|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
أمران دعياني لفتح هذا البوست.
الأول بالطبع هو ذكرى رحيل هذا الفقيد العظيم، جون قرنق دي مبيور.
والآخر هو تعالي نقمة نشاز تقوم على التحيز ضد (الجلابة)، والتي يصحبها قدر غير قليل من الأفريقانية المضادة للعروبة النابعة من عقدة الاضطهاد.
والغريب في الأمر أن أصحاب هذه النزعات هم ممن يميزون أنفسهم كمؤيدين لمشورع السودان الجديد.
مشروع السودان الجديد هو مشروع سياسي، إجتماعي، ثقافي، حضاري، قائم على محو التمييز ضد الآخر السوداني الذي من حقه ان يكون آخرا.
ولا يمكن إنجاز مشروع السودان الجديد إلا من خلال تقبل أنفسنا كسودانيين أولا وقبل كل شيء، كما قال الراحل العظيم.
في هذا البوست سنحاول مناقشة الأفكار الأساسية والتأسيسية لمشورع السودان الجديد كما وردت في الإرث التنظيري الذي تركه الراحل العظيم للأجيال السودانية، مع تلمس مبررات طرح هذه الأفكار من واقع تطور الحركة السياسية السودانية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
في ظل تغييب تام لاهل الهوامش والأطراف تم تعميد جمهورية السودان جمهورية عربية إسلامية.
هذا ما قررته الأقلية من نخب المدن الاربعةن الخرطوم، مدني، عطبرة وبورتسودان.
لهذا السبب اندلعت انتفاضة المهمشين المغيبين في الجنوب وفي مشروع جودة الزراعي، حيث واجهت الحكومة الوطنية الاولى، وهي لا تزال في فترة الحكم الذاتي ولم يصبح السودان دولة كاملة السيادة بعد، واجهت تلك الحكومة، ناقصة الشرعية، انتفاضات المهمشين بالعنف المفرط.
يكفي أنهم في انتفاضة جودة، اعتقلوا كل مزارعي المشروع وحشروهم في مخزن صغير مبني من الحديد، ليجدوهم وقد ماتوا جميعا في صبيحة اليوم التالي.
نعم، لقد كانت البداية متعفنة تفوح برائحة الجثث.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
لقد نجحت الطائفية في تغييب صوت الغالبية العظمى من اهل السودان، في الهوامش والاطراف المهمشة (للتفريق بينالهوامش والاطراف المهمشة، نقول أن الهوامش يمكن أن تكون حتى داخل هذه المدن الأربعة)، ولم تتح أي فرصة لتجلي أماني وأحلام ومصالح الهوامش والاطراف المهمشة في الجدل السياسي الذي كان دائرا حول مستقبل ومصير السودان. فما هي ماهية ذلك الجدل السياسي؟
كان صراعا للديوك حول مستقبل السودان بين الدولة الدينية (الاستقلاليين بقيادة عبدالرحمن المهدي) وبين الدولة العروبية (الاتحاديين المدعومين من قبل على الميرغني). ورغم أن الدولة الدينية والدولة العروبية لا يعدوان أن يكونا (أمونة وآمنة، أو حمد وحاج حمد) بمعطيات وقتنا الراهن، إلا أنه في ذلم الزمن (1948 - 1956) كانت ثمة تناقضات واسعة بين النهجين السياسيين إياهما، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار الإرث المنفر لدولة الخليفة عبدالله التعايشي وكذلك العداء التقليدي بين المهدية ومصر في الاعتبار.
وكان المشروعات، العروبي الاتحادي والديني الاستقلالي من التنافر بحيث بديا كمشروعين سياسيين لدولتين مختلفتين. لهذا كان تراضي الفريقين على الاستفتاء بين الاتجاهين (الاتحاد مع مصر أو الاستقلال تحت راية الأنصار).
هذا الاستفتاء، إذا قيض له أن يتم، فإنه حتما سيسحق أحد الفريقين سحقا. فلن ترضى الدولة العروبية التي تضم مصر والسودان بوجود حزب استقلالي ديني معادن لمصر ويسعى لانفصال الجنوب (السودان) عن الشمال (مصر). كما لن ترضى الدولة الدينية الانصارية بقيام حزب ينادي بمسح السودان من خارطة العالم بضمه لمصر.
يجب أن نلاحظ هنا الغياب التام للديموقراطية في هذا الحل السياسي. أحد الفريقين سوف يمحى من وجه الساحة السياسية السودانية إذا تم الاستفتاء.
غير ان الاحداث قد تجاوزت هذا الاستفتاء حيث مرت مياه كثيرة تحت الجسر خلال الفترة من عام 1953، تاريخ توقيع اتفاقية الحكم الذاتي إلى عام 1956، تاريخ استقلال السودان. فقد هزم حزب الأمة شر هزيمة في انتخابات الحكم الذاتي عام 1954 مما حجم خطر الدولة الدينية كما هرول الاتحاديون مرعوبين من الخطاب السياسي الجديد لمصر الناصرية المنحاز للعمال والفلاحين.
لهذا سقط الاستفتاء وتواضع القوم على إعلان الاستقلال من داخل برلمان الحكم الذاتي باعتبار السودان جمهورية ديموقراطية.
إذن فقد كان التراضي على النهج الديموقراطي في حكم السودان، هو تراض على حالة مؤقتة فرضتها الضرورات السياسية والاستعجال على رحيل الاستعمار الثنائي.
وهذا بالتحديد ما واجهه السودان بعد رحيل المستعمرين (مصر وبريطانيا). فقد بدأ التياران، العروبي الاتحادي والديني الاستقلالي يمارسان العنف ضد بعضهما البعض (حوادث مارس 1956 - انقلاب حزب الأمة الذي قاده الفريق عبود)
كل هذا كان يجري في غياب شبه تام للغالبية العظمى من مواطني السودانفي الهوامش والاطراف المهمشة.
واستمرت لعبة الانقلابات بين التيارين العروبي والديني (انقلاب عبود ديني - انقلاب نميري عروبي - انقلاب البشير ديني).
كل هذا والتهميش يتعمق والمهمشين يقصون.
وبإزاء حركة سياسية أدمنت العنف، كان لا بد للمهمشين من ابتكار عنفهم الخاص.
اتخذ عنف المهمشين نهجين. نهج مستلب متاثر بأسولوب قوى التهميش، وهو نهج الانقلابات العسكرية. (أسموها المحاولات الانقلابية العنصرية).
ونهج أصيل اتخذ شكل التمرد المسلح، وكان جنوب السودان هو رائد هذا النهج.
غير أن الرؤية السياسية الواضحة والسند التنظيري المتماسك كانا غائبين عن جهود قوى المهمشين في انتزاع حقوقهم بالقوة.
وظل الحال كذلك حتى جاء المفكر الثائر جون قرنق.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
جمع الراحل العظيم بين ثلاثة صفات، ليس منالسهل أن تجتمع في شخص واحد:
- قوة شكية المناضل المقاتل الميداني،
- عمق المفكر التنويري،
- كارزما الزعيم السياسي.
هذا ما جعله قادرا على التخطيط للثورة وتنفيذها ومدها بالسند التنظيري المتماسك وقيادتها بكل الحنكة السياسية المطلوبة.
وأهم من كل ذلك، فقد أبدى الرجل تسامحا غانديا، حين رفض مقابلة التهميش والاقصاء بتهميش وإقصاء جديدين، فنادى بالوحدة ضمن التنوع.
قال جون قرنق بعد الحديث عن التنوع التاريخي والتنوع المعاصر في السودان:
"... وهكذت، فإن هذا التنوع المعاصر، قوميا وإثنيا وثقافياودينيا، يشكل جزءا منا. وكما أراكم أمام الآن، فأنتم مختلفون ولكنكم واحد.والتحدي الذي يواجهنا في السودان هو أن نصهر جميع عناصر التنوع التاريخي والمعاصر، لكي ننشئ أمة سودانية".
وبمثل هذا الخط الفكري، فتح جون قرنق الحركة الشعبية باتجاه جميع أبناء السودان الحادبين على وحدته وتماسكه وتقدمه.[/B]
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
Quote: وأهم من كل ذلك، فقد أبدى الرجل تسامحا غانديا، حين رفض مقابلة التهميش والاقصاء بتهميش وإقصاء جديدين، فنادى بالوحدة ضمن التنوع.
|
أهتم كثيرا بهذه القيمة العالية في تفكير الراحل العظيم.
فجون قرنق دي مبيور الذي ظل يقاتل في الغابة لاكثر من عشرين عاما تعرض فيها للمؤامرات وللطن من الخلف ولقيام المؤتمر الوطني بشراء بعض أعوانه في الحركة وتعرض فيها لحملة إعلامية شرسة صرفت عليها ملايين الدولارات لتشويه صورته لدى رجل الشارع السوداني، هذا الرجل لم يظهر منه ذرة حقد أو رغبة في الانتقام، عندما جاء للخرطوم مجيئ الفاتحين وقد خرج ما يقارب تسعة مليون سوداني لاستقباله.
جون قرنق دي مبيور لم يتحدث لحظة واحدة في حياته بسوء عن (الجلابة) أو (المندكورو) أو (العرب)، بل تحدث باستمرار عن الوحدة مع التنوع بما يحفظ حقوق الجميع.
يحكى أن نلسون مانديلا، كان عائدا من لندن بعد أن زارها لإزاحة الستار عن تمثاله بمدينة الضباب وذلك بعيد انتخابه رئيسا لبلاده. وفي المطار عزفوا كالعادة السلام الجمهوري أمام الرئيس.
عندها اكتشف مانديلا ان المؤتمر الأفريقي قد غير السلام الجمهوري القديم الخاص بجنوب أفريقيا العنصرية إلى سلام جمهوري جديد مستوحى من التراث النضالي للمواطنين السود.
فما كان منه إلا ان رفض هذا التغيير وأصر ألا يبارح المنصة حتى يعزف أمامه السلام الجمهوري القديم. وقال قولته المشهورة من ان جنوب أفريقيا هي وطن لكل مواطنيه بيض وسود وان السلام الجمهوري القديم هو جزء من تاريخ جنوب أفريقيا. ومن يومها صارت جنوب أفريقيا هي البلد الوحيد في العالم له سلامين جمهوريين وليس سلاما واحدا.
هكذا الرجال العظماء، يتجاوزون الأحقاد الصغير من أجل بناء الدولة والوطن والأمة الموحدة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
الأخ حامد سلام من الله عليك
هل تعلم أن العربيه كانت لغة الدولة والديوان السلطانى فى دارفور قبل أن تكون تلك السطنه جزءا من السودان وكانت كذلك لغة السلطنه الزرقاء بدولة سنار وبكامل خياراتهم وللفور وثيقة نسب تدخلهم فى العمق العربى المشكله ليست فى العروبيه أو الأفريقانيه بل المشكله فينا نحن الذين نأبى أن نتشكل فى هدؤ على الرغم من أننا نفعل بضوضاء وهرج المشكله فى غياب الوعى وسيادة الروح السفلى فينا لذا سوف لا ولن نرضى ببعضنا ونظل ندافع عن حقوق ضائعة لغيرنا.
ولك السلام
منصور
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
جون قرنق دي مبيور كان الرجل المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب.
هو الرجل المناسب لأنه قد جاء من خارج المنظومات السياسية والفكرية والثقافية التي سادت طوال الفترة من الاستقلال وحتى بداية الثمانينات فأنتجت سياقا سياسيا معطوبا ظل يدور في حلقة مفرغة (ديموقراطية - إنقلاب - ديوقراطية .. الخ). من خارج المنظومات السياسية والفكرية التي انتجت هذا السياق جاء قرنق ليبشر بإعادة تكوين الدولة السودانية بعقد اجتماع جديد. هذا هو معنى (تحرير السودان)، الذي لم يفهم منه أوباش السودان سوى إستباحة الجنوبيين والنوبة لشمال السودان (واغتصاب النساء)، كأننا كيان قائم على ما تحت سرة المراة.
وجاء دي مبيور في الوقت المناسب، لأنه قد جاء في وقت تفسخ فيه وانهار السياق السياسي القديم حتى صار غير قادر على إعادة إنتاج نفسه وكان السودان أحوج ما يكون لطرح سياق سياسي جديد يخرج بالبلاد من الدائرة الشريرة والنفق المظلم. وهذا هو مغزى الدعوة للسودان الجديد.
وجاء جون قرنق في المكان المناسب، جنوب السودان.
فلو جاء قرنق من الشمال، لما تعدى أثر دعوته مبلغ ما بلغ الفكر الجمهوري. فرغم الاشراقات الناصعة التي يحملها هذا الفكر، فإن نشأته في الشمال لم تسمح له بما هو ضروري من الزخم السياسي الذي يجعله مؤثرا.
وإن كان قد جاء من الغرب أو الشرق، لكان من الساهل دمغ دعوته بالعنصرية (كما فعلوا مع الأب فيليب غبوش) ولما كان مصير دعوته باحسن مما آلت إليه أفكار الاب فيليب غبوش.
أما الجنوب، فهو مهد الثورة التي لم تنطفئ ضد السياق السياسي والذهني والثاقفي للسودان القديم. ووجد قرنق الظروف مهيئة لإسماع صوته عبر فوهة البندقية، وسط ضجيج سياسي يلعلع فيه الرصاص في الخرطوم منذ 1958، أي بعد الاستقلال بأقل من عامين. كان ضجيجا أجوفا لا يسمع ولا يتيح السمع.
((سوف نناقش تفسخ وانهيار السياق السياسي للسودان القديم لاحقا))
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
أفضل أن أستريح في إجازة العيد على كلمات القائد ياسر عرمان في ذكري استشهاد الراحل العظيم:
Quote: Dr. John Garang’s Vision is the Only Game in Town for the Welfare of the Sudans
Tomorrow the 30th of July, as we commemorate the memory of Dr. John Garang and celebrate his life and contribution as well, he would be one of the rare Sudanese who can be honored on the divide of both countries and by many Northern and Southern Sudanese and by Muslims and Christians. He was and he is above the divide being ethnic or geographical, and he had crossed many areas on this great divide. And as we all know, Dr. Garang was his vision, the vision of the “New Sudan”, a vision that was essentially and in essence based on the commonality of the Sudanese historical and contemporary and what brings the Sudanese together in the past, present and future, the peaceful co-existence and the common wealth that respects diversity of all forms. Today Dr. Garang is not around, but his vision never dies. In actual fact, South Sudan and North Sudan they cannot do much without his vision. They are both very diverse and the massive majority of the two countries are marginalized and only the vision of the New Sudan can deliver peace, food, democracy and stability. Both countries cannot achieve progress without true recognition of their diversities in a true democratic state that respects human rights, the rule of law and accountability, builds a caring society that would address the issues of marginalization including women’s rights and taking “towns to people, not peoples to towns”, the famous jargon of Dr. Garang. The two countries are in need of such a great vision. Dr. Garang was a true democratic Pan Africanist who believed in the unity of Africa from Cairo to Cape Town and as charity starts at home, he was for the unity of Sudan and he made the biggest attempt to preserve that unity on a new basis against all odds. Now as we have two Sudans, the vision of Dr. Garang remains valid and needed by both countries, and it is also valid to re-unite Sudan, a unity between two independent viable countries and democratic states that share the same values. The present situation full of challenges and liabilities that can be changed into assets requires a huge work and struggle by all democratic forces in the two countries. Areas such as Blue Nile and South Kordofan can be and they should be a role model of economic and social integration between the two countries given the historical and social ties as well as the rest of the border states between the two countries. As we commemorate and celebrate the life of Dr. Garang by those who are from Northern Sudan, for us Dr. Garang is a true son of Northern Sudan as well as of South Sudan. He is a point of link between the two countries and a great hero of our lifetime, and in my humble opinion, he was the most important Sudanese personality in the last century, and it will take both Sudans fifty to one hundred years to bring a wonderful charismatic leaders such as him, full of sense of humor and intelligence, a real human being. The good news is that his vision remains valid and never dies. In fact, it is the only game in town for both Sudans. Yasir Arman July 29, 2012 |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
من أجل شرح أن جون قرنق قد جاء في الوقت الصحيح، يلزمناأن نلقى نظرة (معرفية) مجردة من الإملاءات السياسية، على السياق السياسي السوداني منذ نشأة التيارات السياسية حين كان مصير السودان هو قضية الساعة، إلى يوم إعلان منفستو الحركة الشعبية الأول 1983.
لقد انقسمت النخبة النيلية (نخبة مدني - الخرطوم - عطبرة - بورتسودان) إلى تيارين سياسيين هما التيار الديني بقيادة حزب الأمة والتيار العروبي بقيادة الحزب الوطني الاتحادي. وكان الحل الذي نزل عنده الإنجليز كرها لا طوعا، هو استفتاء الشعب السوداني بين الخيارين السياسيين المتمثلين في طرح التيارين.
وكانت تلك خارطة طريق مضللة لم تقد إلا إلى استفحال مشاكل السودان المستقبلية. وأولى عيوب هذه الخطة أنها قد أهملت تماما أماني الغالبية العظمى من مواطني السودان خارج (مدني - الخرطوم - عطبرة - بورتسودان).
وثاني عيوب هذه الخطة أن لا محل للديموقراطية فيها. فإذا فاز خيار أحد التيارين، وهذا أمر لا مناص منه، تعين اختفاء التيار الثاني. فلن تقبل الدولة العروبية المكونة من اتحاد مصر والسودان وجود تيار سياسي يدعو لفصل جنوب وادي النيل عن شماله. كما لن تسمح الدولة الدينية بوجود تيار سياسي يسعى لإلحاق السودان بمصر ومحوه من خارطة العالم.
لأسباب موضوعية عملية تم التخلي عن مشروع الاستفتاء في نهاية فترة الحكم الذاتي، وتم إعلان الاستقلال من داخل برلمان الحكم الذاتي نفسه. هذه الأسباب الموضوعية العملية، ذات شقين: أولهما هو هزيمة حزب الأمة في انتخابات الحكم الذاتي والتي فاز بها الاتحايون وكونوا الحكومة منفردين برئاسة إسماعيل الأزهري. وثانيهما هو ميل الثورة الناصرية في مصر ناحية اليسار مما جعل الاتحاديين يهربون بعيدا عن هدفهم وشعارهم واستراتيجيتهم وايديولوجيتهم، القائمة كلها على إلحاق السودان بمصر. فقد صارت مصر تتحدث لغة غريبة عليهم لا يستطيعون هضمها.
فماذا كانت نتيجة هذه الدربكة السياسية على مستقبل الدولة الوليدة، السودان؟
(نواصل)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
لتوضيح الواقع السياسي والتاريخي الذي تعين على الحركة الشعبية أن تتعامل معه، سنفصل قليلا في تاريخ السلطات وآليات تحققها في السودان (السلطة الديموقراطية وآلية تحققها الحزب السياسي - السلطة الشمولية وآلية تحققها الانقلاب العسكري - سلطة الحرب الأهلية وآلية نحققها الثورة المسلحة).
السلطة الديمقراطية والحزب السياسي
نشأت الأحزاب السياسية السودانية الرئيسية ذات الثقل الجماهيري والأقرب دائما للوصول إلى السلطة، نشأت منقسمة حول مبدأين لا ثالث لهما. الاتحاد مع مصر أو الاستقلال التام . ونجرأ على القول هنا إن كلا المبدأين زائف. فمن ناحية، كيف ينشا حزب سياسي وليس له من هدف سوى إلغاء وجود الوطن بضمة إلى دولة جارة؟ ومن ناحية أخرى فإن شعار (الاستقلال التام) كان هو الآخر تعبيرا عن مبدأ زائف إذ لم يكن يهدف حقيقة إلى تحقيق الحرية السياسية للشعب السوداني، وإنما كان يرمى إلى إعادة الدولة الشمولية الدينية.
إذن ثمة بعد مضمر يكمل المعلن من الشعارين السياسيين الذين رفعهما التياران الكبيران، (الاستقلالي الديني) و(الاتحادي العروبي)، في بداية الحركة السياسية الوطنية. أما البعد المضمر في شعار (الاتحاد مع مصر) فهو: (إجهاض مشروع إعادة الدولة المهدية). وبهذا يكون البعد المضمر من شعار: (الاستقلال التام)، هو: (عودة السودان كما كان قبل الفتح الإنجليزي - المصري محكوما بواسطة أهله الذين هم الأنصار). وهذا تحديدا ما أسموه طموحات السيد عبد الرحمن المهدى والتي أرهبت مصر والاتحاديين والختمية والإدارة البريطانية في السودان. فقد كتب المستر وليام قلن بلفور بول الذي عمل إداريا في السودان خلال تلك الحقبة، كتب قائلا:
(كانت المنافسة القائمة منذ أمد طويل بين الطائفتين المسلمتين الرئيستين أتباع السيد عبد الرحمن المهدى والختمية الرافضة للمهدية ، بقيادة السيد على الميرغني، اشد ضررا علي التطور المستقر للقطر من مؤتمر الخريجين فيما يعتقد معظم الإداريين البريطانيين. وقد كان مفهوما أن تقمع المهدية المتجددة في السنوات المبكرة للحكم الثنائي وأن يخلع التأييد على الطائفة الرئيسية في معارضتها لها. وكانت سياسة رد الاعتبار للسيد عبد الرحمن قد أملاها على البريطانيين عند اندلاع الحرب العظمى في عام 1914، الرغبة في مقاومته دعوة العثمانيين إلى الجهاد. والنهوض بشخصيته في حذق، قد دفع زعيمي الطائفتين باضطراد للاصطدام. وكانت الشبهات المبررة التي تشارك فيها حكومة السودان، المنبعثة من إنه كانت للسيد عبد الرحمن طموحات في الملك، هاجسا يثير مخاوف معارضيه، والسبب الأساسي للارتباط التدريجي من قبل السيد على الميرغني بالنشاط الموالي للمصرين. وقد أرهب نفوذ السيد عبد الرحمن المتنامي حكومة السودان أيضا).
والسؤال الذي يهمنا في هذا الجزء من العمل هو: هل هنالك أي توجه ديمقراطي تعددي في أي من هذين التصورين السياسيين لمستقبل السودان؟.
نجيب هنا بمزيد من الاسئلة:
- هل الانضمام لمصر والاتحاد معها يسمح، بأي حال من الأحوال، إذ تحقق، بقيام حزب آخر ينادي بإنفصال السودان عن مصر واستقلاله من داخل الدولة الاتحادية؟ - هل تسمح عودة السودان لما كان علية قبل الفتح، إذ تحققت، بوجود حزب سياسي ينادي بإلغاء وجود السودان وضمه إلى مصر؟
فإذا كانت الإجابة على كلا السؤالين هي لا، بالضرورة، فأين يمكن إن يوجد التوجه الديمقراطي هنا؟ وإذا كانت اتفاقية السودان، اتفاقية الحكم الذاتي (1953)، قد نصت على أن يستفتي الشعب السوداني في نهاية الفترة الانتقالية بين أمرين لا ثالث لهما وهما الارتباط بمصر أو الاستقلال التام بالمفهوم المهدوي، فإن ذلك كان يعني أن السودان صائر، لا محالة، لأحد هذين الخيارين الذين ينعدم فيهما وجود الديمقراطية العلمانية. وهذا تحديدا هو ما أصاب البريطانيين باليأس والشعور بالهزيمة. فقد وافقوا علي خيارين لمستقبل السودان ليس في أي منهما مكان للديمقراطية العلمانية التي كانوا هم رسلها للعالم الثالث. إذن ، لماذا نشأت الأحزاب أصلا، إذا لم تكن نشأتها تؤدي إلى نظام ديمقراطي؟.
نقول هنا، أن إنشاء الأحزاب السياسية، أو علي الأقل، الحزبين الكبيرين (الأمة) و(الوطني الاتحادي)، هو أمر أملته الضرورة، إذ لا بد من قيام كيان سياسي يحمل عبء الدعوة لعودة السودان للمهدية، أو عبء الدعوة لإبعاد السودان عن العودة للمهدية بانضمامه إلى مصر. وذلك بسبب أن مصر والسودان كانتا تحت الهيمنة البريطانية. وبريطانيا لم تكن لتسمح بقيام أية وسيلة سياسية سوي الحزب السياسي المكون علي أساس لبرالي.
وإذا شاءت الأحزاب السودانية الكبرى إن ترتبط بأهداف غير ديمقراطية، فإن هذا يعني إن هذه الأحزاب قد شاءت إن يكون النهج الديمقراطي وسيلة مؤقتة تنتهي بانتهاء وسيلة الاستفتاء. فبعد عملية الاستفتاء لن يبقي غير حزب واحد، فإذ قرر الشعب السوداني الاتحاد مع مصر، فإن المنطق يقول بنفي وإبعاد (حزب الأمة)، أما إذ حدث العكس وقرر الشعب الاستقلال ومن ثم العودة إلى الحكم المهدوى، فلا مكان للاتحاديين في السودان، و(لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب)، كما فسر السيد عبد الرحمن شعاره الغامض (السودان للسودانيين) بهذا القول الداعي للشمولية الدينية.
وكان لا بد من حدوث معجزة لتنقذ السودان من هذا المصير المظلم الذي تحدد مسبقا في اتفاقية الحكم الذاتي عام 1953. فكيف جاءت هذه المعجزة ومن أين؟
أول الفرج قد جاء علي يد الشعب السوداني عندما قرر أن يهزم حزب الأمة في انتخابات سلطة الحكم الذاتي عام 1953. ولا شك أن الاتحاديين قد فهموا هذه النتيجة الانتخابية على أنها تعني هزيمة مشروع السيد عبد الرحمن الذي ظاهره الاستقلال وباطنه إعادة الدولة الدينية المهدية.
تلي ذلك وفي حوالي عام 1954 نمو خطاب سياسي راديكالي في مصر لم تستسغه الإذن الاتحادية التي تربت علي الخطاب العلماني في مصر ما قبل الثورة، كما لم تفهمه القاعدة الاتحادية المكونة أساسا من البرجوازية التجارية السودانية التي يرعبها مثل هذا الخطاب الثوري المليء بمفردات التأميم والمصادرة ونصرة الفلاحين والعمال والكادحين. فهؤلاء الأخيرين هم قاعدة (حزب الأمة)، وفي أحسن الأحول سند اليسار السوداني. وكان لا بد أن يقل حماس الحزب (الوطني الاتحادي) تجاه مبدأ الاتحاد مع مصر، خاصة وإن الخطر الأنصاري حجم ولو مؤقتا.
ولم يتبقى من خطر يهدد السودان سوي إن يلجأ أهل المشروع المهدوى الديني للعصيان والجهاد. فهذه ورقة لا يفوت علي سياسي بارع مثل السيد عبد الرحمن أن يلوح بها في وجه الإنجليز محذرا من ترك المصريين يستولون علي السودان. ففي مقابلة له مع سلوين لويد وزير الدولة بوزارة الخارجية البريطانية عند زيارته للسودان في مارس عام 1953، ألمح السيد عبد الرحمن المهدي للسياسي البريطاني بهذا التهديد مبطناً بدبلوماسية السيد عبد الرحمن العبقرية حيث قال له:
(البريطانيون يفضلون دون شك إن تتسم المنطقة الواقعة خلفهم بالاستقرار في حال وقوع مزيد من الاضطرابات والاصطدامات في منطقة قناة السويس، مؤكدا إن الموقف كان هادئا في السودان عند وقوع هذه الاضطرابات في مصر من قبل، بفضل تعاون حزب الأمة مع حكومة السودان ) .
وكان الإداريون البريطانيون في السودان مقتنعين بأن نتائج الانتخابات لن تثني السيد عبد الرحمن المهدي عن هدفه الكبير، وإن استخدامه للعنف كان واردا تماما. فقد جاء في مذكرة الحاكم العام إلى وزارة الخارجية البريطانية الصادرة في 3 أغسطس عام 1954 ما يلي: (إذا كان التحليل السابق صحيحا فإن موقف السيد عبد الرحمن المهدي والأنصار، خلال الفترة الانتقالية سيتسم بالهلع واليأس، ونحن لا نستطيع إن نأمل في إن يتأقلم مع وضع يعرف إنه شديد التهديد لقوته وسطوته الشخصية ومركزه، ويقوي من خصمه اللدود السيد علي الميرغني. وسيتجه عقله أكثر فأكثر نحو العنف كلما أحكم الحزب الوطني الاتحادي قبضته في القطر، وسيتمزق بين الهجوم قيل فوات الأوان والأمل في إن تتدخل حكومة صاحبة الجلالة لإنقاذه ......... لقد تناولنا إلى حد ما في مستهل هذه المذكرة خطر حرب أهلية تصدر عن المهدويين كما ورد في الفقرة أعلاه ومهما يكن من أمر فإن الحرب الأهلية ستؤدي إلى كوارث علي السودان والمصالح البريطانية )
وكان لا بد إن تؤدي هزيمة مبدأ الاتحاد بسبب الثورة المصرية الجديدة، وهزيمة مبدأ العودة للدولة الدينية المهدية في صناديق الاقتراع، إلى إن يتراضى الطرفان مؤقتا علي استمرار نظام حكم الفترة الانتقالية الديمقراطي العلماني ودستور الفترة الانتقالية العلماني المؤقت والحصول علي استقلال البلاد عن هذا الطريق حتى إشعار آخر.
هكذا دخلت تاريخ التجربة السياسية السودانية السلطة الديمقراطية العلمانية بصفة مؤقتة، وظل هذا قدر هذا النوع من السلطة في السودان، تلجأ إليه الساحة السياسية السودانية في وقت الأزمات والمنعطفات الخطيرة و تتراضى حوله مؤقتا. وهذا يعني بأنه ليس هناك علاقة مباشرة بين حقيقة تبلور التيارين السياسيين الرئيسيين في أحزاب، وبين تجلي النظام الديمقراطي التعددي عشية الاستقلال. نعم إن الأحزاب قد تكونت كوسائل للوصول إلى السلطة، غير إن الوصول إلى السلطة، حسب أيديولوجيات هذه الأحزاب نفسها، هو نهاية المطاف، فأما انضمام إلى مصر ونفي التيار الديني الاستقلالي أو دولة مهدوية دينية، وبالتالي نفي التيار الاتحادي العروبي.
كان هذه الفهم سائدا حتى توقيع اتفاقية السودان (الحكم الذاتي عام 1953) بين مصر وبريطانيا، حيث كان ولا يزال الاتحاديون يتمسكون بمبدأ الاتحاد، وكان حزب الأمة لا يزال يمثل تهديدا ضخما لمستقبل السودان حسب رؤية الاتحاديين البريطانيين علي السواء. وكانت المفاجأة هي هزيمة حزب الأمة في انتخابات أواخر 1953. ثم كان التحول الدراماتيكي في موقف الاتحاديين من الاتحاد مع مصر. وهكذا أجريت الانتخابات والغي الاستفتاء وحدث الاستقلال دون إن تقع المواجهة بين التيارين الكبيرين.
ولكن ظلت أي محاولة لفرض أي من المشروعين علي مستقبل البلاد، أو منع ذلك، لن يتم إلا باستخدام القوة العسكرية. وإن كانت هذه المناجزة العسكرية لم تقع بعد الانتخابات والاستقلال مباشرة، فإنها قد ظلت احتمالا مضمرا قابلا للتجلي في أي لحظة تكتمل شروطه.
وفي واقع الأمر، فإن تاريخ السلطة في السودان ما هو إلا تاريخ الانقلاب العسكرية المتبادلة بين هذين التيارين. فقد حرك التيار الديني انقلاب عبود عام 1958، وحرك التيار العروبي انقلاب نميري عام 1969، وحرك التيار الديني انقلاب البشير عام 1989
وإذا كان هذا التحليل يؤدي إلى الاعتقاد بأن الأحزاب هي صانعة الانقلاب العسكرية، فهذا ما رمينا إليه تحديدا.
(عدل بواسطة حامد بدوي بشير on 08-23-2012, 09:46 AM)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
تستهدف المقالتان السابقتان زائدا هذه المقالة المقالة، الكشف عن تفسخ واهتراء السياق السياسي الذي ساد السودان منذ ماقبل الاستقلال ولا نزال نحمل جثنه فيوق أكتافنا في تردد واضح من اتخاذ الخطوة المنطقية الوحيدة وهي دفنه. وتصير هذه الحطوة أكثر إلحاحا عندما يكون السياق السياسي البديل جاهزا بقواه السياسية المبررة لتبنيه وبسنده التنظيري المؤصل لوجوده.
3 - سلطة الحرب الأهلية والثورة المسلحة
ظلت حركات الثورة المسلحة في الجنوب وباستمرار، تستبق تغيرا سياسيا كبيرا وشيك التحقق في السودان. إذ لا يفوت الدارس للحركة السياسية السودانية إن يلاحظ بأن موجة التمرد الأولى عام 1955 قد استبقت، موعد تقرير المصير وقرار الاستقلال عام 1956. وهذا يعنى إن الجنوب يرفض إن يقرر الشمال مصيره وفى غيابه الكامل. فقد أصمت الأحزاب الشمالية آذانها عن سماع رأي الجنوبيين حول تقرير المصير والاستقلال. كما سوفت وراوغت بشأن مطالبة الجنوب بالنظام الفدرالي.
أما موجة الثورة المسلحة الثانية عام 1963، فقد استبقت سقوط الحكم العسكري الشمولي الأول عام 1964، حتى تكون مستعدة للمشاركة في تقرير نظام الحكم بعد سقوط الدكتاتورية ومن موقف قوة. وهذا يدل على إن السياسي الجنوبي أقدر على القراءة الصحيحة للوضع السياسي في السودان من رصيفه الشمالي. فعندما بات سقوط السلطة العسكرية وشيكا، استبق التمرد الحدث الكبير القادم.
وكذا جاءت موجة الثورة المسلحة الثالثة عام 1983، مستبقة التحول الكبير تجاه أسلمة الدولة في السودان على يد جعفر محمد النميري، بإعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية عام 1984.
ويتضح ألآن أن المشاريع السياسية الكبرى في السودان، ومن خلال نظرتها ذات الاتجاه الواحد قد أوجدت ظاهرة السلطة الشمولية والانقلاب العسكري كما أوجدت ظاهرة الحرب الأهلية والثورة المسلحة. فالعقل السياسي الجنوبي، قد بات متيقنا بأن الجنوب والمواطن الجنوبي لا مكان له ضمن المشروعين السياسيين الأقرب للتحقق والأقدر على التجلي في السلطة، وإنه لابد له من الإعلان عن رفضه للمصير الذي يقرره له، وفى غيابه، كلا المشروعين. لأن هذا المصير لا يهدف إلا لتغيير هوية الإنسان الجنوبي باتجاه الأسلمة والتعريب. لهذا ندرك الآن جزع الفعاليات السياسية الجنوبية كلما اقترب موعد تحول كبير في مسيرة الحركة السياسية السودانية. فلا يوجد إنسان على ظهر الأرض مستعد للتنازل عن هويته العرقية والثقافية عن طيب خاطر. إذ أن كل إنسان يرى أنه لا يوجد في الكون هوية عرقية افضل من هويته ولا ديانة أعظم من ديانته ولا ثقافة أفضل من ثقافته. هكذا خلق الله البشر مختلفين ولو شاء لجعلهم أمة واحدة.
قانون التدهور
من الملاحظ جدا، أنه وخلال السيرورة التاريخية للحركة السياسية السودانية، تبادلت الظواهر السلطوية التي تحدثنا عنها سابقا التجلي والغياب في خط دائري تماما بحيث تكرر تجلى كل منها ثلاثة مرات. فهناك ثلاث ظواهر سلطوية ديمقراطية في عام 1956 وعام 1964 وعام 1985. وثلاث ظواهر سلطوية شمولية في عام 1958 وعام 1969 وعام 1989. وكذلك ثلاث حروب أهلية في عام 1955 وعام 1963 وعام 1983. وهذا يتيح لنا النظر في حالة الآليات المحققة لهذه الظواهر عبر ثلاث مراحل لكل اليه من الحزب إلى الانقلاب العسكري إلى الثورة المسلحة.
الحزب السياسي
ا - حافظ الحزب السياسي في السودان على المفهوم العلماني للحزب السياسي طوال فترة مقاومة الأحزاب السياسية السودانية للسلطة العسكرية الأولى ما بين عام 1958 وعام 1964. بمعنى إن أدوات مقاومة الأحزاب السياسية الدكتاتورية الأولى قد ظلت أدوات وأساليب مدنية تتمثل في الضغط السياسي عبر جماهير الشعب السوداني من خلال العرائض والاحتجاجات والمظاهرات وحتى العصيان المدني. وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل تحولات الحزب السياسي, باعتباره الآلية الوحيدة لتحقق الظاهرة السلطوية الديموقراطية
ب- في المرحلة الثانية بدأ الحزب السياسي في السودان يفارق مفهوم الحزب المدني الذي يستمد قوته الحقيقية من تأييد الجماهير طوال فترة مقاومة الأحزاب للسلطة العسكرية الثانية ما بين عامي 1969- 1985. فقد اعتمدت هذه الأحزاب، في تلك الفترة، على أدوات نضال هي خليط من العمل العسكري الحربي والعمل المدني السياسي. وظهرت لأول مرة في تاريخ الحركة السياسية السودانية المليشيات ومعسكرات التدريب والصدامات العسكرية سواء في الجزيرة أبا وأم درمان عام 1970أو في الخرطوم عام 1976. وهذه هي المرحلة الثانية.
ج- في المرحلة الثالثة ابتعد الحزب السياسي في السودان كلية عن المفهوم المدني للحزب السياسي منذ بداية حركة مقاومته للسلطة العسكرية الثالثة عام 1989. فقد تحولت مقاومة الأحزاب السودانية للسلطة الحالية كلية للوسائل العسكرية وأصبح لكل حزب جيشه ومواقعه التي يحتلها، بل إن حزبا سياسيا جديدا قد ولد كتنظيم عسكري ألا وهو حزب عبد العزيز خالد.
ويعنى هذا مباشرة أن الأحزاب السياسية السودانية باعتبارها آلية تحقق الظاهرة السلطوية الديموقراطية، قد قاومت السلطة العسكرية الأولى بوسائل مدنية صرفه مائة بالمائة. وإنها في المرحلة الثانية، قد قاومت السلطة العسكرية الثانية بوسائل نصفها مدني ونصفها عسكري، كما إنها في المرحلة الثالثة قد قاومت السلطة العسكرية الثالثة بوسائل عسكرية صرفه مائة في المائة.
وهذه المراحل الثلاث توضح بجلاء أن هذه الآلية، آلية الحزب السياسي قد بدأت تفقد مفهومها المدني وصفتها المدنية لصالح المفهوم الراديكالي للحزب السياسي والصفة العسكرية، وهذا يعني إن تنظيم الجماهير وأدوات النضال المدني لم تعد، في نظر هذه الأحزاب ذات جدوى كبيرة حتى صير إلى استبدالها بالتنظيمات العسكرية وأدوات النضال المسلح. ولا يكون كل هذا بالمعايير المعروفة سوي التدهور. ولعل استعداد الأحزاب السياسية للإنحدار والتدهور تجاه العسكرة مرة بعد أخرى، يجد تفسيره في ما ذهبنا إلية من وجود النزعة العسكرية كامنة في بذرة تكوين هذه الأحزاب. لهذا يسهل انحدارها وتدهورها تجاه استبدال العمل السياسي المدني بالعمل الحربي العسكري.
الانقلاب العسكري
جاءت الانقلاب العسكرية في السودان بمثابة ثلاث مراحل من تطور آلية الانقلاب العسكري المحققة للسلطة الشمولية. وهي مثل سابقتها، آلية الحزب السياسي، قد سلكت خطا تدهوريا هابطا خلال ثلاث مراحل. فقد جاء انقلاب عبود عام 1958 عسكريا صرفا، لم يسع لدعم سياسي مباشر من أي حزب، كما لم يشرك معه حزبا في السلطة. وقد مثل هذا الانقلاب الطور الأول النقي من تحولا آلية الانقلاب العسكري المحققة للسلطة الشمولية في السودان.
مثل انقلاب نميري عام 1969 الطور الثاني الوسيط من تحولات هذه الآلية وفيه بدأت هذه الآلية تفقد نقاء صفتها العسكرية حيث أشركت العناصر المدنية، وبصفتها الحزبية، في السلطة منذ اليوم الأول للانقلاب. وبدا جليا منذ البيان الأول، أن ما وقع هو عمل سياسي نصف عسكري ونصف مدني. وقد ظلت السلطة الناتجة عن هذا الانقلاب معتمدة باستمرار، في نسبة خمسين في المائة من استمرارها، علي العنصر الحزبي المدني.
فإذ وصلنا إلى الطور الثالث من آلية الانقلاب العسكري، وهو انقلاب البشير عام 1989، فإننا نجد أنفسنا أمام انقلاب مدني مائة في المائة من حيث التخطيط والتنفيذ ورموز السلطة التي نصبها الانقلاب.
ومن حيث أن الانقلاب ظاهرة سياسية معسكرة وآلية عسكرية لاستلام السلطة ومناقضة جوهريا لآلية الحزب السياسي ووسائله المدنية في استلام السلطة، فإننا عندما نشهد آلية الانقلاب في السودان تتجه تدريجيا، وعبر ثلاث مراحل إلى التخلي عن جوهرها العسكري لصالح المدينة، فإننا لا نستطيع إلا إن نعتبر ذلك تدهورا. ولعل استعداد الانقلاب العسكرية في السودان إلى التدهور والانحدار تجاه المدنية بزيادة العنصر المدني فيها مرحلة بعد أخري، هو مؤشر سليم لما ذهبنا إليه من أن الانقلاب العسكري في السودان هو بالأساس عمل حزبي مرتبط بصراع التيارات السياسية الكبرى، وظل أثر هذه التيارات يزداد تجليا في تكوين الانقلاب العسكري مرحلة بعد أخري.
الثورة المسلحة
الآلية الثالثة لاستلام السلطة في السودان هي آلية الثورة المسلحة. وهي مثل الآليتين السابقتين، قد تحولت عبر ثلاث مراحل.
ا - جاءت الموجة الأولى من التمرد ارتجالية، لحد كبير، سيئة الإعداد، وعسكرية صرفه. وهي من الناحية السياسية، كانت تعتمد خطا سياسية فقيرا، يتمحور حول الانفصال هدفا نهائيا، ومقاومة الاستعمار الشمالي، هدفا تكتيكيا.
وقد كان المنطق الواقعي البديهي المبرر للهدفين الاستراتيجي والتكتيكي، واضح وبسيط وماثل للعيان. فقد أعطت حركة سودنة الوظائف الإدارية، مدنية وعسكرية، انطباعا عاما لدي المواطن الجنوبي بأنه سوف يستبدل مستعمرا بريطانيا بمستعمر شمالي. هذا بالإضافة إلى أن مستقبل الجنوب قد بدا غامضا في واقع اتفاقية السودان بين دولتي الحكم الثنائي لعام 1953 التي حددت مصير السودان في خيارين لا ثالث لهما وهما الانضمام لمصر أو الاستقلال تحت رأيه المهدية الدينية. ولهذا كان لابد من أن تجيء الموجة الأولى من آلية التمرد انفصالية ومشبعة بالشعارات العنصرية ضد العرب المسلمين. ويورد الدكتور فرانسيس دينق ما ذكره المؤرخ دستان في شرح هذه النقطة علي النحو التالي:-
(إن احتكار السلطة السياسية بواسطة الشمال، أكبد للجنوبيين بداية عهد استعماري ثاني، ومن الجانب الآخر، شعر الشمال بان له الحق الشرعي لصيانة وتنفيذ السياسات التي تؤثر علي القطر كله. إن فشل السياسيين الشماليين في تحقيق شراكه السلطة مع الصفوة السياسية من الجنوب، دعمت، وبشكل مستمر الشعور بالغربة والعزلة لدي الجنوب، والاعتقاد بأن الشمال في حقيقة الأمر، يعتبر خلفا للاستعمار البريطاني. وأيضا كانت محاولات الشمال إخضاع الجنوب تحت إمرته، أكثر ضررا منها نفعا في بلورة نظرة الجنوبيين حيال حكومات الخرطوم بعدم شرعيتها، مما أدي في النهاية للتمرد المسلح)
ب. جاءت موجة التمرد الثانية جيدة الإعداد وقد تزايد فيها العنصر السياسي المدني، فأعلنت عن نفسها في بيان سياسي وزعته علي الوسائط الإعلامية العالمية عام 1963، وأسمت جناحها العسكري (أنانيا) أي سم الأفعى . وحيث أن هذه الموجة من الثورة المسلحة في الجنوب قد جاءت ردة فعل مباشرة ضد سياسية نظام الجنرال عبود القائمة علي فرض الأسلمة والتعريب عن طريق القوة، فإنها ما كان لها إلا إن تكون انفصالية وعنصرية.
غير إن هذه الموجة من الثورة المسلحة، وفي مسيرتها خلال عقد من الزمان، انتهت إلى أن الانفصال ليس في صالح السودان ولا صالح الجنوب. لهذا، وعندما وافق الشمال، ممثلا في سلطة جعفر محمد نميري، علي منح الجنوب حكما ذاتيا عام 1972، ألقت (أنانيا) سلاحها، وعرف الجنوب السلام لأول مرة منذ فجر الاستقلال عام 1955. وبهذا تكون الموجة الثانية من التمرد قد سارت نصف الدرب عنصرية انفصالية، ونصفه قومية وحدوية.
ج - خلال سبعة عشر عاما من الحرب، تلتها عشر سنوات من السلم، ارتفع الوعي العام، ولا شك، للمواطن الجنوبي وازدادت الصفوة المتعلمة الجنوبية عدديا، وقد صار الجنوبيون أكثر إدراكا لمصالحهم وأكثر اعتزازا بهويتهم وأكثر حساسية وحذرا تجاه الحكومات الشمالية.
لهذا فقد كان الجنوب متنبها عندما بدأ الدكتاتور نميري، انطلاقا من حسابات خاصة باطلة عمر نظامه، يميل بالدولة السودانية كلها تجاه الأسلمة. ثم، ولتنفيذ ذلك، بدأت السلطة التي تحالفت مع الإسلاميين الراديكاليين، تمارس تكتيكاتها لإضعاف الجنوب حتى تقلل من فعالية ردة فعله تجاه الأسلمة. هنا اندلعت موجة التمرد الثالثة عام 1983، واهتز الجنوب بعنف لهذا التحول الكبير الذي حدث في مركز السلطة في السودان. وكان لا بد من التفكير في معالجة المشكلة السودانية من جذورها بصورة متكاملة. وقد اختلف الأمر هذه المرة، ولا بد من أن يتحمل الجنوب المسئولية الكاملة في الحفاظ علي وحدة البلاد أولا ثم حل (المشكل السوداني) ثانيا.
لهذا جاءت الموجة الثالثة من التمرد عام 1983 قومية الهوية ووحدوية التوجه. ودعت الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى إقامة (السودان الجديد). وحددت الحركة الشعبية لتحرير السودان بأن (القضية وطنية وليست جنوبية. فهي تضم في تركيبتها قوات مقاتلة من أقاليم معينة في الشمال وأفراد من كل إنحاء القطر. إن أي تسوية للنزاع علي أسس الشمال والجنوب، يجب إن تضع في الاعتبار ذلك البعد للتعقيد وتوسيع النزاع) . وقد جاء في منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان البيان التأسيسي الآتي:
(إن المهمة الرئيسية للحركة الشعبية / الجيش الشعبي لتحرير السودان هي تحويل الحركة الجنوبية من حركة رجعية يقودها رجعيون وتهتم بالجنوب والوظائف والمصالح الذاتية، إلى حركة تقدمية يقودها ثوريون ومكرسة لتحويل كل القطر إلى الاشتراكية. ويجب التأكيد علي أن الهدف الرئيسي للحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان ليس هو فصل الجنوب، فالجنوب جزء لا يتجزأ من السودان، وقد تمت تجزئة أفريقيا بما فيه الكفاية بواسطة الاستعمار والاستعمار الجديد، وأن المزيد من التجزئة لن يخدم إلا أعداء أفريقيا.)
وبالمقارنة مع آلية الحزب السياسي المحققة لظاهرة السلطة الديمقراطية التعددية والمنحدرة تجاه العسكرة، وآلية الانقلاب العسكري المحققة لظاهرة السلطة الشمولية والمنحدرة تجاه المدنية، فإن آلية الثورة المسلحة تبقي هي الآلية الوحيدة السائرة تصاعديا من الانفصال تجاه الوحدة ومن العنصرية تجاه القومية. لكل هذا فقد جاءت الموجة الثالثة من الثورة المسلحة قومية ووحدوية، تحمل هما سياسيا عاما وليس هما سياسيا جنوبي.
فإذا أضفنا لما سبق، نهضة قوى الهامش في الغرب والشرق وقناعتها بألا سبيل لما أفسدته نخب (مدني - الخرطوم - عطبرة - بورتسودان) إلا بالثورة المسلحة، فإننا نكون فعلا قد دخلنا عهد ثورة السودان الجديد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من اجل وطن جميل ... نحن في حاجة للتعمق في أفكار هذا الرجل (Re: حامد بدوي بشير)
|
Quote: فإذا أضفنا لما سبق، نهضة قوى الهامش في الغرب والشرق وقناعتها بألا سبيل لما أفسدته نخب (مدني - الخرطوم - عطبرة - بورتسودان) إلا بالثورة المسلحة، فإننا نكون فعلا قد دخلنا عهد ثورة السودان الجديد |
في هذه النقطة بالتحديد، أود ان اكون واضحا جدا، فأقول بأن هذه النخبوية التي أتحدث عنها ليس لها أيى دلالات أوارتباطات عرقية أو دينية أو ثقافية او جهوية.
فنخب (مدني - الخرطوم - عطبرة - بورتسودان) تحتوي في داخلها على كل التنوع العرقي والثقافي والديني والجهوي السوداني. فمنها المسلم والمسيحي، الجنوبي والشمالي، وود الغرب وود الشرق، العربي والنوبي. هي ببساطة النخبة المتعلمة. ومعروف أن فرص التعليم كانت متاحة، في عهد الاستعمار، لأبناء الزعامات الدينية والأهلية بغض النظر عن الجهة أو اللون أو الدين. كما لا تغفل التفاوت في الفرص بين سكان المدن وأهل الأرياف، بغض النظر عن الموقع الجغرافي للمدينة. فقد تكون رمبيك، حيث رمبيك الثانونية أو مدني حيث حنتوب الثانوية أو الابيض حيث خورطقت أو نيالا حيث نيالا الثانوية ..الخ.
| |
|
|
|
|
|
|
|