|
الصادق المهدي : سلام السودان ما بين الإيقاد والكوديسا . قراءة واقعية
|
سلام السودان بين الإيقاد والكوديسا الصادق المهدي
في مطلع هذا العام وقعت حكومة السودان والحركة الشعبية اتفاقية سلام شامل في مشهد سار يذكره الركبان وشرع بعضهم يقترح مستحقي جائزة نوبل للسلام. وفي ظروف خمسة اشهر حتى يومنا هذا انفتحت في السودان مغارة «علي بابا» وبدلت حالة الوئام المتوقع إلى مواجهات واستقطابات لا تبقي ولا تذر من السحرة أو المتآمرة الذين بدلوا الذهب نحاسا، والدر صدفا، وقوائم جائزة نوبل إلى قوائم المطلوبين للعدالة.. الحقيقة المرة: لا سحرة، ولا متآمرة، بل مقدمات معيبة ولدت عيوبا. * الاتفاقية نصت على أن من أهدافها المشاركة الجامعة INCLUSIVITY، ولكن بنودها العملية قامت على قسمة ثنائية للسلطة، والسلاح، والثروة، وكتابة الدستور، وبناء المستقبل بصورة مفصلة تعطي الآخرين إن امتثلوا لسقوفها الثنائية دورا هامشياً. هؤلاء «المهمشون الجدد» رفضوا هذا الدور واتجهت القوى السياسية الشعبية المدنية إلى تكوين موقف شعبي واسع مضاد للحكم الثنائي الجديد». أما المسلحون المهمشون كالفصائل الجنوبية غير التابعة للحكومة ولا للحركة الشعبية فقد أكدوا رفضهم وقعقعوا سلاحهم. * الاتفاقية سمت نفسها السلام الشامل مغفلة تماما استعار حرب أهلية في دارفور ووجود حالة حرب وشيكة في شرق السودان. * التحالف الثنائي بين الحكومة والحركة تحالف هش لسببين اساسيين الأول: أن لطرفيه رؤى أيديولوجية متناقضة. والثانى: أن لطرفيه تحالفات خارجية متعارضة أهمها أن النظام حليف محوري لاثيوبيا والحركة حليف لاريتريا وبين النظام السوداني والاريترى ـ حتى إشعار آخر ـ خطة إطاحة متبادلة. ومن غفلات اتفاقية السلام الكثيرة أنها لم تحاول الاتفاق على خطوط عريضة للسياسة الخارجية فصار الطرفان حرين في اختيار السياسة الخارجية التي تناسبهما. * فجوة الثقة بين الحكومة والحركة كبرى، لذلك اتفق الطرفان على دور متابعة ورقابة وتحكيم للأمم المتحدة لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها. وطلبت اتفاقية السلام من الأمم المتحدة القيام بهذا الدور تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. لكن مجلس الأمن لدى استعراض هذا الطلب اصدر القرار رقم 1590 في 24/3/2005 وهو قرار تجاوز ما طلبته الاتفاقية في ثلاثة أمور مهمة. الأول: أنه تجاوز المناطق المحددة في الاتفاقية ليشمل دارفور. الثاني: أنه اضاف للأمم المتحدة مهاما أخرى لم تطلبها الاتفاقية. والثالث: وهو الاهم أن مهمة الأمم المتحدة في السودان ستكون بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أى باعتبار السودان خطرا على السلام العالمي. الفصل السادس اختياري. والفصل السابع اجباري. والمدهش حقا أن مجلس الوزراء لدى قبوله للقرار 1590 قرر الموافقة عليه «لأنه جاء تلبية لطلبنا» مرة أخرى يتأكد بأية غفلة تدار أمور السودان! * إن لعدم ثقة الأمم المتحدة في النظام السوداني خلفية: أبرم النظام مع الأمين العام اتفاقا في 3/7/2004 ولم ينفذه. ودخل في اتفاقيات وقف إطلاق نار، وحماية مدنيين، وحماية جماعات الاغاثة الإنسانية، وقعها مع حركتي الانتفاضة المسلحة في دارفور ووقعت تجاوزات. لذلك أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1591 في 29/3/2005 . قرار يحظر الطيران العسكري السوداني في سماء دارفور. ويقيم آلية مفوضة لمعاقبة كافة الذين يخرقون وقف إطلاق النار أو يعتدون على المدنيين أو جماعات الاغاثة. وقبل مجلس الوزراء هذه الوصاية الدولية الأمنية والقضائية من دون تحفظ. * في سبتمبر 2004، اتهمت الولايات المتحدة النظام السوداني بارتكاب جريمة إبادة جماعية في دارفور. بحث مجلس الأمن الاتهام وقرر تكوين لجنة دولية للتحقيق في الأمر. النظام السودانى قبل تكوين اللجنة التي أمضت ثلاثة أشهر في دارفور ونشرت تقريرها في 25/1/2005. التقرير نفى الإبادة الجماعية نفيا غير قاطع، ولكنه اتهم الحكومة السودانية وحلفاءها والمقاومة المسلحة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وأوصى بتقديم 51 شخصا للمحاكمة أمام المحكمة الجزائية الدولية. استعرض مجلس الأمن توصيات هذه اللجنة وقبلها واصدر قراره رقم 1593 بتاريخ 31/3/2005 هذا القرار رفضه النظام السوداني لأنه «يمس بالسيادة الوطنية». المحكمة الجزائية الدولية من أدوات العدالة الدولية التي نشأت الحاجة إليها لمحاسبة الذين يشنون الحرب العدوانية والذين يرتكبون جرائم إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. وتكوينها يسد ثغرة مهمة في جهاز العدالة الدولية. والسيادة الوطنية نفسها ليست للحكومات، بل للشعوب ولا حرمة لمن يسفك دماء الأبرياء إذا وقع منه ذلك حقا. نعم، نحن أهل السودان نشعر بأن حرص النظام على الانفراد بأمر الدين والوطن أدى إلى استقطابات حادة وبعد أن بلغ السيل الزبى قرر مشاركة الجيش الشعبي في تمكين ثنائي. وقرر أن يحاول استرضاء قوى المقاومة المسلحة الأخرى بعطايا ثنائية مستبضعا حل مشاكل السودان الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، في كل عواصم العالم في نيروبي، وابوجا، واوسلو، والقاهرة، وانجمينا، وطرابلس مبيحا للجميع التخطيط للشأن السوداني. والنهج الراتب في كل هذه المحاولات هو تجنب الحل السياسى الشامل عبر مؤتمر قومي دستوري كان مزمعا في 18/9/1989 فقوضه الانقلاب واستمر وفيا لذلك الهدف حتى يومنا هذا «يسائل عن فراش كل ركب وعند جهينة الخبر اليقين»! الدرس المستفاد من اتفاقيات السلام في أفريقيا الناجحة منها والفاشلة هو أن من أهم أسباب الفشل: أن أصحاب السلطة يهدرون اتفاقيات السلام لحرصهم أخذ ما أعطوه باليمين باليد اليسرى. أو أن القوى المتبنية للتحرير تنتقل عبر التفاوض من التحرير إلى التمكين الحزبي فتهمش الآخرين وتضر باستدامة السلام. إن ما يجري في السودان اليوم من مواجهات واستقطابات وعوائق في سبيل السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الحقيقي نتيجة حتمية للمقدمات المعيبة والعاقل من اتعظ بغيره. أو تعلم من أخطائه. لقد عدت توا من جنوب أفريقيا والتقيت فيها سياسيين ومسؤولين، ومنظمات مجتمع مدني عاملة في كل المجالات، وهيئات دينية إسلامية ومسيحية، وجماعات إسلامية، وشركات استثمارية وغيرها وسرني كثيرا ما رأيت وسمعت، واستعرضت مع بعض الجهات ما كنت معجبا به نظريا في تجربة جنوب أفريقيا الرائدة في التحول من الاقتتال للسلام ومن وصاية البيض للديمقراطية. تجربة جنوب أفريقيا تحمل ثلاثة دروس مفيدة لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد: الأول: الذهنية الديمقراطية التي تحلى بها منديلا وزملاؤه وديكلارك وأعوانه أوجبت الحرص على ديمقراطية خطى الانتقال والمشاركة الجامعة. لذلك عقدوا مؤتمر الديمقراطية في جنوب أفريقيا في 1993 (كوديسا). هذا المؤتمر كان جامعا بحق شمل 26 حزباً وفصيلا من أقصى عتاة البيض إلى أقصى غلاة السود. وكانت النتيجة: اتفاق سياسى محكم ودستور يمتلكه الجميع ويلتزمون به لذلك أكدت جدواه تجربة الأعوام العشرة الماضية. الثاني: أن مظالم الماضي لا يمكن تجاوزها، ولا ينبغي الخضوع لأسرها. لذلك أقاموا آلية عبقرية توفق بين الهدفين هي هيئة الحقيقة والمصالحة. الثالث: أن أصحاب التجربة هم قوى جنوب أفريقيا الوطنية نفسها بلا دور للخارج إلا الأمنيات الطيبة. لذلك أنبتت التجربة شجرة طيبة.. «أصم أم يسمع غطريف «الوطن». إنما يستجيب الذين يسمعون ! نقلا عن الشرق الأوسط
|
|
|
|
|
|