهله..
بدأ المزاد بمائة جنيه.. اِنتظر أن يشب تمساح من مكمنه ويبتلعها !! ولكنّ الله ستر.. اّضحت ( المورس) تغازل دواخله .. يا رب، هل أتجاسر، وأعلن أنني هنا؟!.. هل يجدي وجود من هو مهزوم من الداخل ؟!.. أين أنا من هؤلاء التماسيح؟!.. فأنا أخاف الغرق حتى في ماء البانيو !! وهؤلاء يتحدون النيل .. بل ربما يشربونه!!..
سكون في المكان ، إلا من صياح الناظر.. مرّت اللحظة تلو الأخرى .. ولا يعرف المزاد قلباً يتقاذف في هذا المحفل غير قلبه .. إنه يكاد يخرج من قفص صدره!! هل سترجع هذه المسكينة كاِمرأة بائرة؟! .. لا ورب العزة، لن تعودي كسيرة الفؤاد..
قال وصوته لا يكاد يخرج من حلقه : - مائة وواحد !!
صهل ناظر المزاد معلناً العرض: - مائة وواحد !!
لقد تحرك المزاد بعد صمت.. شرع الناظر ينادي مناداته المألوفة .. أكثر ترديده، لعل الحصيلة تزداد بضع جنيهات .. خاب ظنه ، فأمسى مضطراً لإنهاء المزاد لصالحه دون مزايدة.. ويا للعجب !! لقد أصبحت ( المورس ماينر) مِلكه .. لعلها أول مِلْكية في حياته !!..
كان يوماً مشهوداً في عمره حين قادها في شوارع مدني ، وأزقة وقرى الجزيرة ، وأرضها الطينية السوداء ..
خاف في بداية الأمر أن تغوص الإطارات في الأرض اللزجة، لكن هاله أن يجدها تتحدى أرض الجزيرة الطينية المبتلة بماء المطر وقنوات الري.. كانت كالدبابة التي تحفر طريقها ولا تبالي !!
تحرك من مدني ، متجهاً إلى الخرطوم .. كانت هذه العربة الصغيرة، التي تشبه زواحف الصحراء ، تنهب طريق الخرطوم مدني نهباً، وفي سرعة خرافية .. بعد زمن وجيز، كانت في قلب الخرطوم ..
طال الزمن بها .. فنشأت العادة والأُلْفة .. ومع الأيام خُلقت العلاقة الحميمة، فأضحيا صديقي عمر !!
من حبه لهذه العربة، تعلم كيف يصلح أعطالها .. أما هي ، فقد كانت كريمة إلى أقصى مدى !! أعطته سرّها بجود نادر .. وعلمته طريقة معالجتها ومعاملتها كاِمرأة وُهبت للحب ، وجبلت على العطاء .. وبادلها كرماً بكرم وفضلاً بفضل، ولم يجحدها، فأحسن معاملتها، فنال منهما أجود ما رمى إليه الإنجليزي من صنعها، لتقديم خدمة ممتازة، طويلة الأمد .. قليلة الاِنقطاع.
في أزمات السودان من شح البنزين في عقدي السبعينات والثمانينات ، كانت فريدة زمانها.. توقفت أعظم العربات نتيجة لتلك العلة ، إلا هي !! كانت تتهادى في شوارع الخرطوم كعروس النيل ، تقول في شموخ، نحن هنا !!
ومن عطائها الممَّيز أنها كانت قادرة على تحمل مصائب الشارع وحوادثه المريعة.. فذات مرة في شارع الجامعة ، فاجأتها سيارة (أوبيل) ألمانية، دخلت الشارع في سرعة مجنونة .. كان سائق ( الأوبيل ) سارحاً في تفكير عميق ، فصدم ( المورس ) صدمة لها دوي .. وحين فاق من هوْل الموقف ، ترَّجل ليتفقد الصدمة، فرأى (الأوبيل) الفارهة قد تهشمت مقدمتها تماماً.. وأضحت ( المورس) على حالها، كأن هذه الهوْل المريع لم يمسها، ولا يعنيها في شيء !! ..
صاح سائق (الأوبيل) :
- يا ناس دي مُصفحَّة ، مش عربية !!
لم يرد عليه، وإنما رشقه باِبتسامة ساخرة كأنما يقول له : هكذا أرادتها أرض الجزيرة ..
**** بعد هذا التأمل الذاتي الذي مرَّ عليه، كأنما يستحضر كل ماضيه، ليعيد إليه أياماً نامت في تلافيف الذاكرة الخاملة، فأشعلتها كوهج الجمر الحارق، قال في أسى ظاهر:
- لقد عرفتُ سِرّك مما قلت ، ولم تعرف سِرَّي، ولو عرفته لأُدمي قلبك على أناس، كان الذهب الأبيض يوماً مفخرتهم.. وكانت هذه السيارة جزءاً من أصول مشروعهم ذي التنمية الحقيقية، القائمة على التكامل الاِقتصادي والاِجتماعي، كأول تجربة رائدة في أفريقيا .. وفجأة جار عليهم الزمان، فأدركتهم الفاقة، وأمسوا لا يملكون حتى نعمة النظر إلى هذه ( المورس ماينر)..
****
كاتب من السودان مقيم في اليمن صنعاء 01/01/2012
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أفاق الابداع : موريس ماينر.......بقلم:الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)
|
رسم التشكيلي سليمان سعيد أمـــجــــاد الحسن محمد سعيد ذات صباح بلا ملامح، أستلم ظرفاً مغلقاً عليه عبارة ( سري جداً) .. كثيرة هي مثل هذه الظروف المغلقة، وعليها عبارة ( سري جداً ).. فهو سكرتير مجلس إدارة المؤسسة العامة للأقطان .. لم يكترث لحظتها ، فالأمر روتيني، كما أعتاد .. ولكن سرية هذا الظرف كانت عجباً!!..
فضه باهتمامه المألوف.. إنه ممَّن يقدسون العمل..هكذا تشرَّبه منذ وهلته الأولى.. وجد بداخل الظرف ورقة بيضاء ناصعة البياض طويلة عريضة، سُوَّدت بسطر واحد في المنتصف.. قرأ ولم يكذب نظره.. الحقيقة الماثلة أمامه أكبر من أن تُكذب!!.. جاء القرار: تم فصلك للصالح العام من خدمة المؤسسة!!
هل كان يتوقع هذه المفاجأة ؟؟ لا أظن فالشواهد كلها تكذب ذلك !!.. لكن لماذا أستقبل هذا الحدث الجلل ببرود ؟!.. لأن هذا طبعه.. غضبه عميق بلا هيجان.. ربما تعَّود مثل هذه الطارئات في الآونة الأخيرة.. فهي في هذا الزمن لم تعد من الطارئات ، وإنما أضحت الأصل.. القاعدة العامة.. هل يستحق الطرد بهذا الأُسلوب المُهين ؟! الحقائق الموضوعية تجيب بالنفي.. العدالة المطلقة، والنسبية معاً، سواء كانت طبيعية أو وضعية ، تؤكد أن ما ألمَّ به، كان فادحاً.. لعله نتيجة لذلك، أثر الصمت الذي يحكي الحال !!
بطبعه الصبور ، حبذ الاحتجاب في بيته.. لا يريد أن يرى أحداً، ولا يريد أن يراه أحد.. نوع من المواقف أراد أن يقنع بها نفسه ، حتى وإن بدت سلبية ، فإنه في حاجة لما يريح النفس .. وجد راحته فيما أختار، وهذا يكفي.. لكل إنسان طريقته في معالجة أزماته.. لهذا في تقديري، لا سبيل للتعجب والانتقاد!!
لم يسرَّ حال صديقنا المطرود، شقيقه المغترب في البحرين.. جاء من المنامة خصيصاً، ليقف على وضع أخيه الأكبر .. لم يجادله كثيراً.. ولم يكثر من سؤاله.. وقف عند الحدود التي رأى أنه لا يستطيع تعديها.. إنه الأخ الأكبر، الذي يجد فيه كل قيمَّ الصبر والتحمَّّل.. يجد فيه كل مقومات الجدية والمسؤولية..
عرض عليه مساعدته بالشكل الذي يريد، فرفض .. ما العمل؟! لا يدري!! أخيراً اِهتدى لشراء عربة تاكسي لأخيه.. نفذ ما اهتدى إليه .. وجاء له بسيارة تاكسي جديدة ( لنج) .. قال له : بأن السيارة ، التاكسي الجديدة التي تقف با لحوش، هي باسمك ، إن شئت أستعملها ، وأن شئت بعها ، وأن شئت أتركها على حالها، حتى يفعل الله أمراً كان مقضياً!! ...... و........... وسافر!!...
قبعت سيارة التاكسي في حوش المنزل خمسة عشر يوماً ، دون أن يقربها!.. وفي اليوم السادس عشر، ذهب نحوها ... تفحصها...، نظفها من الغبار الذي اعتلاها..
في واقع الأمر هدأت نفسه.. ربما فاق من صدمة الطرد.. فكر في وضعه.. أضناه التبطَّل.. سئم الفراغ.. لم يألف أن يكون بلا عمل .. الزمن كفيل بالتأديب ومعالجة الأزمات.. قرر أن يبيع التاكسي، ويشتري ميكرو بص ... تعارف عليه الناس في السودان باسم ( أمجاد).. نفذ فكرته فوراً.. وخلال أربعة وعشرين ساعة، كان من ملاك (أمجاد)..
بدأ الحوار الذاتي: هل يأتي بسائق أم يسوقها هو ؟؟ وإن قرر أن يأتي بسائق ، كيف يضمن أمانته وحرصه بالمحافظة على هذه ( الأمجاد)؟!.. لم يهدأ من اجترار حواراته الذاتية!!... هو بطبعه دقيق ... جُبِل على الشك في كفاءة الغير، حتى يثبت العكس.. ما العمل؟! .... سؤال كبير..
ذات يوم جميل الملامح ، قرر أن يقود ( أمجاد) لقضاء بعض شؤونه الخاصة.. خرج من منزله بضعة أمتار ، أوقفه شخص ، وطلب منه مشواراً للمعمورة.. أذنَّ له بالركوب .. جلس الزبون إلى جانبه في المقعد الأمامي.. أخذ يثرثر، وصاحبنا صامت يستمع.. علمته مهنته التي طُرد منها، أن يكون مستمعاً جيدَّ الاستماع ..
اقتحمه من وهلته الأولى: - شكلك رجل محترم جار عليه الزمان !! فاجأه اقتحام الزبون .. استلطف التعليق... هناك أناس تفهم !!.... أبتسم له.... هزَّ رأسه موافقاً..
ضحك الزبون .. قال: - كلنا في الهم ذ ُلَّ !! لعل وراءه قصة !! .. اعتاد أن يستمع ، ويدَّون ما يسمع .. والآن التدوين في الذاكرة فقط، وليس في الورقة كما اعتاد!! .. رغب في فتح أستار زبونه سأل :
- كيف؟! واصل الزبون ضحكه، ورد عليه بسؤال:
- ألا ترى أنني رجل محترم أيضاً؟! عاجله ليبعد عن سوء الفهم: - مُش القصد !! أنت رجل محترم دون شك!!... هيبتك تدلََُّ على ذلك.. لكن نورني!!.. اعتدل الزبون في واجهته تماماً.. وجد منفذاً لثرثرته: - أنا صاحب (أمجاد) مثلك!! - والله!!! ... أين هي؟! - في المعمورة.. وستراها الآن!! - لماذا هي في المعمورة ، وأنت هنا في نمرة (3) ؟! - نسيت المفتاح في الداخل، وجئت إلى البيت لأحضر الأسبير.. - هل تسترزق منها ، أم لك مصدر آخر؟! - مثلك تماماً!! أتعيَّش منها.. أبتسم في وجهه متسائلاً: - وهل أنت مثلي تماماً؟! - بالطبع ، مادمنا متفقين في أشياء كثيرة ، بما فيها قيادة ( أمجاد ) !! ضحك ضحكة خفيفة، وطالب: - زدني!! قهْقه الزبون عالياً... قال: - زدني هذه ، جزء من مقطع أغنية رائعة لوردي... من أي نبع في الزمن الجميل جئت بها؟! ضحكا.... وانفتحت مصاريع ثرثرة الزبون: - أنا محام يحمل درجة الماجستير في القانون العام.. هجرتُ هذه المهنة!! - أيعقل هذا ؟! - لماذا لا يعقل إذا أهانتك امرأة !! ضحك وهو يقول ثانية: - زدني!!
جميل في هذا الزمان أن تجد من يصغي إليك بإهتمام.. ضاع كل شيء حتى نعمة الصمت والإستماع إلى الغير .. لعلها فرصة لإعلان الاحتجاج!! بل قل سانحة لـ (أفك) عن نفسي: - في قضية تعاقدت فيها جهة حكومية مع شركة خاصة ، إنتهى بهما الخلاف إلى نزاع قضائي منظور أمام قاضية.. شطبت هذه القاضية دعوى الشركة أمامها بحجة أن النزاع المعروض نزاع إداري، ومحكمتها غير مختصة نوعياً.. حينما أعترضت عليها موضحاً أن النزاع يقوم على عقد ، وليس على قرار إداري، ، ولا يوجد فرق بين العقد الإداري والعقد المدني والآخر التجاري، فكلها في نظر القانون السوداني ذات طبيعة واحدة تنظرها المحكمة المدنية دون تخصيص كما هو الحال في القرار الإداري، استشاطت غضباً .. أخذتها العزة بالإثم ... وأحتدَّ الجدل بيننا، أنتهى بحبسي 24 ساعة بحجة إهانة المحكمة.. وعندما شكوتها على تصرفها، أهملت شكواي التي صعَّدتها إلى جميع جهات الاختصاص بما فيها رئاسة الجمهورية، ولم أجد مخرجاً لأصون كرامتي ، غير هجرآن المهنة التي كنت قبل قرار تلك القاضية أعتز بالانتماء إليها.. ولم أجد أمامي غير ( أمجاد).. لعل فيها شيئاً لحفظ الكرامة!! بل ربما فيها الكثير من الإحتجاج الغاضب وإن كان صامتاً!!...
دخل صاحبنا في مقارنة سريعة بينه وبين زبونه الذي هلَّ عليه ، كأنما هي رسالة من السماء، لتشعره أن الوظيفة العامة ليست نهاية الدنيا.. وأن الغلابة مثله كُثر.. سأله: - هل عوضتك (أمجاد)؟ عقب: - أنا لا أبحث عن التعويض، ولكني أعلن الإحتجاج !! - أين نقابة المحامين؟! - ذلك زمن ولى!! - ومن سيسمع احتجاجك ؟! ضحك !! وبعد برهة قال ساخراً: - الناس في (أمجاد)!! - وكرامتك؟! - مصانة في (أمجاد) !! - ماذا تفعل مع سخافة المرور؟ - هؤلاء جهلة أعذرهم!! - ولماذا لم تعذر القاضية على جهلها؟ - هناك فرق.. وفرق يقود الجهل فيه إلى جهنم!! - لعلك متحامل على المرأة!! - أبداً !!! هناك من الرجال من لا تصلي عليهم!!...
بدأ صديقنا المطرود يتذكر أيامه الخاليات القاسيات ، وهو يعمل مع وزيرة.. كان من أنصار قضية المرأة، فتحوَّل نتيجة لجبروت تلك الوزيرة إلى معارض من النقيض إلى النقيض .. قال مرة لخاصته إن هذه المرأة تعمل على إذلال الرجال!!.. أبتسم في داخله .. همس في ذاته: "إذا كانت الوزيرة في موقع تنفيذي وعملت ما عملت ، فكيف برفيقتها، وهي على منصة القضاء؟!.. ضحك سراً عندما تذكر محامي المؤسسة الذي جاءه يوماً وقال له ( المحكمة حامل).. وعندما استفسره مستغرباً، عرف منه أن المحكمة أجلت جلساتها أدارياً لأن القاضية اعتذرت عن الحضور لحملها.."
في هذه الأثناء وصل الزبون إلى مقصده.. دفع ما هو في النصيب.. وصافحه بكلمات وداع طيبات .. حاول صاحبنا أن يرفض قائلاً في مزاح: - ما في داع!! نحن أصحاب مهنة واحدة!! رفض الزبون بإصرار، ثم هازئاً: - لتحفظ ما تبقى من إحترام!! الِخزْيُ قهار!!!..
جاءه زبون آخر ، وطلب مشواراً لبحري.. وما أن ركب حتى شرع في الثرثرة.. شرَّق وغرَّب.. ثم أنتهى به الأمر ليحكي مشكلته مع زوجته التي هجرته ، لأن الدنيا لم تعد هي الدنيا!! جاءه آخر ، وطلب منه مشواراً لأم درمان.. أرتاح قليلاً، وحينما لفحه هواء النيل على كوبري شمبات ، تزاحمت هواية الثرثرة.. وأخذ يرغي ويزبد حول مصاريف التعليم والعلاج.. ظل هو كما هو ديدنه، مستمعاً صبوراً يحسن الإصغاء.. ما هذا ؟! الناس لا يتوقفون عن بث الشكوى.. عندما كان سكرتيراً لمجلس إدارة المؤسسة ، كانت الشكوى من نوع آخر!! فعْرض المواضيع للنقاش والتحليل هو نوع من الشكوى، خاصة إذا كان المرفق يتدهور ولا ينمو!!.... ظل هو مستودع تلك الأسرار.. والآن .. تجعله (امجاد) كاتم أسرار من نوع أكثر أتَّساعاً، وأرحب مساحة..
لم تتوقف الطلبات في ذلك اليوم.. يصل لمكان ، سرعان ما يأتيه طالب بقعة أخرى.. في وقت وجيز غيَّر وبدَّل مناظر الأمكنة ، وسحنات الرجال والنساء.. نسي مشواره الخاص، وحزنه المقيم، ورغبته الطافحة في الانطواء.. لم تتوقف (أمجاد) إلا لحظات قليلة طارئة، ثم تأخذ في الإنطلاق.. تطوي حواري وشوارع العاصمة المثلثة ، طي الواثق بإقتدار.. وكل زبون له ما يدفعه للثرثرة، كأنما دنيا (أمجاد) تفتح أمامه عوالم أخرى مليئة بالأسرار... دواخل البشر متعة!!... كل زبون يألف صاحبنا بعد دقائق من ركوبه.. وينشأ بينهما رابط وهمي، لفض المستور!! .. وتبدأ النفس في بث شكواها له، كأنه ولي حميم.. يستمع برفق.. يشعر محدثه بأنه يتعاطف معه.. فلكل منهم حقيقته.. يحكيها له من زاويته الخاصة، التي يجد فيها متنفَّساً لبث همومه.. لم يكن مجادلاً ولا معارضاً، وإنما متَّلقٍٍ وديع الإنصات..
وأجرة المشوار، تركها لإرادة الراكب.. يدفع له أنىَّ شاء.. كان يحمد الله في سره، ويضع المبلغ في جيَّب جلبابه، دون أن يتفقده.... ومرات أخرى يضع المعلوم في كيس في طبلون (امجاد)..
حينما عاد إلى بيته في الثامنة مساء ، دلف إلى غرفته مباشرة.. لحقت به زوجته، لتسأله عن حاله.. لم يغب عن البيت مطلقاً إلا إذا كان مسافراً.. ماذا حدث؟؟.... التوتر والانزعاج باديان عليها!!...
طلبها أن تقفل باب الغرفة.. توسط السرير، واخذ يخرج من جيوب جلبابه المنفوخة الأوراق النقدية.. وبعد أن أفرغها تماماً، شرع في إفراغ الكيس من محتوياته .. نقود... نقود.. أوراق.. أوراق، وفئات شتى!!
ذََهِلت زوجته، كما ذهِل هو.. بادرته:
- ما هذا ؟! ضحك ورد مشدوهاً: - هذه بركة (أمجاد).. بدأ المشوار عارضاً، فلاحقته أخرى في إصرار.. والنتيجة ، هي هذا الذي ترين.. مال وفير!!
قالت وهي ترى هذا التلَّ من النقود: - تروح الوظيفة في ستين داهية!!
أبتسم لها ولم يعلق.. ولكنه همس في نفسه : "( أمجاد) جعلتني أكثر قرباً من الناس.."
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أفاق الابداع : موريس ماينر.......بقلم:الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)
|
كاتب افريقي قال مرة انا لا اخجل من نفسي عندما اعري عورات وطني والامراض التي تنفر منه: لانك اذا لم تتطهر اما نفسك ستظل النجاسة تغمر دواخلك مهما استخدمت من ماء وصابون
الفرق بين الموريس ماينر والامجاد هو الفرق بين زمن جميل سبع بقرات سمان وزمن قبيح اكلنهن سبع بقرات عجاف
ويستمر الابداع الحر في الاسافير حتى تتوفر الصحف المحترمة فعلا
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أفاق الابداع : موريس ماينر.......بقلم:الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)
|
يا عادل.......؟!!!! نحن الفارقناه كثير وما حبنا لذلك الماضي العتيق الا لأننا فقدنا الكثير منه ولم نحمد الله على نعمه التي حبانا بها بل لم نطور أي شئ مما خلفه لنا الاستعمار ولا حتى الخدمة المدنية ... افتقدنا حتى ذلك الحب الصافي الصادق والذي بدونه لا يمكننا أن نعيش ونحيى سعداء ورحماء لا يظلم بعضنا بعضا ولا يحقد ولا يحسد بعضنا بعضاً ... الحب شجرة ثابتة أصلها ثابت وفرعها في السماء ... كيف نزرعه في قلوبنا المتعطشة وفي قلوب الآخرين أيضاً ... حتى يترجم لعمل صالح ... هو ميراث الحب الذي قبرناه بأيدينا ... فمن أين أتى الشعب السوداني الحديث غير الصادق هذه الأيام في تنالوه للكثير من القضايا ... بل من أين أتى هؤلاء .... أي الذين يحكمونه ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أفاق الابداع : موريس ماينر.......بقلم:الحسن محمد سعيد (Re: othman mohmmadien)
|
والحالة السودانية بقت الان في حاجة لانقاذ ولذلك ننقل ابداع الاخرين هنا عسى ولعل يعود وجهك يا ايها الوطن المؤتمن والسودانيين في المهاجر اما حالات ابداعية حقيقية اوسودانيين داعمين لهذا الابداع او نعر....عبء على هذا الابداع والشيء المؤكد اي حالة ابداعية هي رصيد ايجابي للسودان المضمحل الان من اين اتى هؤلاء؟؟ بالتاكيد من الفضاء الخارجي
| |
|
|
|
|
|
|
|