الكاتب جمال غلاب : نصوص يليها حوار

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-12-2024, 12:55 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الصادق الرضى(Alsadig Alraady)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-21-2005, 07:37 AM

Alsadig Alraady
<aAlsadig Alraady
تاريخ التسجيل: 03-18-2003
مجموع المشاركات: 788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الكاتب جمال غلاب : نصوص يليها حوار

    الكاتب جمال طه غلاب
    بدا النشر في منتصف الثمانينيات ، بالملفات الثقافية بالصحف ، وكان عندها في المرحلة الثانوية ، يقيم ويعمل منذ عدة سنوات ، بالمملكة العربية السعودية ، اصدر قبل عامين كتابه السردي الاول " حكايات متسكعة " يعد الان لاصدار كتابه السردي الثاني تحت عنوان " فاكهة مهملة " هنا نصوص ، يليها حوارنا معه
    بدأ كتابه الاول " حكايات متسكعة بـ
    توطئة
    أنه من غير المعقول أن يكون العالم كله من العقلاء والوجهاء والظرفاء الذين لا يشكون من عسر في الحصول على الوجبات التي تقيم صلبهم ولا في هضم تلك الوجبات ولا مشقة تنغّص عيشهم إذا ما فرغوا للفراش، هؤلاء هم سادة العالم المألوفين وعملهم هو إفهامنا أن الحياة هي ما يسير على تلك الوتيرة فحسب وهم مرموقين ربما لأن حياتهم مرّقمة وربما لإبحارهم في المياه الآمنة و ربما لأن تلك سنة الحياة.
    لكنما الكون له سادة قلما يرفع الستار عنهم أو يحمل دأبهم محمل الجد.
    هذه محاولة لمعاينة ما خلف الستار.
                  

07-21-2005, 07:47 AM

Alsadig Alraady
<aAlsadig Alraady
تاريخ التسجيل: 03-18-2003
مجموع المشاركات: 788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتب جمال غلاب : نصوص يليها حوار (Re: Alsadig Alraady)


    حكاية السكران حارس القمامة
    هذه الحكاية حكاها سكير مشهور, يرويها على أنها من بطولته, هي فيلمه وهي his masterpiece, ألّفها ومنتجها و أخرجها و الإكسسوارات من عنده وقد رواها الناس عنه وأنا هنا أحاول رواياتها كما رواها هو والناس.
    أول ما يفعله السكير المخمور المشهور فور رجوعه من الخمارة هو الاقعاء والتقرفص في قلب ميدان مهجور يرمي الناس مخلفاتهم فيه. يبدأ ذلك عند الغروب ويدوم حتى وقت تنقطع فيه الدروب لكن الفجر أبداً لا يدركه هناك.متى يدركنا الفجر؟متى ندرك الفجر؟هذا كله في علم الغيب.الفجر نفسه شكل من أشكال الغيب كما يقول الحكماء.
    عليّ أن أبين لماذا يسكر الناس قبل الشروع في الحكي.قال جدي و هو حكيم كان سكيراً على أيام فتوته ثم منقطعاً للعبادة ومتفرغاً لنثر الحكم الدراري شيخاً قابعاً على التبروقة التي تباهى بأنها من جلد النمر: أن الكأس الأولى تشعره أنه حصان وأنّ الثانية تحمله إلى مرتبة الوعول ولأنه على أيامه لم يعرف التصوير الفوتوغرافي فانه من العسير التثبت من القرون المتشابكة, والثالثة تصقرنه أي تجعله صقراً وعندما يغدو نمراً, يتطاير الشرر من عينيه فتبرقان كالأحجار اللئيمة وتحرقان, و ذات مرة جعلته كأس مجنحاً كالبراق لكن الكؤوس بعد أن تجرّب الضواري جميعاً لاتجد مسكاً تختم به رحلة البراري سوى الفأرية والجرذية والحنفسائية.يتحول السكران طال السكر أم قصر إلى فأر وخنفساء وهوام هيّام.
    هل أواصل أقوال جدي أم أذكر لكم أقوالاً أخرى بشأن السكر, أم أشرع في سرد حكاية القمامة التي تنتظر السكران ليحرسها كل مساء.
    لا تقلقوا.سأفعل هذا كله.يقال أن السكر مرات يكشف المحجوب ويخفف عن الإنسان الوطأة إذا كان علي أمره مغلوب (يخففها إن وجدت وبالعدم فهو يجلبها ويضعها علي العاتق ثم يخففها) وهناك سكر بلا خمر كما تعلمون..ولكن هل هذا من شأننا.
    هل جدي شيخ أم شبح وهل التبروقة من جلد النمر حقاً أم كان يقول ذلك من باب التباهي وكيف يقضي النمور الليل في الغابات؟هذه جميعاً أمور تحتاج إلي كتب ضخمة ويعلم الله أنني شاب طيب تتهدده أخطار جمة ويريد أن يحكي حكايات جميلة ولا يعرف كيف يفعل ذلك.
    سأحاول تعلّم ذلك, ولكن ماذا كنا نقول وما الذي أريد كتابته الآن؟
    السكير بطل قصتنا رجل في أواسط العمر.ولكن بأي مقياس يتحدد أن شخص ما في أواسط العمر؟دعونا من عمره الآن و لنعد للحكاية.
    كان وحيداً.والده مات وتركه وحيداً.أمه ماتت وطبعاً تركته وحيداً.الأخوان والأخوات, الأخوال والخالات..الخ, من لم يمت منهم لم تعد تربطه به رابطة, لأنهم في الأرياف البعيدة والمدن وأشباه المدن يتخبطون وصدق من قال أن من لم يمت بالسيف مات بالمدن والريف.ماتوا ولكنهم تركوا له بيتاً فترك الوظيفة وعاش في ركن منه وقام بتأجير الباقي وبات يسكر بالنقود التي يستلمها مطلع كل شهر وباتت مهنته هي سكير الحارة.هذه مهنة منحها له أهل الحارة عن طيب خاطر رغم أن هناك عدد لا بأس به من السكارى والحيارى وهناك مقاطيع ولكنه بزّ الجميع بجعله السكر مهنة ينهض لها ابن آدم باكراً في الصباح ليعود منها في آخر الليل.
    يصف اليوم المشهود للناس فيصفه الناس فيقول ويقولون:صحوت من النوم سعيدا فأمس عدت باكراً وكنت بائساً ويائساً ولكنني استلمت الإيجار بعد عودتي مباشرة وعليه فسأقضي اليوم كله في الخمارة وسأشرب حتى ينتصف الليل.
    عليّ المحافظة علي هذا المال حتى لا أجد نفسي مضطراً للاستدانة والتخبط والمهانة. عند أول كل شهر أقول مثل هذا الكلام لنفسي لكن النقود اللعينة تضيع في اليوم نفسه الذي استلمه فيها, النقود لا سبيل للمحافظة عليها, خصوصاً إذا كان ابن آدم مغرماً بالخمر كما يقول الفقهاء.ربما بعد الشرب أتمكن من التفكير في الموضوع بصورة أفضل.الآن أتهيأ لسكرة لا تنسى.واستمر يصف ذلك اليوم فقال:
    تحممت جيداً كما لم أفعل منذ وقت طويل ومّشطت شعري وتهندمت ثم خرجت إلي الطريق.صفّرت,مشيت هوناً,الثروة في جيبي واليوم لابد سيكون رائقاً.عبرت الأزقة بخفة عصفور وللمرة الأولى شعرت بشيْ من الألفة نحو الميدان الذي يتعين علي عبوره والذي يذّكرني بالمصائب حين أعبره لاسيما بعد انتصاف الليل, أسود وصامت مكفهر تمرح فيه الكلاب و ذات مرة داهمني هناك ثلاثة عمالقة فتشوا جيوبي وقلبوا ملابسي فلم يجدوا مالاً عندها أخذ كل واحد منهم يدفع بي ناحية الآخر ثم جنّ جنونهم بغتةً فشرعوا في صفعي ولكمي وركلي وأنا سكران وحيران, أشبعوني صفعاً وركلاً ولكماً لا قبل لحمار بمثله ثم نفضوا أيديهم تاركين إياي بين الحياة والموت ومن يومها و أنا أكره ذلك الميدان و لا شكّ انه يبادلني الشعور نفسه لكنني في ذلك الصباح حييّته: صباح الخير يا ميداني و وسعّت من خطواتي حتى بلغت زقاقاً تنزوي فيه الخمارة وهي بيت يحاول أن يوهمك أنه غير موجود لكن رائحته تدّل عليه من بعيد.لي مع هذه الخمارة المتهاوية عشق قديم وحكايات غابرة وقد مرّ عمر كامل وأنا لا عمل لي سوى الدخول إليها في الصباح الباكر والخروج منها في آخر الليل.
    بدت الرائحة لذيذة هذا الصباح وأصلحت من هندامي قبل خطوات من البيت وتنحنحت قبل أن أدفع باب الصفيح وأدخل.ما من زبائن, لكن كل شيْ معد لاستقبالهم وربما كل ذلك لاستقبالي.جلست على بنبر تحت التعريشة المهلهلة ولم يبد على مرزوقة أنها انتبهت لوصولي وهي مشغولة بإعداد المكان فتنحنحت again فالتفتت كما ينبغي لست عرقي أن تنتبه, تلفتت فحييّتها بحرارة فردت دونما ترحاب وكان السبب معروفاً ومألوفاً فعليّ دين لم أسدده, وتقدمت نحوي كما يتقدم حكم يتأهب لإخراج البطاقة الحمراء وقبل طردي أو تحذيري سارعت إلي نتش ورقة نقدية براقة من جيبي دسستها في يدها وطلبت شراباً محترماً.أحضرت دلواً تعوم على وجهه قرعة صغيرة فلحست شفتي وجذبت الدلو وملأت القرعة مستفتحاً يومي برشفة طويلة مركّزة كثيفة اهتزت لها الجدران وأقشعرّ منها الظل.أنهيت الكأس الأولى,بل القرعة الأولى واستسلمت لتيارها الذي جرفني بتؤدة وأخذ يؤرجحني أرجحة هينة لينة أحسست معها بالأمان والدفء والحنين والحنان ونهضت في خيالي شاشة سينمائية تتالت عليها صور سرية غامضة لا مثيل لجمالها وتدفق غناء بهيج ملأ ما بين الأرض والسماء وأحسست بأنني ملك على العرش.لله درّك أيتها الكأس الأولى يا سيدة الكؤوس يا بوابة النعيم.لا يعدل الكأس الأولي شيء واني أعبدها وأقدس الرشفة الأولى.
    مثلما قرأت فان الكأس الأولى عند صاحب المزاج مثل السيمفونية الأم لدى الموسيقار الكبير, كل بقية أعماله تنويع عليها, كذلك هي الكأس الأولى بقية الأكؤس أصداء لها وتنويع عليها لذلك فأنني لا أتبعها بأخرى أو بالأحرى لا ألوثها إلا بعد زمن طويل.تركت القرعة تعوم في الدلو وسرحت ببصري بعيداً وبعقلي أبعد.من المفروض أن أكون متزوجاً وصاحب عيال ولكنني ليس كذلك. من المفترض أن أكون رجلاً محترماً بعمل مثمر وسيارة ورصيد في البنك لكن شيئاً من ذلك لم يحدث فالثروة ضاعت والبيت الذي هو البقية الباقية مما ورثته سيضيع هو الآخر لأنني أنوي بيعه بثمن بخس وسأسكر بالثمن.لا أعرف هل أنا سعيد أم شقي.الأرجح أنني شقي ومع ذلك لا أهتم.حاولت الدخول إلي الحياة من الباب الذي يدخل منه الجميع لكنني وجدت أن ذلك لا يناسبني.ابتدرت الدخول فوراً بموضوع النساء فإذا هو موضوع فاشل طويل عريض يصدع الدماغ ويوجع القلب.قابلت نساء كثيرات و ما حدث هو أن جميع اللواتي قابلتهن إما أنهن يرغبن في الحصول على المال وإما أنهن يرغبن في الزواج و90 في المائة منهن يرغبن في الاثنين معاً فلم أحمل الموضوع محمل الجد.تركت العمل وبت أسكر بلا حساب.قضيت وقتاً أحياناً هو ممتع مع الراغبات في المال أما نساء الزواج فقد هربت منهن بكل قوتي.شرع المال الذي ورثته في التبخّر وما بذلت جهداً في منعه فلما صرت معدماً أجّرت البيت.جاء رجل من أصدقاء المرحوم أبي وأخذ ينصحني بالعودة إلى العمل وظل يطاردني صباح مساء ودخل واسطة خير هنا وهناك ولم يدعني إلا وأنا موظف حكومي مرة أخرى.موظف في مصلحة بها ملفات وعنكبوت ونساء يرغبن في الزواج وقوادين ورجال وخط الشيب رؤوسهم يضعون النظارات السميكة ويقضون اليوم وهم يسبحون في بحر من الغبار, قضيت بها أسبوعاً واحداً ثم فررت منها إلي غير رجعة.تثير حياتي الشبهات وشهية الجيران وأبناء السبيل فهؤلاء لا يتركون مناسبة للنصح والإرشاد والتوجيه إلا وصبّوا عليّ جام ذلك جميعه كما يصب الزيت الساخن على الجرح المفتوح.لم يجدوا مني استجابة فباتوا يسخرون وكفّوا عن الحديث حول ما يجب على الواحد أن يفعله وما على الواحد أن يتجنبه وباتوا يجدون سعادة قصوى في وضع تلك الابتسامة على شفاههم كلما رأوني والحمد لله أنهم كفّوا عن ملاحقتي.
    دعونا نقطع على السكير المشهور تأمّلاته واسمحوا لي أن أتدخل معلّقاً.كأنما كان السكير(لاحظوا أنني أصر على لفظة السكير رغم أن الرجل يمكن أن يكون فيلسوفاً أو ما يشبه الفيلسوف لأننا تعودنا رؤية جانب واحد وترك بقية الجوانب)..المهم, كأنما كان يشعر ويحس في دخيلته أن هذا اليوم سيكون يوماً مختلفاً في حياته و إلا ما الذي دعاه للقيام بجردة الحساب تلك والعودة إلي الوراء وإثارة مسألة السعادة والشقاء على هذا النحو.يقول الحكماء والعظماء أن ابن آدم لديه حاسّة تمكّنه من استباق الأحداث والتهيؤ للمنعطفات المصيرية و العلامات الفارقة التي لا تكاد تخلو منها أتفه الحيوات واقلها حظا والحظوظ مذكورة هنا للإشارة إلي أن بعض الناس يولدون ويموتون من دون أن يحظى ما مروا به بالحصول على لقب حياة وغالباً ما يكون الاستعداد للأمور الجليلة بالوقوف مع النفس و التلفت نحو الخلف و مراجعة الشخص لحياته مراجعة مؤلف مهووس بالدقة.لعل الإنسان يسعى بذلك لوزن وقياس ما فات ليقذفه بوجه ما سوف يأتي.وهل يفعل الإنسان ذلك لردّ ما سوف يأتي أم لأنه يريد أن يخلط الأوراق ليحشر ما فات في ما سوف يأتي.كلّها أمور حاصلة ومجرّبة ولعل نفحة من روضة القصر هي التي هبّت على السكير فحملته على أن يتدّبر ويتفكّر تاركاً القرعة قبالته سابحة في المريسة.
    الأحداث التي وقعت قبل بلوغ الميدان لم تكن بالغة الأهمية.أسرف على نفسه في الشرب وغالى في السكر.يقول عن ذلك:
    توالت الكؤوس وألفيت نفسي فيلاً من السكر والنشوة.كنت لا أتوقف إلا لأسمح للهدهدة بأن تغدو وتروح بي.اهتديت إلي الأرجوحة التي تضيع من الناس فتشبثت بها.تذكرت أمي وطعم الصباح وشذا البن في الظهيرة وظل طفولتي الذي حسبته مديداً ولكنه تلاشى وتركني في الهاجرة.تبدى لي أن كل ما وقع في حياتي وقع في غفلة مني ورغم ذلك لم أذعن لمصيدة الندم التي تحاصرنا بها الذكريات فعببت الخمر عبا.
    ثم غادرت الخمارة بعد انتصاف الليل.ما أذكره الآن أنني كنت على حال لن أكون على أحسن منها أبدا.أخذت أمشي على طريقة السكارى.خطوات كثيرة للامام وخطوات أكثر للخلف.خطوات جهة اليمين ثم جهة اليسار,خطوات تنظيم,معتدل مارش وعندما انكفأت على وجهي فكّرت في أن أخطو إلي فوق لكنني عدلت عن الفكرة وصرفت النظر.لاح الميدان فقررت المشي على طريقة الفلاسفة والحكماء.
    ثم بلغته..ونتدخل هنا لنقول أن البلوغ جعله يتوقف ويفرمل شأن البشر لدى المفترقات.هل كل ابن آدم مزود برادار يتتبع ذبذبات المصير ليلتقطها ويترجمها فيتشكل بموجبها السلوك وتتحدد الحركات والسكنات؟ هذه الوقفة مهمة لأن ما فعله السكير الشهير ليلتها أختلف قليلاً عن الذي يفعله كل ليلة.وحتى نكون أكثر دقة نقول أن بلوغه الميدان بعث فيه مشاعر مختلفة عن التي كان يبعثها في كل مرة. ما كانت فرملة المتردد المذعور بل هدنة المتريّث المنصور.هكذا حال المعجزات دائماً.تهيْ الزمان والمكان فلا يظهران بالمظهر المألوف ففي تلك اللحظات لم يكن الميدان هو الميدان لأن هالة من نور بداخلها بنت من الحور لاحت للسكران في الجانب الآخر.و تشبّع الجو بعطر فاغم وهبّ نسيم رقص له الليل الفاحم.وماذا فعل السكران؟ قال أنه فغر فمه وفرك عينيه وبهت وتسمّر في مكانه وتسيّبت ركبتاه وتضعضعت أركانه وطارت سكرته الفريدة وحطّت..قائمة طويلة من ذلك فيها الأوصاف اللائقة برد الفعل الذي يصدر عن ابن آدم عندما تلم به الدواهي وتبرز له من مكامنها السواهي لأن الكون معظمه خاف عن الإنسان بل هو فيه كالرضيع وأجهل وكالتائه في التيه وأضل فوقه السماء وتحته الأرض وهو بينهما مخدوع وجل و إذا ما سنحت فرصة مناسبة أخرى فإننا قد نسترسل في سرد ما بالقائمة من وصف لرد الفعل وقد ندعم ذلك بما جادت به قرائح الحكماء لكن المهم الآن أن الهالة اتسعت وغمر نورها الميدان و انبثقت أشجار، وغردت أطيار, كل ذلك بقدرة الواحد القهار. لاح قصر بديع أخذت تلك الأنثى تجرّ الذيول صوبه وتلتفت وتلّوح له تدعوه أن يقبل وتقول هيت لك.
    هاهي الحكاية تنتقل من أرض الأنس إلى أرض الجن وهاهو السكران يتبع التي دعته بهمة لم يعهدها في نفسه من قبل.عبرا ممراً طويلاً تحفه الأزهار.تبعها وتبعها وظلت المسافة بينهما ثابتة حتى بلغت باباً انفتح لوحده وانتظره الباب لينغلق من تلقاء نفسه.كان السكران قد أعطى تقريراً مفصلاً عن ما جاشت به نفسه وهو يتبع الحورية ولا حاجة لنا هاهنا لنحكي ونعيد فخلاصة الأمر هي الذهول وعدم التصديق.ومن يصدق أن ميداناً مخصصاً لرمي القمامة يتحول في اقل من غمضة عين إلي كل تلك الرياض التي وصفها السكير المشهور بإسهاب وإعجاب ضاريين. وإنني لأرى أن إعجابه هو السبب في تضارب أقواله فهو أبداً لم يرو الحكاية نفسها مرتين, لقد كانت لديه ألف حكاية وحكاية عن تلك الأيام التي قضاها بصحبة الخضرة والماء(الخمر)والوجه الحسن.
    إلي جانب ذلك يأتي ما يضيفه الناس وما يحذفونه للتندر والتسلية وبقصد الخروج بدروس نافعة ولتدبّر عجائب الدنيا.كل هذا حاصل وأنا بمحاولتي تسجيل بعض فصول هذه الملهاة المأساة أزيد الطين بلة.بربكم أليست ملهاة تبعث على الأسى.كيف لا وهي مأساة يلهو بها الصغار الآن.المأساة والملهاة وجهان لعملة واحدة.هكذا قال الحكماء.والصغار هم أحسن من يفهم.لذا فان الكبار سئموا حكاية السكران فبات لا يجد جمهوراً خيراً منهم.يقتحم عليهم الملعب ويجمعهم ويحكي لهم.كانوا يسألونه أسئلة صعبة لكن كل شيْ كان موجوداً بذاكرته.
    تقاعدت جميع تفاصيل حياته في ذاكرته وأفسحت المجال للحكاية.ليس عنده شيء غيرها.كانت هناك تفاصيل يجد لذة طاغية في استعادتها خصوصاً عندما استدارت فبهت وشهق وأخذ يتراجع.هذا السكير مثل جميع الناس في هذه البلاد, يحب مشاهدة الأفلام ويحب لحياته أن تشبه حياة أبطال الأفلام وهو حين يحكي لك كيف استدارت وكيف بهت فأنه يقدم مشهداً يدخل الذاكرة حياً.تباً للذاكرة والتذكر والذكريات.قال الحكماء أن الناس يتوهمون أشياء ويتعلقون بما توهموا وبمرور الأيام تنضم الأوهام إلي قافلة الذكريات وتختلط بها فيتعاطاها المرء كما لو كانت حقائق و لا تفلح قوة في الأرض في إقناعه أنها أوهام وأضغاث أحلام.وكيف هو الطقس وما علاقته بالأضغاث؟
    ماذا حدث له عندما استدارت هي وتراجع هو؟ لقد استمرت تتقدم وطفق يتراجع.طارت بروج رأسه ودقّ قلبه كالطبل وكاد يصرخ من شدة الفرح والفزع وعدم التصديق فلم ينتبه إلي بركة السباحة وراءه, ولا لحافتها فهو في شغل وأي شغل فأصطدم بها وسقط بكليته في ماء الورد وتسللت إلي خياشيمه أشذاء الفل والياسمين وعبير الجوافة والتفاح فأخذت تضحك وخطت بالطريقة التي يخطو بها الأشخاص الذين يراهم النائمون في الحلم وجلست على الحافة الرخامية ومدت يدها إليه فسبح وهو الذي لم يسبح من قبل وتعلّق بالكف البضة التي جذبته جذبة تتفتت لها الأكباد وتتقطع نياط القلوب.
    لا يدري كيف وجد نفسه في حضنها.أهو حصن أم هو حضن, أم انه الحضن الحصين؟ هل نصف الأبواب التي فتحها الحضن أم نصف الكيفية التي غسل بها الوعثاء والعناء أم نكتفي بالقول أنه حضن الأحضان؟شئنا أم أبينا لا بد من الوصف و الإسهاب علنا نخرج بإفادة ما.لقد تكشّفت حجب و انجلت ظلمات و ألفى السكير الدرويش نفسه في دوامة ضوئية تفتح ألف باب في غمضة عين,خلف كل باب حديقة كالمشكاة,في كل حديقة ألف زهرة تفوح بألف عطر,كل عطر يكفي لمداواة العالم من جروحه إلي الأبد.
    ولكن هل إلي الأبد؟؟
    بعد فاصل القبلات المدوي جاء دور فاصل عبور الممر المغطى بالمخمل الموكيت السجاد الفارسي التركي البيزنطي المحفوف بالورود.كفه في كفها وسارا.قال انه كان قرداً من السعادة في ظل جمالها المستحيل وما كان يعلم ما الذي سيحل به وما كان يهمه أن يعلم.
    سنحاول تقديم مقتطفات ولقطات لا تشفي الغليل هي بانو راما لأحداث الغرفة القرمزية التي ألفى السكير نفسه فيها مع تلك الأنثى.ولكن أحداث الغرف التي يختلي فيها رجال بنساء مما لا يحيط به وصف وليس من الحكمة في شيء تضييع الوقت والجهد في محاولة فاشلة لوصف شأن تتداخل فيه السعادة مع البؤس علي نحو طاحن.
    فما العمل ونحن نقتدي و نهتدي بالحكماء والفلاسفة ونحن نبتغي تسجيل تجربة ذلك الرجل بأمانة علنا نخرج منها بدرس نافع أو علنا نتسلى أو علنا نعثر على أنفسنا بتأملنا لتشتته أو علنا نساعده في العثور على ذلك الباب.و هل تظنون أن دعمنا له حباً فيه؟مفهوم ومعلوم أن الإنسان يحب الخير لنفسه وعليه فان العثور على مفتاح الباب الضائع مفتاح سعادة لنا وله سيما أن خلفه مثل تلك الغرفة ومثل تلك الأنثى.لكن الباب يقبع في نهاية القصة فما الذي حشره هاهنا وما الذي يجعلنا نلّوح به ونحن لم نصف بعض الأحداث الجسام التي شهدتها الغرفة القرمزية بعد.
    أمضى السكير بالقصر زمناً لم يعرف مقداره متقلّباً في النعيم ووجد من تلك الأنثى ما أنساه ماضيه وحاضره ومستقبله.الماضي والحاضر والمستقبل أكذوبة نبتدعها لنعطي لحياتنا قيمة كما ورد في كتاب الحكمة الكبير ولكن عندما يبلغ الإنسان المراد ويشفي غليل الحاجات الأساسية من أكل وشرب ونكاح وعلى وجه ما فيه من المشقة شيْ وبمنأى عن العنت الذي تشتهر به طبيعة حياة البشر في اجتماعهم ببعضهم البعض فان القيمة نفسها تصبح شيء بلا معنى و بلا قيمة وذلك هو حال صاحبنا بالضبط.
    و ماذا جرى في الغرفة.
    لقد ابتدأ كل شيْ وهما متخاصران بالممر المؤدي إليها فماذا حلّ به هناك؟
    لقد غلم و قطم و شبق و أنعظ ذكره وأشظ وشظشظ وفسج وعرد وانتشر.وهي قد تفقحّت وضبعت وصرفت وحنت حناءً.فلما فاض بهما تطايرت الثياب فإذا بها تهوى البعال وتلذ الجماع وتحب البضاع فأوغفت لفحلها الذي ضرب ولومست فشبقت وجّمشت فودقت وخولطت فعرقت وافترشت فسخرت فلفعها تليفعاً وكامعها وألتثم فاها فناكها وباكها وجامعها وباضعها وضاجعها وسفحها ونكحها وطرقها وخرقها وفرقها وضربها وبخزها ووخزها ومخرها ولغزها وجشاها وخطاها ومحثها ووحطها ومعطها وهرجها وخلجها وعسدها وعردها وسفدها وسلقها وشقلها وفرعها وفشجها وفتجها ودسرها ودغرها ونزا عليها وبغى وعلاها.
    وظلا على ذلك الحال زمناً وهي تئن أنيناً يدك الجبال وهو يلهث لهاث الظاميْ الولهان فحظ بها فشاجاً وعط هنّها نكاحاً فشقلها بشاقوله ورغب فرجها بغرموله وحرسها وهي مستلقية وباضعها بضعاً كاشراً أي أنه أفرج رجليها وقعد بينهما فأدخل ذكره ودغر ودسر ورعس ودمس ورغم ودس وهجم وقحم وغلّ وشاج وثاج وزقب ونشب فغمز كينها وأقرّ عينها وزاحم طحالها وألحق قرطها بخلخالها ورفع كراعها وأشال شراعها.
    لقد هجمت جواهر الألفاظ لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي على الحكاية لتصف بعض أحداث الغرفة فليس هناك أفضل من جواهر الألفاظ للاحاطة بأمر كهذا.وتوكيداً للرغبة الصادقة في تحقيق الأمانة العلمية في تصوير أحداث الغرفة بوصفها العمود الفقري لقصتنا بل ل99في المئة من القصص التي يتداولها الناس فان بعض الأسطر أو السطور من ألف ليلة وليلة أبت إلا أن تتدخل لتدعم الموقف.
    و لأن تلك الأحداث كانت تقع كل يوم ولكن بأساليب مختلفة فلا بأس من نبش تلك الكتب الدائرية الصفراء.
    (قام وقلع ما كان عليه من الثياب وجلس على الفراش وطلب النغاش ووقع الهراش وحط يده على ركبتها فجلست هي في حجره وألقمته شفتها في فمه وصارت هذه الساعة تنسي الإنسان أباه وأمه –وماضيه وحاضره ومستقبله- فحضنها وضمها إلي صدره ومص شفتها حتى سال العسل من فمها ووضع يده تحت إبطها الشمال فحنت أعضاؤه وأعضاؤها للوصال ولكزها بين النهدين فراحت يده بين الفخذين وتحزّم بالساقين ومارس العملين ونادى يا أبا اللثامين وحط الدخير وأشعل الفتيل وحرر على بيت الإبرة وأشعل النار فخسف البرج من الأربعة أركان وحصلت النكتة التي لا يسأل عنها إنسان وزعقت الزعقة التي لابد منها وهنا أدرك شهرزاد الصباح ولكننا لن نتركه يدركنا لأن جمال الحكايات في ما تعج به من ليل)
    وهل كان بمقدوره التمييز بين الليل والنهار؟وما الذي يهمه من أمر الليل والنهار وعمره سيمضي كما يشتهي في سكر وعربدة وتلفيع ولثم وما يقضي البشر أعمارهم في سبيل تحقيق النذر اليسير منه فلا يحصدون سوى الهشيم.لا سجم ولا رماد بعد اليوم.لا خمارة قميئة يذوق فيها الإنسان الذل والهوان للحصول على تلك القمامة التي أسموها باطلاً خمر وما هي بالخمر.بعد عودته ظل السكير يعقد مؤتمراً يومياً للاءات الألف وهو يحكي حكايته.يبسط لاءاته ملوحاً بيديه,يفترشها مثل بضاعة كاسدة ولا يسلم عابر من شتائمه ولعناته.يشتم ويلعن وفي باله النعيم الذي كان، يتلفت حوله فيكتشف البون الشاسع بين الذي كان والذي هو كائن فيشتعل ويتأجج وتترقرق مدامعه ثم يعول كما تعول النساء في وداع البعول.
    ولماذا يفعل ذلك كله؟
    أمضى في القصر زمناً لا يعلم مقداره, ربما هو يوم وربما سنة وربما قرن لكنه زمن مفعم بالسعادة والرضا ولأنه كذلك فان قياسه يعد مستحيلاً وهو ضرب من الزمن لا يبدأ المرء في الانتباه لمقداره إلا عقب انقضائه.هذه حكمة واضحة ومعروفة ولا لبس فيها.اللبس كله أن يجد الإنسان نفسه في قارعة الطريق، فقيراً معدماً وحيداً بعد تسّنمه قمة المجد وارتشافه رحيق السعد.
    لا بد أنكم قد عرفتم ما حدث للسكير أو على الأقل تكونت لديكم فكرة عن ما آل إليه أمره لكن لا بأس من مواصلة الحكاية فما من حكاية إلا وتحمل من يتتبعها إلي محاولة توقّع نهايتها وهي تحمل بذور النهاية في البداية وأنا أصرّ علي مواصلتها لأنه ليس لدي ما أفعله ولأن الأمانة تقتضي تسجيل ما يدور في الأزقة الضيقة والحواري بدقة لأنها تقع خارج التاريخ والجغرافيا ولن يقف الأمر بي لدى إكمالها وترك المتلقي يستخلص منها دروساً وعبراً وفق مزاجه السقيم بل سأقوم بالمهمة و سأسلمكم الدروس و العبر التي تحملها حكايتنا بين ثناياها كما يفعل أي شخص نزيه يحب أن يتقن عمله.
    الأنثى الجهنمية في كل يوم تستخرج من صاحبنا طاقات كامنة ما كان يخال أن كيانه ينطوي عليها.بدا وكأن الواحد منهما يعرف الآخر منذ زمن بعيد.لم يتبادلا كلاماً يذكر لأنشغالهما بتبادل القبلات, ثم ما جدوى الكلمات والأجساد فصيحة وصحيحة ومحلّقة إلي سماوات لا تطال وغائصة في أعماق لا تدرك.
    ابتدأت- المأساة- مأساة السكير بالكلام.عندما أجلسته على حجرها وقالت له أن لديها كلاماً هاماً تريد أن تقوله له فرح وظن نفسه على أعتاب فتح جديد لكنه جاهل أحمق لا يعلم أن الكلمات عندما تشرع في الاجتماع والتراص لا تفعل ذلك اعتباطاً بل هي تفعله مع سبق الإصرار والترصد لصنع متاهة يضيع فيها الإنسان وقد دشّن الكلام لحظة الانحدار والإحباط الدرامي(anticlimax).
    أعادته الكلمات إلي مستنقع التفاهة والخمارة الخربة وميدان القمامة الغبي.
    وكيف؟
    اسند رأسه إلي صدرها وأخذت تمسح بكفها على شعره.قالت أنها ستغيب عنه مدة وجيزة فاعتدل في جلسته وتراجع لينظر في عينيها مباشرة.إبعاده لرأسه عن صدرها ضرورة درامية ميلودرامية وهي لقطة نحاول بها بلوغ درجة من درجات الكمال المستحيل.طلبت منه أن لا يقلق وقبّلته وقالت أنها أعدت له برنامجاً حافلاً سيسليه في غيابها.صمتت قليلاً ثم قالت قم معي.قادته إلي ممر طويل مسدود تقوم على جانبيه ستة أبواب ذهبية(ثلاثة على اليمين ومثلها على اليسار) مقابضها فضية والممر ينتهي بباب سابع من المرمر والذهب والياقوت وكل الأحجار اللئيمة.أخبرته أن بامكانه الدخول إلي تلك الغرف والتمتع بالنعم التي فيها قالت له أن كل تلك الغرف تحت أمره إلا التي في آخر الممر قالت:اياك وتلك الغرفة يا نور .ثم جرّته عائدة به إلي المخدع الذي سيشهد اللقاء الأخير.
    يبدو أن الحكاية قد انتهت.قضى أوقاتاً ممتعة خلف الأبواب الستة، شاهد غرائب وعجائب هناك.ثمّ بقى الباب السابع.تجنّبه لكنه لم يفلح في تجنب التفكير به.وأخذ صوت يهمس في أذنه:أن عليك بذاك الباب.لا تصدق ما قالته.ستجدها بشحمها ولحمها في انتظارك وستقول لك أنها كانت تعلّمك الشوق.حاول مقاومة الصوت لكن وقع عبارة شحمها و لحمها كان من القوة بحيث دفعه دفعاً إلي الاقتحام. (لم يأبه كثيراً بمسألة تعلّم الشوق تلك).
    لأول مرة منذ دخوله القصر يجد نفسه في قلب ظلام كهذا الظلام.الروائح العطنة التي تسللت إلي حواسه مألوفة والصمت الكئيب المسدل على المكان ليس بالغريب.ولكن أيعقل هذا؟؟الميدان القديم؟ ظل ساكناً ومصعوقاً لبرهة من الزمن ثم استدار ليعود من حيث أتى وليطرد الكابوس.مشى ومشى حتى وجد نفسه قبالة باب الصفيح الذي تخبي مستورة خلفه القدور السوداء لطبخ العرقي والمريسة.صرخ صرخة عظيمة وخرّ مغشياً عليه.
    اندفع الزبائن مذعورين فإذا بصديقهم القديم ممداً على الأرض كجذع نخلة خاو.للحظة ظل كل واحد جامداً(كاللوح)وساكناً(كالحجر) ثم تكالب جمع السكارى الذاهلين وحملوه إلي الداخل، تحسسوا نبضه وتنصتوا لنبضات قلبه فألفوها كما في صدورهم فأمر أحدهم بالبصلة التي وضعت تحت أنفه فأفاق.
    فتح عينيه فتبين وجوههم وتعرّف على المكان.مرة ثانية جمود الصخر مع الذهول.تحرك لينهض فعجز.مكث هكذا زمناً(ساهياً مذهولاً مأخوذاً ضائعاً)ثم فجأة وبلا سابق إنذار نهض قائماً وشرع في تشتيت الشتائم فشتم الجميع وسبّ الدين وقال أنه فعل وترك بأمهاتهم وأمهات كتب التراث والحداثة وانطلق خارجاً كالسهم.
    أمضى الليل كله وهو يركض كالمجنون. شرّق وغرّب وتمنى لو أن أجنحة تنبت له ليحلّق عالياً. ركض ركضاً فما وقع للقصر على أثر.أين ذهب بحق السماء وما معنى هذا ولماذا تفعل ذلك به؟ بالله عليك كفي مزاحاً.
    ومن قال لك إنها تمزح يا مخدوع يا مسكين؟
    هكذا تجري الأمور على ظهر هذه الفانية فلا تفني عمرك ركضاً خلف السراب.
    لكنه لم يجد من يهمس في أذنه بمثل هذه الكلمات وكان من المستحيل أن يصدّق أن الأمر كله سراب يليه سراب، أي سراب في سراب بينما عطرها ما زال يرفرف في الفضاء.لكن يا صديقنا السكران الحيران ألا تعلم أن العطور ضرب من السراب؟
    قد يسأل سائل, ما جدوى الركض؟
    ما فائدة اللطم على الخدود؟
    هناك إجابات وما من جواب.
    إن الإنسان قد خلق هلوعاً, اذا مسه الخير كان منوعاً و إن مسه الشر كان جزوعا ومن أمضى فترة لا بأس بها في وادي التفاح يصبح لديه ألف سبب وسبب للركض وتشتيت اللعنات حين يقتحم البصل حواسه.
    هناك أمور واضحة لكن لا بد من توضيحها أكثر قبل التوغل في أحراش الدروس والعبر التي تمدنا الحكايات بها.من تلك الأمور مثلاً ما الذي مثله غيابه لبعض الوقت لبعض الناس. مستورة وبعض زبائنها الدائمين ومستأجرو النصف الآخر من الدار هم الشهود العدول على ذلك الغياب وقد أثار ذلك الاختفاء المفاجيء اهتمامهم وفضولهم. مستورة لدين تنتظر تسديده, والمستأجرون بحكم الجيرة والإيجار والزبائن بسبب رفقة الكأس جميعهم اهتموا لبعض الوقت, لكن اهتمامهم بالأمر أخذ يضعف وكاد يتلاشى حتى جاء ظهوره المباغت في تلك الليلة ليعيد الاهتمام ويوقظ الأسئلة.
    لقد دخل وأغمي عليه فلما صحا ركض و طفق يتخبط كالمجنون.لم يلحق به أحد وتركوه لأن من عادات السكارى الانقياد لمثل تلك النوبات ومن عادة الزملاء تركهم وشأنهم ما لم يمثلوا خطراً حقيقياً على المجتمع وأمن الدولة.
    والشهادة لله أن السكير الشهير أصبح شخصاً مختلفاً منذ عودته من رحلته الغامضة و تلاحظ بعد تلك الليلة أنه لم يعد يتردد على الخمارة وأنه لا يغادر الدار إلا بعد غروب الشمس وأنه يتجه إلي الميدان ويظل في لف ودوران حول الموقع الذي ترمى فيه القمامة وأنه بعد أن ينال منه التعب يجلس القرفصاء, جلسة من ينتظر شخصاً عزيزاً شأن الأعراب والفقراء والمساكين في محطات الباصات والقطارات.
    أصبح نحيلاً ورقيقاً وساهياً كالعشاق وأستمر الحال على هذا المنوال زمناً. ثم رويداً رويدا ابتدأت مرحلة البوح بالسر. لم يأت البوح مباشراً ومتعمداً بل عن طريق المصادفة عندما جاء أحد رفاق الخمارة وشاركه الجلوس فثرثرا وتشاجنا وفضفض كل واحد عن ما بنفسه. الثابت أن السكير الشهير لم يكن هو المبادر بافتتاح السرد فقد أفضى للسكير الآخر الذي شاركه جلسته بنتف من ذكرياته في القصر فقام هذا بنشرها بين الناس في حارة يكاد يقتلها القنوط, حارة غطاها الصدأ لكثرة ما عاشت في كنف الرطوبة والعطونة والعتمة, حارة بلا أبطال يستعين فيها الناس على قتل الزمن والهم والغم بسرد الحكايات ونسجها وتداولها وتعديلها ومطها كل حسب هواه وتوجهاته وأحسب أن السكير لم يرو حكاياته بل سمع الناس يتناقلونها فصدقها وصادفت لديه قبولاً فاستحسنها ووجد فيها ضالته.
    لا مفر من الحكايات في هذه البلاد التي يضل فيها العقل والفؤاد من شدة الفقر والظلم اللذين لا تدري من أين يهبطا ولا كيف يمسكا برقاب العباد. مالنا ورقاب العباد وهي بخير سيما حين يمدونها في وضعية القصد منها الحصول على فرصة استماع جيدة لخطرفات السكير العجوز وهرطقاته التي لا تنتهي بشأن الجنية التي صادته وأغرقته في النعيم ثم لفظته بلا سبب واضح. وهل قلت العجوز؟!
    نعم العجوز لأن هذه الحكاية ستستغرق زمناً طويلاً يتسلل خلاله الشيب إلي رؤوسنا نحن الشبان المتسكعين وينحني ظهره هو ويقضي كثير من أبناء جيله رفاق الشرب نحبهم وتأتي حكومة تغلق الخمارات والمواخير, يحدث ذلك كله وهو ثابت على مبدأه لا يتزحزح قيد أنملة. الحكاية ذاتها.يحكيها يوم الجمعة في السوق من طقطق للسلام عليكم.وقيل أنه مرة أقتحم المسجد وأعتلى المنبر وقبل الدخول في الموضوع تدارك بعض العقلاء الموقف فأنزلوه.إذا وجد قوماً يجتمعون قبالة دكان أو لدى ناصية زقاق كما هو الحال في الأحياء الفقيرة والمهمّشة يجلس بينهم فيحكي ويحكي فيضحكهم ويحملهم على مماحكته ويطلبون منه تكرار الأجزاء التي تخص شئون الفراش ويسألونه عن كفلها و ردفيها ونهديها وهل أتاها من الخلف وكم دوراً في اليوم والساعة و الدقيقة كان يعمل الخ فلا يبخل عليهم بالوصف الدقيق الذي تقطعه تنهيدات تفيد الندم وقرع السن والشوق والحنين والتعجب من الدهر و صروفه.
    ولنا أن نعجب من الدهر وصروفه. ولكن ما المغزى من هذا كله؟ أنا المتسكع الضائع أطرح هذا السؤال على نفسي دائماً وأفر إلي الفلاسفة والحكماء فأجدهم سكارى من شدة الحكمة والفلسفة, أجدهم منشغلين بقضايا مهمة, قضايا كبرى ومصيرية فأسعى للعثور على الجواب وحيداً.هذه متاهة كبيرة وحالكة وسراجي مطفأ لكن ذلك لن يمنعني من المحاولة.(غضوا معي الطرف عن سؤال من أطفأ السراج الذي قفز إلي السطور بدون دعوة مني ودعونا نستعرض بعض المحاولات التي ستقعون عليها مرقمة بطريقة تدل علي سعي بائس للتجديد.)
    المحاولات والمناولات غير المنوالية:
    1) لو أن ما حكي قد حدث فعلاً فان عصر المعجزات والعظات والدروس والعبر لم يول الأدبار بعد, وهذا السكران الغبي تم اختياره ليدخل هذه التجربة ويخرج منها بشيء نافع ومفيد, صالح سيسجله التاريخ لو أنه صبر وكتم السر وتفرغ للتأمل والتدبر شأن الحكماء والفلاسفة لكنه سكران مغفل متعجل, وعلى كل حال علينا أن ننتظر لننال نصيبنا من المعجزات وعلينا أن نتجنب الخطأ الذي وقع هو فيه.
    7) لو كان الأمر حكاية ملفقة وخطرفات سكارى فان هذا هو المطلوب بالضبط.
    وكيف؟
    25224160) ماذا كنا نقول؟ كل نفس بما كسبت رهينة؟ كل واحد لديه أماني وآمال والحياة في كثير من الأحيان تفرض علينا عكس ما ننسجه في خيالاتنا و أوهامنا من آمال وأمنيات فلماذا لا ننسج أمانينا و أحلامنا و أوهامنا وتطلعاتنا في شكل حكايات ونسير بها بين الناس و نصرّ على روايتها ونلح على أنها وقعت فعلاً و أن هناك شيء قد ضاع منا لذلك فإننا نصرّ على الحكي علّ الحكاية تعيده إلينا أو عل من نحكي لهم يساعدوننا في العثور عليه و هذا يعطي الحياة طعم ومعنى و لكننا كي نكون كذلك نحتاج إلي السكر والعربدة و كل واحد منهما ليس بالأمر الهين، السكر ليس مجانياً والعربدة لا تكون تحت الطلب فهي تحتاج إلي مزاج رائق دائماً وموهبة استثنائية في اللامبالاة.
    صفر: وتعني الإحداثي الصادي
    نحن نبتلع الطعم بسهولة وهذا هو السبب الأساس للحكايات.
    ثالثاً و أولاً: التسكع و السكر والعربدة و الهرطقة مسائل يتضايق الناس منها و ويضعونها في عداد الرذائل, لكنها لا تقل حيوية وجدية عن الزواج وطلب الجاه والسلطة بل أن مردودها أعظم من الأخيرات لكن الجهل و طلب السلامة يصل بالناس لدرجة التعامل مع تلك الشئون بخفة زائدة و لا يقفون عندها حتى عندما تستوقفهم وعليّ التوسع في شرح هذه النقطة في zero
    Zero: أن نقول أن التسكع و السكر و العربدة الخ لا تستوقف الناس فإننا نقصد أنها تستوقفهم في الطرقات فقط لكنهم حالما يصلون بيوتهم فأنهم ينسون كل شيء عن السكارى والمتسكعين والحيارى فكأنهم غير موجودين وهذا الخطأ يقع فيه الناس عن جهل و لأنهم أبعد ما يكون عن الفلسفة والحكمة و لأنهم لا يعلمون أن للسكارى و المتسكعين قضايا جادة و تستحق التأمل و التدبر.
    كل ما تناقله الناس عن السكير و حكايته تم في الطرقات، لم يحدث أن جلس رب أسرة وسط أهله و حكى الحكاية، الأمر يخص قارعة الطريق و الأسر لديها ما يشغلها من مسلسل و غسيل و غداء و مرتًب لا يكفي حتى الرب الذي يستلمه شهرياً ونفاس و ملاريا و ملابس مدرسة الخ الخ فلا مكان للسكران في فضاءها, لا مكان لتلك الحكاية التي ولدت في مقلب القمامة الكبير.
    أخيراً و ليس آخراً:
    هذا الافتراض أخرّناه و أجلناه لانطوائه على تجديف و مروق وشق لعصا الطاعة على طريقة اليائسين و المعدمين ومن لا ورق لديهم ليلعبوا به فلا يجدوا ما يقامروا به سوى تحدي ما لا يرى و ما لا يحاط به. وهذا الافتراض نبهنا له مثل شعبي لا بأس من أن نورده مع قصته.
    هل نحكي القصة أولاً أم نورد المثل. لا بأس من سرد الحكاية أولاً فهي من حملت المثل وهناً على وهن و هي عن بقاري ضاق به الحال فأخذ يشكو ويتذمّر و أشتط في ذلك فعمل أولاد الحلال على تهدئة ثائرته بالكلام الطيب و وصفوا له الصبر علاجاً للكرب و قالوا له أنه مفتاح الفرج (هذا مثل آخر و له قصة لكن لا داعي لورودها هنا) لكن الأحوال أخذت تزداد سوءا و العبارات نفسها تتكرر كل يوم, الفرج, الصبر, غداً تفرج فلما طفح الكيل خاطب مهدّئيه من على ظهر الحمار قال:إن فرجت فبها و إلا سأبيع حماري هذا و أفرجها على نفسي و ربت عليه حتى يعطي المشهد بعده الدرامي المطلوب.
    المثل: فرجها علي نفسك إن استعصت على الانفراج.
    قد تسألون ما دخل هذا كله بحكاية السكران والجنية؟ العلاقة واضحة ولا تحتاج إلى توضيح ومع ذلك سنوضحها حتى لا يقال أننا تركنا أمراً للصدفة و الظروف.المسألة تتعلق بالممكن والمستحيل فعندما تستحيل عليك الممكنات يهون عليك المستحيل فتتوطد علاقتك به عن طريق الخيال و الشطحات وبلا وساطة.بكلمات أخرى,عندما يكون الحصول على اللقمة عسيراً و الفراش خشناً و الجو حار دائماً و تحاول أنت تعديل الأوضاع نحو الأفضل في حدود إمكانياتك فتفشل و تفشل و تفشل فان ملاذك الأخير هو الحلم،لا تحلم ببيت بل بقصر يضل فيه السالكين,لا تحلم بحشية وثيرة فحسب بل عليك تصور مخدع ملكي تتمرغ عليه أنثى أوثر من كل فراش,أحلم وأضرب بكل شيْ عرض الحائط ومدّ لسانك للفرج الذي سوف لن يأتي أبداً.
    لا يكفي هذا.أحك للناس ما حلمته و استغل فترة غيابك التي لا تدري أنت نفسك أين كانت و كيف كانت,قل للجميع أن تلك الوقائع قد حدثت حينها.
    و أكاد أجزم الآن أن إصرار السكران على تلك الحكاية قد شرع يأتي أكله و أن الجميع يبحثون عن الجنية لكنهم جبناء يرغبون في سرقة اختراعه مع الاحتفاظ لأنفسهم بهيئة الأشخاص المحترمين الذين يفرض الواجب عليهم إظهار الضيق من سكير بات معتوهاً.ولكنهم ليسوا بمثل شجاعته فهم يتسللون لواذاً لواذا إلي مقلب القمامة الكبير ويحومون حوله متظاهرين بالعبور المصادف ويفعلون ذلك بقلوب واجفة علّ الطيف يلوح وعلّ أضواء القصر تحيل الليل نهاراً.
    جميعهم يفعل ذلك بعد أن ترك السكير حراستها و صار يقضي جلّ وقته في البحث عن مستمعين.
    لم تنته الحكاية لكن يستحسن ومن الأفضل بل من الأوفق التوقف هنا.
                  

07-21-2005, 08:06 AM

DKEEN
<aDKEEN
تاريخ التسجيل: 11-30-2002
مجموع المشاركات: 6772

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتب جمال غلاب : نصوص يليها حوار (Re: Alsadig Alraady)

    قد قلت يوما هكذا تلد المدينة من قذارتها غبارا
    كي تسميه دما!
    فتلفت الوجهاء حيث اشرت
    ثم تناقشو في اللون
    واللغة البذيئة
    والرغيف..

    الصادق يا ود بخيتة يا حي ٌلم تمت ..


    نعود حين نكمل ما سطرته ..انما هذه للتحية ايها الجميل ..
                  

07-21-2005, 08:17 AM

Alsadig Alraady
<aAlsadig Alraady
تاريخ التسجيل: 03-18-2003
مجموع المشاركات: 788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتب جمال غلاب : نصوص يليها حوار (Re: Alsadig Alraady)

    تسلم
    يا دكين
    وشكرا للتحية العميقة
    والود الوافر
    وقبلا
    المرور
                  

07-21-2005, 09:00 AM

Alsadig Alraady
<aAlsadig Alraady
تاريخ التسجيل: 03-18-2003
مجموع المشاركات: 788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتب جمال غلاب : نصوص يليها حوار (Re: Alsadig Alraady)

    موظف يتهدده الصَلْع
    تعمدت النظر الى عيون الأولاد و هم يتعثرون لمغادرة الدار فرأيت الومضة القديمة التي كانت لنا حينما كنا نفعل ما يفعلون.لم أكبر جداً لكن ما عدت صغيراً,مرحلة مخجلة من العمر هذه التي بلغتها,مرحلة صعبة,لا ادري لم أنا على هذه الدرجة من الخجل لبلوغي هذا السن,صلعة خفيفة تزحف و تبيد الشعر,وظيفة صغيرة تبيد العمر,عودة يومية في الثانية بجريدة متعددة الطيات و أول الشهر كيس مليء بالخضار و نصف كيلو لحم و موز.غير متزوج و أخجل من فكرة الزواج و إذا دعا الداعي إلى التطرق لمناقشة الفكرة فأنني عادة أحوّلُ مجرى الموضوع.ربما لا يحق لأمثالنا نحن الذين كبرنا و أخذ الصلع يتهددنا و الوظيفة الصغيرة تحكم قبضتها على خناقنا سوى الخجل ,نخرج في العصريات بجلابيب نظيفة و نضع الكراسي عند النواصي و ربما نشاهد التمرين.و في مثل هذا الصباح الذي هو صباح العيد ليس لدي أمثالي الكثير ليفعلوه.و أنا أدخل ذلك البيت لمباركة العيد رأيت الومضة فتذكرت أنه كان لدى ما أنتظره في مثل هذا الصباح و تذكرت : ماذا كان يعنى لنا صباح كهذا.
    عندما تركت بنات الحلة بيوتهنّ و قطنّ قلوبنا المفتوحة لهنَّ أربع وعشرون ساعة أكتسب صباح العيد مذاقه الجديد اللذيذ.بدأنا نكبر,لم نعد أولاداً و صرنا نفكر بهن كثيراً و نتحدث عنهن و نحلم بهن,في الحقيقة هذا حاصل الآن لكننا نخفيه,أنا أبالغ في إخفائه, بعد مرور العمر بدون إنجازات ملموسة يصير لدى الواحد الكثير من هذا:الحياء,الخجل,الصلعة الخفيفة,الراتب الصغير,الوظيفة الضيّقة و العالم الأضيق, كيف يمكن لشخص وصل المرحلة المخجلة من العمر التصريح بأمور مثل هذي.زمان صرحنا و خططنا حينما أفردنا لهن القلب و الذاكرة و الغريب في الأمر كأن تلك التفاصيل لم تمض عليها كل تلك السنون,فكيف هذأ؟
    كان دخول بعض البيوت من المسائل المحظورة و الخطيرة,ففي البيوت لآلي,وفيها بدور و أمهات حارسات يحلمن بعرسان لهم القدرة على جلب لبن الطير مبستراً و ظل صباح العيد مناسبة ذهبية للدخول دون لفت الأنظار و إثارة الحرج.يفرغ الناس من الصلاة فيجدون الأبواب مشرعة,يدخلون, يخرجون,العيد مبارك عليكم,القابلة على منى,القابلة عريس,البيوت مهندمة,العالم أبيض,النوايا بيضاء و الحلوى تدور و نحن لا نجد حرجاً في التسلل للجزء المخصص للنساء في كل دار.بعض الفتيات ملء العين منهن حلم صعب المنال ناهيك عن مصافحتهن كفاً لكف.
    العيد يوم مبارك,وصباحه أبرك,فيه تنفتح أبواب السماء وتتحقق أمنياتنا في تكحيل العين بوجوه لا نراها إلا كما ترى الشهب الراجمة و هي تعبر السماء خطفاً و فيه نلمس أكف عزيزة علينا,الخدوريات و الصفوريات و الحموريات.أكف مبللة و أخرى مخضبة و العالم سعيد و الوجوه تشع.الدخول على النساء و هن منشغلات بما تنشغل به النساء شأن له مذاق.لا حرج و مع ذلك فأنهن يسارعن إلى تعديل أوضاعهن و ذلك ما يعمّق الإحساس أننا في حرمهن و أن الأمر هو كذلك.تسللت مع رفاقي في صباح عيد قصي إلى خبائهن في ذلك البيت الذي ما فتئت أحبه و أحب أهله.لم نجدها مع الأم و الأخوات المنشغلات بإعداد الطعام.كنا نعلم أنها بمكان ما لأن رائحتها كانت تختفي و تلوح,انتابنا أسي طفيف و ندم على إننا لم نحسن التوقيت,باركنا العيد,تلكأنا قليلاً ثم شرعنا في الخروج و لما كنت آخر الخارجين فإنني تمكنت من اختلاس النظر الى غرفة جانبية فلمحتها و هي جالسة قبالة المرآة تمرر المشط على شعرها.قضينا يومنا و حسرة رقيقة تلفنا.لم تلتق الكف بالكف و ما صادفت العين العين.لو بكيت فلا لوم عليّ.
    لم أبك و زفت الى زوجها في العيد التالي و بدأت المرحلة المخجلة من عمري.يتضاعف خجلي و أنا أتذكرها و أتذكر غاية الأماني:ملء العين منها,بلوغ المرام:لمس كفها صباح العيد.سافرت.دول الخليج,السعودية اليمن,السلطنة و ربما أمريكا.لم أتذكر ذلك الآن؟الأولاد قلبوا المواجع. بومضتهم تلك,بلهفتهم و هم يتخطون العتبات و أنا ضمن الفوج الوقور للكبار,ندخل و نخرج,أميل قليلاً عند المصافحة و أهزّ الرأس هزات طفيفة.الأواني التي يقدمون فيها الحلوى مذهّبة و مفضضة,الشراشف تخفق هنا و هناك.أبخرة الطعام و هي تختلط بالعطور المحلّقة تقلب دفتر الذاكرة صفحة,صفحة.يطول الوقوف لدى سطور كتبت في الحلم و أتقلّب في الفراش,قبيل النوم لأجد أن السنوات قد مرت و أنني تكرّست كموظف يتهدده الصلع و أن الفتاة التي كنت انتظر عيد الفطر على أحرّ من الجمر لأجل لمس كفها و خطف نظرة هي غطسة في بحر عينيها قد تزوجت و طارت,استدارت ثم طارت.كلهن يطرن هكذا ما أن يستدرن و أنني تركت المدرسة رغم نباهتي لأجمع مالاً فأستحقها و أن الوظيفة صغيرة و أن العالم واسع تضيقه وظيفة و هجمة المسؤوليات قبل أوانها و أنا الآن في الفراش أتقلّب و هي بعيدة و بيننا بحر,بيننا جبل.صلعة كالوباء تزحف و سنوات تمرّ.ربما هي الآن قبالة المرآة تمرر المشط على شعرها,و ربما تتزين أو هي تهدهد الصغير لينام.
    بيت صغير في الغربة و به أجهزة ستشحن عند اتخاذ قرار العودة النهائي.زوج يجمع المال.ترى هل يتهدده الصلع كما هو حالي,هل ترك المدرسة لينالها ,هل انتظر صباح العيد على أحر من الجمر؟هل أخفى حبه كما أخفيته؟ لم يرد أحد على أسئلتي فقلت:يوم مبارك كهذا لا تنفع فيه الأسئلة,يوم مبارك كهذا جوزوا فيه حصول بعض المعجزات فشرعت في مخاطبتها.عبر صوتي البحر و الجبل و بلغها في غرفتها التي تشبه الصناديق الصغيرة المكسوة بالقطيفة و المبطّنة بمخمل براق و التي يضعون فيها الحليّ.كانت تتخفف من حليها,الأقراط و الغوايش و الكردان.عائدة من مناسبة عند الجيران.زوجها يغط في النوم.
    احتفظت بالخواتم حول أناملها.زوجها يحب عضات المعدن و هي تتشبث به في الفراش.يعتز بآثارها على جسده.
    قبالة المرآة الضوء خافت و صورتها في المرآة أجمل من شخصها.
    قلت:العيد مبارك عليك.
    قالت:بارك الله فيك.
    قلت:كيف هي الغربة؟
    قالت:لم أكن أحلم بكل هذا الذهب.
    قلت:لم تزوجت و تركتنا؟
    قالت:لم أذهب بعيداً.
    قلت:أين لي أن أراك ثانية؟
    قالت:عد إلى دارنا صباح العيد,أختلس نظرة إلى الغرفة القديمة,تجد صورتي في المرآة.
    قلت:تبدين سعيدة,هل عرفت من أنا؟
    لم تقل شيئاً,نهضت,ذهبت إلى غرفة الصغار اطمأنت عليهم,أطفأت الأنوار و ظلت صورتها تضئ المرآة.لم تكن تبتسم و لم يبد عليها الحزن,كانت كمن يتهيأ لأمر يعرف أنه لن يتم.بعدت رائحة العطر فقلت لصورتها في المرآة:تصبحين على خير,متّعك الله بالصحة و العافية.
    من نصوص مجموعة " فاكهة مهملة " قيد الصدور
                  

07-23-2005, 11:40 PM

عادل ابراهيم عبدالله

تاريخ التسجيل: 04-28-2005
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتب جمال غلاب : نصوص يليها حوار (Re: Alsadig Alraady)

    الوريف فعلاً
    الصادق
    UP
    ريثما الملم خيوط هذا الألق
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de