كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل على الرابط (7)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 11:51 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-03-2012, 00:29 AM

د. عمرو محمد عباس


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل على الرابط (7)

    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل على الرابط (1(
    كتاب الرؤية : من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (1)
    ‎كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (2) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (2)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (5) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (5)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (6) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (6)

    الفصل الحادى عشر: الرؤية السابعة: رؤية السودان الجديد

    مدخل نظرى

    لقد توصل السودانيون على مختلف مشاربهم فى الربط بين اسباب مشكلات السودان المزمنة وبين الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية منذ ثورة 1924، كانت هناك اشارات واضحة فى وثائق مؤتمر الخريجين اما مؤتمر جوبا فقد وضعها فى القلب من الاشكاليات بين الجنوب والسودان” وجه المستر روبرتسون السكرتير الاداري مذكرة الي رؤساء الادارات ومديري المديريات، جاء فيه عن الجنوبيين: ان العوامل الجغرافية والاقتصادية تحتم توحيدهم في مستقبل تطورهم، توحيدا لا انفصام له، مع السودان الشمالي الذي من صفاته الاساسية انه جزء من الشرق الاوسط وانه مستعرب.. وبناء عليه فان سياستنا تستهدف إعانة الجنوبيين عن طريق التطور التعليمي والاقتصادي، حتي يستطيعوا الاعتماد علي انفسهم مستقبلا ويكونوا اندادا متساويين اجتماعيا واقتصاديا مع شركائهم وزملائهم من السودانيين الشماليين في سودان المستقبل الموحد” محمد محمد الأمين عبد الرازق: جنوب السودان.. المشكلة !! والحل !!(4، http://www.ajrasalhurriya.net.

    يرجع الفضل للماركسية والحزب الشيوعى السودانى فى تقديم المدخل النظرى لتحليل آليات تاثير الاوضاع الاقتصادية ولحد ما الاجتماعية على مجمل قضايا التطور والسياسة. ومع الاستقلال كانت كافة القوى السياسية تضع هذا العامل فى حسبانها وان اختلفت فى التصرف تجاة مخرجاتها. خطاب المغفور لة الامام الصديق المهدى كان بارزا فى الاحتفال بعيد الهجرة 1961 ودعوتة لوضع خطة واعية للتطوير الاجتماعي بشكل خاص على المناطق الاكثر تخلفا حتى تنهض البلاد في كيان سوداني موحد متقدم مستمد من مثلنا العليا وروح عصرنا الحديث. مع دخول المنظمات الدولية والبنك الدولى ترسخ هذا المفهوم وجلها تبدأ من الاقتصادى والاجتماعى فى تحليلها وتدخلاتها. (الوثيقة رقم 12: جهاد في سبيل الديمقراطية: مطلب الامة: اشرف على اعداده الصادق المهدي)

    المشكلة لم تكن فى ربط الاقتصادى والاجتماعى مع مشكلات السودان لكن فى السياسات المناقضة لحلحلتها، بدأ من نواب الاشارة وهى ان يتم ترشيح نائب باشارة من السيد او الامام فى دائرة ليس لة بها اى علاقة (احمد ابوشوك والفاتح عبد اللة عبد السلام: الانتخابات البرلمانية فى السودان 1953-1986، مركز عبد الكريم ميرغنى، السودان، 2008) ، نقض العهود للجنوبيين، التركيز فى كل العهود على التنمية فى الوسط والشمال، الاسلمة والتعريب القسرى وتهميش الثقافات الاخرى وغيرها. لقد عاشت النخب الجهوية وتحركت وعملت فى المكونات الوطنية من احزاب وخدمة مدنية واجهزة امن ردحا من الزمن، لكنها كانت تصطدم دائما بحائط سميك من الاستعلاء والتهميش. لذلك فان التحركات المقاومة لكل هذا اخذ فورا التحشد الجهوى – اى انة تحرك على المستوى الثقافى العرقى كما نرى الحركات الجنوبية 1955 ، مؤتمر البجة في اكتوبر 1958م، اتحاد عام جبال النوبة بالخرطوم اكتوبر 1964م، جبهة نهضة دارفور عام 1965 وغيرها. لقد تطرقنا فى فصول سابقة على تكوين الدولة السودانية وتبلورها فى اطارها الحالى (ما كان يعرف بالسودان قبل انفصال الجنوب) وظروف نشوئة إلى قطاع حديث به علاقات انتاج رأسمالية وحديثة ومتطورة وقطاع تقليدي يعيش على علاقات انتاج سابقة للحداثة به رعاة ومزارعون تقليديون.، وكما جاء فى احد اكثر المناقشات العميقة والتى دارت بين الاستاذ محمد عثمان مكي و د. هشام عمر النور لرؤية السودان الجديد كما طرحها كتاب د. جون قرنق رؤيته للسودان الجديد الذي قام بالتقديم له وتحريره د. الواثق كمير، فقد تابعت المحاورة تطور ربط الهوية القومية بنظرية المركز والهامش، التى استعملها سمير أمين وآخرون لشرح العلاقة بين المركز الرأسمالي والإطراف المتمثلة في الدول النامية، والتى تحولت فى رؤية قرنق إلى القضية المركزية ووضعت الاساس الذى سيلقى بظلالة على كافة التحركات الاقليمية والتى ادت فى النهاية الى اختيار بتر الجنوب كحل وبحث الدارفوريين، جنوب كردفان والنيل الازرق لحمل السلاح. (محاورة نظرية حول رؤية قرنق للسودان الجديد بين محمد عثمان مكي وهشام عمر النور http://www.sudaneseonline.com ).

    لايختلف كثيرون مع تحليلات رؤية السودان الجديد حول اسباب المشكلة فكل المداخل تؤدى بنا الى تحكم طبقات وفئات اجتماعية اقتصاديا واجتماعيا على كامل اهل السودان تحت ايديولوجية هيمنة مركزية الثقافة العربية الإسلامية التي تأخذ فى تجلياتها طابعاً اثنياً وعرقياً، الاختلاف ياتى عندما نبحث عن الحلول. فنظرية المركز والهامش مثل الاوانى المستطرقة لان داخل المركز هوامش وداخل الهوامش مراكز ( لقد قمنا فى احدى بعثات منظمة الصحة العالمية بزيارة الى شفخانة قرية على بعد حوالى الخمس كيلومترات من مدينة القطينة. الشفخانة مبنى من غرفتين حائلة وشاحبة وقديمة، داخلها ترابيزة لها ثلاثة ارجل من عهد الانجليز وكرسى مكسور ودولاب حسن المنظر خال الا من قليل دواء. ليس لدى المساعد الطبى ورق – لتحويل المرضى مثلا- اوقلم. الادهى والامر اننا دخلنا المنزل المجاور للشفخانة ووجدنا ثلاثة اطفال لم ينالوا سوى جرعة واحدة من التطعيمات فى خلال ذلك العام - كنا فى اكتوبر). ان هذا يتكرر فى كل السودان من شمالة الى وسطة الى قرى الجزيرة.

    لقد تبنت نظرية المركز والهامش والاضطهاد القومى كافة الحركات المسلحة التى ظهرت فى العقود الماضيه وسارت ابعد من ذلك الى تقديمها باعتبارها الحل لكافة السودانيين فى بناء السودان الجديد. ان الفكرة الاساسية تبدأ من الامة وكيفية بنائها على قواعد العدالة والمساواة وتحطيم الدولة الغاشمة لبناء الدولة المفترضة. رغم جاذبية الفكرة وقدرتها على حشد التعاطف من فئات خارج مناطقها واقتناع جماهير واسعة بامكانية حل قضاياها عن هذا الطريق، الا انها ظلت فى خانة التعاطف ولم تتحول لتاييد فاعل وايجابى من باقى القطر. وقد اشار د. هشام عمر النور الى ذلك صراحة "ومع ذلك فهذا لا يجعلنا نهمل أزمة هذه القيادة لانها مبنية على أساس ايدولوجيا المركز والهامش التي تغيب البرنامج الأساسي للحركة والقوى الاجتماعية التي تحاول الحركة قيادتها، برنامج إكمال اندراج السودان في مشروع الحداثة واللحاق بالحياة الانسانية المعاصرة وتذهب بها إلى برنامج أخر تعتقد فيه ان هنالك قوميات همشت قوميات أخرى وانه قد حان وقت رفع هذه المظالم، رغم ان هذا الظلم والتهميش جاء بالاساس نتيجة لعدم اكتمال مشروع الحداثة كسبب أساسي، وبناءً على ذلك تبنت الحركة وقيادتها برنامج استبدال المركز بالهامش أو العكس بدلاً من استبدال السودان القديم بالجديد، وتلخيصاً لما سبق اعتقد ان ايدولوجيا صراع الهويات تعبر بدقة عن السياق الذي انتج القوى القديمة في السودان". وحمل د. هشام عمر النور المركزية العربية الإسلامية سواء كانت أثنية أو ثقافية أو دينية" التي كرست لفكرة المركز والهوامش المختلفة، مع العلم بان الهوامش ليست بالضرورة أثنية لكنها اجتماعية أي انها في الأساس ذات طابع اجتماعي. ومعادلة المركز والهوامش انتجت هوامش متعددة مثلت الحركة الشعبية واحدة منها، لكن أهم ما ميز الحركة الشعبية قدرتها على توفير قيادة اجتماعية لكل أهل السودان لأول مرة في تاريخ السودان." (محاورة نظرية: مرجع سابق).

    لم تفلح هذة النظرية فى تحويل التعاطف الشعبى لقضايا الهوية لموقف سياسى وتاييد شعبى فى اى من تطبيقاتها. وقد قادت الى طريقين لاثالث لهما فى كافة التجارب العالمية: اما اختيار الحل السلمى بفيدرالية موسعة مثل كيبك الكندية، ايرلندا الشمالية، الاكراد فى العراق. او الحل الانفصالى مثل تيمور الشرقية، جنوب السودان. وهناك حالات مزمنة من الصراع منخفض الكثافة لازالت فى انتظار احدى الحلين مثل اقليم الباسك الاسبانية والصحراء الغربية والاكراد فى تركيا واضيفت اليها مناطق السودان الملتهبة. عندما جلست الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان فى منتجع نيفاشا، تواجة ممثلوا الراسمالية الطفيلية الاسلامية مع ممثلى نظرية المركز والهامش وصاغا اتفاقا تم فية فصل الهامش المفترض عن المركز المفترض. لم يكن لدى اى منهما اوهاما حول نوايا الاخر وكانت السنوات الست الباقية تحصيل حاصل. الانقاذ التى باعت كل الاراضى فى شمال السودان وتركتة مجردا من اى معالم تاريخية او جغرافية ( بحيث ان مثلى الذى غاب عن السودان عشرون عاما لم يعد يعرف من الخرطوم سوى القصر الجمهورى والمتحف القومى)، كانت على استعداد للتنازل والتراجع عن الجنوب مقابل التخلص من اعباء التهلكة. ورغم الغبار الكثيف وصيحات الحرب والرجالة التى يطلقها كهنة النظام الحاكم فان تداعيات المسألة فى دارفور جنوب كردفان، النيل الازرق وربما غيرها حسب دروس التاريخ سيؤدى الى احد الموقفين .

    اشكاليات رؤية السودان الجديد

    عندما طور الشهيد قرنق والحركة الشعبية رؤيتها كانت على خطى ثورة 1924 ، لكنها بعكس اللواء الابيض التى طرحت مشروع رؤية لوحدة الامة السودانية على المستوى القومى، تبنت الحركة الشعبية مشروعا لتعديل علاقة المركز بالاطراف وتقاسم السلطة والثروة والسلاح. قاد هذا برغم النوايا الطيبة الى نهاية منطقية حدثت مرارا وتكرارا فى التاريخ، الانفصال. برغم ما صكة ابناء النخبة وجماهير السودان التى ابدت وتبدى التعاطف العميق مع حركات الهامش من موقع انها جميعا تحت نفس السقف التاريخى من الضيم والظلم وتحكم الفئات الاجتماعية المسيطرة وهيمنة الثقافة الاحادية خاصة فى تعبيرها الاقصائى الكامل تحت رايات تيار الدولة الدينية، ومن ناحية ثانية من احساسها بالظلامات التاريخية من الاستلاب العرقى والاضطهاد الاثنى التى رزحت تحتها الهوامش ذات الاثنية الغير عربية، فان هذا كلة مجرد مشاعر عميقة ونبيلة ( ابنوسة اللاوو، ياحليلا غصن البان، جمر الحصي الوقاد، علا الكتف أركان، ميري الفراق بي طال، وسال سيل الدمع هطال: من قصيدة محجوب شريف: مرت الاشجار).

    ان القضية المركزية فى اشكال الهوية ليست الدولة المركزية فقط ولكن عقلية الجلابة التى استثمرت فيها كافة النخب الحاكمة ورسخت مفاهيمها. ان افراد الهوامش المتعددة داخل مركز مثلث حمدى لايحسون بهامشيتهم لانهم مستلبون فى الثقافة الكاسحة. القضية ان الحل ياتى من تغيير الدولة التى لابد ان تتبنى الاليات الملائمة التى تنشر ثقافة الاخوة الوطنية، المساواة، العدالة المجتمعية وغيرها من مرسخات هذة المفاهيم. الاليات تتفاوت من القوانين المنصفة ( مثلما فعلت الولايات المتحدة وجنوب افريقيا فى اصدار قوانين الحقوق المدنية للسود). نشر ثقافة تعايش العرقيات كابناء وطن واحد من خلال الاعلام والمجتمع المدنى ( ولنا مثال جيد فى الحملة المنظمة والطويلة الامد ضد الخفاض والتى ادت لانخفاضة الى 65% فى اقل من نصف قرن) والتنمية المتساوية الحقيقية والتى تبدا من مساواة كافة اقاليم السودان فى توفر الخدمات التعليمية، الصحية، المياة والكهرباء وغيرها من التدخلات.

    ان تناولنا هذة القضية وعرض اشكالياتها، برغم قعقعة السلاح وانفجارات البارود، هو بالضبط الذى يدعونا الى التأكيد للتوصل الى اعادة احياء مشروع رؤية وحدة الامة السودانية على المستوى القومى على خطى ثورة 1924. ان الحركات المسلحة جزء اصيل من هذة الرؤية ومن الصعب الايحاء باى طرائق لتعديل هذا المسار ولكن اذا لم تتوصل النخب السودانية الوطنية والجهوية الى الاتفاق على مشروع رؤية ، ياخذ من كافة الاطروحات فان الطريق يقود الى النهايات المنطقية. تثبت مشكلة دارفور، جنوب كردفان والنيل الازرق ان مكون الهوية وان كان هاما الا ان طبيعة التكوين الاثنى والذى يضم القبائل العربية والغير عربية يدعو الى اعادة الاعتبار الى ان الاهم التوصل لرؤية مشتركة لتعديل العقد الاجتماعى بين الجماعات الاثنية السودانية وكذلك مع المركز الى لامركزية الدولة وتقليص السيطرة والسلطات، اتجاهات التنمية المتوازنة والعادلة، ديمقراطية الثقافة واحياء التراث المحلى..الخ.

    مؤسسة الجلابة: من التمازج الى العنصرية

    نتناول الجلابة فى رصدنا لرؤية السودان الجديد ليس من واقع النقد المرسل الذى احاط بهذا المصطلح، او الدفاع عنهم وغسل احوالهم. وليس ايضا باعتبارها التاريخى كمؤسسة ذات تعريف ودور محددين، لكن نتناول الجلابة كوصف تدرج عبر التاريخ الى ان اصبح يعنى دولة المركز ذات التوجهات الاسلامية العروبية والتى عملت على فرض هذة الرؤية على كافة ساكنى الوطن وعمقت اشكاليات الهوية وارتبطت فى طرحها الحاد بتيار السودان الجديد. الغرض الرئيسى هو فك الاشتباك بين الكلمة كممثلة لكل الموبقات وبين تنقل ادوارها من اعتبارها احدى وسائل التمازج القومى فى السودان الى تحولها فى ظل الانقاذ الى حادى العنصرية والقبلية وانفراط الدولة. وقد اورد د. عبد الوهاب الافندي رايا جديرا بالاعتبار عند التعامل مع منشأ هذة المؤسسة " الجلابة هم في الغالب من الفقراء والمهمشين من أهل الشمال والوسط، الذين يضطرون إلى الهجرة إلى المناطق النائية طلباً للرزق. فأهل السلطة والجاه والمال لا يجدون حاجة إلى الهجرة إلى تلك المناطق النائية ومكابدة الغربة والحياة البدائية هناك. وثانياً لأن غالبية الجلابة لا يعودون من هجرتهم، بل يندمجون في المجتمعات التي هاجروا إليها وتنقطع صلتهم بمناطقهم الأصلية. إذن فالجلابة يخرجون من الهامش إلى الهامش، وعليه فمن الظلم ربطهم بالطبقات المتنفذة وتعميم اللفظ خطأً على من لا ينطبق عليهم". ولكن كما اوضحنا فىى الفصل الاول فى الجزء الاول فان النشأة وان كانت هكذا فقد استطاعت المؤسسة التى جاءت من مناطق التطور الاقتصادى الاجتماعى لشمال ووسط السودان الى رفد سكانها المهاجرين الى اطرافة بالقوة اللازمة لتتمتع بالقوة الثقافية ايضا. ( الجلابة المفترى عليهم – عبد الوهاب الافندي: جريدة الصحافة، الثلاثاء, 27 مايو 2008 ).

    يعانى المصطلح من تضارب كبير فى التعريف من ناحية الاشتقاق الذى يرى البعض انها من من الجلابيه او من الجلب أي الأحضار وقيل انهم من يحضرون البضائع ونحوها جاء فى قاموس اللهجة العامية فى السودان تاليف د. عون الشريف قاسم. يرى الاستاذ شوقى بدرى فى مقالة لة فى سودانيزاونلاين بعنوان الجلابة بتاريخ Nov 8, 2008, 20:51 ) نفس الراى " بعض الناس في الكتابات الاخيرة ذكر ان كلمة الجلابة اتت من لبس الجلابية وهذا خطأ. لانه بالرغم من ان معظم الجلابة في السودان يرتدون الجلابية الا ان الكلمة مشتقة من الفعل جلب يجلب فهو جالب. والمثل السوداني يقول (جلب الخيل علي الريف). وهذا يعني القيام بعمل اخرق لان اهل الريف والمقصود هنا بالريف هو مصر لا تدفع للخيل ولايهمهم امر الخيل كما في السودان قديما حيث يدفع الناس احسن الاسعار للخيل."

    اما المعنى الرمزى فهى لاتخرج عن انها كانت ترمز للتجار الذين يهاجرون من وسط السودان والجزيرة (التجار المنتمين لقبائل الجعليين والشايقية والدناقلة وفى قول أخر بأنهم ابناء الشمال النيلي) الى غرب السودان وجنوبه سابقا لممارسة التجارة الشريفة واكتسبوا من خلالها احترام الاهالى فى هذه المناطق وصاروا مواطنين دائمين فى اغلب الاحيان. وجاء في السودان حروب الموارد والهوية ‎للدكتور محمد سليمان عن ‏الجلابة: خليطاً من عناصر كثيرة‎ ‎ومتعددة عرقياً، شملت ‏حتى الأقليات الوافدة من أهل الشام و ‏المماليك‎ ‎واليونانيين والأتراك. وهم يمثلون ‏اليوم، بشكل رئيسى شبكة التداخل‎ ‎الاجتماعي بين أهم المجموعات ‏العربية السودانية، ‏بغض النظر عن أصولهم‎ ‎القبلية أو الجهوية، وهم يمثلون أيضاً الطبقة التجارية ‏الحضرية ‏التي‎ ‎انتشرت في جميع أرجاء السودان، وبعض الدول المجاورة له. ‏و(الجلابة) تمثل‎ ‎أكثر المجموعات الشمالية ‏ثراءً، إذ تمتع أفرادها بتأثير اقتصادي ‏وسياسي‎ ‎كبير خلال تاريخ السودان الحديث. وقد نشأت من خلال عمليات ‏التحول بالسودان منذ أواخر القرن الرابع‎ ‎ ‎‏التاريخية والاجتماعية و الاقتصادية ‎عشر (محمد سليمان محمد، صلاح بندر. السودان حروب الموارد والهوية London IFAA + Swiss Peace Foundation كيمبردج 2000 )

    الارتباك الذى حدث للمصطلح جاء نتيجة استعمالة انذاك من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان لوصف متنفذى السلطة فى الخرطوم. وقد دار نقاش مطول على المواقع الاسفيرية خاصة بعد ندوة بعنوان المحتوى الثقافى للسودان الجديد قدمها باقان اموم؛ المسؤول الاعلامى للحركة الشعبية لتحرير السودان وقتها؛ والسكرتير العام للتجمع الوطنى الديمقراطى فى القاهرة فى مارس 1995. " وهذه العملية تؤدى الى خلق الشقاق والصراعات بين الثقافات المضطهدة والثقافة المهيمنة ؛ والنتيجة هى الصراع الحتمى . ولكن لا بد من الاشارة هنا الى اننى عندما اقول بان هناك ثقافة مهيمنة ؛ لا اعنى العملية الطبيعية لصراع الثقافات فى اى ثقافة قومية ؛ لكن ما اريد التنبيه اليه ؛ هو اننا دائما ما نجد ان هناك ثقافتان ؛ ثقافة الجماهير ؛ وثقافة القئات الحاكمة . وفى السودان اقصد ثقافة الجلابة كفئة اجتماعية حاكمة . وهنا لا بد ان انبه ؛ ان كلمة " الجلابة " لا تعنى بالضرورة الشماليين؛ او العرب او المسلمين. وهذا التحديد ضرورى حتى لا يساء فهم ما ارمى اليه وما اعنيه . فالجلابة عندى هو مصطلح سياسى؛ لتعريف فئة اجتماعية معينة؛ ذات رسالة ودور تاريخى معين قامت به وظهرت فى فترة معينة ؛ ولا زالت تقوم به فى المجتمع السودانى . فالجلابة فى رايى؛ هم قوة اجتماعية ظهرت فى العملية التاريخبة الطويلة التى مر بها المجتمع السودانى؛ خاصة المجتمع النيلى شمال السودان. وقد وردت كلمة " جلابة " فى المدونات المصرية فى القرن الخامس عشر؛ وهى ترمز للتجار. وربما اخذت الكلمة من فعل " جلب يجلب الخ "؛ تعبيرا عن حركة نقل البضائع والاتجار من والى السودان . فالجلابة كمجموعة اجتماعية هى مجموعة خليط من الكثير من القوميات ؛ ففيهم الاتراك واللبنانيين والسوريين وبعض المماليك وغيرهم . وكان وصولهم الى السودان بغرض التجارة فى العاج وريش النعام والابنوس؛ والى حين اكتشاف امريكا وظهور محمد على باشا حيث ظهرت تجارة الرقيق . اسس هذا النشاط التجارى المتنامى مراكز تحارية واسواقا مثل الدويم؛ ام درمان؛ كوستى؛ الابيض وغيرها" .

    لخص السيد عبدالفتاح عرمان فى مقالة فى ىسودانيزاون لاينز اراء اطراف عدة. واوضح انة ربما الدكتور لام اكول اجاوين القيادى بالحركة الشعبية هو اول من صك المعنى عندما كان طالباً فى جامعة الخرطوم عندما قال" ان الجلابى هو الجلابى لو كان اخو مسلم أو شيوعي". من بعده استخدمها اخرين من قيادات الحركة الشعبية. الاستاذ دينق دينق نيال " كلمة الجلابى فى ادبيات الحركة الشعبية تعنى المؤسسة الحاكمة ولا نعنى بها اهل الشمال النيلى ذوى الاصول العربية. ويضيف: يجب علينا ان لا نحملها اكثر مما تحتمل وعلينا ان نتفهم ان للحرب ظروفها وهذه فترة اصبحت من الماضى.

    الاستاذ ضياء الدين بلال الصحفى فى الزميلة (الراى العام) اجاب: (الجلابة لفظ أخرج من سياقه الاجتماعي وأفرغ من مضمونه الوصفي ليوضع في سياق سياسي معبأ بمضمون عرقي موجه ضد مجموعة سكانية محددة،الاستخدام المتكرر للفظ الجلابة من قبل قادة الحركة عادةً ما يأتي في سياق الذم والانتقاد، واصلاً بين التاريخ بكل تجاوزاته والحاضر بكل ممارساته، وبذلك تدخل مجموعات سكانية وسياسية متعددة تحت مظلة هذه الصفة.. وهذه المجموعات قد يكون بعضها موالي لاطروحة الحركة الشعبية أو ضمن عضويتها وقد يكون البعض الاخر محايد تجاه الحركة، وقد تكون البقية مناهضة لاطروحات الحركة الشعبية..لفظ الجلابة في السياقات التي يأتي فيها قد يقلق الموالين في داخل المجموعات السكانية التي درج وصفها بالجلابة وقد يحرك المحايدين من مربع الحياد الى مربع العداء، وقد يعطى الاعداء- أصلاً- مبرر وحجج لتقوية مواقفهم وتصوير الحركة كمشروع انتقامي يضع الجميع في سلة واحدة..استخدام قادة الحركة للفظ الجلابة في الشمال ينشئ أجسام مضادة لكل أطروحاتها.

    الدكتور عبدالله جلاب استاذ الاعلام بجامعة اريزونا علق قائلاً: ( اعتقد بانها معوقة لعمل الحركة فى الشمال وذلك لانه لا يوجد شرح كافى لها من قبل قادة الحركة الشعبية و ماذا يقصدون بها تحديداً، وذلك لان الجلابة هم مجموعة من التجار الشماليين ظهروا فى القرن السادس عشر الميلادى على ايام دولة الفونج و الفور، ولهذه المجموعة اسهامها السياسى و الاجتماعى ولعبت دور مهم فى تصاهر اقوام واجناس من اجزاء مختلفة من السودان، من الشمال و الجنوب و الشرق و الغرب و الوسط ، وجميعنا من اباء و امهات اتوا من مختلف انحاء السودان وذلك تم بفضل الجلابة. وللجلابة دور كبير فى التعليم الاهلى و الدينى وبل حتى ثورة اللواء الابيض فى 1924م لعب فيها الجلابة دور كبير وكان اول من هتف يسقط الاستعمار من الجلابة، وهى مؤسسة لها سلبياتها و ايجابياتها وفى الفترة الاخيرة اصبحت كلمة "جلابى" تستخدم ضد اى شخص لديك موقف عدائى منه وهذا استخدام خاطىء لانه يجعل اى شمالى مقصود بهذا الكلام. وحتى عندما تحدث كارل ماركس عن عن الطبقات اكتشف ان هنالك اشياء ايجابية وسلبية فى كل الطبقات ولذلك علينا التركيز فى الاشياء الايجابية للجلابة وهذا من الممكن ان يساعد فى اثراء الحوار".

    ويوضح الاستاذ شوقى بدرى فى مقالة لة فى سودانيزاونلاين بعنوان الجلابة بتاريخ Nov 8, 2008, 20:51 ) نقلا عن العميد يوسف بدري في (قدر جيل) ان الجلابي هو النظام المالي او المصرفي في المجتمع، وقد يكون النافذة ومدخل للناس للعالم الخارجي. الجلابي عادة يسلف المزارعين رأس مال المطلوب. ويستعيد رأس ماله بعد الحصاد . وهو الذي قد يدفع مهر العروس ومصاريف الزواج . وبعد الزواج او المأتم واستكمال المشاركات العينية والنقدية تعاد للجلابي فلوسه وهو المستفيد لان الشاي والسكر والزيت والقماش واغلب متطلبات الفرح او الماتم تاتي من دكانه (ما يعرف بنظام الشيل) .

    الجلابى الهائم فى خدمة القومية

    نعالج هنا مؤسسة الجلابة كتطور لجماعة سودانية فى ظل الظروف الموضوعية لتطور الشمال والوسط السودانى الاقتصادى الاجتماعى منذ قرون عدة ولعبت دورا ابجابيا فى الاقتصاد الوطنى، التمازج القومى والتداخل المجتمعى، " ولا نغفل هنا أن نقول إن الجلابة عموماً كانوا رسل تنمية وحضارة إلى تلك المناطق النائية، نقلوا خبراتهم المتواضعة إليها وساهموا في البناء والتعمير وتقديم الخدمات". ( الجلابة المفترى عليهم – عبد الوهاب الافندي: جريدة الصحافة، الثلاثاء, 27 مايو 2008 ). مؤسسة الجلابة ايضا لعبت دورا سلبيا فى الاستعلاء وتجارة الرقيق وكان بعضهم رموزا للاستغلال وأداة قمع.

    الموجات الاولى من الاحتكاك حملت المهاجرين الاوائل من الميدوب، البرقد، النوبة والقبائل الرعوية الى دارفور، كردفان والاطراف الشمالية من الجنوب. ولانهم من نفس التراث الصوفى المنتشر على النيل والحاضر من غرب افريقيا، فهؤلاء ذابوا واصبحوا سكانا والمتمازجين الاول. الموجة الثانية من الجلابة رافقت خطوط الفتوحات التركية وتوحيد السودان وهم الذين انخرطوا فى التجارة، خاصة تجارة الرقيق. لكنهم كانوا الانفتاح الاكثر بين السودان بمختلف اقاليمة واستطاعوا وصل اهل السودان ببعضهم. حدثت التحولات فى العقائد فبديلا من صوفية الفنج الشعبية –المزاج السنارى كما اطلق عليها د. النور حمد فى مهارب المبدعين- التى كانت السبيل الافضل للسودان فى تطورة كمركزية للاستقطاب الوحيدة واذابة الولاءات القبلية والاقليمية، ارخى الترك بكلكل الفقة العثمانى واللغة العربية الفصحى وتلتها المهدية بالغاء المذاهب والصوفية على البلاد واصبح الجلابة مستودع الفقة واللغة وواصل الحكم الاستعمارى نفس التوجة. (د. النور حمد:مهارب المبدعين، مرجع سابق).

    ابان المهدية حدث تحول مهم فى مؤسسة الجلابة. فالدولة النيلية الممعنة فى القدم انتهت للدولة السنارية وعند سقوطها التحق الجلابة من أهل الشمال والوسط بحكم الاتراك وشاركوهم الحكم. مع وفاة الامام المهدى برزت ظاهرة نادرة فى التاريخ السودانى بوصول الخليفة التعايشى الى الحكم. قاد هذا الى صعود ممثلى القبائل الرعوية فى اجهزة السلطة لفترة وجيزة وتم احلال كافة قادة المهدى المنحدرين من الشمال والوسط، تركيز القوة العسكرية الضاربة تحت قيادة الامير يعقوب وحمدان ابو عنجة وتهجير قبائل الغرب الى ام درمان. المحصلة النهائية كانت استيعاب ممثلى دارفور وكردفان فى مؤسسة الجلابة.

    الفترة الاستعمارية كانت الفترة الذهبية فى نمو المؤسسة، فرغم مضايقات عدة من الحكم البريطانى فى منعهم من الدخول الى الجنوب، دارفور وكردفان الا انهم عادوا واصبحوا طليعة التجارة الداخلية التى توصل اوردة الاقتصاد السودانى الى شرايين الاقتصاد العالمى. " تعتبر مرحلة التوسع الاستعمارى البريطانى فى السودان من اهم مراحل تغلغل نمط الانتاج الراسمالى.... كما ربط الانتاج الزراعى البسيط والانتاج الرعوى بسوق التصدير عن طريق العدد المتزايد من التجار وصغار السماسرة وهى مجموعة تمثل نواة الطبقة الراسمالية الصغيرة" (د. فاطمة بابكر محمود، ترجمة سعاد عطا: الراسمالية السودانية...أطليعة للتنمية؟ معهد البديل الافريقى، لندن، المملكة المتحدة، 2006).

    الجلابى فى مؤسسة الحكم

    كجزء من انحصار التنمية والوعى فى وسط وشمال السودان، بدا ارتباط الجلابة الجدد فى موجات مابعد الاستعمار تكتسب سماتها التى ستكون المحدد الاساسى لرؤيتها الاقتصادية الاجتماعية. نواصل مع د. محمد سليمان محمد " ‎اتجهت إلى ‏التخندق في (مؤسسة الجلابة)، ليصير أفرادها ‏مجرد موردي‎ ‎بضائع (جلابة)، بدلاً ‏من أن يكونوا منتجين لها، وكان أسلافهم قد درجوا،‎ ‎منذ آلاف السنين، ‏على مزاولة ‏أشكال التجارة القريبة والبعيدة، وهكذا فضل‎ ‎الجلابة صنوف المعاملات التجارية، ‏بدلاً من ‏الاستثمار طويل الأمد في‎ ‎المؤسسات الإنتاجية التي كانت بالنسبة لهم نشاطاً ‏مجهولاً لا يدرون عنه‎ ‎سوى ‏القليل. وقد تطور الحال إلى أن أصبح مصطلح (مؤسسة ‏الجلابة) مفهوماً‎ ‎سياسياً لتعريف فئة اجتماعية لعبت ‏دوراً تاريخياً محدداً ولا زالت ‏تقوم‎ ‎به في المجتمع السوداني". ‏إن‎ ‎‏قطاع الجلابة قطاع منظم وسريع التأقلم، وذلك بحكم شبكة علاقاتهم التجارية‎ ‎‏وانتشارهم الجغرافي في كل ‏إنحاء السودان". وكما جلبوا البضائع الى الهوامش " فهم أيضاً ‏‏(يجلبون) ما يجنون من أموال‎ ‎وثروات إلى مناطقهم الأصلية في المركز، حيث ‏المزيد ‏من النفوذ‎ ‎والامتيازات. ‏وبالتالي فإن‎ ‎ولاء ‏غالبيتهم لمناطق تجارتهم تلك لا يتسم بالعمق، كما أنهم، باستثناء‎ ‎القلة، ضعيفو ‏الاندماج ‏بتلك المجتمعات، ويتسم سلوكهم، تبعاً لذلك،‎ ‎بالكثير من الانتهازية! ويلاحظ ‏أنهم في المناطق التي حلوا بها ‏ميزوا‎ ‎أنفسهم بحيث يشكلون طبقة وأحياء خاصة بهم، ‏فيما يشبه (الجيتوهات). كما‎ ‎تتحالف معهم السلطات في ‏تلك المناطق، حيث الإدارة ‏وافدة أيضاً، وفي‎ ‎الغالب، بحكم أن موظفيها معينون من قبل المركز ، لأسباب عديدة ‏‏ليس هنا‎ ‎مجال تفصيلها ، وتنشأ تبعاً لذلك علاقات مصالح بين هؤلاء الجلابة وتلك‎ ‎‏السلطات! إن معظم من يشكلون (مؤسسة‎ ‎الجلابة) هم من الشمال ، ونعني به المركز، ومعظم ‏همهم تعظيم أرباحهم،‎ ‎لكنهم يسارعون للرحيل في إحدى حالتين: إذا تضخمت ‏أرباحهم إلى الحدِّ الذي‎ ‎يمكنهم من اعادة استثمارها في ‏المركز ، أو إذا أحسوا بما ‏يهدد مصالحهم‎. ‎أما مساهمتهم في تطوير مناطق تجارتهم هذه فمنعدمة. وأما ‏علاقتهم ‏بالسلطات‎ ‎المركزية أو المحلية فعلاقة مصلحة يستخدمون بموجبها نفوذهم وأذرعهم‎ ‎‏الطويلة ‏لاستصدار القرارات التي تخدم تجارتهم ووجودهم فقط ، وبهذا يشكلون‎ ‎‏مؤسسة متماسكة ومنغلقة، لا يدلف ‏إليها أو يستطيع التأثير فيها من أهل‎ ‎مناطق ‏الهامش إلا القليلون!" (رزنامة كمال الجزولي - الأسبوع 21-27 أغسطس 2007‏، سودانيزاونلايز)

    يتفق معظم الذين حملوا السلاح ضد الدولة على تعريف النخب الحاكمة فى السودان طوال تاريخة منذ الاستقلال بدولة الجلابة، ويعتبرون تجربتها فشلت فى خلق مشروع وطنى شامل لكل الناس؛ لانها اعتمدت فى نظرتها لمستقبل السودان؛ على رسمه وفق صورتها؛ بدليل ان السودان الحالى ومنذ الاستقلال ظل قائما على ركيزتين ؛ هما حتى الان العروبة والاسلام . كما اوضح عبد العزيز آدم الحلو فى ردة على ماهو تعريفكم لدولة الجلابة هذه؟ "هي شريحة اجتماعية لها مصالح سياسية واقتصادية محددة وتتبنى العروبة والإسلام كآيدولوجية لبسط هيمنتها واستمراريتها في السلطة وتحقيق مصالحها كمجموعة ذات اجندة مشتركة وبالتالي هذه المجموعة هي التي همشت السودانيين وهذه المجموعة ليست بالضرورة كلها عرب أو مسلمون ولكنها تبنت الإسلام والعروبة كآيدولوجية لتحقيق مصالحها، لذلك ليس هناك سبب ليصف مواطن عادي نفسه بأنه «جلابي» لأنه ليس لديه مصلحة في الوضعية التاريخية القائمة، وبالعكس هو أيضاً يتم تهميشه رغم أنه عربي، ولو خرجنا الآن خمسين كيلومتراً فقط نحو (السبلوقة) سوف نرى أسوأ صور الفقر والفاقة والحاجة وهم عرب.. ولكن عروبتهم وإسلامهم لم يخدمانهم، وفي داخل الخرطوم هناك عرب وغير عرب بالملايين متضررون من هذا الوضع، لذلك يجب أن نفرق بين مصطلح الجلابة وبين العرق والدين. تلك النخب استخدمت جهاز الدولة لخدمة مجتمعها، واستخدمت جهاز الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق الرفاهية لشعوبها عن طريق القوانين العادلة وتحديد الشروط المسبقة التي تستطيع أن تخلق التنمية المتوازنة وتقدم الخدمات، وهكذا يستفيد المواطن، ولكن النخب في السودان استخدمت جهاز الدولة لخدمة مصالحها هي وإفقار الأغلبية بمعنى أنه تم تهميش 96% من السودانيين بواسطة جهاز الدولة عبر آليات المحسوبية وآليات التمركز والتهميش التي تحدثنا عنها سابقاً" ( الأستاذ ضياء الدين بلال: من هم الجلابة؟ و ما هي دولة الجلابة؟ سودانيزاونلايز)

    ويحصر الامام االصادق لمهدى هذة الظاهرة ويسقطها على ممارسات الانقاذ " فهناك هذه النظرة الاثنية وهناك الثقافة الاقصائية. الثقافة الاقصائية للأسف موجودة عند كل الذين استولوا على السلطة بالقوة أو استولوا على السلطة وفرضوا إرادتهم. وبهذه الصورة فعندما بدأ النظام الجديد في السودان بعد انقلاب 1989م الكلام عن الهوية كان الكلام عن أننا حسمنا هوية السودان على أنها هوية إسلامية عربية، ولكن حسم الهوية بهذه الطريقة خطأ، كل محاولة لتطبيق مفهوم أحادي ثقافي في مجتمع متعدد الثقافات متعدد الأديان يعمل قوة طاردة centrifugal force يعمل استقطابات واقصائية، وما حدث أن الحديث عن هوية أحادية موجود عندنا سواء بهذه الطرح أو طرح الذين يكفرون ويخونون الآخرين على أسس عنصرية أو أسس دينية، هؤلاء جميعا يتبعون سياسة وفهم اقصائي من نتائجه توسيع الهوة بين افريقيا جنوب الصحراء وافريقيا شمال الصحراء، ومن أهم الجوانب في توسيع الهوة المخططات الأجنبية لأن من مصلحة المخططات الأجنبية أن تجعل وعي السياسي الافريقي بدلا عن أن ينظر عبر الصحراء إلى العلاقات العربية الأفريقية، أن ينظر عبر المحيط إلى علاقات مع الوجود الاطلنطي، وهذا وضع كان ولا زال وسيظل قائما، ليس على أساس مؤامرة، بل يجب أن نفهم بوضوح تام كل الناس يسعون إلى مصالحهم، نحن ممكن أن نخسر كلما نترك لهم الفرصة أن يوظفوا هذه الأشياء لمصالحهم فالقضية قضيتنا وليست قضيتهم". الإمام الصادق المهدي: محاضرة العلاقات السودانية الأفريقية، مؤتمر العلاقات السودانية الأفريقية، الجمعية السودانية للعلوم السياسية، من 5-7 مايو 2012م- قاعة الصداقة، حريات )

    الاسر الثقافى لمؤسسة الجلابة

    سيطرة مؤسسة الجلابة على المقدرات الاقتصادية ومن ثم صعود ممثليها الى الحكم بعد الاستقلال كان النهاية المنطقية لتطور تاريخى طويل، عبر عنة السيد باقان اموم " . ومن هنا فان عملية النمو والتطور فى مجتمعنا ؛ وصلت بنا الى ان الجلابة كقوة اجتماعية؛ كانت هى القوة الوحيدة القادرة على قيادة المجتمع النيلى بوسط السودان . ومع فتوحات محمد على باشا ( فترة التركية )؛ توسعت حدود السودان؛ وكذلك عند قيام الثورة المهدية؛ التى سيطرت على اجزاء كبيرة ؛ والحكم الانجليزى المصرى؛ الذى خلق السودان بحدوده الجغرافية السياسية الحالية .( المحتوى الثقافى للسودان الجديد قدمها باقان اموم) . كان هذا المشهد مالوفا فى كثير من دول العالم، السيطرة الاقتصادية الاجتماعية تعنى سيطرة نمط القومية المسيطرة. حدث هذا مع النمط البريطانى فى المملكة المتحدة، الايرلندى فى الولايات المتحدة، الاسبانيارد فى دول امريكا اللاتينية، الهند، ماليزيا واخيرا جنوب افريقيا...الخ. كل هذة التجارب استطاعت عن طريق التدخل الواعى للدولة عن طريق السياسات والقوانين ان تعدل من هذة المعادلة لصالح التنوع وتعدد الانماط الوطنية. لكن مؤسسة الجلابة السودانية اضافت بجانب قيادة الاقتصاد والاجتماع ان تفرض فى خط صاعد من قرون تشكلها الاطار الثقافى والقيمى والاخلاقى. وفى العهود الاخيرة فقد مثلت دولة ولاية الفقية الايرانية ودولة الصحابة السودانية اكثر اشكالها تطرفا لانها اعتمدت النمط المبنى على تفسيرها الخاص للدين الاسلامى والقومية الفارسية والعربية. ( يمكن للمستزيد ان يراجع كتابى الاستاذ كمال الجزولى " انتلجنسيا نبات الظل و" الاخر بعض افادة مستعرب مسلم " من اصدارات دار مدارك. الكتابان يتناولان موضوع الجلابة وقضاياها بلغة سلسة وانيقة تميز بهما الاستاذ وبتفاصيل معمقة).

    المجال الثقافى هو الملعب الكبير الذى دار فية الصراع الدامى بين موروث الجلابة وكافة القوميات الاخرى من الجماعات، القبائل والجهات والاثنيات المختلفة. ركيزتان هامتان اعتمدت عليهما مؤسسة الجلابة فى المجال الثقافى هما العروبية والاسلام. عالج د. محمد جلال هاشم فى دراسة محكمة عن تطور مدارس العربية الاسلامية فى مقالة مطولة اسماها السودانوعروبية، أو تحالف الهاربين:المشروع الثقافي لعبد الله على إبراهيم في السودان والمنشور بعدد من المواقع الاسفيرية، اعتمد فيها على قراءة لمقالات ثلاث للدكتور عبد اللة على ابراهيم تؤسس لمدرسة السودانوعروبية التى تمثل الوريث الشرعى لكافة المدارس السابقة من المرسة العروبية، الآفروعروبية وتجلياتها الأدبية في مدرسة الغابة والصحراء. المقالة الاولى لعبدالله علي إبراهيم الإسلام الشعبي: دين الرِّجرِجة، كشاف مجلة الدراسات السودانية، عدد 1-2 مزدوج، المجلد التاسع، ديسمبر 1989م، ص 55]، والثانية كسار قلم مكميك: إعادة الإعتبار لهوية الجعليين والاخيرة الآفروعروبية أو تحالف الهاربين، المستقبل العربي، 119، 1. هذا المدخل ليس لدية اعتراض البتة ان ينتسب من يشاء فى السودان الى من يشاء، فهذا حق اصيل فى الهوية، سواء بنيت على اسس علمية واضحة او كانت مجرد اختلاق. سواء ان كان العرب فى السودان خلص او مستعربة او هجينا ليس لب الموضوع " ربما قبيلة الرشايدة التى وصلت البلاد قبل مايزيد على قرنين بنسائها ومن ثم حفاظها على كافة عناصرها الاثنية ". ان انتساب مجموعات الجعليين الكبرى الى العباس او النسب الشريف لايشكل فى ذاتة المشكلة، لكن اسقاطاتها على تعامل هذة المجموعة، خاصة اطرافها المتطرفة مع بقية المجموعات السكانية، اى ان استعمالها الايديولوجى فى تميز الجعليين واقصاء الاخرين هى المعضلة.

    عندما اقترب العرب الوافدة من السودان انذاك كانوا يحملون دينا سماويا جديد هو الاسلام. لم تكن الممالك النوبية انذاك تعيش فى فراغ دينى لكن كان لها تاريخ طويل من الوثنية واعتناق المسيحية ولها اتصال بالمراكز الدينية العالمية سواء الاسكندرية او روما. الذين توافدوا على السودان كانوا رعاة فى اغلبهم وليس بينهم من المتعمقين فى الدين الجديد او من الصحابة الذين انتشروا فى الحواضر القريبة من الجزيرة ( العراق، ايران، الشام وغيرها) او المراكز الحضرية فى مصر، شمال افريقيا والاندلس ( لازالت ملامح هذة المجموعة موجودة فى تسمية المجموعات الرعوية فى مناطق الشمال بالعرب واعتبارهم ادنى مرتبة من المستقرين " ففي حيز القرية يفرق الرباطابي بين كلمة "العرب"، التي تنصرف إلى البداوة والرعاة بشكل أخص وتشتمل حتى علي البجة الذين لا يتحدثون العربية كلغة أم (د. عبد اللة على ابراهيم كسار قلم مكميك: إعادة الإعتبار لهوية الجعليين) . شق الاسلام طريقة ببطء شديد فى بلاد السودان عن طريق التاثير والزواج المختلط من القبائل النوبية التى كانت تعتمد الخط الامومى للوراثة، وادى هذا الى ان ارتبط الدين الجديد بموروثات محلية لتعطى ما اسماة د. عبد اللة على ابراهيم الإسلام الشعبي او دين الرِّجرِجة عليه "فإن الإسلام الشعبي صحيح معافى من ناحية عقدية وغير مشوب بالشعوذة والخرافات، إذ إن ما يسمى "شعوذة وخرافات" هو فولكلور الناس. وما الإسلام الأورثوذوكسي إلاّ نمط شعبي لمجتمع ما في زمن ما، ولكن تم تجريده من تاريخيته حتى يصبح معياراً للدين؛ كما إنه يستصحب معه فولكلور أهله بكل ما يشتمل من أساطير وخرافات (الجن، السحر، العين) إلخ". (د. محمد جلال هاشم : السودانوعروبية، أو تحالف الهاربين:المشروع الثقافي لعبد الله على إبراهيم في السودان).

    وفى ظنى، وهذا ضرب من الاستقراء المنطقى وان لم تمر على دراسة محكمة حول الالية التى دفعت بهذا الامر، ان وجود عرب رعاة فى اغلبهم وليس بينهم من المتعمقين فى الدين الجديد فى محيط بة حضارة ممتدة فى التاريخ وديانة سماوية ولغة مكتوبة يجيدها عدد لاباس بة من السكان، هى نفسها لغة الدين المسيحى، جعل من واقع الحال ان يربط العرب القادمين الى السودان الاسلام بالعربية (بعكس ماحدث فى فارس، باكستان، الهند ودول اسيا الوسطى الوثنية). لقد تداخلت العربية كلغة قوم وافدين مع اللغات الموجودة، فتاثرت واثرت عبر قرون و نتيجة لذلك احتلت العربية بعض مناطق النوبية، في حين، ظلت مناطق أخرى محتفظة بالنوبية وهكذا باقى السودان. ان هذا التاثر واضح فى بنية اللغة العامية فى السودان التى يمكن ارجاع نسبة مقدرة منها الى اللغات السودانية، خاصة النوبية والبجاوية وغيرها. (فؤادعكود: من ثقافة وتاريخ النوبة، العالمية للطبع والنشر، 2007 )

    بعد أن استوطن العرب في بلاد النوبة شرعوا في التزاوج مع السكان المحليين بمنطقة النوبة ، وصاهروا الأسرة الحاكمة بدنقلا ، ذلك أن "مكانة العرب المتميزة ، وثقافتهم الأكثر حداثة ، وهيمنتهم الاقتصادية ، منحتهم موقعاً ممتازاً لا ينافسون عليه. الأمر الذي جعلهم طبقة مرغوبة للتزاوج مع الأسر السودانية القائدة. فمن ناحية كان العرب قد اكتسبوا مكانة سامية بعد ظهور الإسلام في جزيرة العرب التي تحولت إلى مركز إشعاع ثقافي وحضاري بفضل الإسلام، ومن ناحية أخرى فقد واكب ظهور الإسلام نهضة ثقافية وعمرانية واقتصادية انعكست على مكانة العرب باعتبارهم رواد الإسلام الأوائل على الرغم من عمومية رسالته، ولأن العرب لم يصحبوا معهم نساءهم في هجرتهم إلى بلاد النوبة ، ولأن الإسلام يمنع زواج المسلمة بغير المسلم ، ويبيح زواج المسلم بغير المسلمة فقد كان التزاوج في اتجاه واحد. وعن طريق نظام الإرث الأمومي (Matrilineal descent) الذي كان سائداً عند النوبة ، انتقل الحكم إلى العرب. ففي عام 1316م استولى عبد الله برشمبو على عرش النوبة كأول ملك نوبي مسلم خلفاً لخاله الملك داؤود ، ثم تغير النظام كله لتبدأ مرحلة سيادة النظام الأبوي فتعززت سلطة العرب. (د/ بهاء الدين مكاوي: الهوية السودانية من الثنائية المتوهمة إلى التعددية: دراسة للتطور التاريخي للهوية السودانية ومظاهر التعددية في السودان، مركز دراسات المجتمع ، 2009 ، [email protected] ).

    عند اجراء اول تعداد عام 1956 كان حوالى 53% من السكان لسانهم عربيا، لكن اكثر من 80% يستعملون العربية كلغة مشتركة للتخاطب. عدا ذلك فان السودان يتميز بتواجد اكثر من مائة لهجة (تقلصت الان الى اقل من ذلك بعد انفصال الجنوب) فى انحائة. وفي الشمال فقد تواجدت فية عدة لهجات كبرى من النوبية، البجا، الفور، الزغاوة، المساليت الفلاتة، الكواليب ، الهوسا وغيرها. هذة الخريطة الواضحة والجلية كانت قمينا ان ترسى سياسات تدفع بهذة اللغات الى التطور ومن ثم الى تطور الوطن. لم ير ممثلى مؤسسة الجلابة الا نصف الكوب العربى وبنوا عليها السياسة اللغوية فى السودان، وقد تناول الامين ابو منقة ويوسف الخليفة بابكر مسيرة اللغة فى السودان منذ 1998 وحتى 2005 وحللا السياسات المختلفة التى تدور كلها حول فرض اللغة العربية والسماح بتواجد اللهجات الاخرى قيد التداول. لكن هذا لاينعكس فى الاعلام والصحف والانشطة الثقافية..الخ ، كما لم يترجم الى اتاحة الفرصة لابناء هذة المجموعات اللغوية لكى تتعلم اصول لغتها كجزء من المنهج المدرسى المتضخم بما لايفيد او ينفع. ثنائية التهميش الاقتصادى ونهب الموارد والخنق الثقافى الذى برعت فية مؤسسة الجلابة على طوال تاريخها، تحولت على ايدى اخر اجيالهم الى التهميش الاقتصادى، الخنق الثقافى والهندسة الديمغرافية التى فتحت ابواب الجحيم من انفصال الجنوب، حروب دارفور، كردفان والنيل الازرق، ململة الشرق والشمال. (الامين ابو منقة ويوسف الخليفة بابكر: اوضاع اللغة فى السودان، سلسة الدراسات اللغوية، معهد الدراسات الافريقية و الاسيوية، جامعة الخرطوم، 2006 ).

    عندما تؤطر مؤسسة الجلابة نفسها كممثلة للوطن تميز نفسها بما تسمية التقاليد السودانية، ونعنى بها طقوس الماكل والمشرب، الولادة والزواج والموت. ابنى ملاحظاتى هنا على خبرة العيش فى دول الخليج، مصر، ليبيا واليمن لفترات مختلفة فى حياتى. ما يهمنا هنا انها ترجع هذة التقاليد وتعتبرها جزءا من التقاليد العربية الاسلامية، فما صحة ذلك؟. اذا تناولنا المطبخ السودانى فهو قائم على الجزء النوبى ( الكسرة، القراصة، الملاحات المختلفة، المديدة..الخ)، الجزء الفوراوى ( العصيدة، اللبن، واللحوم) والبجاوى (السلات مثالا)..الخ من المجموعات الاثنية المختلفة. وهناك استلافات من المطبخ المصرى، السورى والتركى. ليس فى المطبخ السودانى اى اثر لما يأكل عرب الجزيرة او من شرابهم ( لولا تمسك النوبة بالقراصة والتركين والتى دخلت المطبخ السودانى لاسباب اقتصادية لكانت اختفت) . ترتبط كل الطقوس المرتبطة بالولادة (السبوع، الاربعين، زيارة البحر،اكل الحلبة، التسمية احيانا)، الزواج (غير العقد الاسلامى، فكل التفاصيل الاخرى من قطع الرحط، الجرتق، الصبحية، السيرة، زيارة البحر ألخ) والموت ونعنى الطقوس التى تصاحب الوفاة غير الطقوس الاسلامية. كل هذة التقاليد هى من التراث النوبى او الفوراوى او البجاوى ...الخ. المشكلة هنا ان هذة الطقوس جردت من اصولها التاريخية واصبحت سمة للمؤسسة وكل ما لم يستوعب يعتبر دخيلا.

    على مدى القرون الست الاخيرة بنت مؤسسة الجلابة ابنيتها الاقتصادية ببطء وروية وترافق معها بنائها النمط القائم على ثقافتها " المستلفة اساسا من التراث النوبى" وفق النموذج الاسترشادى العروبى الاسلامى. بنت المؤسسة شواهق ابنيتها السياسية، الادارية، التعليمية، التنموية والثقافية على نسق "جماعة" عبد الله على ابراهيم "العربية المسلمة". عندما انشأت المؤسسة احزابها السياسية فقد تبنت جميعها، عدا اختلافات جزئية، النمطية السارية من ممثلى العروبة " حزب البعث العربى الاشتراكى" وممثلى العروبواسلامية المتطرفة الاخوان المسلمون باسمائهم المتنوعة، وممثلى العروبواسلامية حزب الامة والاتحادى الى حزبها الشيوعى. الحزب الشيوعى هو الذى تفرد بموقف مختلف على الاقل نظريا وقليلا من العمل. " الا ان غلبة شريحة الانتلجنسيا/ الافندية فى صفوفهم ايضا وبالاخص بين كوادرهم القيادية (الاستاذ كمال الجزولى: انتلجنسيا نبات الظل، اصدارات دار مدارك، 2008 ). هذا البناء المستمر هوالذى افرز لنا الاطار الثقافى والقيمى والاخلاقى لمجمل السودان، اللغة العربية لسانا، الاخلاق السودانية، الثقافة، الفن السودانى وهكذا اصبح انعكاسها هو السودان. " ربما أصاب الأستاذ الخاتم عدلان (وآخرون) في استقالته عن الحزب الشيوعي في قوله إن الحزب لم يستطع استيعاب القضايا المعقدة للتركيبة السودانية مما ضرب عليه عزلة أصبح بها "إزاء الجنوبيين حزب للشماليين، وإزاء الريف حزب للمدينة، وإزاء المرأة حزب للرجال". وإصابة الخاتم في ما ذهب إليه سبقه الأستاذ عبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب 1949-1971 إلى بعض هذا القول منذ أكثر من أربعين عاماً. فقد أخذ على حزبه اقتصاره على مسائل الشمال وبنادره حتى صار الجنوبيون يعدونه حزباً للشمال ،كما يراه أهل الريف حزباً للمدن والأقسام "المتقدمة من الجماهير". (عبد اللة على ابراهيم: اصيل الماركسية، النهضة والمقاومة في ممارسة الحزب الشيوعي السوداني http://www.sudaneseeconomist.com/start_4.htm )

    تناول البروفسير تورى نوردنستام استاذ كرسى الاخلاق بجامعة الخرطوم فى الستينات دراسة بعنوان الاخلاق السودانية، ركزت على دراسة الاخلاق السودانية من خلال رؤية ثلاثة من الطلاب المنتمين لمؤسسة الجلابة. اتناول هنا ليس الدراسة نفسها ، فهى دراسة وصفية قليلة العينة من شمال السودان ولكنها رائدة فى مجالها، لكن انها تنبهت ان القصد من الاخلاق السودانية تعنى بالضبط اخلاق الجلابة. عقدت ورشة عمل حول الكتاب وشارك فيها عدد من العلماء الاجلاء فى المجال وهذا هو المهم. فاغلب ان لم يكن كل المشاركين ينتمون لمؤسسة الجلابة وان اختلف بعضهم فى موقفهم الفكرى نحو مفاهيمها ونموذجها الاسترشادى. عندما تصدى العلماء لافكار نورنستام كانوا غالبا ينطلقون من ان الاخلاق المذكورة (اخلاق الجلابة) هى المقياس المعيارى وان اى تفسير اخر يخالف هذا مجرد فهم خاطىء. ربما من العجلة ان نصل لاى استنتاجات خاصة فى هذا المجال الذى يحتاج لدراسات محكمة، ولكن قطعا فان اخلاق الجلابة وتفسيراتها للشرف والشجاعة والكرم تحوم حولة شكوك عديدة خاصة اذا الحقناها بتيار التمكين، فقة الضرورة والاستبداد.

    كما حدث فى اللسان والاخلاق فقد حدد الجلابة الغناء السودانى بكافة انواعة فى اطراف السودان المختلفة، باغنية الوسط واصبحت نمطا معياريا. " عرف الغناء العربي في وسط السودان بعد هجرة القبائل العربية، وكانت بدايته بالاغاني الدينية الصوفية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وشيوخ الطرق الصوفية، الذين ثبتوا الالحان والنغمات الخماسية التي سار على منوالها الغناء الدنيوي مارا بعدة محطات فنية بداية بالارتجاليات الحرة ومنها الى الغناء الموزون والمعروف بمصطلح الطنبور الذي بدأ وتطور وانتقل بكامل قالبه الى غناء الرق المعروف بمصطلح (حقيبة الفن) الذي استمر على منواله حتى ظهور الاستخدام الآلي المصاحب لكلمات الاغنية والتي اصبحت قوالبها مشابهة لبعض القوالب الغنائية العربية حتى الوقت الحاضر.... " (. د. عباس سليمان حامد السباعي: الموسيقى والغناء في وسط السودان بين التقييم والتقويم، الراكوبة). وصفت الاغانى الغير عربية باغانى الرطانة حينا او بارجاعها الى الاثنية حينا اخرى، حتى الشايقية لم يسلموا من تواجدهم خارج التسمية فوصفت اغنيتهم باغانى الشايقية. اغنيات القبائل العربية الاخرى خارج الوسط قبلت ولكنها لم تعتمد فى النمط السائد وتحددت لها مساحة ما كان يعرف بأغاني ربوع السودان نسبة للبرنامج الشهير في الإذاعة السودانية الذي كان يبث تلك الأغاني. لقد اجبر النمط الوسطى كافة فنانى اصقاع السودان للخضوع للونيتها الواحدة الفقيرة " إلا أن الملاحظة التي يمكن رصدها هنا هي: تلك المتعلقة بالمفارقة الواضحة بين شكل تلك الأغنية الحديثة المتبلورة في المراكز الإعلامية والثقافية وبين شكل الغناء الشعبي في منابعه ومناطقه الأصلية في السودان، إذ يتميز هذا الأخير دون الأول بشكل الأداء الجماعي، وهو أمر ظلت بعيدة عنه إلى حد كبير الأغنية الحديثة في السودان. هذا إضافة إلى اعتماد الأغنية الحديثة على لونيه واحدة، هي تلك التي أنتجتها بيئة المدينة وسجلت سيادتها على الذوق السوداني في الكثير من مناطق الوطن رغم التنوع الثقافي الكبير الذي تذخر به الساحة السودانية. والذي أستتبعه بالضرورة تنوع في الفلكلور الموسيقي والغنائي عند الجماعات والقبائل المختلفة ثقافياً، درجياً أو نوعياً، مثل: الغناء الجماعي عند النوبة، المحس، البرتا، قبائل النيل الأزرق، رقصات البقارة وطبولهم، الاحتفالات الطقوسية بجنوب السودان، النقارة، والجراري .... الخ (عثمان تراث: عقد الجلاد و السمندل: مكتسبات جديدة للأغنية والموسيقى في السودان sudaneseonline.com ). لقد ادعت المؤسسة انها وحدت الوجدان السودانى باغنية الوسط، ولكن من يريد توحيد الوجدان على نغمة واحدة. ان الوجدان السودانى يغتنى بالانغام الغنية التى توجد فى انحاء القطر ويطرب لها السودانيون عندما يجدون فرصة لسماعها نادرا.

    مؤسسة الجلابة: من الانصهار الى التعدد الى العنصرية

    لم يمر هذا الفرض والجبر اللغوى، الاخلاقى والثقافى مرور الكرام، فقد صمدت الثقافات المتعددة وان خسرت جولات. ودار الصراع على اشدة فى اوساط النخبة فى محاولات الوصول الى معادلات معقولة ومقبولة. وشهد اعوام الستينات وحتى نهاية الثمانينات قمة هذة المحاورات وبروز افضل مفكرى نظريتى الانصهار والتعدد والتنوع. عندما اطلت الانقاذ فى نهاية التسعينات كانت داخلها تياران كما اسلفنا سابقا، كلاهما يتعكز على العربية والاسلام. التيار الاسلامى المتطلع الى قيادة الجسم الاسلامى العالمى واعادة الحياة للامبراطورية وساد هذا التيار فى العشرية الاولى. ورغم عناية هذا التيار بالعربية الا انة حاول التوازن فى خطابة ولكن التوجة العام كان فى نظرية الانصهار. هذا العقد شهد رفع بعض العناصر الغير عربية الى قمة الهرم التنظيمى مثل الشفيع احمد محمد والاجهزة الامنية . الخ. ارتبط نمو هذا التيار بالانتصارات التى كانت تحققها فى حرب الجنوب. مع التراجعات فى المواجهة مع الحركة الشعبية وظهور قوى التجمع الديمقراطى وازاحة د. الترابى ارتفع التيار العروبى الاسلامى متوجها نحو الاتفاق الثنائى مع الحركة الشعبية تمهيدا لفصل الجنوب وتمكين العنصر العربى. " تصدى لمعالجة هذه الاشكالية عبد الغفار محمد أحمد، ولكن على صعيد الصفوة والطبقة المثقفة من حيث تحامل رصيفاتها في باقي الدول العربية عليها. فهو يقول: من الواضح أن هناك هامشية تجعل للسودان وما يشبهه من الأقطار العربية وضعية خاصة. ولكن المؤسف حقا أن الذين يتصدون لإدارة الحوار حول مستقبل الوطن العربي ينكفئون على ذواتهم ويبعدون هذه المجموعات الهامشية. ذلك لأن وجودها يعقد بعض المواضيع التي يمكن أن تناقش في سلاسة لو أنهم كانوا غائبين". إذن، فإن السوداني متحاملٌ عليه ـ عربياً ـ على المستوى الشعبي والمستوى الرسمي. الأمر الذي يمكن أن ينجم عنه اليأس من العرب، وبالتالي التبرؤ منهم، ومن ثم الاعتصام بعرى أفريقيته. وفي هذا خطورة على مستقبل تطور مفهوم الوطن العربي بحدوده السياسية اليوم، كما يقول عبد الغفار محمد أحمد. ولذلك يطرح مشروعه الاستيعابي لتوسيع مفهوم العروبة حتى يشتمل على الهامشيين. (د. محمد جلال هاشم : السودانوعروبية، أو تحالف الهاربين:المشروع الثقافي لعبد الله على إبراهيم في السودان).

    ما ان بدأ الوصول لاتفاق الحركة الشعبية قريبا، اندلعت حرب دارفور على نفس الارضية التى كان عليها الحرب مع الجنوب، بل وكانت اول المحاولات فى بداية التسعينات تحالفا مع الحركة الشعبية (محاولة داؤود يحيى بولاد لفتح جبهة فى دارفور). وقد تراجعت دعوات الانصهار والعنصرية قليلا فى طوال سنوات الحكومة المشتركة (2006-2011 )، لكنها كانت سياسة ثابتة وتطورت لتوجية الجنوب للانفصال. قاد هذا الموقف الثابت من العنصرية العروبية الى تفجر الوضع فى جنوب كردفان والنيل الازرق فيما بعد انفصال الجنوب مباشرة. لقد تحول الانقاذ فى تقزمة العروبى الايديولوجى الى اعادة مؤسسة الجلابة من تحالف فئات لها مصالح مع القوى الحاكمة وتتكون من الزعامات القبلية والإدارة الأهلية وأصحاب المشاريع وملاك الثروة الحيوانية، بينما الأغلبية في المناطق المهمشة تعيش في فقر مدقع والتي تتكون من فقراء المزارعين والرعاة . كما عبر الاستاذ السر عثمان بابو: (عبدالرحيم خضر (الشايقي): الجلابة - المهمشين غموض دلالات الهامش والمركز معاول هدم، الراكوبة)، الى الادعاء بتمثيلهم قبائل الجعليين الكبرى.

    وقد اجاد بروفيسور/ محمد زين العابدين عثمان وصف مآل الجلابة فى ظل الانقاذ " أن الأنقاذ بعد أن تخلت عن مرتكزها الفكرى الذى ذهب مع الشيخ حسن الترابى وما كانت تدعيه حول تبنيها للشريعة الإسلامية بعد المفاصلة وذهاب مفكرها وقائدها الى سبيل لآخر تحوّلت الإنقاذ الى دولة جهوية عنصرية يسيطر عليها النخبة الحاكمة من أبناء الشمال والمستفيدين منهم من أبناء الشمال وصار التمكين على أساس جهوى وقبلى بحت بدلاً عن تنظيمى وتوزع السلطة والمال والأستثمارات والأعفاءات بين أبناء أربعة من قبايل شمال السودان . وترتيب التمكين كالآتى أولاً ابناء هذه القبائل الأربعة المنتمين تنظيمياً ثم ابناء هذه القبائل الغير منتمين تنظيمياً ثم أخيراً المنتمين تنظيمياً من القبائل الأخرى أذا فضل شئ أو لزوم التغطية اشراكهم صورياً حتى ولو كانوا فى أعلى المناصب مثل أبناء دارفور الذين حملوا السلاح او لشق صفوفهم. وصاروا يديرون البلاد يصورة صهيونية معتمدة على العنصرية والماسونية والموسادية، وقد تعلموا من الصهيانة أن المال والقوة يمكن أن يسيطروا بها على بقية شعوب السودان. نحن نعلم أن كثيراً من يتعمقوا فيما كتبت. ونحن أهل الوسط لآخر من يكونوا عنصريين لأننا احتضنا الجميع من مختلف قبائل وجهويات السودان وتصاهرنا معهم ولا يمكن ان نشتم لآباء ابنائنا وأحفادنا ولكن كان لا بد أن نصرخ صرخة الظلم الذى وجدناه من النخبة الحاكمة من أبناء الشمال. والأولى للمحتجين بدلاً من اتهامنا بالعنصرية أن ينصحوا أبناءهم المتعلمين الحاكمين الذين ألّبوا عليهم كل قبائل السودان الأخرى وكل جهويات السودان الأخرى. والأنقاذ قد عمقت القبلية والجهوية والآن أى فورة لأى أجراء أو معاينة لوظيفة يجب أن تكتب اسم قبيلتك ومعها الموطن الأصلى للآباء والأجداد. وأعلم أن هنالك دفعة كاملة أستوعبت فى السلاح الطبى لم يكن فيها واحداً من غير هذه القبائل الأربعة. (بروفيسور/ محمد زين العابدين عثمان – جامعة الزعيم الأزهرى: الأخطاء القاتلة للأنقاذ.. ألست انت المستشار يا غازي صلاح الدين..!!. نرجو أن تفهم رئيسك، مزقع الراكوبة).

    مآلات مؤسسة الجلابة

    اثنيا مثل العرب هذة النسبة 53% من السكان عام 1956 ويمكن ان نفترض عند ثبات النسبة انها يمكن ان تصل الى 60% بعد انفصال الجنوب. تعرضت هذة المجموعة للهجرات فى خلال الخمس عقود الاخيرة وحدثت فيها تحورات ديمغرافية اذ اصبحوا اقل انجابا من القبائل الغيرعربية، اكثر هجرة واكثر انتماءا للمناطق الحضرية ومن ثم خروجها من دائرة الانتاج والاقتصاد الحقيقى (نقصد بها هنا الزراعة والرعى تحديدا) . هذا هو الواقع الذى يظهر جليا فى حواضر الجلابة فقد تبدل المظهر من غلبة الجلابة الى غلبة واضحة لغير العرب. هذا الواقع يضغط على الانقاذ بقوة اذ تفقد سندها الاساسى، كما يضغط على الحركة الجماهيرية التائقة للتغيير. ان الاعلام يلعب على هذة الحقيقة ويرفع فزاعة قوى الهامش التى ستزيح اولاد العرب من حواضرها. وقد اشار ياسر عرمان الامين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال – مسؤول العلاقات الخارجية في الجبهة الثورية فى حوار مع مصطفى سرى لهذة الشكوك والتخوفات " اذن هذا التحالف في الجبهة الثورية ليس اثنياً ، حيث ان هذه المجموعات سودانية اصيلة لديها قضايا ، نعم هنالك تخوفات متبادلة ، حيث ان اهل الهامش يتخوفون من ان المجموعات التي توجد في وسط السودان واحزابها تتعامل معهم بان اهل الهامش يهزون الشجرة والوسط يختطفون الثمار ، وهنالك ايضاً مخاوف من المركز بان هذا التحالف ربما يبدل ضحايا بضحايا وانه ربما يكون لديه توجهات اثنية ضد بعض المجموعات ، هذه التخوفات جزء من المشاكل التاريخية التي يطرحها تطور الدولة السودانية في عدم وجود مشروع وطني ، وان عملية البناء الوطني غير مكتملة، وتركت مسافات من الشقة وعدم الثقة والتفاهم بين مختلف القوى، والمطلوب الان هو ان تتحالف كل القوى السياسية من قوى العمل السلمي الديموقراطي والعمل المسلح ضد شبيحة المؤتمر الوطني وليس موجهاً ضد الشعب السوداني، وان تقبل القوى الاخرى حل حقيقي في قضية كيف يحكم السودان، وليس فقط بان يذهب البعض الى سدة الحكم ويجاوب فقط على من يحكم السودان، والواجب الرئيسي والمهمة الان امام هذه الحالة السياسية الراهنة وعلى جيلنا هو ان نصل الى مشروع وطني بمزيد من التحالفات بين كل هذه القوى وازالة هذه المخاوف والشكوك المتبادلة للوصول الى نظام ديموقراطي وسلام عادل قائم على اساس المواطنة والاعتراف بحق الاخرين في ان يكونوا اخرين ".ان العنصرية والتعصب العرقى العروبى يقود حتما الى التعصب العرقى المضاد وهذة معركة اذا فتحت ابوابها فهى فتح لصندوق بنادورا وهذا واضح –حتى ان لم تقصد الحركات المسلحة ذلك- فى غلبة واصطفاف قبائل دارفور غير العربية فى الحركات، والنوبة وقبائل النيل الازرق فى الحركة الشعبية .

    يطرح د. محمد جلال هاشم فى مقال السودانوعروبية، خريطة ايديولوجية جديدة لتصحيح مسار مؤسسة الجلابة " تقوم الاستقطابات الأيديولوجية في السودان على الأسلمة والاستعراب من جانب، ثم الأفرقة من الجانب الآخر، تتوسطهما دعاوى التوازن القومي والثقافي. تعتمد أيديولوجيا الأسلمة والاستعراب على الاستيعاب، والذي يقوم بدوره على ميكانيزمات إعادة إنتاج الهامش والأطراف في المركز. ... من الجانب الآخر تعتمد أيديولوجيا الأفرقة على الجهوية والنزوع نحو الانفصالية. وهي في ذلك تصدر من إحساس متنامٍ بأنه لا حظَّ ولا حق لها في هذه البلاد. وبما أن تيارات الجهوية الانفصالية قد ظهرت بوادرها أول أمرها من ستينات القرن العشرين في الجنوب، وجبال النوبة، وغرباً بدارفور، ثم شرقاً بين البجا (الآن بدأت الدائرة تكتمل باشتداد وتائر الحراك الإثني بين النوبيين في الشمال خاصةً مع ما تبادر من بيع لأراضيهم لمصر عام 2004)، لذلك لا نحتاج إلى ذكر أن هذه الأقوام ذات حق أصيل في البلاد، بل هو في الواقع حق سابق لمجيء العرب المسلمين. لهذا يمكن أن ننظر إلى النزوع نحو الانفصال على أنه شكل من أشكال اليأس من جدوى النضال نحو وضع قومي متوازن. ... أما الطرف الثالث الذي يمثل وسط الاستقطاب الأيديولوجي فهو الدعوة إلى قيام دولة مواطنة ومؤسسات وفق ديمقراطية تعددية تستند أساسا على واقع التعدد الثقافي، على أن يبدأ هذا المشروع بالخطوات التنفيذية لإيقاف سياسة الأحادية الثقافية التي تمارسها مؤسسة الدولة في السودان منذ الاستقلال مرورا بجميع الأنظمة والحكومات. إن هذا التيار الأيديولوجي يستند في تأسيساته على أن مؤسسة الدولة مسئولة عن تحريك ماكينة القهر والاضطهاد الثقافي جراء عدم اعترافها بمسئولياتها تجاه الثقافات غير العربية في السودان. إن هذا الأمر يقتضي مراجعة التعليم لغةً ومضموناً، كذلك النشاط الثقافي والفكري، فضلاً عن الإعلام، وما يتبع كل ذلك من سياسات اقتصادية وقومية …إلخ. (د. محمد جلال هاشم : السودانوعروبية، أو تحالف الهاربين:المشروع الثقافي لعبد الله على إبراهيم في السودان). وحرى بنا ان نؤكد ان هذا كلة لابد ان يرتكز على تعديل المنهج التنموى الاقتصادى الاجتماعى لكامل الوطن.

    الفصل الثانى عشر: احزاب خارج سياق ما بعد الاستقلال

    سوف نتناول هنا رؤى الاحزاب والحركات والتنظيمات التى نشأت واستمرت او ماتت او ذابت فى تحالفات وخاصة ماعرف بتنظيمات القوى الحديثة. وقد اورد الاستاذ عادل عبد العاطى – احد ابرز مؤسسى الحزب الليبرالي السوداني- قولا نسبة للاستاذ محمد ابراهيم نقد، لا ازعم بصحتة لكن من الاوفق اخذة بعين الاعتبار عند اى تحليل " لانك لا تري قط امكانية لبزوغ قوي جديدة تنافس وتنجح؛ وانت هنا تكرر بصورة اخري كلمات محمد ابراهيم نقد والذي زعم فيها بانه لا يري مستقبلا لحزب لم يعايش تجربة الاستقلال" . وقد طرح الاستاذ عادل عبد العاطى الحركة الشعبية لتحرير السودان كاحد الاحزاب التى نشات بعد الاستقلال، ونضيف اليها حركات درفور والشرق و الحركة الشعبية لشمال السودان واخريات وللاسف فكلها احزاب جهوية تثبت القاعدة. وقد اعتبرتها خارج سياق ما بعد الاستقلال لانها جاءت وستظل تجىء كاشواق النخب – العاجزة هى نفسها هيكليا- لتخطى المأزق التاريخى من هيمنة الطائفية على الاحزاب الليبرالية فى الفضاء السياسى فى سابق عهدها و حاليا محاولة تقديم رؤية لاستنهاض الوطن وتفكيك دولة تيار الدولة الدينية. ( نقاش مفتوح مع الاستاذ الخاتم عدلان في المنبر الحر، 10-12-2003، http://www.sudaneseonline.info ). ان دخولها السياق التاريخى رهين بقدرتها على توحيد صفوفها والتحول الى احزاب حقيقية تنتشر فى رحاب الوطن وتفتح الكوى لمجموعاتة المختلفة للنظر الى مستقبل افضل لها.

    يمكن ان نعد الحزب الوطنى الاتحادى اول الاحزاب التى ركنت فى تكوينها على القوى الحديثة ولكنها فى نفس الوقت امتلكت وسائل تواصلها مع القطاع التقليدى فى الارياف والبوادى. وقد تنبهت القوى الطائفية لتصاعد نفوذ الحزب فبدات سلسلة من التحركات من ائتلاف السيدين واعادة الانتخابات بعد تغيير قانون الانتخاب واعادة رسم الدوائر الجغرافية بمنح مناطق النفوذ القبلى دوائر اكثر وتقليل الدوائر فى مراكز الوعى. ولكن المد الجماهيرى وتحالف النقابات والوطنى الاتحادى والحزب الشيوعى وبعض احزاب الجنوب، والضغط المستمر برفض المعونة الامريكية وضغوط البنك الدولى دفع بحزب الامة لتسليم السلطة الى الفريق ابراهيم عبود. الحزب الوطنى الاتحادى كان تأريخيا حزب الحركة الوطنية المدنية والقادر على لعب دور القاطرة التى تسحب ورائها الوطن بتكويناتة المختلفة انتهى بة المآل الى العودة لدائرة الطائفية باتحادة مع حزب الشعب فى الحزب الاتحادى الديمقراطى.

    تولدت التنظيمات خارج الاحزاب باكرا بعد الاستقلال وخاصة بعد ثورة اكتوبر وتميزت انها جاءت لتعبر عن خيبة الامل فى الابنية الحزبية وعدم تصديها للقضايا الماسة لتلك المناطق، انطلاقا من شعار تحرير لاتعمير. وقد ذاع منها مؤتمر البجة والذى تكون فى مدينة بورتسودان في اكتوبر 1958م ( نبعت الفكرة من الاحساس العميق بالحرمان الذي يعيشه الانسان البجاوي ومعاناته) . بعد ثورة اكتوبر 1964م نشا اتحاد عام جبال النوبة بالخرطوم وبعد تكوينه رفع شعارات تطالب بتمثيل جبال النوبة فى البرلمان، وفى عام 1965م اتخذ قرارا بان ينافس اتحاد عام جبال النوبة فى مقاعد البرلمان فى الاقليم، ووجه جميع قواه لتنضم الى معركة الانتخابات العامة فى تنظيم مستقل، وكانت الظروف مواتية لصالح اتحاد عام جبال النوبة نسبة لليأس فى وسط جماهير النوبة من الاحزاب التقليدية، اصبح الاتحاد يعبر عن امالهم وتطلعاتهم مما جعله يفوز بثمانية مقاعد من جملة اربعة عشر مقعدا لجنوب كردفان، وكان هؤلاء الاعضاء جميعا من مناطق تمركز النوبة بجنوب وشمال وغرب الجبال. وكان على راس الفائزين الاب فيليب عباس غبوش الذى فاز بالدائرة ( 207) الدلنج وتراس فيما بعد الهيئة البرلمانية للاتحاد داخل البرلمان.( دراسة نقدية لتطور الحركة السياسية .. والمستقبل السياسى فى جبال النوبة، ادم جمال احمد http://www.sudaneseonline.com.

    اما جبهة نهضة دارفور فقد تكونت في اعقاب ثورة اكتوبر 1964 في الخرطوم عام 1965 واتخذت لها افرعا في غالب مدن وقري الاقليم وعبرت عن وعى ابناء المنطقة وتتجاوز الانتماءات الحزبية والعرقية والقبلية من اجل التاكيد علي قضية التنمية الشاملة في الاقليم. ولكن تدخلات الاحزاب وسياسات الاحتواء وهجرة بعض اعضائها الى الاحزاب التقليدية اضعف وجودها فى ارض الواقع. تواصل تكوين تنظيمات القوى الحديثة بعد انتفاضة 1985 والملاحظ ان كل هذة التنظيمات تقع فى التصنيف من الاتجاهات الليبرالية الى اليسارية وقد كان ابرزها المؤتمر الوطنى والذى تأسس عقب االانتفاضة وقد لعب هذا الحزب دورا كبيرا فى الحركة النقابية ابان الحكم الديمقراطى الثالث وتعرض كغيرة من القوى الى عداء شديد من الانقاذ. وقد شكل هذا الحزب الوعاء الحاضن لاحد ابرز تنظيمات القوى الحديثة ما بعد الانقاذ: التحالف الوطني السوداني.

    تاسس الحزب القومى السودانى عقب الانتفاضة فى ابريل 1985م ، برئاسة الاب فيليب عباس غبوش وكان ذلك نتيجة لوجود اطروحات وهموم متشابهة حول مشاكل السودان لكثير من القوى التى كانت متشابهة فى الساحة السياسية السودانية ، فيما يتعلق بالمناطق المهمشة وقوى الريف وكثير من الشخصيات المستقلة ذات الوزن والثقل والتى لها رؤاها ، فانضم حزب العمل وغالبية مثقفى اتحاد عام جبال النوبة الى الحزب القومى السودانى لتطابق اهدافهما ، وجاء تكوين الحزب القومى السودانى فى المؤتمر العام لاتحاد عام جبال النوبة الذى قرر تحوله الى حزب قومى سودانى يضم كافة المواطنين وتوسيع نشاطه ، وكانت محاولة واضحة وصريحة للخروج بابناء النوبة من القضايا المحلية الى التصدى لقضايا السودان باعتبار انهم السكان الاصليون فيه، وفتحت عضوية الحزب لكل ابناء السودان وكان شعار الحزب او ميثاقه .. ( الله والوطن ) . تواصل افكار هذة التنظيمات المتعددة زمنيا الى الحركة الشعبية. (دراسة نقدية لتطور الحركة السياسية .. والمستقبل السياسى فى جبال النوبة، ادم جمال احمد http://www.sudaneseonline.com.

    رؤية احزاب القوى الجديدة

    عندما استطاعت جماهير الانتفاضة ازاحة حكم المشير النميرى كانت تمارس فعلها المجرب فقد كانت لاتزال هناك طبقة وسطى فاعلة لحدما، نقابات قادرة على الحركة والخدمة المدنية واجهزة الامن – رغم التشريد المتواصل قومية لحد كبير ( كانت اكبر مجموعة احيلت للصالح العام بعد 1971 فى عام 1980 وكنت منهم وبلغت حوالى 600 شخص وتعد هذة مجرد وجبة بوش فى صحون صالح عام الانقاذ فيما بعد). لقد اسقط الشعب المشير ولم يسقط النظام ولكن رغم ذلك فقد حدث حراك مجتمعى لانظير لة فى كافة المستويات. احداها كان الانعطاف الكبير نحو اليسار من واقع صمودة البطولى فى وجة سلطة مايو. هذا الانعطاف الديمقراطى الشاسع رافقة تسيد كامل للبيرقراطية الحزبية واجهزة الحزب السرية، وبدلا من ان يحول الحزب واليسار عموما هذا الانعطاف لنهضة رؤيوية حقيقية وانتشارا على كافة قطاعات الشعب اكتفى بالسيطرة على النقابات والعمل الحضرى. لو جلس اليسار واكبر احزابة الشيوعى وحلل الانتخابات 1986 ( فاز الراحل نقد بدائرة الديم والعمارات، الراحل عزالدين على عامر بدائرة نمر 2 ، الراحل محمد صالح ابراهيم بدائرة السكوت والمحس ود. منصور العجب فى دائرة الدندر وجوزيف مديستو فى دوائر الخريجين)، لكان حريا بة اما تغيير برنامجة لتلائم من يمثلونهم او تغيير استراتيجيات عملة.

    مضت اعوام اربع ونيف وكافة الاحزاب عقدت مؤتمراتها والرفاق مشغولون فى التحضير، هذا هو المشهد الذى ساد والذى كتب عنها الراحل الخاتم فى وثيقتة آن آوان التغيير بعمق و تفصيل. عند انقلاب الانقاذ وقد نضب معين القيادة من سنوات الاسر المايوى الطويلة ومن اسر العقلية السرية وممثليها طوال الديمقراطية الثالثة، اللجنة المركزية للحزب الشيوعى كانت تستشعر الخطر المحدق بها فقد ركنت الى النقابات (التى شاطها النظام بلا هوادة) والتنظيمات الجماهيرية فاقدة الراس وجماهير الموظفين (احيلوا للصالح العام بضربة لازب) وقد بان ان اساسها الموضوعى مهدد ويوشك شمسة بالافول. حضرت بداية هذة السنوات وكان يدور النقاش فى كافة تجمعاتنا عن الحاجة الى اعادة النظر فى كافة استرتيجياتنا التى اعتمدناها خاصة بعد اضراب الاطباء 1990. القيادة انذاك ليس فى خيالها ان تفتح حوارا عاما ومباشرا وفوريا، بديلها كان فتح في أغسطس 1991 متاهة ما سمى المناقشة العامة حول أوضاعه استمرت لاكثر من عقد ونيف. التغييرات التى تلت ذلك كانت درامية، وجد اليسار باكملة نفسة خارج الخدمة، تهلهلت النقابات، بيوت الاشباح، الاعدامات والخنق المعيشى وظاهرة الهجرة الكاسحة الى اى مكان. هذا السيناريو كان قاسيا على كافة تنظيمات اليسار ووضع على كاهل القيادة مهاما مستحيلة. فى العالم هناك بدأت التغييرات كاسحة، اختفت الدول الاشتراكية فجأءة وطرحت اسئلة من العيار الثقيل عن جدواها وفاعليتها. تحول الصراع بين الشمال والجنوب الى حرب دينية جهادية واتسع مجالها وتاسس التجمع الوطنى الديمقراطى. دفع انقلاب الانقاذ كل القوى الى الحائط، فقد جاوءا لازاحة كافة مكونات الفضاء السياسى الى خارج حلبة الفعل بقواة الحديثة والقديمة.

    حدث مع كل هذة التغييرات تطوران مهمان كان لهما الاثر الحاسم فى تناول السودانيين وانحيازاتهم وتطور اسهامهم. التطور الاول كان مربوطا ببدء ظهور الفضائيات فى الفضاء السياسى العالمى. مع بدء البى بى سى العربية فى منتصف التسعينات وجد السودانيون منافذا جديدة لتلقى الاخبار وتلتها الجزيرة وغيرها ورافقها ظهور الموبايل، الانترنت وخاصة البريد الالكترونى والمواقع المستقلة. الطور الثانى كان انفتاح السودانيون على عوالم جديدة، فعوضا عن هجراتهم الاولى الى دول الخليج وليبيا والتى كانت خصما على قدراتهم الفكرية والسياسية، واحيانا كثيرة من اعادة التشكل الايديولوجى المتشدد، لطبيعة مناخها المحافظ وقيودها الامنية، الموجة الثانية من الهجرة الى الخليج وليبيا ايضا اختلفت جذريا فقد ضمت بقايا النخبة السودانية فى اغلبها النواة الصلبة منقادة الانتفاضة ومفجريها، القادة النقابيين، المتنفذين السياسيين فى الديمقراطية الثالثة وغلبة التيارات اليسارية والليبرالية وسطها. طرق هؤلاء الان ابوابا جديدة بدات من القاهرة فى بداية التسعينات والتى مارت انذاك بنشاط سياسى عارم فنشطت الحركة المعارضة فى بداية التسعينات ومن ثم تمركزهم فى دول الخليج فى النصف الثانى من التسعينات ومنها توجهوا الى اوربا الغربية، الامريكتين واستراليا واسيا وغيرها. بدأوا فى رؤية ما كانوا يسمعون عنة فى التحليلات الماركسية والطائفية من مبالغات سقوط الراسمالية وجرائمها وفشل الليبرالية وانعدام الحرية وغث كثير. فى هذا المناخ المختلف تعرفوا على ديناميات جديدة للحرية على راسمالية ذات ضفاف لديها آليات الضبط والمحاسبة، على فعل الشفافية فى محاصرة الجرائم والتجاوزات وان الطريق لاى حلم انسانى للعبور الى عدالة ومساواة لابد ان يمر عبر الديمقراطية. تكونت فى معظم هذة التجمعات فروع للاحزاب المختلفة ومن ثم فروع للتجمع الوطنى الديمقراطى. ومن هذة التجمعات والحوار الذى دار خرجت اكبر حركتين من داخل ما يسمى القوى الحديثة او الجديدة، التحالف الوطني السوداني/ قوات التحالف السودانية و حركه القوى الجديده الديمقراطيه "حق ".

    حركة حق

    نفس ظاهرة الهجرات ما بعد الانقاذ حدثت فى دولة قطر التى تواجد فيها فى النصف الاول من التسعينات نفر من المثقفين الذين كانوا فى كافة التنظيمات والاحزاب وبدأوا العمل فى فرع التجمع. فى هذا الجو المشبع بالوطنية والاحساس بالحاجة الى المساهمة فى قضايا الوطن دارت حوارات متعددة ومتشعبة وثرية. كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى قد فتحت في اغسطس 1991م مناقشة عامة حول متغيرات العصر وقد اطلعنا عليها فى بداية 1993 فى قطر. برغم ان الوثيقة كانت انذاك تلبى حاجة ملحة فى مواجهة وضع داخلى وعالمى بعد انهيار التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا، الا ان الوثيقة حاولت تقديم تحليل كامل و شامل بدلا من طرح الاسئلة وتقديم اتجاهات عامة، وصار هذا حائلا بين الاعضاء من تقديم اى رؤى جديدة. وانتهت المناقشات فى اكثرها الى التصديق على ما جاء فيها، وقليلا خروجا على النص، كما هى العادة فى الوثائق المصيرية. (ربما يجدر بى هنا ان اوضح ان وثائق السياسات العامة تخضع فى بلورتها الى اجراءات معينة تبدا بتحديد الموضوع المطلوب معالجتة ويتم عقد ما يعرف بالعصف الذهنى لمجموعات على مستويات مختلفة ويتم بلورة نتائج هذة اللقاءات ونقاشها فى مستوى اعلى. يكلف شخص او مجموعة بصياغة المسودة الاولى التى يتم توزيعها على كل الذين شاركوا فى الحوار ويتم تعديلها حتى الوثيقة النهائية التى ترفع للجهاز المسئول ).

    كجزء من شعورنا انذاك باهمية هذا الحوار راى فرع الحزب الشيوعى بقطر توسيع دائرة النقاش ليشمل كافة المتعاطفين مع الحزب والتيارات اليسارية الاخرى وتم تكليف الاستاذ محمد سليمان عبد الرحيم (القيادي في " حق " حاليا ) وشخصى بفتح هذا النقاش، وقد ضمت المجموعة انذاك اعضاء فى عدد من التنظيمات اليسارية وبعض الشخصيات الديمقراطية في الدوحة. تطور النقاش فى هذا المنتدى الى الحاجة الملحة ومن ثم الدعوة لبناء تنظيم ديمقراطي واسع وقد صيغ هذا فى وثيقة ( نحو كيان سياسى جديد)، عرفت انذاك بوثيقة الخليج وتم تبنيها بعد تطويرها لتصبح الوثيقة التاسيسية فى مؤتمر عقد بين الحركه السودانيه الديمقراطيه والتقدم، والمنبر الديمقراطى السودانى وبعض الشخصيات المستقله وكانت من نتائجه تكوين حركه القوى السودانيه الجديده (حق) بالمملكه المتحده فى 23 يوليو ، ليتم تأسيس حق- فرع المملكه المتحده فى يوليو 95 والتى توحدت فى مؤتمر تأسيسى مع تنظيم القوى الحديثه- الولايات المتحده، والقوى الديمقراطيه فى كندا ليظهر تنظيم حق بعد مؤتمر واشنطن التأسيسى فى اغسطس 1995.

    ربما كانت استقالة الراحلان الخاتم عدلان ود. خالد حسين الكد، د. عمر النجيب ود. أحمد علي أحمد فى لندن فى منتصف التسعينات بداية تدشين مرحلة جديدة فى تاريخ اليسار السودانى باكملة. فى نفس الوقت غادر الحاج وراق واخرون الحزب الشيوعى فى الخرطوم. تجاور المغادرين جميعا وانضم لهم مجموعات من الحزب الجمهورى كانت تهيم بعد فقد المرشد، مجموعات ممن كان الحزب الشيوعى يطلق عليهم الديمقراطيين واخرون جاوءا من مسارب اخرى من بقايا الانعطاف الكبير فيما بعد الانتفاضة من اليسار والليبراليون. كان المشهد جاهزا ليستوعب هذة الطاقات الشابة، الفاعلة والمتوثبة لافق جديد. عندما جلسوا جميعا متكافئين لتأسيس حق، كان المشهد مليئا بالتناقضات المريرة. لاول مرة يجد بعضهم المكان خاليا من الفراكشن، او الشيخ المرشد او ديمقراطيون اعتادوا هبوط موقف الحزب عليهم ليتبنوة بدون اى اسئلة. حدث اول شرخ بين مجموعة الفراكشنات، حق الجديدة بقيادة الراحل الخاتم القادم والمنبر الديمقراطى بقيادة الشيوعى السابق د. احمد عباس الذين رضعا زمانا طال من الديمقراطية المركزية. لقد عرفت حق نفسها" أنها تسير على طريق صياغة ذلك المشروع وبسعينا إلى وحدة القوى الجديدة، قوى الحداثة والنهضة، سنترجمه إلى واقع معاش ينعم به أهل السودان جميعاً". (حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق)، المنطلقات الأساسية والقيم الكلية للبرنامج). المشوار بين التعريف والقول والفعل كان حقا طويلا، والخروج من الجلد لم يكن ابدا هينا. وفاة د. خالد حسين الكد ( المتمرد بطبعة على كافة الاطر التى ارادت حبسة من القوات المسلحة (قاد انقلابا صغيرا فاشلا عام 1968) والحزب الشيوعى) كانت خسارة كبرى على مسيرة الوليد الجديد. كان د. خالد حسين الكد قد درس واعد شهادة الدكتوراة عن تقلبات النخبة ونزاعاتها فى كتابة " الافندية ومفهوم القومية فى السودان" ، وربما كان الاقدر على تطويع الخلفيات الذهنية المركبة المختلفة.

    تعددت الانشقاقات بعد ذلك فى حركة حق بعد عقد مؤتمر الحركة بأسمرا، ديسمبر-يناير 1996 -1997، والذي شارك فيه وفد من الداخل مكون من سبعة أشخاص، برئاسة الأستاذ الحاج وراق أجازت فيه الخط السياسي للحركة وهو المشاركة الفعالة في عمل المعارضة، السلمي والعسكري. ووصلت الى حد انشاء حق الجديدة وحق الحديثة. ارجع الراحل الخاتم شقاق الداخل والخارج " ولكن دعني أغوص قليلا إلى ما وراء الظواهر. أعتقد أن السبب العميق الذي حرك كل تلك الخلافات وهز كل تلك القناعات هو إستباق معارك على القيادة توهمتها قيادة الحركة في الداخل، وفضلت أن تحسمها على طريقة " الحل النهائي " بدلا عن المنافسة الديمقراطية. وهو منهج في العمل السياسي شبيه تماما بتقاليد " قتل أشقاء الملك " التي كانت سائدة في بعض مراحل المملكة السنارية وفي أنحاء كثيرة من أوروبا في العصور الوسطى. فعندما ينصب الملك، يكون همه الأول، وهم وزرائه وحاشيته، القضاء على اية إمكانية للمنافسة أو المطالبة بالعرش، وخاصة من أشقائه، الذين يملكون نفس مؤهلاته، وربما يفوقونه في بعض الأحيان".

    عندما حدث الانشقلق الاول بين حق الجديدة والمنبر الديمقراطى فى بداية عهدها توجست خفية من التجربة كلها، فقد كانت لدى شكوك سابقة عن عجز النخب المثقفة عن العمل المشترك الا تحت غطاء من الاستاذ، الشيخ، مولانا او الامام. كانت لدى تجربة مرة فى ذلك تقض مضجعى حتى اليوم. بعد فوز قوى الانتفاضة مابعد 1985 بجميع مقاعد اللجنة المركزية لنقابة اطباء السودان كنت مكلفا بقيادة وفد المفاوضات مع القوى الاخرى لتشكيل الكتب التنفيذى مع اعضاء اخرون وكانت التعليمات واضحة، اننا نملك اغلبية المقاعد لذلك لابد ان نمثل باغلبية كبيرة ومنصب النقيب، وقد دارت المفاوضات ووصلت مع المرحوم حمودة فتح الرحمن الى امكانية القبول بتمثيل متوازن ويرضى كافة الاطراف لكن وجود التعليمات وافتقارنا الى مهارات التفاوض ( وهو علم يدرس الان) والتى كانت تقضى برفع المفاوضات والعودة لاحزابنا للوصول لحل وسط. ما حدث بعد ذلك اننا فرضنا راينا وانفض التحالف ونلنا اغلبية كاسحة فى اللجنة التنفيذية لكن خسرنا معركة العمر التى كان يمكن ان تؤسس لمفهوم جديد فى العمل العام. اننى على يقين ان هذة الحادثة المنفصلة اثرت بشكل ما (يعرف بتاثير الفراشة) على تاريخ بلادنا.

    صاغت حق وثيقتها التاسيسية " قوى الحداثة والنهضة تتمثل فى المنتجين بأذهانهم وأيديهم، من مثقفين ومهنيين، ومن عمال ومزارعين، ومن رأسمالية منتجة، وفى القوميات المهمشة والمسحوقة، وفى جماهير النساء الرازحات تحت القهر، وفى الشباب والطلاب التواقين إلى توظيف طاقاتهم الخلاقة وتحقيق كل ممكناتهم الشخصية. إنها المقابل السياسى والإجتماعى للنخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من رأسمالية طفيلية، وزعامات طائفية وقادة عسكريين ومن مثقفين ومتعلمين وبيروقراطيين مرتبطين بهم وغيرهم من المستأثرين بالنصيب الأوفى من خيرات الشعب، والبانين سيطرتهم على تجهيل الشعب وتغييبه، والتي شكلت وسيطرت على السودان القديم، ببنياته السياسية الدكتاتورية، بعلاقاته الطائفية المغلقة، بتخلفه الإقتصادى وبمظالمه الإجتماعية . ..... وتمتد أيضا على أرض السودان طولاً وعرضاً، وتنهض للتعبير عن نفسها من خلال الحركات القومية والإقليمية المناضلة من أجل سودان جديد، وعلاقات ديمقراطية بين المركز والأطراف، وقسمة عادلة للسلطة والثروة، ومشروع وطنى للنهضة الشاملة. .... إننا نطرح برنامجا للنهضة الوطنية الشاملة، لنا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن أغلبية جماهير الشعب السوداني لها مصالح محددة في تنفيذه، ولكننا لا نتوقف عند هذا الحد، بل نسعى عمليا وعلى مختلف الصعد لإقناع هذه الأغلبية بصحة رؤيتنا وضرورة وقوفهم معها وتبنيها، لأن العبرة ليست في اقتناعنا نحن بسلامة برنامجنا وصحة طرحنا وإنما في نجاحنا في استمالة الغالبية له وانحيازها ديمقراطيا إليه. بأى معنى نسعى نحن لتوحيد هده القوى؟ وبأى صيغة؟ هل نتوقع أن تنضم الينا بصورة جماعية وتنسحب من كل الأحزاب الأخرى القائمة؟ ......إن ما نرمى إليه هو أن نعمل مع كل أطرافها، للوصول إلى المشروع الموحد لها جميعاً، والتنظيم المعبر عن إرادتها السياسية. .... وسيكون هذا التنظيم تنظيماً لقوى الحداثة والنهضة بمعنى محدد هو أن برنامجه السياسى يعبر عن مصالحها، ليس بصورة مسبقة ومعطاة، وتتسم العلاقات داخله بالديمقراطية، أي أنها ليست علاقات طائفية ولاعنصرية ولاعشائرية، ليست إشارة صادرة عن زعامة روحية، ولا أوامر نازلة من قيادة مركزية كلية الجبروت، بل هى علاقات ديمقراطية قائمة على حكم المؤسسات المحددة الصلاحيات، وعلى حرية النقاش والإقناع والإقتناع، كما أن وسائل الآداء داخله حديثة، قائمة على العلم والبحث والمعرفة.... إن توحيد قوى الحداثة والنهضة أمر صعب ومعقد، فى ظروف بلادنا الحالية، حيث ما زالت الديكتاتورية الفاشية جاثمة على الصدور، ..... تحالف القوى الجديدة الذي ندعو له واسع ومفتوح. قواه كبيرة ولكن مداخله متعسرة. وهذه هي المشكلة، فالتنظيمات التي تقوم من مواقع القوى الجديدة تعتقد قيادة كل منها أنها الأصل والنواة وأن ماعداها إما أن يتبع لها أو يموت .... وعملية التخطي شاقة وعسيرة وهذا ما يدفعنا أيضا إلى التركيز بصورة خاصة على مهمة التنوير العقلاني وتعميق مفاهيم الديمقراطية وتوسيع مفاهيم القيادة،.

    صاغت حق وثيقتها التاسيسية وطورت فيها فيما بعد لكنها واجهت نفس الاسئلة التى واجهت كافة الاحزاب من هى القوى التى تمثلها، ماهى وسائل الوصول الى هذة الفئات والقوى، نظرية الوصول للسلطة، رؤاها، استراتجياتها وتكتيكاتها وبرامجها الاقتصادية الاجتماعية. رغم ان حق استطاعت خلال عملية طويلة ان تكون جزءا من المشهد السياسى واضافت كثيرا من الفاعلية والنشاط للقوى المعارضة وضربت مثلا حقيقيا فى نصرة حقوق المراءة. لكن نشوء الحركة فى زمن ديكتاتورية غاشمة جعلها تنضج فى ظروف ضاغطة وصعبة ومن المتعجل والظلم موضوعيا التعرف على رؤيتها فى هذة الظروف.

    التحالف الوطني السوداني/ قوات التحالف السودانية

    من اليوم الأول بدأت الجبهة الإسلامية فى تنفيذ مخططها لتصفية القوات المسلحة من كافة من لا يدنون لها بالولاء فأخذت كشوفات الإحالة للمعاش تترى الواحد تلو الآخر فأحيلت كل الرتب ذات الأقدميّة الأعلى من هيئة القيادة إلى المعاش ، وتوالت الكشوفات حتى ضمّت المئات من الرتب من رتبة العميد حتى رتبة الملازم وقد شملت جميع التخصصات بما فيهم الأطباء والمهندسين والكوادر الفنية الأخرى. أحيل للمعاش فى الأشهر الأولى للانقاذ ما يقارب الخمسمائة ضابط من ذوى التأهيل العالى. قادت هذة الى توالى المحاولات الانقلابية من رمضان ونداء السودان وقادت بدورها الى مزيد من التصفيات. تكون فى القاهرة ماسمى بالقيادة الشرعية والتي كانت تضم الضباط الذين تمت إحالتهم للصالح العام وكان يقودها المرحوم الفريق فتحي احمد علي القائد العام للقوات المسلحة قبل إنقلاب الإنقاذ.

    ربما يكون التحالف الوطني السوداني/ قوات التحالف السودانية من اكثر التنظيمات الغامضة فى تاريخ التنظيمات السودانية، ففي شهور نما التنظيم في اقاصي شرق السودان وتحول لقوة عسكرية وسياسية ضخمة كانت تتهيأ لاستلام السلطة في الخرطوم، ولكن دون مقدمات وبعد سنين تعد بأصابع اليد وبنفس سرعة التكوين تلاشى التحالف وتحول لتاريخ يكتنفه الغموض وتضيع حقائقه. تأسس التنظيم في اوائل العام 94 بعد الخلافات التي نشأت داخل القيادة الشرعية التي كانت تضم الضباط الذين تمت إحالتهم للصالح العام وكان يقودها المرحوم الفريق فتحي احمد علي القائد العام للقوات المسلحة قبل إنقلاب الإنقاذ. عقد التنظيم المؤتمر التمهيدي الاول في 16/8/95 والموتمر التمهيدي الثاني إنعقد في 27/12/97 حتي إنعقد الموتمر التاسيسي الثالث في 2002. التحالف كان يتميز بوجود عدد من الضباط في قيادته وبين صفوفه تمت إحالتهم للصالح العام لاسباب سياسية وبالتالي كانت الارضية مهيأة لمثل هذه الخطوة في فترة قوة التحالف ورواجه منذ ابريل 96 وحتي العام 2000 كان عدد قواتنا في الجبهة الجنوبية باثيوبيا لايقل عن خمسة الآف مقاتل، وفي الجبهة الشمالية بارتريا حوالي ثلاثة الآف ونصف مقاتل. كان هناك مزاج عام معارض ورفض لسياسات الحكومة لدي قطاع عريض من المواطنين، وكانت التربة خصبة لاي عمل معارض يعبر عن مشاكل الناس ويطرح قضاياهم، والتحالف ملأ هذا الفراغ وخطابه كان الاكثر ملامسة للواقع، وقيادته كانت في تلك المرحلة نموذجا للسودان الجديد وتجردت من امراض الزعامة وتوفرت شخصية كارزمية لابوخالد الذي كان يعرف كل المقاتلين باسمائهم ومناطقهم ويعيش معهم تفاصيل حياتهم اليومية وحذت باقي القيادات حذوه وهذا هو سر نجاح التحالف. في شهر ابريل 96 بدأت الجبهة الشمالية قطاع كسلا ضربة البداية للعمليات العسكرية وإطلاق الرصاصة الاولى وهي العملية التي أطلق عليها إسم الشهيدة التاية التي استشهدت في تظاهرات الطلاب ضد السلطة في تلك الفترة، ولاحقا وبعد اشهر من هذه العملية دخلنا نحن كذلك المعركة واستولينا على مناطق مينزا وماتونقيا وجبل النمر وجبل النوم ومناطق اخرى على إمتداد واسع في النيل الازرق. (الامين البرير: انا كنت احد المحققين في قضية بلل والأقرع واسم ياسر عرمان لم يرد فيها إطلاقاً، أجراس الحرية)

    مثل حركة حق فقد صعد التحالف الوطني السوداني/ قوات التحالف السودانية ووصل اقصى تطوره التنظيمى، خاصة العسكرى لكنها دخلت فى غياهب الخلافات والانشقاقات والتهم والاقصاء مما يجعل من ابداء الراى حولة محاطا باسرار عميقة ودفينة. لقد قدم التنظيم نموذجا فى محاولة خلق تنظيم عسكرى مدنى وحركة مقاومة شعبية ومن المبكر الحكم على هذا التنظيم فقد نشأ وانقسم وتكون كحزب علنى فى داخل غلالة حكم الانقاذ.

    اودية الانشقاقات: فشل النخبة ام اسباب اخرى

    تعرضت اكبر حركتين من داخل ما يسمى القوى الحديثة او الجديدة، التحالف الوطني السوداني/ قوات التحالف السودانية وحركه القوى الجديده الديمقراطيه "حق "، وكذلك الحركات المتمردة التى حملت السلاح فى دارفور لاحقا حركة العدل و المساواة 2003 و حركة تحرير السودان 2001...الخ الى انشقاقات متعددة وواسعة وبشكل مستمر. هذا المصير يجعل اى تفكير فى امكانية تخطى هذا الواقع البائس محفوفا بالمخاطر والياس البهيم، فلماذا كان مصير مجمل احزابنا التمرغ فى اودية الانشقاقات والتفكك والركض من توافق الى توحد الى لم الشمل؟

    ربما كان هذا التساؤل هو مجمل ما دارت علية مناقشات النخب خاصة فى العقدين السابقين والتى يحاول كل السياسين والمفكرين وكتاب الاعمدة والمؤلفين الاجابة عليها وقد دارت اغلب كتابات المثقفين السودانيين منذ القرن الماضى من كتاب مجلة الفجر، معاوية محمد نور، موت دنيا، وحديثا تدور كتابات الدكتور منصور خالد، د. حيدر ابراهيم، د. عبد اللة على ابراهيم د. عبد الوهاب الافندى وغيرهم وغيرهم....الخ حول هذة المسالة من زوايا متعددة. وكان الدكتور منصور خالد الذى بدا مسيرتة السياسية محاورا الصفوة (حوار مع الصفوةعام 1968) اكثر من قرعوا وبقسوة بالغة النخبه السودانيه ووصمها بادمان الفشل . لن استعرض هنا اى من الكتابات التى فى ظنى ان القراء يعرفون عن اغلبها بتوسع، خاصة فى عصر تفجر المعلومة.

    نبدأ بان نلاحظ ان المجموعات التى تنبثق مما يسمى القوى الحديثة دورانها فى مسميات متشابهة او بنائها على حركات تراثية من زمن الاستعمار ومن ثم تنويعها. ان فقدان الخيال والابتكار هو مدخلى الى محاولة تحليل هذة الظاهرة المستدامة من الانقسامات الاميبية التى رافقتها. تتوارد عدة اسباب فى تفسير هذة الظاهرة وسوف نحاول معالجة اهمها.
    اولا: هناك اتفاق كبير بين كثير من الذين تصدوا لدراسة هذة الظاهرة لارجاع اسبابها الى الوقوع بين فكى الحزب الشيوعى الذى يعتبر القوى الحديثة فنائة الخلفى وعلية يقوم بمنازعة التنظيمات الحديثة بما لة من خبرة وتراث مؤامراتى وبين انياب الاحزاب الطائفية التقليدية المحنكة لانهم يشكلون خطرا ماثلا على مستقبلها. برغم وجاهة الفكرة وموضوعيتها الا اننى ارى ان هذا ليس سببا ولكنة رد فعل طبيعى ومتوقع . الشىء الاساسى ان اى تنظيم او حزب او مجموعة تقوم عندما تكون هناك حاجة موضوعية لها ومن الطبيعى انة باعتبارة حدثا جديدا ينمو من احشاء القديم ان يواجة بمقاومة من محيطة القديم. البلهاء وحدهم يعتقدون ان المنظمات الراهنة ستقوم بعمل قيدومة لهم وانهم سوف ينازلوهم فقط فى ميادين العراك الاكاديمى والصراع الفكرى. الصراع دائما يشخصن، تدفع باعضاء للفركشة، تتهم بانها على علاقة باجهزة الامن وهلماجرا. ما يمكن الاتفاق علية ان خبرة من ينشئون الاحزاب الجديدة لا تتساوى مع الاحزاب العتيقة، ويقودنا هذا الى مدى جدية هؤلاء فى دراسة جدوى التنظيم قبل الاعلان عن انفسهم والوصول لمشروع قومى حقيقى.

    ثانيا: الفكرة الثانية التى تلقى رواجا ان هذة الاحزاب والمنظمات تفتقد الروابط مع تكوينات القوى التقليدية جماهير الارياف، المدن والاقاليم البعيدة والرعاة. وقد رايت فى هذا السبب تجاوزا مجحفا لقوة الفكرة اذا استجابت للحاجة الموضوعية وقد راينا من قبل ثورة 1924 تصل لكافة ارجاء الوطن رغم صعوبة الحركة انذاك، وانتشر مؤتمر الخريجين فى اطراف البلاد واقصاها والحركة الاتحادية ذات الاتجاه العلماني الصريح تقود النضال ضد الاستعمار وتكتسح اول انتخابات برلمانية فى السودان وتشكل الحكومة واخرها الفكرة الشيوعية التى تسربت منذ منتصف الخمسينات الى ادغال الاستوائية، جبال النوبة وجبل مرة ( فصل د. عبد اللة على ابراهيم عن عمل الحزب الشيوعى وسط العمال والمزارعين والجنوب...الخ فى مقالات ممتعة متناثرة فى سودانيزاونلاين وسدنايل)، واعتلى قيادين فى الحزب الشيوعى رئاسة اكبر اتحادين شهدهما السودان اتحاد العمال واتحاد المزارعين حتى بداية السبعينات.

    ثالثا: تطرح مسالة التفكير الابوى كاحد المؤثرات القوية فى احداث هذة الانشقاقات (يرى الاستاذ ابراهيم الحيدري التفكير الابوى كبنية اجتماعية وسايكولوجية متميزة تطبع العائلة والقبيلة والسلطة والمجتمع وتكون علاقة هرمية تراتبية تقوم على التسلط والخضوع اللاعقلاني الذي يتعارض مع قيم المجتمع المدني واحترام حقوق الانسان، ومن الناحية البنيوية فالنظام الابوي يتكون من طرائق التفكير والعمل والسلوك ويرتبط بنمط معين من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي التقليدي السابق على الراسمالية. الفكرة الاساسية ان تقارب الاعمار والوضع الاجتماعى لقادة المنظمات الجديدة وعدم خضوعهم لسلطة ابوية تساعد على سهولة الانشقاقات كوسيلة للانقلاب على بعضهم البعض. هذة الفكرة ايضا لاتصمد للنقد الموضوعى فقد دارت اقسى الانشقاقات فى حزبى الامة والاتحادى فى كافة الازمان وتحت قيادات ابوية. كما حدث انشقاقات عديدة فى الحزب الشيوعى والاخوان المسلمين مع وجود قيادات ابوية. http://afaksocio.ahlamontada.com (الاستاذ ابراهيم الحيدري، النظام الابوي وثنائية التسلط والخضوع).

    ويرى المغفور لة الخاتم عدلان فى انشقاقات حق " تعرضت حركة حق لضربات كثيرة منذ نشوئها قبل ثمان سنوات. ابرزها كما قلت الخلاف الذي حدث مع قيادة الداخل وقتها، وادى الى التدمير الذاتي والمذابح التنظيمية الفادحة. كما تعرضت لمحاربة المجتمع السياسي المعارض، بدرجة من درجات الاتفاق لم تتوفر لتحالف المعارضة في كل القضايا الاخرى الاهم والاخطر والانفع للوطن. ( نقاش مفتوح مع الاستاذ الخاتم عدلان في المنبر الحر، 10-12-2003، http://www.sudaneseonline.info ) .

    يؤدى بنا هذا الى ان مزيجا من هذة الاسباب ربما بدرجات متفاوتة هى التى تقود الى متلازمة الحراك، التنظيم، الصعود ومن ثم الانشقاقات. ورغم ان كثيرين يرون فيها ظاهرة صحية كتمرين ديمقراطى على ادب الخلاف والاختلاف وتباين الافكار، الا اننى ارى فيها تنازعا غير صحى على خلفية تغليب المصلحة الشخصية و الكبرياء الفردى والتضييق المرضى للتيارات التى لاتحمل راى التيار السائد والحجر على طرحها الحر (اتاح عملى فى المنظمات العالمية الاحتكاك بمثل هذة الظروف والتى بحكم قيامها وتشبعها بالفكر الديمقراطى الليبرالى لا تسمح بشخصنة القضايا مع اتاحة كامل الفرص لوجود تيارات تحمل اراء مختلفة داخل اطار العمل الجماعى)

    يورد ابوذر على الامين يسن فى تناول ظاهرة الانشقاق السياسي بارجاعها الى افرازات (تمركز) الزعامة، وغياب المؤسسية والتخصصية وتوزيع العمل ضمن وداخل الاحزاب ذاتها وبقاء الزعيم واستمراريته. فالسلطة كانت كل شئ بالنسبة للاحزاب والقوى السياسية (التقليدية والحديثة) للدرجة التي لاتستدعي عند تلك الاحزاب والقوى مشروع للحكم او رؤية للتعامل مع القضايا الجوهرية والكبيرة. وما تزال ادوات العزل والطرد والفصل وغيرها هي وسائل التعاطي مع الخلافات داخل الاحزاب او مع الحكومة. نمط العسكرة يبقى هو السمة التي تسم الواقع السياسي للقوى السياسية الحزبية والمدنية التي تقتات وتعيش على وجود عدو هو بالطبع حزب اخر يستدعي حالة طوارئ دائمة تشحذ فيها كل اسلحة الحرب من النفسية وحتى الجسدية فلا مجال الا لرؤية واحدة وحزب واحد وقائد واحد. (ابوذر على الامين يسن:مقالات خواطر الازمة السياسية السودانية نشرت خلال ديسمبر 2010 فى الاصدارة الالكترونية حريات http://www.sudaneseonline.com )

    الاحزاب السياسية: حوارات التجاوز

    دارت مناقشات ممتعة قى بداية القرن الحادى والعشرين على صفحات سودانيزاونلاين فى نقاش مفتوح مع الاستاذ الخاتم عدلان حول فعالية القوى الجديدة والمواعين الحزبية ومدى ملائمتها. هذا نقاش هو ديدن النخبة منذ اوائل القرن وقد سال فية حبر كثير خاصة بعد ثورة اكتوبر وانتفاضة ابريل عن قيادتها ونتاجاتها وعلى استنتاجاتها نشات الاحزاب التى سميتها خارج السياق. لكن اعيد طرحة بعد الانقاذ بشكل حاد، خاصة مع تصاعد التاثير الشديد للحركة الشعبية لتحرير السودان وانتصاراتها العسكرية والاهم منها اطروحاتها الفكرية، التى لامست كافة مطالب اغلب النخبة.

    الخلفية التى تقوم عليها كافة الحوارات تنطلق من عجز النخبة فى التاثير على احزابها سواء الطائفية او العقائدية والتى تتشابة فى سيادة عقلية الزعيم الاوحد. دار حوار ممتع فى ذلك النقاش الحر حول ما كان مأمولا من حركة حق، لخص فيها الاستاذ الخاتم عدلان بقلمة البارع تنازع الاحزاب خارج السياق التاريخى " حق كحركة توحيدية اساسا، اي انها ما قامت الا كاطار ينظم جهود بعض الافراد للمساهمة في توحيد ما اسميناه القوى الجديدة. وقد قلنا تحديدا ان حق منبر، اكثر منها تنظيما مكتمل الملامح ومكتفيا بذاته. ولا يوجد فصيل من فصائل القوى الجديدة لم نقصده ونعرض عليه افكارنا حول التوحيد. واخص بالذكر الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقوات التحالف السودانية، ومؤتمر البجا، والتحالف الفيدرالي وغيرها. ولكن هذه القوى رفضت دعوتنا من منطلقات مختلفة. فالحركة الشعبية مثلا طرحت لواء السودان الجديد، وطلبت من الاخرين الانضمام له والذوبان فيه والعمل على صياغته من الداخل، وقد طرحنا نحن تصورا اخر يتلخص في اننا بصدد تكوين حركة سياسية، يكون الجانب العسكري مكونا من مكوناتها، بينما لواء السودان تنظيم عسكري، يدخله الناس فيصبحوا جنودا مع كل ما يصاحب ذلك من الطاعة والاضراب عن الاسئلة. وباختصار كانت تلك صيغة قاصرة، دافع عنها بعض المفكرين، ليس من مواقع فكرية، ولكن من باب اداء الخدمات. وباءت اتصالاتنا بقوات التحالف بفشل ذريع، لان قيادة قوات التحالف، كانت تعتقد انها حصلت على حجر الفلاسفة في المجال السياسي، وانها اصبحت من حكم السودان قاب قوسين او ادنى وان قاصديها يريدون ان يشاركوها في هذا الكسب. ومن هنا كانت كلمات عبد العزيز خالد لوفد حركتنا عندما عرضنا عليه امر التوحيد هنا في لندن، فقال لوفدنا، نحن مستعدون لقبولكم على اساس فردي، وذلك بعد فحصكم واستبعاد من نراه غير لائق، وحدد مصير المحظوظين الذين يجتازون امتحان الثورية عندما قال: "بمجرد دخولك تكون قد فقدت حقك في الخروج"
    الفكرة الثانية طرحها الروائى بشرى الفاضل فى تكوين مجموعة ضغط " فكيف يمكن انشاء حزب جديد مهما انفقت عليه من دعاية اما اذا قلت بانه ليس حزبا فسيدمغ في النهاية بكونه حزب وسيحصل على جزء من الكوته المحدودة للمتعلمين السودانيين وسيدمغ بالشيوعية لعقدين من الزمان كما انه وبعد نصف قرن سيحصل على مقاعد لا تتعدى العشرة في البرلمان .
    الدعوة لتجميع القوى بالصورة التي درجت عليها حق وكل الكيانات الجديدة وتلك التي في طور التكوين مثل الحزب الوسطي الليبرالي الذي يدعو له الاخ عادل عبدالعاطي تقود الى تكون كيانات حزبية او فكرية اشبه بالغشاء الذي تشير اليه الفيزياء الحديثة، حيث تقول احدى نظريات الفيزياء الحديثة ان الوجود عبارة عن اكوان عديدة غير منظورة وكل كون يسبح في غشائه ونحن نعيش في غشائنا هذا المنظور جزئيا ذي الاجرام والنجوم . وهكذا فان غشاء كل جماعة داخل حق سيعمي تلك الجماعة عن الهدف المباشر الذي تطلقون عليه النهضة الشاملة. والاحزاب التقليدية الطائفية ستظل مهما وجهتم لها من نقد صحيح لنصف قرن ويزيد وهي تملك قدرات لتغيير جلدتها في كل حين بحيث تصبح الطائفية فيها بعد ربع قرن اشبه بالعلمانية الدوغمائية الحالية ولا حاجة لنا بالتنبؤ بان تلك الطائفية ستصبح فلكلورا لكننا معنيون بالبناء الحالي للوطن. الحل في نظري ليس تكوين احزاب او جبهات جديدة بل السعي لتكوين كتلة من المتعلمين السودانيين والقوة الجيدة نفسها لا في هيئة حزب او جبهة ببرامج بل في هيئة كتلة ضغط هائلة لتطبيق بنود البرامج الابتدائية من قانون وبنيات وخدمات مما اشرت اليه وهذه الكتلة يمكنها ان تصوت كلها لحزب تشير الدلائل انه سيفوز في الانتخابات وتلزمه ببرنامجها هي الذي هو حاليا برنامج جميع الاحزاب الديمقراطية جوازا . هذه الكتلة سترجح بنتيجة الانتخابات والسعي لتكوينها اسهل من السعي لتكوين احزاب او كيانات جديدة . وما تلبث الكتلة ان تنفض بعد الانتخاب مباشرة على نحو ما تفعل الاحزاب الديمقراطية الغربية فالحزب الجمهوري او الديمقراطي الامريكي او حزب العمال البريطاني يصبح اعضاؤه كتلة ايام الحملات الرئاسية والانتخابية ثم ينفض السامر" .

    ان هذا الحوار مرشح للتصاعد وتواجهة كافة الثورات العربية ورغم ان ادعاءات كثيرة قد تتصاعد، كما اقرأ واسمع، ان السودان مختلف وفية احزاب مستمرة من الاربعينات الا ان هذا ادعاء لايصمد امام التأريخ. واعتقد صادقا ان جيلى وقادة احزابة عجزوا تماما عن تقديم اى رؤية لتجاوز هذا المصير ويكررون نفس تجربتهم ويلوكونها. ان انعدام الديمقراطية فى الدولة وحزبها وتمترس القيادات وفرضها رؤيتها يحرمنا من تلمس الطريق الى القرن الحادى والعشرين.

    ان هذا مؤقت فى السودان وكل مكان، فهذا الحوار يتصاعد نظريا وتحول الى جدل عملى يتم فى ميادين التحرير العربية وسوف ينبثق من هذا الجدل الذى يتم فى الشارع طريق جديد. رغم ذلك فان ان بعض النقاش يتداول افكارنا البائدة وموطء فشلنا كما يوضح د. عمر حمزاوى (أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة وناشط فى الثورة المصرية) " أشعر بقلق بالغ من الحديث الرائج اليوم فى أوساط الطبقة الوسطى المصرية، خاصة فى المدن، عن محدودية الوعى السياسى للمواطنين فى المناطق الريفية ومن محدودى الدخل والفقراء ومن ثم انتفاء قدرتهم على ممارسة الاختيار الحر فى الانتخابات القادمة، البرلمانية والرئاسية. حديث الطبقة الوسطى يصنع صورة نمطية عن الأغلبية الساحقة من المصريين جوهرها عدم أهليتهم للمشاركة فى بناء الديمقراطية بادعاء محدودية وعى مترتبة على قسوة ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، وباستنتاج مؤداه انهم سيكونون فى الانتخابات عرضة لمؤثرات الدين والمال والمنفعة الشخصية الضيقة غير الديمقراطية وذات التداعيات السلبية على تشكيل البرلمان القادم وعلى أدائه فى القضايا الجوهرية التى سيضطلع بها. الزائف فى حديث الطبقة الوسطى، ثانيا، هو افتراض ان عوامل كالفقر والأمية وقسوة الظروف المعيشية ترتب حتما محدودية، ان لم يكن الغياب الكامل للوعى السياسى للأغلبية الساحقة من المصريين. وفى ذلك ظلم بين لمواطنين يدرك كل من اقترب منهم فى المناطق الريفية والمدن انهم ليسوا بقطيع يساق انتخابيا خلف من يدعى الحديث باسم الدين أو خلف مرشح قادم للقيام برشوة جماعية للناخبين، ويدرك ايضا ان الوعى السياسى حاضر لدى الكثير منهم تماما كما تحضر التفضيلات الانتخابية المبنية على اختيار عقلانى ورشيد. الزائف فى حديث الطبقة الوسطى، ثالثا، هو افتراض ان «الخطر» الذى يمثله «الأميون والجهلاء» من محدودى الدخل والفقراء على الممارسة الديمقراطية من بوابة صندوق الانتخابات يستدعى إجراءات استباقية للحد منه. تارة يدعو البعض إلى إعطاء الصوت الانتخابى للمتعلمين (من أعضاء الطبقة الوسطى وما فوقها) أهمية نسبية تفوق الصوت الانتخابى للفقراء. (د. عمر حمزاوى: خطر الاستعلاء باسم الديمقراطية، جريدة الشروق المصرية، 14 يوليو 2011 ).

    ربما يذكرنا هذا بالابتداع السودانى الخالص الذى بدأ كاحدى افرازات مؤتمر الخريجين ونعنى بها دوائر الخريجين والى بدات فى اول انتخابات ثم تمطت مابعد اكتوبر الى 15 مقعدا والى 30 مابد انتفاضة 1985 . لقد لعبت هذة الدوائر اثرا كاسحا فى ايصال الاحزاب العقائدية الى البرلمان، لكنها اقعدت تيارات النخبة واحزابها عن العمل الجماهيرى الواسع وخلق الصلات مع الأميون والجهلاء» من محدودى الدخل والفقراء – اى الاصوات الانتخابية للشعب السودانى. ان هذا التقليد هو الذى يحبس الاحزاب خارج السياق من ان تتمدد فى قاع المجتمع وتختط لنفسها قدرات وتحركات توصلها الى الجماهير التى تدعى تمثيلها ولهم فى الحزب الوطنى الاتحادى والجبهة القومية الاسلامية امثلة نافعة.

    فاجعات حاملى الرؤى السودانية

    من بين ملايين السودانيين والسودانيات الذين عاشوا على ارضها الطيبة، تزاوجوا وفرحوا وحزنوا وغادروا الدنيا. وعكس القادة الذين عاثوا فى الوطن فسادا وسوء خبرة فقد رحلت قلة قليلة من حاملى رؤاة الخيرة وفارقت الفانية على عجل.

    الامام المهدى، ابن صانع المراكب المترحل وراء الرزق، وبعد ان تتلمذ على كبار علماء ذلك الزمان و خيرة شيوخ الطرق الصوفية استطاع ان يجمع اطراف الوطن من دارفور، كردفان، الجزيرة، الشرق والشمال وصنع ثورتة السودانية الخالصة، موقعا الهزيمة باعتى الجيوش الحديثة فى ذلك الزمان. وبعد ان دانت لة الخرطوم واستقر فى البقعة وبعد ان بدأ بناء مسجدة مالبث ان انطفأ كشهاب لامع وفقد السودان المفكر الاستراتيجى الذى كان من المأمول ان يحول الثورة الى الدولة على هدى العمرين. تسلم القيادة بعدة الخليفة عبد اللة التعايشى احد اعظم العبقريات الادارية السودانية.... ولكن بغياب العقل الاستراتيجى كان السودان قد سار فى طريق الثورة التى تأكل ابنائها.

    من عتامة القرون البالية من الاسترقاق والقبلية والعنصرية تجلى توحد قائدين فريدين فى عشرينيات القرن العشرون ليقودا معا ثورة 1924. الزعيم المنحدر من قرون الاسترقاق على عبد اللطيف والقائد المنسلخ من ربقة التعصب والعروبية عبيد حاج الامين ليطرحا معا البرنامج الذى يحمل التوحد الحقيقى للسودانيين والصالح حتى يومنا هذا- الامة السودانية. " بعد ذلك تم نفي خمسة من قادة الجمعية إلى واو وهم علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين الذي زأر في وجه محاكمته قائلاً لا: (انكم تستطيعون ان تحاكموني ولكنكم لن تستطيعوا الحكم عليّ، فان هذا للشعب وللتاريخ !) وعلي البنا ومحمد المهدي الخليفة واخرون. إستشهد عبيد حاج الامين فى سجن واوعام 1932م اما الزعيم على عبداللطيف فقد تنقل بين سجون السودان ثم نفى لمصر ومات سجيناً ووحيداً فى اكتوبر 1948م بالقاهرة ".

    طال انتظار الشعب السودانى هذة المرة ولكن من سلالة قائد ثورتها الوطنية الاولى فى العصر الحديث، وحاملا للتراث المجيد الذى بناة السيد عبد الرحمن المهدى، جاء السيد الصديق المهدى املا براقا و مقدما لرؤية ساطعة لحزب تم بنائة بخيوط الصبر والتسامح. قدم الامام الصديق رؤية حملت فى ثناياها المفاهيم العصرية والمتقدمة للديمقراطية، هموم الهوامش التى ينحدر من رحمها وفكرا متطورا واعظم من ذلك على المستوى العملى قدرة التواصل والعمل الميدانى. من مفهوم الرؤية فقد خلف الامام رؤية صائية لازالت قادرة على العطاء. وهو فى قمة صراعة مع الديكتاتورية التى لم يستطع التعايش معها مضى سراعا لملاقاة ربة وكانت اخر اعمالة على خطى الامام العادل سيدنا عمر بن الخطاب (رض) " لدى وفاته في أكتوبر 1961، لم يوص الإمام الصديق لشخص معين خليفة له. بل كون لجنة لإدارة شئون الانصار من خمسة أشخاص برئاسة السيد عبد الله الفاضل المهدي. وقال في وصيته التي أملاها على ابنه السيد الصادق المهدي "بعد وفاتي يتألف مجلس شورى برئاسة السيد عبد الله الفاضل المهدي وعضوية السادة: الهادي ويحيى وأحمد والصادق المهدي ويرعى هذا المجلس شئوننا الدينية والسياسية بكلمة موحدة حتى تنقضي الظروف الحالية في البلاد وعندما تلتفتوا لأمر اختيار الخليفة الذي يكون إماماً يكون ذلك عن طريق الشورى بقرار الأنصار". (جهاد في سبيل الديمقراطية: مرجع سابق).

    جاء حاملا تراث حدتو المصرية فى مقارعة الاستعمار وخلق التحالفات العريضة، بطل من زماننا بة جسارة اجدادة فى مقاومة المستعمر. تولى الشهيد عبد الخالق محجوب زعامة الحزب الشيوعى السودانى وهو فى اوائل العشرينات وكان همة على طوال السنوات توطين الماركسية وسودنتها. عندما كتب من محبسه بمصنع الذخيرة فى الشجرة بمدينة الخرطوم عام 1971 انجز عبد الخالق وثيقته القيمة التي اشتهرت في ادبيات الحزب الشيوعى السودانى ب (حول البرنامج) الذى كان من المفترض تقديمها للمؤتمر الخامس. برغم صغر حجمة جاء كاسطع رؤية استراتيجية للحزب الشيوعى السودانى فى تأريخة والاخيرة فى مسارة الطويل منذ منتصف الاربعينات و استطاعت الوثيقة تلمس مجمل القضايا العالقة فى الوطن التى لازالت فى الاجندة الوطنية ويمكن ادراجة كاحد المراجع المهمة فى صياغة مشروع الرؤية السودانية وتطورة الوطني والديمقراطي. (عبد الخالق محجوب: حول البرنامج، دار عزة للنشر 2000م). لقد لخص حياتة عندما سئل في محكمته ماذا قدَّمت لهذا الشعب أجاب قائلاً : الوعي بقدر ما إستطعت ورحل بعيدا مبكرا.

    برغم ان مؤتمر الخريجين كانت لدية رؤية وان لم تكن مكتملة الاركان لبناء الوطن الا ان التشكيلة التى قادت البلاد لم تستطع تطويرها لانها خلت من الفكر الاستراتيجى ومن المفكر الاستراتيجى. لكن من تراث العملية التعليمية التى وضع اساسها المستعمر خرج المغفور لة الشريف حسين الهندى، كقيادة كاريزمية استطاعت توحيد كافة القوى المناهضة لللديكتاتورية الثانية. ورغم انة من الصعب ان نرى ملامح رؤية الراحل الا ان السودان بفقدة خسر كثيرا.

    لقد دار الزمن دورتة كاملة فى السودان وجاءت اخر رؤاة الحية والفاعلة من هامش بعيد، من الشهيد جون قرنق دى مابيور. لقد اهدى الراحل للسودانيين فكرا متكاملا عن ان نصبح سودانيين، نرى رؤيتة الكاملة فى البناء الوطنى حين نقرا تفاصيل اتفاق نيفاشا التى مثلت تتويجا لثورتة. لقد خلبت رؤيتة لب جماهير الشعب السودانى فتنادوا من شتى الفجاج والنواحي يوم الثامن من يوليو 2005م واحتشد فى ميدان الساحة الخضراء في الخرطوم اكبر حشود السودان قاطبة فى تاريخة، أحتشد من ثلاثة الى ستة ملايين من السودانيين يلوحون ويعزفون يرحبون بعودة الدكتور جون قرنق دي مابيور أتيم إلى السودان. لقد فزع النظام من هذا الحشد فلم يسمح باتمام المشهد. وكغيرة من حداة رؤى السودان انطفا النجم.

    لقد انتهى الرجل الرؤية من تاريخ العالم الحديث، لم يعد فى كنانة الوطن ان تاتى الرؤية فى شخص، من ثم اهدرت سنوات الزمن فى التجريب وسوء الادارة والعجز الكامل. هذا العالم المتصل والمتواصل بشتى انواع قنوات التواصل السمعى والبصرى والاجتماعى لا تسمح ببروز الرؤية الفرد. لقد ضاعت فرصنا فى الحصول على رؤية الفرد القائد لندخل عالم الشعب الرؤية. ان التجربة القصيرة من عمر الثورة التى تلف الوطن خير شاهد على هذا، فملايين من بناتة وابنائة يشاركون على الفيسبوك، التويتر، الصفحات الالكترونية، المدونات، البرامج التفاعلية فى ابداء ارائهم وتقديم الحلول والمشاركة. كلهم يسهمون فى صناعة الرؤية. والرؤية لم تعد احلام الزعماء او برامج احزاب لقد تحولت الى علم ولها قواعد ومؤسسات ولكن تحتاج فى البداية الاقرار بالحاجة اليها.

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de