حول قضايا تعريب التعليم (مُلخص + صور) .

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 09:45 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-23-2012, 10:30 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حول قضايا تعريب التعليم (مُلخص + صور) .

    مركز الخاتم عدلان للإستنارة والتنمية البشرية
    مشروع الاصلاح التعليمي

    503.JPG Hosting at Sudaneseonline.com


    فى سلسلة فعاليات مشروع الاصلاح التعليمى , وبالتوازى مع المؤتمر القومى للتعليم والذى انعقدت فعاليته بالعاصمة السودانية , استضاف المركز فى امسية الاربعاء 22 فبراير 2012 البروف عبدالله على ابراهيم فى ندوة تحت عنوان
    حول قضايا تعريب التعليم

    وقدم التعقيب الرئيس فيها الدكتور فاروق محمد ابراهيم , وادارها الأستاذ نادر السماني .


    504.JPG Hosting at Sudaneseonline.com
                  

02-24-2012, 11:05 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حول قضايا تعريب التعليم (مُلخص + صور) . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    IMG_4119.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    ورقة دكتور عبدالله على ابراهيم كاملة , والتى استعرض ملامحها العامة اثناء المحاضرة .


    التعريب: هذيان مانوي
    عبد الله علي إبراهيم
    أستاذ شرف، شعبة التاريخ، جامعة ميسوري، كولمبيا، الولايات المتحدة



    أريد بهذا المبحث النظر إلى التعريب في السودان، وتعريب التعليم خاصة، كمظهر من مظاهر متعددة الوجوه لعنف الحركة الوطنية للقوميين العرب المسلمين الشماليين.وهو عنف متعد" inter-communal" ونعني به أنه يصيب الجماعات الوطنية غير العربية في السودان. وهو في نفس الوقت عنف "لازم" "intra-communal" يؤذي الجماعة العربية الإسلامية خاصة. فمن جهة تعدي عنف التعريب سنرى أنه طال جزافاً شعوباً سودانية غير ناطقة بالعربية. نشأت تلك الحركة الوطنية الموزورة بالعنف الثقافي في ثلاثينات القرن العشرين وتولت زمام السودان المستقل منذ 1956. ونرجع إلى تلك الحركة اختصاراً بقومية "مؤتمر الخريجين" الذي نشأ في 1939. وهو المنبر الإصلاحي النقابي نوعاً (ثم السياسي لاحقاً) الشامل لخريجي كلية غردون (1902) من صغار المستخدمين (الأفندية) في الدولة الاستعمارية. وتنادوا من فوقه، كفئة مستنيرة، لخلاص شعبهم من الاستعمار الإنجليزي الذي رزحوا تحته منذ 1898. ولغلبة المسلمين العرب على ضفاف النيل الأوسط بينهم تخيلوا أمتهم المنتظرة، في نشيدهم، أمة "أصلها للعرب ودينها خير دين يحب". وظلت هذه الصفوة من الخريجين تحاول سدى تنزيل وطنها المتخيل ( أندرسون 1983) في البلاد. وكان خطأها القاتل، في قول هزر شاركي، إنها لم تعتبر بأنها قومية أصاغر حاولت بناء القومية الأكابر من قماشة ثقافتها حصرياً (2008، 11). وما يدور في السودان من حروب أهلية منذ الاستقلال إنما هي ثوران القوميات الأصاغر التي ساءها تغول النعرة العربية الإسلامية لصفوة الخريجين عليها.
    ومن جهة لزوم عنف قومية الخريجين سنرى أنه أصاب أطرافاً من الحركة القومية الشمالية العربية نفسها خاصة في الصراع الذي اكتنف تعريب التعليم بين من دعوا له من "التقليديين" بقوة ومن بين من كرهوه من "المحدثين" منهم وسوفوا في تنزيله. وبدا تسويفهم كمن انتظر أن يتبخر المطلب تلقاء نفسه. وتربص التقليديون بالمحدثين وفرضوا تعريب التعليم الثانوي في 1965 والتعليم العالي في 1990 فرضاً عنيفاً كما سنرى. وهو عنف سنرى أيضاً كيف تولد من ثنائية التعليم الاستعماري في السودان التي جعلت التربية فسطاطين: حديث تمكنت منه اللغة الإنجليزية وتقليدي يدور في أفلاكه التراثية القديمة.
    وأصاب عنف التعريب اللازم الجماعة العربية خاصة إصابة جعلت التعريب مسألة خلافية بغير ضرورة ملجئة. وساق هذا الخِلف، ضمن أشياء أخرى، إلى تهافت مشروع التحرر التربوي للجماعة العربية من عقابيل الاستعمار. فما انزاح الاستعمار حتى تنازعت صفوة هذه القومية الغالبة حول استحقاق اللغة العربية في التعليم الوطني الجديد. وهو الاستحقاق الذي كان رافعة لهمم الكرامة والسيادة واسترداد الإرادة الوطنية بالاستقلال. فلم يعد مشروع التعريب مطلباً مقبولاً إلا لفظاً وشعاراً عند صفوة من خريجي جامعة الخرطوم وطاقم تدريسها. وستجري الإشارة لهم ب"الغردونيين" وهي مشتقة كما مر من غردون باشا الذي أطلق الإنجليز اسمه بعد "استعادة السودان" في 1898 على كلية أنشئت في 1902 إكراماً لروحه الشهيدة قتيلاً علي يد ثوار المهدية. وكلية غردون هي الأصل في جامعة الخرطوم التي صار لها هذا الاسم في 1956 عام استقلال السودان. من جهة أخرى نشير لمن واظبوا على مطلب التعريب بنازع وطني أو إسلامي أو مهني (مثل مدرسو اللغة العربية) ب"المعهديين". ويرجع الاسم إلى معهد أم درمان العلمي الذي نشأ في جامع المدينة في 1910 ونهض به علماء أرادوا به حفظ بقية الدين واللغة بعد احتلال الإنجليز للسودان في 1898. وأميز سمات المعهد أن وسيط التعليم فيه كان العربية خلافاً لكلية غردون. كما أنه لم يكن يدرس الإنجليزية حتى كمادة. ولم يكن لخريجيه نصيب في وظائف الدولة الاستعمارية. كما حُرِم طلابه من نظام الداخليات الذي تمتع به طلاب التعليم الحديث.
    وقدح الاحتكاك بين الجماعتين الثقافتين شرر عنف تعريبي تمثل في فرض اللغة العربية وسيطاً للتدريس في المدارس الثانوية والجامعات بصورة سياسية محض لم تلطفها الاعتبارات التربوية المعروفة ليتنزل التعريب بالبركة كلها. فوقع التعريب الأول في المدارس الثانوية عام 1965 بضغط من نقابات المعلمين في مناخ العزة بالوطن الذي بثته ثورة 1964 ضد دكتاتورية الفريق إبراهيم عبود (1958-1964). وغلب في قيادة تلك النقابات آنذاك معلمون من خريجي الجامعات المصرية ممن أهمهم شيوع الإنجليزية في المدرسة الثانوية وهي لغة يحسنونها بالكاد. واتفق الباحثون أنه تعريب لم يستعن بوسائل التربية وأدواتها وطرائقها ( حريز 1968، وعيسى 1996). فلم يعتبر المعربون مردود هذا التعريب على الجامعات. وعليه فهو ،في قول سعاد عيسى، رفع كاهل اللغة عن تلميذ الثانوي وحمّلها الجامعات التي لم تتدارك آثاره السالبة حتى تعربت هي على نفس الوتيرة المفاجئة في 1990 (1996، 140).
    IMG_4111.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    وجاء دور الجامعات في التعريب بعد ربع قرن. فصدر في 1990، بعد نحو 3 أشهر من قيام انقلاب دولة الإنقاذ، القرار الجمهوري رقم 90 الذي قضى بتعريب التعليم العالي. وكان ذلك بالطبع قراراً سياساً من عل حسم بالقوة المسألة العالقة في لغة التعليم الجامعي وهي تدريس العلوم والطب بغير الإنجليزية. وانطوى القرار على ثأر لدعاة التعريب استعانوا فيه بالدولة لتصفية حسابات بينهم، صفوة القوميين المعهديين، وصفوة الغردونيين في جامعة الخرطوم بالذات ممن يراهم الأوائل حراساً للغة القديمة: الإنجليزية. ولم تكف صفوة الحداثة من نقد تعريب التعليم الجامعي بلا هوادة. فانعقدت ندوة أخيراً في 2010 بكلية العلوم بجامعة الخرطوم وتواثقت على فشل تجربة التعريب في كليات العلوم والطب ووجوب العودة إلى اللغة الإنجليزية (عثمان 2010).
    مناهل نظرية للبحث
    أزاوج في هذا المبحث عن التعريب، الحالة السودانية، بين نظريات الحركة الوطنية ونظرية ما بعد الاستعمار التي اشتقها إدوارد سعيد بكتابه "الاستشراق". سأنظر إلى تعريب قوميّ مؤتمر الخريجين للدولة السودانية وشططه كنص حوكمي (governance) أرادت به القومية الأكابر استكمال تحررنا الثقافي فأفسدت إدارة التنوع الثقافي وجعلت التعليم ساحة للغبن من جماعات وطنية كالجنوبيين منفية في لسانها وجماعات عربية من المحدثين منفية في عقائدها عن اللغة الصواب في التعليم. وسأهجم على النص من جهتين: 1) بنظريات القومية التي تعنى بالقومية الأكابر مثل قومية الخريجين العرب وورثتهم الذين تولوا حكم سودان ما بعد الاستعمار وصمموا على بناء وطن وفقاً لثقافتهم هم لا غيرهم، 2) بنظرية ما بعد الاستعمار لنرى كيف تقاعست تلك الحركة الوطنية الكبرى عن تفكيك آثار الاستعمار التي كان على رأسها فرض لغته دون لغتنا.
    تعاظمت الدراسات مؤخراً عن القوميات الأصاغر وانتهاك القوميات الأكابر لمواطنتها. وكان حظ السودان من تلك الدراسات عن مظالم الجنوبيين وشعب الفور والنوبة والبجة من قومية الخريجين وورثتها كبيراً. والجواب من عنوانه. فلو تصفحت عناوين الكتب التي صدرت في الإنجليزية عن السودان في العقدين الأخيرين لرأيتها تكيل لتلك القومية، الموصوفة بالعربية الإسلامية، كيلاً لعنفها على الآخرين وتخريب البلاد. وقد أزعج هذه التعميم جماعة من عرب السودان ومسلميه من الليبراليين أو اليساريين فأرادوا أن يكونوا الفرقة الناجية من شرور أهلها وهي ترى أضرابهم في الدولة المستعربة المتأسلمة، وهذه عبارتهم، هدمت مشروعها للإلفة القومية الذي شغف به سلفها في الحركة الوطنية ثم في ثورة أكتوبر 1964. وبلغت هذه الجماعة من الأسف على تهاوي مشروعها أنها صارت زاهدة في الهوية القومية العربية الإسلامية نفسها. وصكوا في تبخيسهم للتعريب مصطلحات ك "المستعربة" و"عربسمالي"، على كراهة العربية للنحت، نكاية بالدولة التي يظن بُناتها أنهم عرب خلص وهم مجرد هجين يفر من أفريقيته فرار السليم من الأجرب. واشتغلوا في هذا التشرد الهويوي باصطناع هوية أفريقية خالصة خاصة في مهاجرهم ومرابع لجوئهم السياسي. فأيقظتهم المهاجر الغربية، والأمريكية، خاصة إلى سوادهم بدءاً بتعيين جنسهم في سجل الدولة الذي يحتكم للون. وشجعهم على ذلك، بجانب غبنهم من الدولة الظالمة، فجيعتهم في مهاجر الجزيرة والخليج حيث اصطدموا ب"عروبة الكفيل" وشتان بينها والعروبة التي أشربوها من الناصرية. وذاع بينهم مقال عنوانه "سود ذوو لغة بيضاء" (مختار 2004) لمطابقته حال تخبطهم بين لغة عربية بيضاء ووجه أسود. فجنحوا إلى تبخيس اللغة التي أفصحت على لسانهم آيات مشرقات من الإبداع حين خامرهم الأمل يوماً في الأخاء الوطني.
    ولمّا تكاثرت دراسات القوميات الأصاغر لم نعد نعرف عن القوميات الأكابر إلا عن طريق تظلم الاصاغر. ولكن من رأي بعض الباحثين أنه لن يصلح علمنا بتظلم القومية الأصاغر ما لم نجدد البحث في القوميات الأكابر التي طبعت الدولة بثقافتها فظلمت الآخرين. فبحثنا عن التعريب يريد ان يتجاوز مجرد الشكوى من ظلم قومية الخريجين للآخرين لنقف عند الطرائق قددا التي تتداخل الثقافة بها بالدولة (قاقنون و كيكورس ونوتنز 2011، 4) فتظلم الجماعات الأصاغر. ومربط الفرس هنا أن هذا الظلم كما سبق القول متعد ولازم. فهو يصيب الجماعات الأصاغر التي تتعرب بغير إرادتها كما يصيب عرباً ومسلمين حين يعرب التعليم بغير مشيئتهم. وعليه يفتح المبحث في القومية الأكابر الباب لنعلم عن كثب عن النزاعات الجدية القائمة في وسطها لأن بعض القوميات الأصاغر تظن ما يدور في القومية الأكابر من صراع خلافاً ثانوياً لا يؤبه بها. ولن تحسن القوميات في بلد ما السكن واحدها إلى الآخر إذا تخندقت على نحو لا يأذن بالخلاف الجدي في إطار هذه القومية أو تلك. وربما خلع بعض شبابنا أنفسهم عن قوميتهم الظالمة كما تقدم لأن الولاء في صراع القوميات كبيرها وصغيرها للخنادق لا للحقائق. فأنت حيث أنت من قومك وتحاسب بذلك حتى لو كنت على خلاف بين معهم. ونريد بالعودة إلى دراسة قومية الخريجين الأكابر إلى فهمها كحقيقة اجتماعية وسياسية نستعين بالوعي بجدلها لحملها أن تسكن بأريحية إلى القوميات الأصاغر. ولا بديل لهذه الطريق الصعبة لبناء الوطن إلا تأجيج الخلف وتوعير المسالك. وهو طريق التهلكة.
    وأهجم بنظرية ما بعد الاستعمار على نص التعريب الحوكمي للوقوف على خيبة الخريجين دون تفكيك آثار الاستعمار في دولتهم. وقل أن اعتنت هذه النظرية، في شغفها بالنصوص الإبداعية، بالنص الحوكمي (إبراهيم 2008) مما حرمها من التحول إلى علم سياسي نافذ بخاصة وهي النظرية التي فتحت أعيننا على سوءة الحركة القومية البرجوازية. وسأتعامل مع التعريب كنص حوكمي من الزوايا التالية:
    التعريب ثمرة تخيل للأمة ظن بها القوميون أنهم متى عربوا استأنفوا تاريخهم الذي تقحمه الاستعمار واستردوا أصالتهم كاملة من براثنه. والاستعمار في نظر القوميين كابوس نصحو منه على على سيرتنا الأولى. ولما عزم القوميون على العودة إلى ماض صاف مدخور تعاموا عن أن للقوميات الأصاغر ماض عزيزاً يؤرقها كما تعامت عن أن التعليم الجامعي نص هجين أو خلاسي يتعذر الخلاص من لغته الأجنبية بمجرد فعل المقاومة. وكنص هجين صار تعريبه ساحة أخرى لما اسميته ب"الهذيان المانوي" طبقاً لفرانز فانون. وهو ذهول يصيب الأهالي بالنظر إلى جغرافيا الاستعمار الذي يشق المستعمرة إلى فضاءين: الفضاء الأوربي الذي بيده الحول، وفضاء "الأهالي" المغلوب علي أمره. ويتهافت في حومة وغي هذا الهذيان المانوي كل مشروع تحرري. فقد نظرت في تهافت مشروع توحيد القضائية الاستعمارية (بقسميها الشرعي والمدني) في دولتنا الوطنية ووجدت في دراسة صراع القضاة الشرعيين والمدنيين للقيادة والمنافع في القضائية صورة للهذيان المانوي أفسد الخيال والزمالة والحيل المهنية. ولم يقع التوحيد المؤسسي للقضائية إلا في 1980 على يد الرئيس نميري بضربة ديوانية مباغتة (2008) وسأحلل التعثر الطويل في تعريب جامعة الخرطوم طوال أربعة عقود،، منذ تقرر ذلك بعد الاستقلال في 1956، كهذيان مانوي اصطرع فيه صفوة الإنجليزية والعربية حتى قضت دولة الإنقاذ به بليل.
    IMG_4105.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    يصادم تعييني لتعريب الدولة-الأمة بطبقة اجتماعية من خريجي مدارس المستعمرين دون سائر العرب في السودان تقليداً في دراسة تاريخ البلاد تواضع على أن التعريب شاغل عربي "رسالي" من لدن حضورهم للبلاد في القرن الرابع عشر. ولا يقبل أهل هذا التقليد بمثل تشقيقي للأمر بنسبته لفئة من العرب دون أخرى ناهيك من قبولهم به كحرب ثقافية بين الجماعة العربية نفسها تدور رحاها بين محدثي أمورها وتقليدييهم. وقد استن هذا التقليد هارولد ماكمايكل،السكرتير الإداري للحاكم العام الإنجليزي للسودن (1926-1933) في كتابات عديدة أشهرها "تاريخ العرب في السودان" (جزءان، 1922). وربما كان مقال جي سبولدنق ولدوين كابتيجن (1991) هو من أحسن عرض سنة ماكمايكل ، التي صارت إطاراً لمعرفة الغرب بالسودان ولطرائق تفكيرهم في مسائله، ومن أحسن من نقدها كذلك. فماكمايكل يقسم السودان إلى فسطاطين لا آصرة بينهما: شمال للعرب وجنوب يسكنه "بشر بلا تاريخ" هم الأفارقة. وما تزال سنة ماكمايكل فينا. فلحظة بدء التاريخ في السودان هي بقدوم العرب إلى أرض رانت عليها "الفوضى المتوحشة" فغلبوا عليها ( 1991، 15). وأبأس ما في سنة ماكمايكل هو تجميد عرب السودان عند نقطة حضورهم للسودان ما تعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً. فهم في نظر ماكمايكل، مثل كل العرب، براء من التاريخ. فلم يكونوا في ابتلائهم بالعصر "محدثين" أو "تقليديين"، رجالاً أو نساءً، رومانسيين أو واقعيين، ليبراليين أو ماركسيين، عمالاً، رعاة، مزارعين، رأسماليين أو عاملين. فالعرب عند ماكمايكل عضوا بالنواجذ على ما ورثوه من مسالك أجدادهم في الجاهلية يتناسلون في أكنافه سرمدياً (1991، 15).
    وكان تجميد تاريخ عرب السودان عند هجرتهم إلى البلد موضعاً لنقد نافذ لمحمود محمداني، الأكاديمي اليوغندي بجامعة كولمبيا الأمريكية، والذي جاء إلى تأريخ السودان من باب محنة دارفور. فمن رأيه أنه من أشقى مترتبات حجب عرب السودان عن التاريخ أنهم صاروا "مستوطنين" عتوا على أهله الأصل وسادوهم. وساغ بذلك تصوير الصراع في دارفور كمواجهة بين أهل بلد هم الأفارقة ومستوطنين هم العرب. وهنا يتطابق بحثي مع ممداني من جهة أن تجميد العرب في التاريخ أوهم الدارسين بوقوع تاريخ واحد للتعريب بدأ بهجرة هؤلاء العرب للسودان وما يزال وما بُدل تبديلا (ممداني2009، 93). واتفق لي مثل ممداني أن ليس للعرب في السودان تاريخاً واحداً ناجزاً يدور كثور الساقية حول خبرة هجرتهم الأولى وأنسابهم العائدة لمرابعهم الأولى في الجزيرة العريية. فتاريخ الجماعات العربية في السودان شتى ولا تلعب فيه الهجرة إلا دوراً ثانوياً (2009، 103). فنجد ممداني يفرق بين عرب السودان النيلي مثلاً وعرب دارفور. فالهوية العربية في السودان النيلي انبنت على الشوكة لتمكن صفوتها من الحكم بعد جلاء الإنجليز خلافاً لهوية العروبة في دارفور التي خضعت لسلطان "الأفارقة" في دولة الفور التاريخية ( 1650-1874) وحتى بعد الاستقلال (2009 ،93 و101). كما أُفرق في هذا البحث بين عرب اعتنقوا التعريب في سياق هوان لغتهم على الغرب طوال سنيّ الاستعمار وعرب حداثييين لم يروا رأيهم في التعريب ومطلوه حتى حملوا عليه حملا وهم كارهين. فالقول بأنه كله عند العرب تعريب شطط كبير.
    أريد بالبحث تفكيك الرواية المتداولة عن التعريب في السودان، بعد ما علمنا من حيثياته ما علمنا، عملاً بقول هومي بابا، الأكاديمي الهندي، إنه ليست من حركة قومية فرد لتكون لرواية عنها المِيزة على ماعداها (1994). وسأناقش في البحث الطرائق التاريخية الشتى للتعريب لدرء العقيدة التي ترى أنه وقع مرة وما أنفك على وتيرته الواحدة ومقاصده البكر التي لا تتبدل. فمع تمييز هزر شاركي، المختصة بتاريخ الحركة الوطنية السودانية، للتعريب في حقبة ما بعد الاستعمار، وهو موضوع بحثنا، إلا أنها عدته موجة أخرى من موجات التعريب الذي بدأ بدخول العرب السودان. ولم يُغرِها على الأخذ بالمسارات المتنوعة للتعريب قولها الصواب بفشل تعريب النادي السياسي العربي للأمة السودانية في حين نجح تعريب التداخل العفوي بين الجماعة العربية وغيرها تعريباً صارت به العربية لغة تفاهم لغير الناطقين بها (2008، 24 و22 ). ولم يَغرِها بذلك أيضاً سدادها من أن أفارقة دارفور، الذين عدوا أنفسهم عرباً زمناً طويلاً بقرينة الإسلام، تنصلوا في زمننا هذا عن العروبة واستمسكوا بالعروة الوثقى من دينهم وتماهوا مع الجنوبيين مسحيين و"وثنيين" (2008، 24 و27).
    والكبيرة الثانية أن التعريب عند الدولة سلطاني لا سياسي يقع به تفضيل العرب عن عصبية. فالدولة، المظنون بها الرأفة بالعرب دون غيرهم، تسببت بسياساتها الخرقاء في أزمة البادية السودانية وأكثرها عرب. فلم تشفع العروبة لبادية رفاعة الهوي بولاية النيل الأزرق حين اشمأزت الدولة من أسلوب حياتهم المترحل قليل الغلة فضيَّقت عليهم في مرعاهم بمنح كثير منها لمشروعات الزراعة الآلية المستحدثة التي كانت من نصيب رأسماليين وكبار موظفي الدولة بدفع من البنك الدولي (أحمد 2000). ومع كل ما يقال عن مسألة دارفور فهي في قاعها تجسيد لأزمة البادية العربية (مادبو 2011) التي أثقل عليها الجفاف والتصحر والدولة منصرفة عنها. وما أحدق بالدولة الخطر من ثوار دارفور "الأفارقة" استغلت الحكومة يأس تلك البادية "العربية" وحاجتها فجندتها لقمع الثورة في ما يعرف بقمع التمرد بأقل تكلفة. وهي الملابسات التي خرج علينا فيها "الجنجويد" ممن ساء صيتهم كعرب قساة سفاكين (ممداني 2009)
    ولعله من أفدح ما ترتب على تجريد العرب السودانيين من التاريخ تعامي الدارسين عن استحقاق العرب السودانيين لحركة وطنية قومية أكابر حديثة كسائر الناس تفتري بلغتها على العالمين. وإن قالوا بنشأتها فهي الوحش الوافد لم يغير جلده. ولذا عزمنا في البحث أن نميز تاريح تعريب الدولة المشاهد عن ما عداه من تواريخ أخرى له يرجع بعضها إلى وفود العرب إلى السودان. ومتى ثبتنا لعرب السودان حق أن تنشأ حركة قومية حديثة من أوساطهم صار تعريبهم للدولة، مثل أفرقة أو ألمنة آخرين لها، نشاطاً تاريخياً له دواعية ومواقيته مستحقاً للدرس في حيزه بغير حاجة لإستدعاء أصوله. فاللغة الرسمية للدولة الحديثة، وهي العربية في حالنا، لا تولد معنا. فهي مما تصطنعه الحركة القومية تحمل الناس عليه حملاً لبناء الأمة (جوزيف 2008، 471).
    IMG_4114.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    أمة أصلها للعرب: الترويع بالتعريب
    تولد عنف تعريب الدولة من المشروع القومي لصفوة مؤتمر الخريجين التي انتدبت نفسها، ككل حركة قومية أكابر، لتضييق واسع الأمة مختلفة الألسن بفرض لغة واحدة. وهو مشروع سنحلل سياساته ومنطوياته ومنعطفاته كوجه واحد من تجليات العروبة السودانية. وتعدى عنفه، كما هو معروف في حال القوميات الأكابر، إلى القوميات السودانية الأصاغر من العربية ليست لغتهم كما رأينا. وما تزال ذكرى هذا العنف تثاور أبناء وبنات القوميات السودانية غير العربية ويذكرون بالتحديد "قرش الرطانة" لتعويد التلاميذ الحديث بالعربية في حوش المدرسة. وهو عقوبة مقدارها قرش (عشرة مليمات) يدفعها صاغراً التلميذ الذي ينتهي اليوم الدراسي وهو آخر من "رطن" بلغة أهله وفق ترتيب مرسوم.
    متى بحثنا عن مصدر هذا الترويع بالتعريب وجدناه في "الخيال اللغوي"، أو عدمه، لقوميّ مؤتمر الخريجين الذين تعاموا عن ثراء الوضع اللغوي في البلاد ووطنوا أنفسهم على تعريب سائرها متى آل أمرها لهم. ففرضوا اللغة العربية كوسيط للتعليم في واقع ثقافي اتسم لا بالتعدد الغوي فحسب بل بالثنائية (أو الإزدواج) اللغوية. فأهل السودان، من جهة التعدد اللغوي، وقبل انفصال الجنوب عنه، ، تحدثوا نحو 143 لغة تنتسب إلى كل المجموعات اللغوية في أفريقيا عدا أسرة لغات الخويسان جنوب أفريقية. أما من جهة الإزدواج اللغوي فيتحدث بالعربية حسب إحصاء 1956 نحو 51% (إبراهيم 2001، 26). كما أنها لغة واسطة في بقاع شتى من السودان. فهي تخدم أغراض التفاهم عبر اللغات في جبال النوبة التي، رغم ضيق رقعتها، يتحدث أهلها 7 مجموعات لغوية لا يفهم واحدها الآخر (موري 1963، 89). ويتحدث بلغة شعب الدينكا نحو 11% من السكان (إبراهيم 2001، 26). وهي أيضاً لغة واسطة تتحدثها جماعات ليست هي لغتهم الأولى لأغراض التواصل (1963، 88). ونجد في الجانب الآخر اللغة الإنجليزية بسلطانها على صفوة العرب المحدثين ممن تمسكوا بها كوسيط للتعليم ولغة احتكاك (تقرأ لغة حضارة وحداثة) حتى آخر رمق كما سنرى. ناهيك عن صفوة الجنوبيين الذين تبنوها لغة لهم خلال دفاعهم الطويل العنيف عن مقومات هويتهم في وجه التعريب (إبراهيم 2001، 26).
    لا خلاف حول أن قومية الخريجين أظهرت بؤس حساسية قومية كؤود حيال تلك الآيات السودانية اللغوية من "اختلاف ألسنتكم" بفرض تعريب الدولة والتعليم لدى تسلمهم زمام الحكم فرضاً غبن طوائف من السودانيين وثارت ثورات تؤدي ، بل أدت بالفعل، إلى تفرق البلاد المشاهد. وتعود هذه الكزازة الثقافية إلى التأثير المصري القوي الذي شكل خيال القوميين الخريجين للغة الوطن المستقل. ففي مصر، ضمن سائر بلاد المشرق، لم تصطدم اللغة العربية، المستردة بالتحرر من ربقة اللغة الأجنبية، بلغة محلية أخري هي هوية لجماعة قومية مؤثرة. والمغرب العربي خلاف ذلك. فسرعان ما استرد القوميون فيه اللغة العربية وأعجبهم ذلك، حتى وجدوا الأمازيغية، مثل العربية، تطلب أن تكون مشروعاً قومياً لتحرر أهلها (سليمان 2003، 11-12). وبالنتيجة لم يتسن لقوميّ السودان الخريجين، وهم عرضة للاثر المصري الثقافي، تنمية وعي باختلاف الألسن. وانطبعوا بحمية أدب إحياء اللغة العربية في الشام عند نصيف اليازجي وبطرس البستاني وفي مصر عند أحمد لطفي السيد و"الجريدة" ثم طه حسن وزكي مبارك وهيكل والعقاد والمازني ( محجوب 1970، 222-223).
    فرغ القوميون السودانيون من أن هوية السودان المستقل عربية إسلامية وكفى. فأكد منظرهم المميز محمد أحمد محجوب في كتابه "الحركة الفكرية في السودان: إلى أين يجب أن تتجه؟" (1941) على ذينك الهويتين لا غيرهما. فمع اعترافه (1970، 224) بالتنوع التاريخي والثقافي العرقي للسودان إلا أنه أصر على أنه مما "لا شك فيه هو أن الثقافة العربية هي الغالبة أو على الأقل هي التي تستحوز على لب القارئين وتتأثر بها عقليات الكاتبين، كما أن الدين الإسلامي الحنيف هو دين الأغلبية الساحقة في هذه البلاد وهو الدين الذي قبلته وتقبله قبائل الجنوب الوثنية بسرعة مدهشة ويتجاوب مع طبائعها ولا غرابة في ذلك فهو دين الفطرة "إن الدين عند الله الإسلام" (1970، 215).
    وجاء البؤس لمشروع التعريب في السودان من مصدر لم يحظ بما يستحقه من اعتبار. قالقاريء المتمعن يجد في مشروع التعريب القومي للخريجين عكساً بسيطاً للمشروع الاستعماري (شاركي 2008، 24) لأنجلزة الجنوب وتمسيحه. فقد فرض الإنجليز على الجنوب في العشرينات سياسة عُرفت ب"سياسة الجنوب" أرادت عزله ك"منطقة مغلقة" على أعرافها حماية له من "التغول" العربي الإسلامي الشمالي (كولنز 1983، بشير 1968، دالي 1991). وبالطبع فتح الإنجليز الجنوب للمبشرين وللغة الإنجليزية على مصراعيه. فما أن استأثر قوميو مؤتمر الخريجين بالحكم بعد الإنجليز حتى انتصفوا للعربية وأحلوها مكان الإنجليزية. وكانت تلك معركة "ثأرية" مع الإنجليز لم ترع حقاً لمواطنة شعوب سودانية لا الإنجليزية لسانها ولا العربية. فمذكرة مؤتمر الخريجين للحكومة الاستعمارية في 1939 أرخت للتعليم في السودان بدخول العرب وكأن التعليم قبلهم لم يكن. وقضت بأن يتخذ التعليم في السودان الطابع الإسلامي العربي الشرقي وليس الطابع الأفريقي الوثني لما بينهم مع البلدان العربية والإسلامية الشرقية من آصرة الدم (بشير 1969، 237، 252).
    وما سنحت لقوميّ مؤتمر الخريجين الفرصة للتقرير بشأن التعليم حتى شرعوا في تعريبه. وساروهم التعريب باكراً للاستقلال نفسه. فما تولوا بعض الشأن القومي في الجمعية التشريعية ، التي أراد بها الإنجليز إلهاء الوطنيين عن مطلب التعجيل والتوافق على التدرج الدستوري، حتى قرر أول وزير سوداني للمعارف بتلك الجمعية، هو عبد الرحمن على طه في 1948، تدريس اللغة العربية بالجنوب لأنها هي لغة السودان ( 1969، 175). ومع امتداح ساندرسن وساندرسن لأناة عبد الرحمن في سياسته للتعليم في الجنوب إلا أنهما أخذا عليه أنه خرج بتلك السياسة ولم يلبث في المنصب سوى أيام قليلة (1981، 298). ورحبت بها الحركة الوطنية الجنوبية الناشئة لأنها صادفت منعطفاً فيها مال صفوتها فيه إلى القبول بالتعريب طمعاً، ضمن أشياء أخرى، في تعليم يحصلون به على الأجور الأرفع التي كانت للشماليين من سنخهم وضن الاستعمار بها عليهم كما سنفصل في الأمر بعد (إبراهيم 2011، طه 2011).
    IMG_4129.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    وأسفر التعريب كإحلال للمقاصد الوطنية مكان المقاصد الاستعمارية عن ما اسميته ب"البلدوية". وهي عكس بسيط لإرث الإنجليز في الجنوب. فيبدلون الإنجليزية بالعربية والمسيحية بالإسلام وكفى الله المؤمنين شر القتال. والبلدوية عائدة إلى علي بلدو مدير مديرية الإستوائية في الجنوب خلال الحكم العسكري الأول (1958-1964) الذي وصفت ساندرسون وساندرسون همته في التعريب والأسلمة بين رعاياه ب "الجهاد الإداري" (1981، 396). فقد غير احتساباً عطلة المديرية من الجمعة إلى الأحد وغير أسماء الناس إلى أسماء عربية ونشر معاهد التعليم الديني الإسلامية يراجع آثار الإنجليز بلا هوادة أثراً بعد أثر. وكانت مقاومة صفوة الجنوبيين لإجراءات تعريبهم البلدوية مقدمة لخروجهم من السودان وتكوين حزب الاتحاد الأفريقي السوداني (سانو) في وبداية الحرب الأهلية الأولى (1963-1972) (أدوهو ودنق 1963، 55-58).
    لم يلطف شعواء تعريب قوميّ الخريجين غير العرب حقيقة أنه كان زائدأ عن الحاجة. فالجنوبيون كثيراً ما قبلوا ،وبواقعية رصينة، بالعربية لغة أولى للسودان وإن احتجوا على اللغو "العنصري" لأطراف من الحركة القومية العربية الشمالية حول مزايا لغتهم بإطلاق. ففي آخر الأربعينات، بعد أن ترك الإنجليز "سياسة الجنوب"، التي فصلت بين الجنوب والشمال إلا اسماً، كان مطلب صفوتهم هو تعلم العربية ليحصلوا على "أجر الشماليين". وهو أجر جعله الأنجليز أعلى من أجورهم كما مرّ. ولكن ما أن جاءت بواكير الاستقلال في 1954 حتى ظلمتهم صفوة الخريجين الشمالية الوارثة للإنجليز وكادت تستبعدهم من "سودنة" الوظائف سوى بعض الدنيا منها جداً. وسمى صفوة الجنوب "السودنة" ب "الشمألة" يأساً من نيلهم حظهم من الوطن المستقل (إبراهيم 2011). بل ظل خضوع الموطفين الجنوبيين لامتحان في اللغة العربية للترقي مهانة حملوها إلى مؤتمر المائدة المستديرة الذي تداول مسألة الجنوب بصورة واسعة في 1965. وقرر المؤتمر إلغاء ذلك الامتحان عملاً بمبدأ ألا تمييز بين الناس على أساس اللغة أو العرق. ولكن صحيفة الفجلنت، التي حررها بونا ملوال ، أحد وزراء الإعلام على عهد نميري، كتبت تحتج في 1966 لأن وزارة الداخلية أوقفت ترقية الموظفين الجنوبيين الذين لا يعرفون العربية إلى سكيل (H). فأنظر همود الهمة يعربون الدولة ويبقون على مسميات وظائفها!
    ولم تفتر السنة الجنوبية في التعاطي الإيجابي مع اللغة العربية. فقد كان للعقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية وطوائف أخرى من غير العرب في السودان، رأياً حسناً في العربية في إطار ما نحاوله هنا من نقض عقيدة أفريقيّ الزنوجة التي جعلت العرب في مصاف المهاجرة والمستوطنين. فقد قبلها كمفردة ثقافية حاقة. فقال: "يجب أن تكون العربية اللغة الوطنية في السودان الجديد ووجب علينا بذلك أن نتعلمه. فلا يصح القول إن العربية هي لسان العرب. وعليه فأنا أتخذ العربية لغة للسودان على أسس علمية ووجب عليّ تعلمها" (محمود 1988، 17-18). فالعربية، بجانب أنها لغة في السودان، مقبولة بالنظر إلى ديناميكية ثقافية جعلتها الأولى حيث هي في الأداء الوطني. ويستصحب هذا الإقرار العربية بتفريغها من الاستعلاء وتمكين اللغات الأخرى حيث ينبغي في التعليم والإعلام (1988، 30).
    ولقرنق حيثيات فكرية تاريخية لهذا القبول السخي بالعربية لم تتأن عندها صفوة الخريجين. فهو يراها بعضاً من كل السودان الذي لا نملك تاريخاً مخصوصاً لبدء إعماره بالبشر. فهو أقدم من قدوم المسيحية والعرب والإسلام. ولا نعني بقِدَمه أن يكتفي بمن قطنه في ماضيه البعيد ليستغني عن من جاءوا بعده. وهذه التأرخة للتفويج البشري للسودان أو أفريقيا هي من وراء عقيدة أن أفريقيا زنوجية ومن دخلها من العالمين من غيرها أجنبي ومستوطن. وسمى قرنق هذا القبول بشعوب السودان وقبائله بغير تفتيش عن الأصل وتاريخ الوصول ب "السودانوية". وعليه فهو يدعو لتعريف لهوية السودانيين يتخطى كونهم عرباً او أفارقة (1988، 19). فليس هناك "جنوب سودان" في نظر السودانوية بل "سودان" (1988، 26). فالقائلون بعروبة السودان في نظره فشلوا في اعتبار بقية مكوناته اللغوية والثقافية (المسماة أفريقية) في تخيل السودان الجديد. فهم حتى حين اعترفوا بها (وقد تأخروا في ذلك) عدوها "هوية تاريخية وجغرافية" وتجري نسبتها في السياسة الثقافية للدولة بعبارت غير وثقى مثل "رعايتها" مما سماه عشاري أحمد محمود بالمعالجة "التجميلية" (1988، 5-7).
    ولم يحل دون صفوة مؤتمر الخريجين وعماها عن التنوع الثقافي وحسن إدارته أنها تلقت، وفي الوقت المناسب، نصحاً أن تهديء لعبة تعريب غير العرب في البلاد. وجاءها هذا النصح من اليسار، الذي غلب فيه عرب، مستثمراً ما وسعه الخبرة السوفيتية في معالجة الشأن القومي. فكان أول ما صدر لعبد الخالق محجوب، زعيم الحزب الشيوعي، في 1954 ترجمته لمقالة ستالين الموسومة "الماركسية وعلم اللغات". وشدد في مقدمته للترجمة على أن عنايتنا باللغات في بلد تعددت فيه واجبة. ومن جهته طالب حسن الطاهر زروق، النائب اليساري في أول برلمان سوداني (1954-1958)، ألا نعلم اللغة العربية ولا الدين الإسلامي في جنوب السودان لأنهما غريبان عليه. ونص برنامج الجبهة المعادية للاستعمار اليسارية في 1954 على أن تتمتع القوميات السودانية غير العربية بالحكم الذاتي بما يكفل لها رسم سياستها اللغوية باستقلال نسبي عن المركز. بل استخدم اليسار لغات غير عربية لتبليغ رسالته للجمهور. وما صار لليسار يد في الحكومة حتى أصدر إعلاناً عاماً في 1969 يدعو لبناء الوطن باعتبار للخلاف في اللغات والتقاليد لا على التسوية الكاذبة. واختتم عبد الخالق محجوب حياته قبل شنقه في 1971 بمذكرة معروفة ب"حول البرنامج" دعا فيها إلى التشجيع الفعلي للنمو الحر لثقافات الجماعات غير العربية في السودان ببعث لغاتها والتوسل بها في التعليم والنهضة الثقافية الشاملة بما يجعلها مكوناً عضوياً من مكونات الثقافة السودانية (إبراهيم 2001، 19-21)، سليمان 1971).
    وبالنظر إلى حقائق التنوع الثقافي السوداني كان تعامي صفوة الخريجيين عنه شططاً كبيراً. ويمكننا رد تبلد حسهم المشاهد إلى حزازات ثقافية "عامية" للشماليين العرب قائمة في استقطاب ملغوم بين العربية والعجمة. ولم يسلم من هذه الغلظة الشاعر الوزير محمد أحمد محجوب في رده على أحمد إبراهيم دريج زعيم المعارضة آنذاك وأحد وجوه الحركات الدارفورية حالياً. فقد استنكر محجوب نقد دريج للحكومة لتراخيها في نصرة الحق العربي. وتهكم قائلاً إن زعيم المعارضة "ظل يتحدث ساعة ونصف الساعة فلم ينطق جملة عربية صحيحة". وزاد أنه لولا وجود نائب معارض ما (يبدو أنه عربي اللسان) "لحسبت أن هذه المعارضة من بلد غير هذا البلد ولا تمت للعرب بأي صلة" (محاضر مداولات البرلمان، 1967).
    ومن ذرى باب ارتجال التعريب، من جهة التسيس والنعرات العرقية المستكنة، ما رأيناه في أداء منصور خالد السياسي والكاتب والوزير. فقد كان في 1968، في مقالات نشرها لاحقاً في كتابه "حوار مع الصفوة" (1974)، داعية لا يشق له غبار لتعريب جامعة الخرطوم. ثم صار وزيراً للتعليم العالي في 1975 ولم ينبس ببنت شفة عن التعريب. وما أن عربت حكومة الإنقاذ (1989- ) الجامعات حتى انبرى لها بلسان حديد. فاستفظع منصور أن يحاول قطر كالسودان، لا هو في العير ولا في النفير، التعريب في حين تحاشته دول عربية يشار إليها بالبنان. وكان من حيثياته الأخرى لاستنكار التعريب إتمامه في ظل حكومة يقودها حاكم السودان "المستعرب"، الذي هو الرئيس عمر حسن البشير، ورئيس مجلس تعليمه العالي وهو المرحوم اللواء الزبير محمد صالح. ووصف الأخير، الذي ينتمي إلى النوبة الشمالية من العربية ليست لسان أمهم، بأنه "ما زال يتحدث العربية برطيني(رطانة) يكاد لا يفهمها الأعاريب" (خالد 1993 ، 2، 344-346).
    كان انفصال الجنوب عن السودان في يوليو 2011 ثمرة مرة لتهافت المشروع القومي لصفوة الخريجين في نسختها الإسلامية في ظل دولة الإنقاذ. ولم يكدر على الدولة بعد أن ثلث القطر وربع سكانه انفصلوا كرهاً في ذلك المشروع القومي الذي جازفت الإنقاذ بتطبيقة بحذافيره المملة منذ 1989. بل نزل ذلك الانفصال برداً وسلاماً عليها. فقال الرئيس البشير إنه بالانفصال سينسحب "كرت" التنوع الثقافي من يد من طالبوا دائماً بتعطيل الشريعة والعروبة نزولاً عند مقتضى ذلك التنوع. فالانفصال سيزيل المانع لتكون الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع وأن تكون اللغة العربية لغة البلاد الرسمية بلا منازع.
    ولا أدري لِمَ بدا لي الرئيس وكأنه فرح للشريعة بتبخر حجة التنوع متى وقع الانفصال. فالإسلام، إن لم يكن محض عقوبة، يزدهر في كامل زينته الإنسانية متى ما أَلّف الآخر لا متى تفاداه لكي يخلص الوطن للمسلمين والعرب: "ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف ألسنكم وألوانكم". من جهة أخرى فذهاب الجنوب ليس نهاية التنوع، أو الأحزان، لأنه لم يكن مصدر التنوع الوحيد في البلاد. فمن بين لغات السودان، التي هي نحو 135 (8 منها انقرضت) نجد أن نصيب الشمال (السودان الحالي) نحو 60 لغة: 42 في كردفان وجبال النوبة بصورة خاصة و8 في النيل الأزرق و7 في دارفور و2 في الشمالية وواحدة في الشرق. علاوة على مسيحية الشمال سواء التي للأقباط أو المستحدثة في الجنوبيين الذين سيختارون العيش في الشمال. ناهيك عن ما ظللنا نصفه بكرائم المعتقدات في جبال النوبة وغيرها. ومن بين اللغات أعلاه نجد النوبية التي افتتن بها أهلها في ملابسات تسييس إثنيتهم وشكواهم المناسبة من "قرش الرطانة" الذي تقدم وصفه. وما ذاع حديث الرئيس عن صفاء السودان للعربية والإسلام حتى خرج ممثلو تلك اللغات والجماعات مستنكرين جفاءه وهددوا ب"جنوب جديد" لن يقبل بغير احترام التنوع الثقافي الماثل. وما حروب جبال النوبة والنيل الأزرق، مواطن اللغات المختلفة التي ألمحنا إليها، القائمة على قدم وساق سوى تدشين بالدم ل"الجنوب الجديد" .
    وكنت نظرت في مصدر جفاء قوميّ مؤتمر الخريجين للتنوع اللغوي في ورقة قدمتها عام 1987 لمؤتمر الشباب العربي في 1987 الخرطوم عنوانها "السودان بين الرعاة والدعاة" حملت فيها على مفهوم ذاع بين العرب مفاده أن السودان "ثغر" لهم مُلزَم، قومياً ودينياً، بنشر العربية مبتدئاً بجيرته من الأفريقيين بجنوب السودان ولعل أشقى ما شقينا به في السودان هو دورنا المرسوم من المركز العربي ألغينا به الآخر إلغاءً أفقر الخبرة العربية الإسلامية في الشغف بجماليات الحضارة الأفريقية يتولد منه علم رصين نستبدل به إرثنا الفاسد عن القارة (إبراهيم 1996).
    ووقعت كبيرتان في تعريب الدولة. أولهما أن الدولة لم تستثمر في التعريب ما تتنزل به الثقافة العربية في أحسن صورة. فلما أردت تعريب الجنوب أنشأت فيه المعاهد العلمية وهي في أسفل سلم التعليم في الشمال نفسه لا يطرق بابها إلا من انسدت في وجه كل أبواب التعليم الأخرى. وأرادت بذلك تقليد مدارس المبشرين التي تعلم المهارت والعلوم وتغير دين تلاميذها كغرض أساسي (إبراهيم 2006).
    أما الكبيرة الأخرى فهي تورط التعريب في مفارقة جوهرية بين بلاغته الشعارية وتطبيقاته العرجاء. فبينما كانت الدولة تجهر بالتعريب كان مدرس اللغة العربية والدين فيها في الدرك الأسفل من حيث شروط خدمته. وتصدت رابطة معلمي اللغة العربية والدين لمهانة منتسبيها في آخر السبعينات لإماطة الأذى عنهم بعمل نقابي بلغ الغاية من السداد. وسنعود لهذه النقيضة المؤسفة في ما تبقى من البحث. وقلت معلقاً على هذه المفارقة من قبل: " إما أن يصار إلى إهمال هؤلاء المدرسين وحط قدرهم في ظل الدولة الملتزمة قولاً لا فعلاً بإشاعة الإسلام والعربية ، فهو أمر عسير على الفهم . . . اللهم إلا إذا كان ما تطبقه الدولة هو شئ آخر غير العربية والإسلام بأي معنى مقبول منطقًا . . . ، إنما هو توافه مبتذلة تنضح ،كما قال إدورد سعيد ، عن "شهوة للقوة شاذة ومتمركزة عرقيًا" (إدورد سعيد (1983) في إبراهيم 2008، 369)
    وكان ما أساء لتعريب التعليم دائماً الطلاق بين السياسة القومية للتعريب وضوابط المهنية التربوية. وزاد مطلب التعريب عنفاً وضغثاً على إبالة أنه لم يطبق ملطفاً من أهل التربية لينزل بقدر واعتبار رصين لحقوق المواطنة لمن كانت العربية لغتهم أم لم تكن سواء بسواء. خلافاً لذلك طغى على التعريب الارتجال والتشويش. فقد قال لي حسن الترابي في لقاء معه عام 1996 إنه ما عاد من البعثة للدكتوراة من فرنسا لجامعة الخرطوم في 1964 حتى درّس بالعربية أول مقرر له غير عابيء بما استقر التعليم عليه في كلية الحقوق. ولم يدر الترابي، الذي أخذته العزة بالعربية، أنه تعدى بهذا الارتجال "القومي" على حق طلابه من الجنوبيين الذين تعاقدوا مع الجامعة أن يدرسوا بالإنجليزية. وقد ذكر للترابي هذه المنقصة، التي ظنها الترابي مأثرة، القانوني الجنوبي بيتر كوك الذي صار وزيراً للتعليم العالي في حكومة الوحدة الوطنية بعد اتفاق نيفاشا للسلم عام 1995 (كوك 1992). وفي سياق التخبط في التعريب رأينا مدير جامعة الخرطوم، الدكتور مامون حميدة ، يستقيل من منصبه حين ضغطت عليه الدولة ليعرب كلية الطب وهو الذي قبل بالتعيين مديراً لجامعة عربتها الدولة رسمياً منذ 1990. بل وقَّع على فصل جماعة من زملائه بالجامعة بأمر من الدولة. ولكن لم يقبل للتعريب أن يطال قدس الأقداس: كلية الطب. وانقلب، وهو الإسلامي المعروف، على المشروع الحضاري لحركته الماسكة بمفاصل دولة الإنقاذ. فكتب في الصحف بعد استقالته في 1994 متذمراً من بعض التعريب ضمن أشياء أخرى:" أصبح ماثلاً للعيان أن ما قصد به تفجير ثورة التعليم العالي لا يعدو أن يكون مجرد معاول هدم لا تبقي ولا تذر من موروثات هذه الأمة من جامعات ومعاهد عليا كان يشهد لها بالتمييز والتفرد" (محمد الأمين التوم 1999، 48). وأنشأ بعد استقالته جامعة للعلوم الطبية غاية في النجاح ولكنها تلحد بلسان أعجمي. وهذه قبائلية في الدرك الأسفل تؤمن ببعض التعريب وتكفر ببعضه. وفخرت جامعته أخيراً بما بدا من عودتها لتلك التقاليد الجامعية القديمة التي عنوانها اللغة الإنجليزية بقولها إنها جاءت ب 17 ممتحناً خارجياً من بريطانيا وإيرلندا والخليج وأندونيسيا وماليزيا ومالي شهدوا بإحسان الجامعة .
    IMG_4102.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    التعريب: هذيان مانوي
    في اعتقادي أن تعريب التعليم كان وما يزال من أكابر أجندة تحررنا الوطني. فقد أردنا به استرداد لساننا الذي استرذله الاستعمار مُتَّهماً في بيانه فطرده خارج حظيرة التعليم. وعليه فمتاعبنا الجمة مع تنزيل التعريب منذ استعدنا قرارنا الوطني وخلافنا حول مشروعيته وأسبقياته مما يدخل في عداد عقابيل ما بعد الاستعمار. وقد سبق لي دراسة واحدة من تلك العقابيل وهي توحيد القوانين السودانية المتنازعة بين الأعراف الإنجليزية الوضعية والشريعة، وتعقبت جذر المنازعة حتى وجدته في ثنائية التعليم الاستعماري والنظم الحقوقية والقضائية التي خدمتها تلك الثنائية أو تأسست عليها.
    فقد اتسمت القضائية السودانية منذ نشأتها في أول القرن الماضي وحتي 1980 بنزاع بين قسمها المدني المنسوب الي الحداثة ، والذي له الجاه والصولة، وقسمها الشرعي، المنسوب الي التقليد، المستضعف. وهذه قِسَم سياسية كان فرانز فانون (1925-1961، المفكر ذو الأصول المارتينيكية ممن ظاهر ثورة الجزائر وكانت كتاباته هدياً كبيراً لنازعات الستينات التحررية، قد أطلق عليها "الجغرافيا المانوية" للاستعمار. و"المانوية"، نسبة الي مان، صاحب الديانة الفارسية الذي اعتقد في انقسام العالم إلى قوي ثنائية مُستقطِبة من خير وشر يدور بينهما صراع درامي أزلي.
    وأخذ فانون من مان مفهومه للأمكنة المتباغضة أزلياً. فمن رأيه أن الاستعمار قسم فضاء الدولة التي خضعت له بصورة مانوية. فجعل منها فضاءً استعمارياً أوربياً وآخر أهلياً بلدياً.
    وصار فيها الفضاء الأوربي هو الذي عليه المعيار بينما صار الأهلي مباءة الانحراف. وترتب على ذلك أن تواجه الفضاءان بصورة إقصائية لا سبيل معها إلي توافقهما. واستفحلت هذه المانوية الاستعمارية وأعدت بأثرها المدن والاسواق والأحياء والمدارس واللغات وأشكال اللبس نزولا إلى الأحذية. فميّز الإداريون البريطانيون بين لابس "الجزمة" الأوربية و "النعال" السودانية. فيمكن أن تدخل مكاتبهم وأنت منتعل الأولى ولكن مفروض عليك أن تخلع الثانية قبل أن تلقاهم. وفرق الاستعمار بين الخرطوم ، مدينة غردون باشا الشهيد ، الظافرة بعد الفتح في 1898 وبين أم درمان، موئل الشر المهدوي، الخاسرة. ففي الخرطوم "المتحضرة" قَسَّم السوق إلى حيين : السوق الإفرنجي "الأوروبي" والسوق العربي.وفي سياق تضاد الأمكنة تكونت القضائية من قسمين المدني والشرعي حيث ينقاد الأخير للأول ويتبع له. وصنّف معلميّ المدارس في فئتين : الشيوخ الذين يعلمون اللغة العربية والدين ، والأفندية الذين يعلمون المواد الحديثة. ومن وجوه الثنائية الاستعمارية في حقل التعليم انشطاره الي تعليم حديث مثلته كلية غردون (1902 وجامعة الخرطوم لاحقاً) في السودان والمعهد العلمي (1912 وجامعة أم درمان الاسلامية لاحقاً). وقد بلغ هذيان الأمكنة هذا حداً سُخرياً .
    وجدت في كتابي "هذيان مانوي" (2008) أن توحيد القوانين والقضائية وقع، مثل ما سنرى في حال التعريب، بقرار فظ من الدولة. فقد تعاوره الهذيان المانوي في حرب ثنائية الفضاءات الاستعمارية مما خرج به عن المعقول وتخبط به الناس بين الفضاءين كمن بهم مس. فسياسات الاستعمار صورت القضاة الشرعيين بصفتهم " الآخر المتخلف " بالنسبة للقسم المدني الحديث في القضاء السوداني. فجردتهم من أدوات الشوكة وتمثل ذلك في التفاوت بينهم وبين القضاة المدنيين فيما يتعلق بالخدمات والامتيازات. فالمحاكم الشرعيه تحتل مبان قديمة متهالكه. والقضاة الشرعيون أنفسهم تخصص لهم مساكن حكومية بائسة. وخلافاً لرصفائهم المدنيين لا تخصص لهم سيارات حكوميه . والمثال الحي على تلك التفرقة هو الامر الصادر لرجال الشرطة وضباط السجون بحجب التحية العسكرية عنهم في حين يؤدونها للقضاة المدنيين. ولما اقتصر القضاء الشرعي على قانون الأسرة خرج عن الاختصاصات القانونية التي تحكم مسالك السياسات العليا وإدارة الاعمال. وعرضهم ذلك التخصص البيتي للسخرية من جانب جمهور الرجال ، من أمثال قولهم:" قضاة العوين-النساء" لكثرة تعاملهم مع النساء وفي أخص خصوصياتهن.
    ومثلما سنرى في التعريب لم يتم المشروع الوطني التحرري، وهو توحيد القضائية وقانونها وكادرها، إلا بالعنف. فالقسمان المدني والشرعي في حربهما المانوية لم يتواضعا على خطة مهنية مستقلة لإنفاذ التوحيد بسبب تلك الخصومة. فالقضاة المدنيون، الذين تمتعوا ب "أجور الحداثة"، وحلوا بعد الإنجليز في قيادة القضائية، قاوموا مجرد تخيل قضائية وطنية يندمج قسمهم الحديث مع آخره المتخلف، القسم الشرعي. أما القضاة الشرعيون فأطلقوا العنان لمخاوفهم ، المشروعة ، من أن يعودوا ذيلاً مرة أخرى لسدنة القانون الوضعي في الهيئة القضائية الموحدة في بلد مسلم مستقل. وحال ذلك دونهم والانخراط بصدق في عملية للتطور حتمية هي وحدة القضائية. ومن المؤسف أن القضاة المدنيين والشرعيين، الذين حُمِلوا حَملا وهم " يفرفصون " على قبول الدمج في مؤسسة واحدة، لم يستثمروا ذكاءهم وفطنتهم وخيالهم في هذا المشروع الوطني .فأضطر الجهاز التنفيذي تحت ديكتاتور هو الرئيس النميري لفرض الوحدة بينهما في 1982 بعد أن سوّفا توجيهات متكررة له بالوحدة في السبعينات. ثم فرض على القضائية الموحدة اسماً توحيد قانونها الحاكم بفرضه قوانين سبتمبر 1983 الإسلامية.
    واستضعفت حرب الفضاءات الاستعمارية الشرعي. ولأننا بخسنا الشريعة حقها في أن تكون قانوناً لمسلمين، كما سنرى الحداثيين يفعلون مع اللغة العربية في حرمانها أن تكون لغة التعليم العالي، ظلت تتعقب الأمة بشكل ثأري ، وتنغص عليها قانونها ودستورها ، وتؤذي عملية بناء الأمة السودانية في الصميم. فقد أخفقت الأمة المستقلة أن تدير حوارًا مسؤولاً ذا معنى لتقف على المرارة التي احتقنت بها الشريعة ، كتقليد قانوني، استبعده الإنجليز من عملية تحديث القانون من غير ذنب اقترفه. لقد جعلنا منها، وهي ثقافة وطنية وقانونية لشمال السودان ، تقليدًا منقرضًا فولكلوريًا وحرمناها من التفتح والنمو في إطار اختصاصاتها ومرجعيتها . فنصوص الشريعة ، في قول إدوارد سعيد في مضمار آخر ، قد فُرِض عليها أن تعيش في فضاء استؤصلت منه الشوكة والقدرة على التطور (سعيد 1983 في إبراهيم 2008، 369). وقد دفع السودان الثمن باهظًا ومكلفًا للمحنة التي تعرضت لها الشريعة على عهد الاستعمار وما بعده في الثورات القانونية العديدة التي اجتاحته ينسخ واحدها الآخر.
    وسنقف عند حقل آخر من حقول المانوية لمساسه القوي بتعريب التعليم وهو قسمة الاستعمار للمعلمين بين مدرسيّ العلوم الحديثة والعلوم التقليدية كالعربي والدين. يسمي معلمو اللغة العربية والدين معلمي المواد الأخرى ذات الصلة بالإنجليزية بمعلمي "المواد الأخرى". ويجعل البون الشاسع بين شروط خدمة الفئتين هذا التصنيف ممضاً ومهيناً لمعلم العربية والدين. فكل المعلمين الحاصلين على الدرجة الجامعية يعينون في الدرجة (كيو) في سلم الخدمة المدنية. ويُرَفَّع معلمو المواد أخرى للدرجة التالية، دي إس، بعد 4 سنوات ماعدا معلمي العربي والدين الذين قد يمكثوا في الدرجة "كيو" لعشر سنوات. ففي إحصائية لعام 1974 ضغطت رابطة معلمي اللغة العربية والدين لإجرائها وجدت الحكومة حوالي سبعة وثمانين وخمسمائة معلماً ترقوا إلى الدرجة دي إس في الفترة بين 1966-1971 في حين لم يبق بها أحد ممن ترقوا إليها في 1971 من معلمي المواد الأخرى بل ترقوا صعوداً (إبراهيم 2004، 137). وتوالت احتجاجات معلمي العربي والدين على هذه التفرقة. ولم يبلغوا بنضالهم النقابي العنيد في سنوات 1974-1981، في ظل قوانين تجرم الإضراب، للمساواة مع معلمي المواد الأخرى سوى الترقية للمجموعة الثالثة في سلم مجموعات وظيفي تاجه الدرجات الثانية والأولى والأولى الممتازة. وقد هنأ المرحوم عبد الله الشيخ البشير، رئيس رابطة معلميّ العربي والدين خلال سنوات النضال للتسوية، أعضاء الرابطة الذين كرموه عام 1988 بقوله:
    "قطعنا شوطًا طويلاً منذ أن كنا متكلسين في الترقيات قاصرين عن بلوغ المجموعات. فها قد أصبحت المجموعة الثالثة حقـًا خالصـًا لنا الآن ، إنما ينبغي لنا الآن أن نواصل مسـيرتنا لولـوج المجــموعتين الثـانية والأولى - عاديها والممتاز - وهي ذروة سنام التدرج والترقية. إذ في تلك المجموعات تصاغ رؤى التعليم وتنفذ. ونحن أحق الناس بذلك الموضع ، ونحتاج أن نضفي على الرؤية العامة للتعليم شيئًا مما عانيناه ، آملين أن يجعل هذا التعليم أقل زيفًا وأقرب واقعًا عما هو عليه . فالتعليم ينبغي أن يخاطب التلميذ على أنه شخص راشد وليس كشبح خطيّ يتخبط صعودًا على سلم ترقيات ذي ريب" .
    بينما كان معلمو اللغة العربية يصفون الظلم الواقع عليهم من شروط الخدمة الموروثة عن الاستعمار ب"الضيم" كانت بروقراطية وزارة المعارف ونقابة معلمي المواد الحديثة تصفها ب"المشكلة". ومدخلا "الضيم" و "المشكلة" طريقان مفيدان للنظر إلى إرث الاستعمار المانوي. فشروط الخدمة التي أجحفت بحق معلمي اللغة العربية والدين أصيلة في الثقافة الاستعمارية التي تصور المواد العتيقة أو المهجورة ( اللغة العربية والدين ) كنقيض للمواد الحديثة كاللغة الإنجليزية مع أن الأخيرة لم تكتسب القيمة والميزة إلا بمحض القوة الجبرية. فبتعريفهم مظالم أساتذة اللغة العربية والدين ب"المشكلة" إفتراض بأنها مما يَسهل حلها على نحو مُجدٍ في إطار الوضع الراهن. وعليه يرفضون مساءلة هذه البنية الاستعمارية. وبالمقابل ، أمطر أساتذة اللغة العربية والدين وابل نيرانهم الثقيلة على هذه البنية وطالت تلك النيران اللغة الإنجليزية بوصفها قيمة مفروضة بالقوة المحضة لا بميزة باطنة فيها. ففي مسعاهم لتحجيم هذه الميزة المضفاة على اللغة الإنجليزية طالب معلمو اللغة العربية والدين بإلغاء الدرجات العشر التي تمنح للمعرفة باللغة الإنجليزية ( واللغات الأوروبية الأخرى بالنتيجة ) في مسائل الترقية. كما طالبوا بابتعاثهم في المنح الدراسية الحكومية للحصول على الشهادات العليا في البلدان العربية. فبسبب جهلهم باللغة الإنجليزية حرموا في سابق عهدهم من هذا الحق الذي يتفيؤه أساتذة المواد الأخرى. إذ تمنح عشر إلى اثنتي عشر درجة للمدرسين الحاصلين على درجات عليا حين ينظر في شأن الترقية . ثم أن معلمي العربية والدين مستثنون أيضًا لجهلهم بالإنجليزية من تعيينهم ملحقين ثقافيين بسفارات السودان في عواصم الدنيا .
    وبرغم أن الإنجليزية هي الأصل في ظلم هؤلاء المعلمين، لكنهم لم يدعوا إلى حرب شخصية مع اللغة ذاتها. فأوجز البشير موقفهم منها في قوله "نحن نريد طبعًا لتلاميذنا تعلم الإنجليزية ، لكن الإنجليزية التي يجب أن يحصلوها هي إنجليزية الثقافة ، وليس التي يعتكزون عليها تسابقًا في مراقي التدرج الوظيفي" (إبراهيم 2004، 127-142).
    وسنتخذ في هذا المبحث عن تعريب التعليم العالي ما تخذناه في نظرنا للقضائية السودانية من جهة تحليل كساد المسعى لمحو إرث الاستعمار في التعليم بالتعريب بالنظر إلى مانوية تنظيمها الذي هو ثقافة استعمارية مقررة . وسنرى في البحث كيف ظل التعريب يتعثر في حبائل هذه المانوية حتى ضلت الجامعات عن القيام بمهمتها في أن تكون مؤسسة للنهضة لا مفرخة "أفندية" لشغل الوظائف الدنيا بالدولة. فالمانوية الاستعمارية لم تكن مجرد عقيدة ثقافية. لقد تجسدت كما رأينا في مؤسسات الدولة كشرط في التأهيل والتراتب والوصف الوظيفي وشروط الخدمة وامتيازاتها ومنحها. ولذا تمسك بها من سرتهم حتى بعد استقلال البلاد رغم أن خالقها الأول هو الاستعمار الأجنبي.
    IMG_4308.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    وجدت من بين رجال الإدارة والتربية الإنجليز، كما وجدت بين صنوهم في القضائية وتدريس القانون، من نصح زملاءه السودانيين في أصيل الاستعمار، أو بدء الاستقلال، أن يكسروا طوق فضائهم الاستعماري الحداثي المميز ويقيموا القناطر بينهم وبين ثقافتهم التقليدية. فنبهوهم بأخذ حقيقة استقلال بلدهم بجد بالنظر إلى توقعات الأمة من ذلك الاستقلال وأن يستصحبوا أفضل ما فيهم كسودانيين لتلك الغاية. فوجدت الرعيل الحقوقي البريطاني الراحل طلبوا من زملائهم السودانيين ملاقاة استحقاق الاستقلال بإصلاح القوانين ليأخذوا بعين الاعتبار القيم الخلقية لأهلهم وإصلاح القضائية لتخرج عن كونها إدارة استعمارية لحفظ النظام.
    ووجدت نفس الشيء في حقل التربية والتعريب. فمن رأي دبليو آ موري في 1963 أن تبعة المخططين السودانيين في بلدهم المستقل أن يخدموا حاجيات مجتمعهم ومرامي أهله البعيدة. فسيكون للغة العربية المنزلة المقدمة الرفيعة في السودان المستقل بالنظر إلى فحولة الحركة الوطنية الظافرة. ولكنه حذّر من سكتين ربما أفسدنا بهما، متى اتبعناهما، هذه المنزلة للعربية. أما السكة الضالة الأولى فهي تنشئة ثقافة وطنية شعواء تعتزل اللغات الأجنبية وتهمشها. والسكة الثانية في أن يسود هرج لغوي يعطل بلوغنا سياسة لغوية راشدة لبلد مستقل. وقال إنه في حالة كتلك سنجد أنفسنا في فوضى لغوية تكون به العربية، على نقصها، هي السيدة في مزيج لغوي عالمي يحتفظ السودانيون فيه بالإنجليزية بحكم العادة أو للتساهيل. ولكن موري حسن الظن بالسودانيين. فقال إن تسامحهم وفضلهم وتنوعهم سيجعل السكة الأولى بعيدة الاحتمال. كما سيسوقهم حسهم العملي إلى الابتعاد عن الطريق الثانية. أما السكة التي يزكيها موري، فهي بناء تعليم مزدوج اللغة على النمط الأوربي العربية فيه هي الأولى على طول النظام وعرضه. وهي أولوية لا تقوم جزافاً بل بتخطيط الحاجيات العملية لصون معدل التوسع في التعليم ومستوياته الأكاديمية معاً. وستكون لغة التعليم الثانية بدون شك هي الإنجليزية التي ستضطر إلى أن تتقاسم تلك المنزلة مع لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية. ومآل تلك الخطة اللغوية أن تنتج مثقفاً حسن التأهيل في لغتيه (موري 1963، 94) وتؤدي إلى تطور ثقافة عريضة حديثة ملائمة لمنشأ السودان وتاريخه ومكامن نموه (1963، 95).
    رحى المعركة الطويلة التي تدور حول التعريب دليل قطعي أن الأكاديمية السودانية لم تأخذ بحكمة الأكاديمي الإنجليزي بُعيد غروب شمس أمبراطورية أهله. وقد أسفرت المعركة عن تمكن اللغة العربية منذ قضت "ثورة التعليم العالي" لنظام الأنقاذ الوطني بقيادة البشير والحركة الإسلامية تعريب التعليم في1990. وينهض بنقد هذا التعريب بهدف إبطاله أكاديميون من صفوة اللغة الإنجليزية الغردونية وبالطبع طليعة القوميات من ليست العربية بلغة أم لهم. فخرجت صفوة الحداثة الغردونية عن صمتها الماكر الطويل في معارضة التعريب إلى الجهر به بعد أن صار تعريب التعليم سياسة مقررة للدولة. وكان رأس رمح هذه المنازلة الدكتور محمد الأمين التوم أستاذ العلوم الرياضية بجامعة الخرطوم كثير الاهتمام بقضايا التعليم العالي وديمقراطيته وهجرة الأدمغة. فدعا إلى مؤتمر لمناقشة قضايا التعليم العالي في القاهرة في 1998 صدرت أعماله في كتاب عام 1999. كما نشر مقالة بالإنجليزية في 2003 ركز فيها نقده ونقد أضرابه لسياسات التعليم العالي في ظل دولة الإنقاذ. فلم تكن معارضة التعريب بحاجة إلى هذا الجهر في السابق طالما بقي التعريب مطلباً قومياً عزيزاً مهملاً وليس سياسة لها جدوال ملزمة التنفيذ. كان يكفي تلك الصفوة أن تسوف المسألة يمضمض لسانها بالتعريب كشعار قومي وتدأب من الجهة الأخرى في جرجرة أقدامها دونه وتستهوله في مجالسها وتستبعده. وتراه من رابع المستحيلات متى طال مجال العلوم والطب والهندسة أو تطاول.
    سنحلل الخطاب المضاد للتعريب الدائر بتخطئة الحداثيين وبيان مكرهم الثقافي عليه. ولا يعني هذا بحال أننا راضون عن الطريقة المنكرة التي تنزل بها التعريب في التعليم العالي على يد دول الإنقاذ ورهطها الإسلامي. وسوءة هذه الدولة في التعريب واضحة غير فاضحة. ونقدها فريضة فكرية. وكان هذا سببنا لوصف تعريب التعليم العالي في 1990 بأنه بعض عنف الدولة الثقافي. ونحرص هنا مع ذلك أن لا يكون ذلك النقد الفريضة سبباً لأن تعفي الصفوة الغردونية نفسها من اللوم وتخفي خطاياها في أثوابه لتكن فينا الفئة الناجية. فسيضحى نقد الإنقاذ الإسلامية، على بؤس تعريبها، ضرباً على ميت إن لم نعرض لنواقص الصفوة الغردونية. فلن نبلغ بنقد الدولة ومشروعها التعريبي الحضاري المزعوم الغاية إن لم نعرض لخصومها في ضفة المتشبثين باللغة الإنجليزية. فالعيب مثل رقصة التانجو لا يقع إلا براقصين اثنين. وسنخرج صفر اليدين من فهم إشكالية التعريب متى صارت فينا مادة للتلاوم يغلب فيه صوت الصفوة الغردونية تكيل النقد للدولة كيلا.
    بوسعنا أن نشكو لطوب الأرض وغيره من تطفل دولة الإنقاذ على التعليم الجامعي بفرض العربية لغة له بقرار سياسي مباغت. وهذه الفظاظة سنة معروفة في الحركات القومية علمانية ودينية. فبعد نجاح الثورة الأمريكية في 1776 قرر الثوريون أنهم سيرمون بالقانون الإنجليزي عرض البحر ليلحق بأهله الراحلين واستبداله بالقانون الفرنسي. فالحركات القومية الأكابر خطاءة ولا يقيل عثراتها إلا مهنيون ذو عزم. فالمهني يستنقذ اختصاصه بقوة (وبالقوة لو أمكن) ويحميه بالمصابرة من شرور الهوس القومي. فالشكوى من ارتجال حكومات القوميات الأكابر سهل ويحسنه كل أحد. وقد وجدت الأكاديميين مثل القضاة خلو من المكر والحيلة لتطويق القرارت القومية المهووسة وكبح جماحها. فمن ضروب الشكوى ما تجلى في مذكرة عميد كلية العلوم بالجامعة في 2010 التي حمل فيها توصية بالعودة إلى التدريس باللغة الإنجليزية لبؤس عائد العليم بغيرها .
    تعريب التعليم الجامعي لم يحدث بليلة إنقاذية. فهو مما اتفق للجامعة منذ نيل استقلالنا في 1956 وكونت للغاية وحدة للتعريب في أوائل الستينات فتلاشت وورثها معهد للترجمة والتعريب انشغل بالترجمة التجارية دون التعريب (موري 1963، 92). ولما تحمست دولة الأنقاذ للتعريب أنشأت مجمعاً لغوياً ثم هيئة عامة للتعريب وهيئة عامة للتعريب بكل جامعة تتبعها هيئات في كل كلية. وما تزال صفوة الإنجليزية بعد نحو نصف قرن من التزام الجامعة بالتعريب تحيل المهمة إلى اللغويين وتستنفر الجامعة أو الدولة لتوفير الموارد فتعرب المصطلح وتنشر المعاجم وتعد الكتب المدرسية. وهكذا تنسل الصفوة الغردونية من التبعة لتواصل عادة التدريس باللغة الإنجليزية. وهكذا بقي التعريب الفريضة الغائبة في التعليم العالي في كليات الطب والعلوم بشكل خاص. وانتهت إلى تعليم يعاني من الهرج اللغوي الذي حذر منه موري كما تقدم. ووصف هذا الهرج رأي تربوي سوداني مخضرم من قريب بأنه حالة مرتبكة " لا طلنا بلح الشام ولا عنب اليمن" .
    من المؤسف أن الصفوة الغردونية لم تأت إلى جدل التعريب بطوية حسنة. فهي حين ترمي الصفوة المعهدية بالولوغ في الإيدلوجية تنسى نفسها. وإيدلوجيتها أقرب إليها من حبل الوريد. فهي لا تخفي صفويتها بل ذهب مبشر منهم، لما رأى تكاثر الجامعات في ظل دولة الإنقاذ الإسلامية، إلى أن التعليم العالي إمتياز لا حقاً. وقبل أن نعرض لعقيدتهم في صفوية التعليم العالي وسدانتهم لحرمه الضيق ولغته الأجنبية سنعرض لثورة الطلاب والأسر التي قادتها لجنة ، عرفت ب"لجنة بحث عدالة توزيع الفرص الجامعية"، من طلاب جامعة الخرطوم في موسم 1986-1987 أي قبل نحو عامين من قيام دولة الإنقاذ الإسلامية في 1989. وثارت ثائرة هؤلاء الطلاب على أمرين متلازمين هما ضيق ماعون التعليم العالي وصفويته. فمن بين نحو 100 ألف جالس لامتحان الشهادة السودانية قبل قيام دولة الإنقاذ قبلت جامعة الخرطوم 1800 منهم. أما الأمر الثاني فهو غلبة عوامل الجهة والطبقة في القبول. فمن زاوية ميزة جهة من القطر على جهة كان القبول الأعظم لمحافظة الخرطوم، العاصمة، التي يتمترس فيها معلمو المدارس الثانوية المحسنون للعلوم والرياضيات خاصة ويكثرون مقارنة بالأقاليم.
    وكان هذا الافقار للتعليم بالأقاليم سبب ثورة لجنة عدالة توزيع الفرص الجامعية. فذلك النقص هو الذي حفز المبادر باللجنة الطالب خالد شيحا. فقد جاء إلى الجامعة من إقليم كردفان الذي خلا كله من مدرسيّ الفيزياء. ولكنه اجتهد وثابر ودخل كلية الهندسة. غير أن غبن الفرص لإقليمه لم يزايله ودفعه لسكة في الجهاد لإصلاح نظم القبول في جامعة الخرطوم لتحسين فرص الأقاليم. أما الجانب الطبقي في ذلك الجهاد هو استنكار أمثاله غلبة القبول من طلاب شهادة عرفت ب"شهادة لندن". وهي ما يجلس لها أبناء الصفوة الأكاديمية والعاصمية بعد تدريب دقيق في معهد لأستاذ جامعي عرف ب"معهد نبيل" باهظ التكلفة للراغبين في تلقي العلم به. وكان يكثر من الإنجليزية ويقلل من العربية. وأخذت الجامعة تقبل نسبة 75% من طلابه. وحولت لجنة شيحا المسألة إلى قضية سياسة عامة. فكانت تطوف المدارس الثانوية وتتحدث إلى طلاب الفصل النهائي عن الظلم الذي ينتظرهم عند بوابة التعليم العالي. كما عممت معارفها في الصحف والندوات. بل حملت القضية إلى باب مدير جامعة الخرطوم، واعتصمت بمكتبه، وأضربت عن الطعام. وصار لها حشدها ووفودها للضغط على الحكومة. وكان لطلاب شهادة لندن وفودهم أيضاً. وما زال السودانيون يستغربون ضلوع زعيمة الحركة النسائية والحزب الشيوعي فاطمة أحمد إبراهيم في تظاهرة شهادة لندن تدافع عن حق ابنها في دخول الجامعة بتلك الشهادة التي هي للملأ السوداني خاصة . ومن رأي طالب عاصر الأحداث أن اللجنة كانت مسنودة بالحركة الإسلامية، التي كانت تمسك بزمام اتحاد طلاب الجامعة، من غير إعلان منها بذلك. وقال إن سياسة القبول سمحت لطلاب شهادة لندن بالمنافسة لدخول الجامعة على أسس ظلمت طلاب الشهادة الثانوية السودانية أو كما زعموا. وركزت اللجنة على طلاب السنة الأولى في كلية العلوم التي منها يتقسم الطلاب على كلية الطب، المرغوبة، ثم بقية كليات العلوم. وكانت مظاهرات لجنة شيحا كثيرة تنشأ متى توافر العدد وكانت تقصد إحراج تجمعات طلاب شهادة لندن الذين تسميهم ب"الحناكيش" (البرجوازيون) .
    قصدت بتقديم تلك الثورة الطلابية-الشعبية ضد الصفوية، التي رأس مالها الإنجليزية، قبل أن أعرض لنقد الصفوة الغردونية ل"ثورة" التعليم العالي لدول الإنقاذ. فقد صورت هذه الصفوة تلك "الثورة" بأنها محض إيدلوجيا بمعنى أنها زائفة محلقة في أمخاخ ناشطين منبتين عن الواقع. وهذا غير صحيح. فمن الواضح أن ثورة الفرص لعامي 1986 و1987 عبرت عن ضيم مهين من تعليم صفوي ضاق حتى اقتصر على أهل الامتياز جهوياً وطبقياً. ولسنا نقول بالطبع أن مشروع دولة الإسلام الحضاري هو التطور المثالي لذلك الجهاد ولا الاستجابة الوحيدة الممكنة لمطالبه. فثورة الإنقاذ التعليمية ربما كانت الفرج المرتجل لضيق غمار الناس بتعليم عال استبعدهم وأسعد الملأ دونهم. وتلك الثورة بعلاتها مما تمليه الجغرافيا المانوية للتعليم بثنائيته التي تصارع فيها فضاء الإنجليزية المائزة وفضاء العربية الخالفة صراعاً لم يلطفه رشد ولا جنوح للمساومة والقسط والاعتدال كما سبق بيانه.
    اتفق للصفوة الغردونية أن التعريب، والثورة الثقافية التي تمخض عنها، مفهوم "ثيولجي حزبي" (محمد الأمين التوم 1999 ، 445). وكان ذلك ما طبعه بأحادية الفكر والأدلجة بقصد أن يستتب "الأمن الثقافي" لنظام الحكم. فجنحت الدولة للكم دون الكيف للكسب السياسي" . وأساءت لإدارة التنوع بفرض "سياسة الأسلمة والتعريب" (1999، 444). فالتعريب وقع بقانون تنظيم التعليم العالي لعام 1990 بعد مؤتمر للتعليم العالي ساده كوادر الجبهة الإسلامية القومية التي كان حزبها من وراء قيام النظام الانقلابي في يونيو 1989 حتى تاريخه. والتزم قرار تنظيم التعليم العالي، في نظر الغردونيين، بفلسفة تلك الجبهة من وجوب تأصيل المعرفة على المعتقدات والموروثات الإسلامية والعربية والأفريقية. فجاءت بخطة "مطلوبات الجامعة" أدخلت بها مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية في كل الكليات (بغير حاجة في ما يبدو للمحدثين) وبغير ذكر للثقافة الأفريقية.
    IMG_4311.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    وارتكب القانون أم الكبائر باعتماد اللغة العربية لغة تدريس في مؤسسات التعليم العالي (مهدي التوم 1999، 243). واتفق محمد الأمين التوم مع علي عبد الله عباس، أستاذ اللغة الإنجليزية، من أن سياسة دولة الإنقاذ من هذا التنزيل الثقافي، "المشروع الحضاري"، قصدت بصورة عامة إلى صناعة مثقف جديد يحل محل المثقف الذي تربي في حضن الاستعمار الذي غرّبهم عن ثقافتهم العربية الإسلامية (عباس 1999، 105، التوم 2003، 570).
    لا أدري كيف استقامت لدعاة التعريب وخصومه مسألة التعريب في ذاتها في بيئة جامعية وصف التوم شغل الأبحاث فيها بأنه "الوظيفة الغائبة". فمع أن البحث مضمن في وظائف الجامعات إلا أنه لم يكن للسودان أبداً سياسة بحثية معلومة مستقيمة أو مؤسسية. ولم توفر الحوافز للباحثين في مؤسسات يضطر من هم في مقام البروفسيرات للتدريس في جامعات أخرى للتعويض عن بؤس أجورهم. في تلك البيئة تبخرت ميزانيات البحث وانحرم طاقم التدريس من الإجازات السبتية. وجاء في تقرير رسمي من وزارة التعليم العالي بأن البحث لم يعد شاغلاً للوزارة. فمن بين 3339 بحثاً منشوراً عن السودان لسنوات 1973-1999 ساهمت الجامعة السودانية ب 76 فاصل 3 في المائة منه. ولكن معدل البحث في التسعينات انخفض 22 في المائة عن الثمانينات. ولم تعد الجامعات تستقبل أساتذة زائرين تستعين بهم في تقويم تدريسها وأبحاثها.
    وباستعراض توزع البحث بين كليات جامعة الخرطوم نجد أن كلية الطب، الأعلى صوتاً في رفض التعريب، لها نصيب الأسد من مال البحث بالجامعة للسنوات 1970-1999. فخرجت عنها ثلث الأبحاث التي ساهمت بها جامعة الخرطوم. ومما يفسر ذلك، من بين أشياء أخرى كثيرة، أن بها 200 أستاذاً من جملة 580 أستاذاً خلال الثمانينات (التوم 2003، 567). من جهة أخرى وضع ارتباط الكلية بوزارة الصحة بين يديها مالاً للبحث غير متوافر للكليات الأخرى. أما الأبحاث في علوم الهندسة والعلوم الاجتماعية والإنسانيات فتراوح حول 9% من أبحاث الجامعة برغم أن قوة أساتذة تلك الكليات شكلت نسبة 35% من مجموع الأساتذة في التسعينات. وما يستغرب له أنه لم تصدر ولا مقالة وحيدة في حقل التربية طوال هذه الفترة. وسجل الاساتذة غياباً في المباحث عن حقول الاستعمار والثقافة ونظرية الهامش والمركز والتبعية وفك الارتباط من المركز والعلوم والتكنولوجبا والمجتمع. وغلب في البحث الطبي العلاجي على طب المجتمع (التوم 2003، 568).
    ما أن تفرغ من عرض التوم لأزمة التعليم العالي حتى تستغرب إن كان التعريب أكثر هم هذا التعليم الذي هو رهين براثن أزمة مستفحلة تراكم كمها حتى استحال كيفها بقيام دولة الإنقاذ. فقد اتسم تاريخ التعليم العالي المعاصر (الذي سادته جامعة الخرطوم) بنزاع عميق بين مطلب الجامعة في الاستقلال وتربص الدولة بها للهيمنة عليها. فالديكتاتوريات التي قامت في البلاد في 1958 و1969 و1989 مشغولة بتتبيع الجامعة لها واحتواء معارضة الطلاب بينما جسد الجامعات يقاوم لتأمين استقلالها. وليس مستغرباً لذلك أن تعاقب على جامعة الخرطوم سبع مدراء في عهد نميري الذي استطال 16 سنة. ووقعت انفراجات ثورية ديمقراطية في 1964 و1985 غيرت النظم المستبدة وكفلت استقلال الجامعة إلى حين. وكان ثمن ذلك التنازع على الجامعة فادحاً. فقد غابت رسالتها في براثن هذا الكر والفر وفقدت القدرة على الوقفة مع الذات لجرد الكسب بشفافية. فمثلاً توقف تقرير الأداء لجامعة الخرطوم الذي كان يعده المدير منذ 1961-1962 (2003، 569)
    لم يكن في التعريب (أو في معارضته) ما يشفي علل التعليم العالي. فاقتصادياته تدنت منذ 1978 بصورة سدت مسامه دون امتصاص المعرفة بأي لغة كانت (2003، 570). ففي 1988-1989 كان الصرف على التعليم العالي أقل من 7 مليون دولار بقليل. وكانت ميزانية التعليم العالي لست وعشرين جامعة نحو 9 مليون دولار (2003، 571). فلم يعد بوسع جامعة الخرطوم الانفاق على تنميتها وجف المال المخصص للبحث والابتعاث والمكتبة وتدني الصرف على الإجازات الدراسية للاساتذة. وبحلول العام 1980-1981 توقفت الجامعة عن منح الإجازات الدراسية (2003، 570). وتردت ميزانية مكتبة جامعة الخرطوم منذ آخر الثمانينات تردياً بلغ بها في سنوات 1992-1998 أنها لم تعد تملك الصرف إلا على مرتبات طاقم العاملين فيها. فمنذ 1987 صار حصول المكتبة على المجلات متقطعاً وتوقف بالمرة في 1993 الاشتراك في 460 دورية للهندسة و200 دورية للتربية و170 دورية للقانون (2003، 571). وأصبحت المعامل تنتظر إحسان دول غربية من جهة المعدات والمواد . ووقعت "هجرة الأدمغة" منذ السبعبنات. فقد هاجر 148 أستاذاً من جامعة الخرطوم بين سنوات 1968-1979 يمثلون 24% من نسبة الأساتذة. هاجر 110 منهم (74 فاصل 3 في المائة) في السنوات الأخيرة من الفترة (1975-1979). ولم يتوقف مسيل الأدمغة خلال الثمانينات. وكان شباب الاستاذة السباقين بالهجرة مما ترك أثره على التكوين العمري لهيئة التدريس (2003، 570) .
    لم تدافع صفوة الحداثة في حملتها ضد التعريب عن امتيازها في التدريس بغير العربية فحسب بل عن صفوية الجامعة ذاتها. فأنتهى مهدي أمين التوم إلى مخرج من أزمة التعليم العالي، وبخاصة حيال التوسع العظيم الذي نفذته دولة الإنقاذ كما سنرى، هو تثبيت عقيدة أن التعليم العالي ليس حقاً بل منحة ( مهدي التوم 1999، 247). وأعترف محمد الأمين التوم من جهته بأن جامعة الخرطوم قبل مجيء دولة الإنقاذ كانت صفوية حريصة عليها. بل كانت قمة الهرم لتعليم صفوي قح (1999، 35) غلبت عليه نخبة مكنتها ظروفها من المنافسة لإحراز الأماكن المحدودة في المراحل الأولية والوسطى والثانوية وأخيراً الجامعة. فما كان يدخل الجامعة نحو 1700 من خيار المتقدمين للالتحاق بها كما مرّ. وكان هذا الرقم للمنسوبين يشكل نسبة فاصل صفر واحد في المائة من خريجي المدراس الثانوية (التوم 2003، 570). وانعكس هذه القبول الشحيح في ارتفاع نسبة الطلاب للاساتذة. فكانت تلك النسبة في جامعة الخرطوم 6 إلى 1 في 1957-1968 وتدنت بعد توسع ثورة التعليم العالي في القبول بالجامعة إلى 24 إلى 1 في 1994-1995.
    ومن علائم صفوية جامعات ما قبل الإنقاذ توافر ميزانيات جزيلة أحسنت بها تدريب اساتذتها "في أعلى المستويات وتوفير البنيات التحتية من مبانى ومختبرات ومكتبات مزودة بأحدث الدوريات العلمية. علاوة من تمكين أنظمة الممتحنين الخارجيين، والأسس العالمية لتعيين الأساتذة وترقيتهم، والأساتذة الزائرين، والإجازات الأكاديمية الدورية (السبتية) للاساتذة في الخارج، ومن الحفاظ على المستويات العالمية في مختلف التخصصات والأقسام، كما وفرت الجامعة مرتبات سخية لأساتذتها والعاملين فيها جعلت منها خدمة متميزة جذبت للعمل فيها أميز الخريجين (1999، 35).
    ثم بدا محمد الأمين التوم كمن ينعي تلك الأيام الذهبية التي سبقت بقوله بإن الإنقاذ توسعت منذ 1989 في القبول بصورة غير مسبوقة (2003، 570). ووصف التوسع في التعليم العالي في سنيّ الإنقاذ الثلاث الأولى ب"الخطير" أزداد به عدد الجامعات الحكومية من 4 إلى 23 وعدد الطلاب بنسبة 30% (محمد الأمين التوم 1999، 16). وجاء بجدول وضح به أن التعليم العالي استوعب 6080 طالباً قَبل قيام الإنقاذ ثم تسارعت الإنقاذ بهذه الوتيرة حتى قبل في التعليم العالي 33163 طالباً في 95-96 (1999، 40). ورأى التوم في هذا التوسع ما يريب. فهو متهم عنده كسبيل وقعت للإنقاذ للكسب السياسي الرخيص بين العامة ولبث الجامعات في الأرياف حتى تزعزع ولاء أهله للأحزاب التقليدية ذات القواعد الريفية الدينية. وقال عن دعوة الإنقاذ لتوطين التعليم العالى إنها حيلة لتمنع الطلاب من السفر إلى الخارج والدراسة في جامعات يتفتحون به على معارف أخرى وعوالم (التوم 2003، 570). ولم يخزه ضيق ما عون التعليم العالي قبل الإنقاذ ضيقاً أضطر معه الطلاب للهجرة إليه حتى بلغ عددهم آنذاك بالجامعات بالخارج 21000 يستنزفون رصيد البلاد من العملات الأجنبية ويشظف أهلهم لإبتعاثهم لتدراك فرص التعليم العالي التي انسد بابها في وجههم في وطنهم.
    كان موري كما تقدم يرنو ليوم يستصحب مخططو التربية في السودان المستقل سماحة أهلهم وأناتهم لرسم سياسة لغوية تزاوج بين العربية، التي ركبت موجة الحركة الوطنية الظافرة السودانية بعد طول استضعاف، والإنجليزية التي ستبقى بوابة السودان للعالم الخارجي حتى بعد غروب شمسها بجلاء المستعمر. ومحض موري نصحه ليسلم البلد من
    "الهرج اللغوي" الذي قد ينشأ من نزاع اللغتين الضرير في البلد المستقل. ولم تسلم الجرة. فالنزاع بين اللغتين، من فوق قواعدة الاجتماعية والثقافية، كان مانوياً في معنى فقدانه التفكر والاعتدال والمساومة. فبين خندقي الجغرافيا المانوية يكون التنازل ولو عن النذر إلحاداً أو خيانة. وفي جغرافياه لا ينبت إلا شجر الهذيان والزقوم.
    لا تثريب أن يأخذ خصوم "ثورة" الإنقاذ التعليمية عليها إكثارها من الجامعات وتوسعها في القبول وفرض التعريب بغتة لو أنهم ثبتوا على نقدهم ووالوه. ولكن وجدت أن الكاتب ما فرغ من إطنابه في صفة التعليم العظيم الذي سبق دولة الإنقاذ حتى لسعته صفويته الفاضحة. فأنكرها ثلاثاً. فتجده مؤرقاً بضحايا ذلك التعليم مُقِراً بأنه اتسم باللامساواة وفقدان العدالة في توزيع الفرص بين اقليم السودان المختلفة وبين ذكوره وإناثه. ويخص التباين التعليمي بين الجنوب والشمال بالذكر. ونسب محمد الأمين التوم ذلك العجز لسياسة المناطق المقفولة للاستعمار الإنجليزي وسياسات الحكم الوطني بخاصة في ما تعلق بالتعريب والأسلمة القسرية للتعليم في ذلك الجزء من البلاد (1999، 37). واستغربت لإنتباهة نقدة سياسة تعليم دولة الأنقاذ لبؤس التعليم (مع تمجيدهم لنوعيته كما تقدم) الذي سبقها ثم يستنكرون عليها توسعته وإن اشتطت. فاشتكى محمد الأمين التوم من تكاثر الجامعات حتى قال إن كلمة جامعة غدت في حاجة إلى تعريف جديد (1999، 50). وهذا أكل لكيكة واحتفاظ بها في وقت معاً.
    من أوضح مظاهر المانوية أنها لا تأذن لأطراف الخصومة بنعمة المساومة. ووجدت مصداقاً لذلك في نزاع صفوة غردون والمعهديين بإزاء "ثورة" التعليم العالي الإنقاذية. فقد أتيح لمعارضي تلك الثورة في عام 1996 فرصة للتأثير الحسن عليها بلجم سوئها. وكان نقد النظام لتخبط ثورته التعليمية قد شواه فأنحنى وطلب حكمة خصومه. فأبعد وزيره للتعليم العالي الذي وضع تلك السياسة وباشر تنفيذها بقوة. وعين محله أستاذاً جامعياً محسوباً على الغردونيين المحدثين. فكون الأخير لجنة لمراجعة "ثورة" الإنقاذ التعليمية من هيئة التدريس الجامعية طغى عليها الغردونيون المحدثون إن لم يسودوا. وبدا أنهم سلقوا الثورة بألسنهم الحداثية الحداد حتى جاء عنهم أن الجامعات الجديدة ليست بجامعات لإنفراط أصول التعيين في السلك الأكاديمي والترقيات الجزافية والترخص في منح الألقاب والمراتب مما سيؤدي إلى تعذر استخدام طلابها الخريجين متى خرجوا للسوق (محمد الأمين التوم، 1999، 246-247). ولن نلوم الحكومة بالطبع إن ساورها الخوف من تقرير تلك اللجنة الذي كان سيفرض عليها نقض غزلها بما لا تجروء عليه أية حكومة ناهيك عن دولة قابضة ديكتاتورية. وأعد الحداثيون لتفجير ثورتهم التربوية المضادة بعرض تقريرهم في مؤتمر صحافي بتاريخ الثاني من يونيو 1996. وكانت خلاصته قد عرضت على المجلس الوطني، برلمان النظام، أو لجنة من لجانه. وحين جاءت لجنة مراجعة ثورة التعليم العالي لقاعة مؤتمرها الصحفي وجدتها محاصرة بقوى الأمن التي سبقت بمصادرة نسخ التقرير المطبوع. وأعفت الحكومة الوزير المرتد على ثورتها وأعيد الوزير القديم في يومه ذاك ( 1999، 50-51، 264).
    ومن الجانب الآخر مارس خصوم التعريب من الصفوة العربية في السودان إمتيازاً معروفاً للمحدثين هو أن يكونوا في الثقافة العربية الإسلامية ولكنهم ليسوا منها. فالعربية عندهم ناقصة وهذه خصيصة أو عاهة أصيلة فيها. وكان خلعها من حقل التعليم العالي خاصة جزاءً وفاقا لعجمتها وحصرها في عالمنا المعاصر. وسيكون على سدنتها من حفظتها التقليدييين أن يقوموا بتأهيلها حتى تستحق أن تكون وسيط التعليم بين أهلها. وهو تأهيل يرونه بعيداً أو لن يأتي أبدا. وهم من ذلك كله براء. فهم نقدة العربية المشمئزون ولا دور لهم في اصلاحها لأنهم فرغوا من الحكم عليها بالتبطل. وعليه كان إضرابهم عن ممارسة التعريب، وهم أفضلنا تأهيلاً في علوم الغرب، لؤماً.
    IMG_4312.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    يعيد خصوم التعريب إنتاج الشبهات التأريخية المعروفة عن العربية كوسيط للتدريس. فتجد محمد الأمين التوم كمن يتبرأ من منهجي العربي والدين ويوحي بأنهما كمن لم يخلقا للتدريس في الجامعة الحديثة. فقال إن بسط الإنقاذ القبول في التعليم العالي جعل الميزة للطلاب الذين حصلوا على درجات عالية في اللغة العربية ومادة الدين. ولو اكتفى بذلك فلا تثريب. ولكنه عاد إلى تبخيس المادتين لانهما يقومان على حفظ النصوص (الكب) أكثر من أي مادة أخرى بالجامعة. وترتب على ذلك ضعف ملحوظ في طلاب الجامعة الجدد (التوم 2003، 571) .
    وتجد أوضح صور كون الصفوة العربية من العروبة وبراء منها في تصريحهم بالمنزلة القومية للغة العربية ثم نقضهم لتلك المنزلة في نفس الموضع. فهي عندهم لغة القرآن ولغتنا القومية في زمن إتضح أن اللغة فيه ليست مجرد وعاء أو حاملاً للثقافة بل "الذاكرة الجماعية" للأمة موحدة لأمة العرب جمعاء (أحمد 1999، 147). ثم تبدا الاعتراضات الحقيقة عليها بعد هذا "النسيب" فيها. ووجه اعتراضهم أنه متى صارت العربية لغة للتعليم أساءت للتنوع اللغوي في تركيبة السودان الثقافية. وسنرى أن هذه اللجلجة بين ولائهم القومي الديني للغة العربية والعقيدة المهنية في الإنجليزية يكلفهم غالياً مع صفوة من الجماعات غير العربية التي لا تريد أن تسمع كلمة طيبة عن العربية كوسيط مستقبلي للتعليم حتى ولو أكملت العدة لذلك. وهذا ما توحيه الصفوة الغردونية بقولها إنه سيؤول التعليم للغة العربية بعد تطويرها في مستقبل غير معلوم وتاريخ غير مقطوع (1999، 151). ووتواثقوا في مؤتمرهم بالقاهرة على التعريب كجزء لا يتجزأ من سياسة "لغوية شاملة للسودان بأكمله يراعي فيهاالتدرج وتوفير الإمكانات لتنفيذها (محمد الأمين التوم 1999، 459)، وأن ذلك مما يستدعي "مشاركة بقية الدول العربية فيه، في خلق المصطلحات والترجمة والتأليف، لإثراء هذه الجوانب (أحمد 1999، 151). ولطفوا ذلك بقولهم بوجوب أن تشجع تلك السياسة استخدام اللغات السودانية بما فيها العربية إضافة للغة الإنجليزية في التعليم على نطاق القطر وخاصة جنوب السودان (محمد الأمين التوم (1999، 459).
    ولكن هذه الصفوة لا ترى أبعد من الإنجليزية وسيطاً للتعليم. فهي تعتقد أن من حظهم أن كانت الإنجليزية، لغة التحصيل العلمي العالمي الأولى (أحمد 1999، 151)، هي لغتهم الثانية. ويعيبون على تعريب المرحلة الثانوية إضعافه لحصيلتنا من اللغة الإنجليزية " التي لا بد منها كلغة عالمية لطالب العلم" (1999، 148). ورد أحدهم ذيوع الإنجليزية إلى ميزات باطنة فيها مثل قدرتها على "الاستيعاب والتكيف واقتباسها لكل أنواع العناصر الأجنبية بسهولة وكذلك إلى بساطة تصريفها وترتيب كلماتها الثابت نسبياً فيها". ويحاجون أن اللغة الإنجليزية للتعليم العالي، التي نحن بصدد فقدانها بالنظر للتعريب، "أهم من اللغة العربية بل أهم من سائر لغات العالم الأخرى" (1999،149). فالإنجليزية "هي اليوم لغة التحصيل الأولى بالنسبة لنا في العلوم فلا مفر من إعادتها لمركزها السابق بهدف انتاج الخريج الذي يجيد اللغتين تماماً كما كنا نفخر في فجر الاستقلال" (1999،151)
    وصفوة الحداثة قابضة على جمر الإنجليزية لا تريم. فالمطلب التربوي عندها لوقتنا ليس التعريب بل رد الإنجليزية إلى الصدارة كما في الماضي لإنتاج الخريج الذي يجيد اللغتين تماماً كما كنا نفخر في فجر الاستقلال" (1999، 151). فوصى مؤتمر الأكاديميين في 1998 بالتشديد على تعلم اللغة الإنجليزية كأداة ضرورية لاكتساب المعرفة والتواصل مع العالم الخارجي على أن يترك للتربويين المختصين تحديد بداية درسها (التوم 1999، 458). ودعا إلى اعتبار اللغة الإنجليزية لغة ثانية في السودان تستخدم في التدريس والتدريب والبحث وفي التعامل مع البلاد الأخرى (1999، 459). إن اللغة عندهم هي الإنجليزية.
    لن تجد صفوة غردون العربية تعارض التعريب من حيث المبدأ كما وضح. ولكنها لا تني ترقص حوله تراوغ فيه وتسوف تنتظر الدعوة له أن تتلاشي كحلم مزعج. ولكنها تلهج به كشاغل قومي مع تبييتها النية ألا يتنزل في علوم التعليم العالي وطبه. وهذا ما يوقعهم في النقيضة مع حلفائهم صفوة الجماعات غير العربية الذين يعارضون مبدأ التعريب من حيث هو. فمتى عبر ممثل لتلك الصفوة غير العربية مثل أبكر آدم إسماعيل، الكاتب والروائي من قومية النوبة في الجبال المعروفة باسمها في جنوب ولاية كردفان، عن جلية رأيه وضح أن الصفوة الغردونية العربية، طالما تمسكت بالتعريب في وقت غير مقطوع، فهي من قوى المركزية العربية من حيث لم تحتسب. فبينما ظل سؤال الصفوة العربية الغردونية حيال التعريب هو "كيف نعرب؟" نجد أن سؤال مثل إسماعيل هو: "لماذا نعرب؟".
    ولا يطرأ التعريب على عواهنه على بال مثل إسماعيل لإختلاف أسئلته عن لغة التعليم عن صفوة غردون العربية. فهو يبدأ من "لماذا التعريب لا كيف؟" فيقول "لأننا لم نتفق على (لماذا) فلن تكون الإجابة على (كيف) و(متى) مبررة (1999، 166). فهو يختلف مع دعاة التعريب (العاجل أو الآجل) من حيث المبدأ. فدعاة التعريب يعتقدون أن السودانيين عرب والعربية لغة أم-قومية لهم جميعهم (1999، 185). وهذا خطأ بالطبع. فدعاة التعريب العاجل والمؤجل متفقون على أن لغة الأم، العربية في هذه الحالة، تيسر للتلاميذ تلقي المعارف وهضمها. ويتخذ إسماعيل هذه المقدمة التي تُسَوغ العربية للمعربين ليقول بأن لغة شعب الفور أو الدينكا تستحق بذلك أن تكون لغة لتعليم لمن هما لغة أم (1999، 163).
    ومع ما يبدو من خلاف بين خصوم الإنقاذ من جماعة الكتاب ودعاة التعريب الإنقاذيين إلا أن خلافهم كما رأينا خلاف في توقيت التعريب إذا حسنت النيات. وربما كان هذا التعريب الخفي المؤجل هو ما حدا بإسماعيل ليستنكر "التواطؤ الإيدلوجي" (1999، 160) لصفوة القوميين العرب إجمالاً. ولكنه يتفق معهم على استخدام اللغة الإنجليزية في التعليم ولكن بغير اشتراط للتعريب بالطبع. فالاستعمار في رأيه ترك فينا الإنجليزية كرصيد إيجابي من النافع استثماره (1999، 162). فإسماعيل لا يقبل مقدمة أن التعريب استرداد ل"لغتنا" من هوان الاستعمار لها. فقد تساءل إلى ماذا يرجع الضمير "نا" لأنه لا يشمله هو شخصياً (1999، 165). كما يرفض قبول مقدمة أخرى للتعريب من مثل القول بأن تدني مستوى الطلاب في اللغة الإنجليزية (بعد تعريب الثانويات) فرض إما التعريب أو التدريس بلغة غير معروفة للطلاب. فمن رأي إسماعيل أن التعريب لم يكن خياراً وحيداً بل كان بالوسع تحسين مستوى طلاب الثانويات في اللغة الإنجليزية لتستقيم لهم الدراسة بها في الجامعة (1999، 164). ورفض إسماعيل حجة القائل بأن مستوى الجنوبيين في العربية تحسن بصورة أنهت غربتهم اللسانية التي يردفونها بقولهم إن جامعة جوبا بجنوب السودان التي تدرس بالإنجليزية مفتوحة لهم متى لم يحسنوا العربية بجامعة الخرطوم. فرد إسماعيل على الحجة، أو التحجج، بقوله ولماذا لا يذهب من لا يحسنون اللغة الإنجليزية إلى جامعة القاهرة الفرع أو أم درمان الإسلامية التي تُدرس باللغة العربية. ثم هو لا يقبل بالدعوة للتعريب بدعوة، أو دعوى، بأن للعربية إرثاً حضارياً. وهذا عنده خلط في الحجج. فالعربية عند القائلين بهذه الحجة مرنة تستوعب المستجدات. وهذا حسن ولكنهم يرونها في نفس الوقت جديرة بأن تكون وسيط التعليم لأنها لغة القرآن. فالقول الأخير في نظره "إيدلوجيا" بينما القول الأول وصف لميزات اللغة الباطنة. ووجد سبباً لهذا التفريق في عبارة طه حسين: ""لإن اللغة، أية لغة، تستمد قوة بقائها وتطورها ومقدرتها من الإجماع الإنساني، وليس من وحي السماء، لذلك فإن نسب اللغة إلى وحي السماء لا يضيف إليها قيمة علمية (1999، 169).
    وأخذ إسماعيل على حجة كون العربية لغة حضارة أنه فاتها قطار المعارف. فلم يحدث أن كانت الترجمة أو النقل عن حضارة متقدمة باباً لسيادة اللغة المستعيرة بل لتلقي المعارف في اللغة المنقول عنها. فالترجمة من أدب حضارة سيدة لا يجنب المعرب التبعية. فالتعريب يكرس التباعة علاوة على تضييع وقت في تقنيات الترجمة "التي تكون غايتها الإخلاص للغة وليس للمعرفة" خاصة لعلمنا بإشكالات العربية (1999، 170). وعلى طريقة "شهد شاهد من أهله" استعان إسماعيل بمحمد عابد الجابري ومحمد أركون لبيان نقص العربية كلغة معاصرة. فنقل عن الجابري قوله إن العربية نادرة في اللغات الحية التي حافظت على تراكيبها ونحوها ومصطلحها لقرون 14. ولأن الحياة لا تتجمد فقد انتقمت من العربية بنشأة العاميات التي هي أغنى في المعنى عن العربية. فاللغة العربية العالية لا تسعف المفكر بالكلمات الضرورية عندما يريد التعبير عن أشياء العالم المعاصر. ثم جاء بقول أركون في مقدمة كتابه الفكر العربي (الطبعة الثالثة) عن جمود أطر العربية وتعذرها ملاحقة المعرفة المتجددة. ويرى إسماعيل من جهة أخرى أن التعريب سيخلق طبقة معرفية تتحكم في مصائر تلقي المعارف عن الأصل. وهذه تبعية داخلية. أما التبعية الخارجية فستنشأ من أن التعريب سيتقاصر عن تجدد المعرفة إلا لمن أصلح حاله وأنتج المعرفة بدلاً عن تسقطها من الآخرين. وهذا بعيد. أي أننا محكوم علينا بأن نكون عالة على الغرب ما حيينا ( 1999، 169).
    وليس لإسماعيل ناقة ولا بعير في معركة ضد الإنجليزية. فالناطقون بغير العربية في السودان مدعوون، باسم استرداد العربية لمصاف الحضارة، أن يتعصبوا للغة ضد الغرب والإنجليزية. ولكن إسماعيل يرفض، كواحد من غالبية السودانيين الأفارقة هذه الدعوة لأنهم غير طرف في صراع دعاة العروبة كخصوصية والغرب. واللغات الأجنبية، بما فيها العربية، سواء عنده ولا ترجيح إلا بمعيار البعد الحضاري (1999، 173). وهو يفرق بين الترجمة في العربية والتعريب. فالترجمة إجراء نحتاج إليه أبداً لأن ليس بوسع المرء تعلم لغات العالمين جمعاء. ولكن التعريب يتجاوز ضرورات الترجمة إلى "مسألة تسييد اللغة العربية وتعظيمها ورد كرامتها بل محاولة إضفاء صفات القومية على المعرفة والعلم". ويدعو إسماعيل إلى تأمل حالة طالب سوداني تخرج من تعليم معرب يحصره في "زاوية ضيقة من العالم اسمها العالم العربي والخضوع لمزاجات المترجمين وظروفهم وإيدولوجياتهم وكل ذلك لا لشيء إلا الإخلاص الصوفي للغة العربية" (1999، 173).
    وإسماعيل ليس من رأي من ينادون بالتعريب وتعلم لغات أخرى في نفس الوقت. فطالما عربنا، تسا ءل إسماعيل، ما جدوى تعلم لغة أجنبية مجردة لا دور لها في التدريس. فمتى أقصيت اللغات الأجنبية من ساحة التعليم، بطلت الفائدة المرجوة منها (1999، 174). وهو يدعو إلى تمليك الطالب أدوات التواصل، اللغات، ليصيد مختاراً من بحر المعرفة. وعليه فهو يدعو إلى صرف النظر كلية عن التعريب في الجامعات وإعادة النظر في تعريب المناهج دون الثانوية وذلك لإعطاء فرصة أكبر للغات الأخرى المحلية والأجنبية. وهو يطلب أن يكون التدريس بأكثر من لغة (1999، 174). وعليه فإسماعيل، خلافاً لصفوة الإنجليزية من عرب السودان، لا يري للتعريب مشروعية أصلاً لا سياسياً ولا تربوياً. ولكنه ربما يتحدث بلسان لهم أخفوه وانحنوا لعاصفة التعريب وهم يضمرون ألا تقع ابداً.
    خليلي هذا ربع عزة: متى نعقل قلوص التعريب؟
    لا أعرف دعوة ثقافية أقدم من دعوة التعريب. ولا أعرف بالمقابل دعوة لم تبلغ من غايتها شيئاً مذكورا. فلم يطل مداها فحسب بل تتواتر الردة حالياً عن العربية في التعليم حتى الأصغر منه (عمار 2007). فكلما حسبنا أننا بالغوها حتى بشق الأنفس تفلتت منا وبدت كسراب بقيع. وما كبا حصاننا في البحث عنها حتى شددنا لبلوغها فرساً آخر. ولكننا ننتهي دائماً ونحن أكثر ضلوعاً في لغات الغرب وأكثر تبخيساً للعربية. فما تنشأ مسألة التعريب، وهي مسألة لها دورات حياة عربية وموات، حتى سوفنا الأمر في انتظار أن تنصلح اللغة العربية وتستأهل للمهمة. وهو انتظار طال وإصلاح لسنا نملك معياراً لتمامه فنقرر بعده طلاق اللغة الأجنبية واتخاذ العربية وسيطاً للتدريس في العلوم والطب خاصة.
    فالتفكر في صلاح اللغة العربية لتدريس العلوم الحديثة قديم عمره فوق القرن من الزمان. وكوننا لا نزال نجتر السؤال ونقلب الإجابات المسوفة عليه يريبنا بزيف المسألة كلها وفسادها. فالخمر تعتق بالقدم ولا ينطبق هذا على المسائل الفكرية التي يفسدها مر الزمن.
    عدت إلى أقدم مجلاتنا، المقتطف، لأرى بداية مسألة التعريب الذي ما نزال ندور حوله كثيران الساقية. فوجدت فيها من سأل إن كان تعليم العلوم والفنون بلغة غريبة "يرقي الشعب أكثر من تعليمها بلغتهم؟" فرد المحرر عليه ب"كلا ولكن يشترط أن تكون اللغة واسعة وخاضعة لأهل العلم حتى يمكن أن يزيدوا فيها وينقصوا منها وأن يكون للشعب حكومة ساعية في رفع راية لغته وترجمة الكتب إليها" . ولم نزل نراوح عند إشكال خطاب التعريب الذي لازمه منذ بدايته في القرن التاسع عشر. فبينما لا جدال بين المحدثين حول مزايا تعليم وتعلم العلوم الطبيعية والرياضي بلغة أجنبية إلا أنه، قومياً، للعربية "يد سلفت ودين مستحق". فهي اللسان الأولى بالمعروف.
    ووجدت هذه الإشكالية في أنصع صورها في تعليق لأحدهم في 1893 عن نية وزارة المعارف المصرية العدول عن تعليم العلوم الرياضية والطبيعية بلغة أجنبية إلى تعليمها باللغة العربية في المدارس الإبتدائية والتجهيزية. فقال إن الأمر نفسه عرض في الشام حين أرادت الكلية السورية عكس ما أرادت المعارف المصرية وهو إحلال اللغة الأجنبية محل العربية في تدريس تلك العلوم. وعارض الأمر لإضراره بالعربية خاصة أساتذة الجامعة الذين كانت تآليفهم بالعربية في تلك العلوم ذائعة . وهو يعتقد بأن خطاب التعريب مصاب ب"وجوه تخيلات وأوهام". فتعليم العلوم بغير العربية له مزايا تخصه. فاشتغال الأجاتب بهذه العلوم جار على ساق وقدم انعقد لهم به زمام المبادرة وناصية المواكبة "ولذلك ترى من يريد ابتياع كتاب في علم منها فأول ما يسأل عنه تاريخ طبع الكتاب ليعلم زمان تأليفه". فكتب الأجانب بذلك "أصلح للتدريس من كتب غيرهم وغني عن البيان أنها ستبقى كذلك حتى يتيح الله للشرق أن يناظر الغرب في علمه وتعليمه وتصنيفه وتأليفه". وزاد بأن ليس بوسع خبير أن ينازع أن كتب الأجانب أصلح للتلاميذ توسع عقولهم بما "يتعذر وجوده بالعربية في أحوالنا الحاضرة". واتفق له على مقدمة أن لغة كنب العلوم، وخاصة المبسط منها للتدريس، يسيرة لا تستدعي توسعاً في اللغة الأجنبية، أن يخلص إلى أنها لا تُحَمل" الطالب مشقة أكثر من درسها بلغته العربية ولا يستغرق زماناً أطول". وزاد بأنه طالما كنا نعلم التلاميذ لغة أجنبية على الأقل في مدارسنا الشرقية فَسَدت مسألة المفاضلة بين تدريس تلك العلوم بالعربية أو بغيرها. فالتلميذ حاصل بالضرورة على لغة أجنبية عَلَمتَ العلوم بالعربية أو بالأجنبية. وسيكون تعليم "هاتيك العلوم بلغة أجنبية . . . ترويضاً وتمريناً للتلامذة فيها عدا تحصيل العلوم بالذات". وبناء عليه فلتعليم العلوم بلغة اجنبية مزايا "لا نجدها في تعليمها بلغتنا العربية وعندنا أن إنكار ذلك إنكار للواقع".
    وهنا قرن الأشكالية الآخر. فمن رأي الكاتب أن العربية لغة الأمة "وترقية الأمة علماً وعقلاً إنما تكون بالواسطة التي تتفاهم بها". وبث المعارف بلغة الأمة مقدم لأنه لو انحصر العلم بتلك العلوم على النخبة العارفة باللغة الأجنبية اقتصر النفع عليهم. "فإذا كانت مدارسنا لا تدرس العلوم الطبيعية والرياضية إلا بلغة أجنبية وكان الدارسون منا لتلك العلوم يجهلون اصطلاحاتها العربية ويستصعبون التعبير عنها بلغتهم فلا يبقى أمل بالتأليف والاشتغال بها ولا تستفيد الأمة شيئاً من معارف الذين حصلوها ولا تكون المدارس الحاضرة أساساً يبنى عليه مستقبل الأمة ولا يكون لتلك للأمة كأمة حظ من الاشتغال في ترقيتها على توالى الأعصار". ووجد الكاتب مصداقاً لفكرته في انتفاء المؤلفات العلمية من الديار الشرقية بعد استبدال اللغة العربية في تعليم العلوم بلغة اجنبية .
    IMG_4300.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    وكتب أ.م في مجلة القتطف عن ما ذاع من عزم الحكومة المصرية نقل التعليم في المدرسة الطبية من العربية إلى الإنجليزية. وقال سيترتب على ذلك أن الوطنيين لن يكونوا في هيئة التدريس بها لأنهم، وهم الذين لم يحسنوا لغتهم التي هي فرض ديني أيضاً، لن يحسنوا الإنجليزية الغريبة ليدرسوا بها. وقال إنه لن يقع لنا الترقي إذا لم يكن من بيننا من يدرس الطب. فإذا اكتشف الأجانب من مدرسينا اكتشافاً لم يحسب لنا. وزاد بأن التدريس بغير العربية سيقتل التأليف فيه بالعربية لأن سوق الكتاب صار إفرنجياً. ولمس الكاتب نقطة أثارها عبد الله الطيب، أستاذ الأدب العربي في السودان، من عهد قريب وهي أن من تعلم بالإفرنجية لن يقوى على الكتابة بالعربية في فنه (1990). والشاهد في قول كاتب المقتطف إن الأطباء المصريين الذين درسوا بأوربا عجزوا عن الـتأليف في العربية أو جاءوا في "كتابتهم من السخافة والركاكة ما يذهب بفائدتها وإذا استعانوا على تنقيحها برجل يعرف العربية فجهله بالعلوم الطبية يجعله يفسد ما كتبوه ويغير معانيه" .
    ويملي علينا لنا الفطام المستحيل عن اللغة الأجنبية أن نعيد طرح إشكالية التعريب وقد استبعدنا منها نقص العربية صحت فيها تلك العلة أو لم تصح. فالمعلول بنقص طال لقرن وأكثر مفروض أن يكون ميئوساً منه. ويبطل العلاج مع الميت سريرياً إلا ممن كان طبه دجل. وبناء عليه تكون روشتات إصلاح اللغة العربية، واللغة في هذا الخمول، التي ترميها صفوة المحدثين في وجوهنا هروباً، إلى الأمام من تبعة إحلالها لغة للتدريس ودخولاً في جحر ضب الغرب.
    الأقرب إلى الحقيقة هو أن اللغة العربية لغة مستضعفة وليست ناقصة. ونقصها الذي سارت به ركبان المحدثين هو أثر فظيع من آثار الاستضعاف عليها. فقرار استبعادها من حظيرة التعليم مما اتخذه المستعمرون للبلاد العربية جزافاً لم يلبثوا قليلاً لفحص صلاحيتها للتعليم. فقد سبق للاستعمار أن قرر أن العربية لا تصلح للتعليم قبل الجامعي ناهيك عن التعليم الجامعي الذي تواضع صفوة المحدثين أخيراً على أنه فوق ما تطاله العربية. ففي الجزائر كان من صلف الفرنسيين قرارهم بأن العربية غير صالحة للتعليم حتى لتلاميذ الإبتدائيات. فلم ير المستعمرون نفعاً في كلا العامية والفصحى القرآنية التي اعتقد أنها ستلقى مصير اللآتينية. وصفوة القول إن كفاءة العربية في التدريس لم تخضع للنظر. فالمستعمر أدرى بأنها ناقصة ولولا ذلك لما جاء في مهمته التمدينية. أما ما صار يعرف باللغة العربية الحديثة فهي في نظر الفرنسيين " لغة اجنبية وأداة للقومية العربية". وكل العربية بالنتيجة مما وجب استبعاده من مناهج التعليم (رأيح 1981، 130-131).
    التباطؤ المشاهد في تدريس الطب باللغة العربية أمر شاذ. فلم يرتج على اللغة تدريس الطب الحديثة منذ افتتاح أول كلية له بأبي زعبل (1826) ثم القصر العيني (1837) نحو سبعين سنة حتى تحول به الإنجليز إلى لغتهم بعد احتلالهم مصر في 1882. وكانت كلية الطب حاضنة التعريب خلال تلك السنين (الشهابي 1955، 38). فألف في مضمارها كلوت الفرنسي كتباً منهجية لطلابها تولى التراجمة نقلها إلى العربية. بل كان من علمائها الأجانب مثل الدكتور بروان عارف بالعربية فألف في الطبيعة والكيمياء. وكذلك الدكتور فيجري. وألف كذلك أساتذتها المصريون في العربية. فكتب محمد علي البقلي في الجراحة وصنف محمد الشافعي في الأمراض الباطنية ومحمد ندي في المواليد وفي الكيمياء والزراعة والنبات والحيوان. وألف علي رياض في الصيدلة ومحمد الدري في الجراحة والأمراض الوبائية وسالم سالم في الطب الباطني. ومن أعلم محرري الكتب الطبية محمد عمر التونسي الذي وضع "الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية" (1955، 39). وكان النقلة والمؤلفون والمصححون رواداً في نقل العلوم الحديثة إلى لسان العرب (1955، 40).
    وما احتل الإنجليز مصر في 1882 حتى قرروا بحق الفتح بطلان اللغة العربية كلغة للتعليم بين أهلها وحلت الإنجليزية مكانها (علي 1995، 69). وجاء دنلوب بأسس لتنحية اللغة العربية عن التعليم هي نفس الأسس التي يتداولها مُستَضعِفو العربية دائماً أبدا. ومنها أن تنامي المعرفة الأوربية سيجعل العربية قاصرة عن ملاحقة هذا الدفع الغربي. فحتى الترجمة فيها لن تسعفها وستقصر عن دراك الخيل المعرفية الأوربية. فهي مفتقرة في المصطلح الفني وتراكيبها جامدة لن تسع مستجداً. وذكر دنلوب سبباً طريفاً في تقاعس الترجمة في تكملة نقص العربية وهو بطء الحصول على الإذون من المؤلفين الأوربيين لترجمة كتبهم في العربية (الشهابي 1955، 42).
    وكان كذلك حال العربية الحسن في لبنان في القرن التاسع عشر. فقد كانت وسيط التعليم في مدارسها التبشيرية قبل أن تتحول إلى الإنجليزية. فكان التعليم في الكلية الأمريكية بالعربية. وتميز فيها ثلاثة علماء (كرنيليوس فنديك وجورج بوست و يوحنا ورتبات) أحسنوا العربية ونقلوا الكتب فيها. وأفادوا من النظر في المصطلحات العلمية التي اتفقت للمصريين وتحروا بعضها في الكتب العربية القديمة (1955، 42). وأهم مؤلفات فنديك في علم الأمراض (9 مجلدات) ولبوست "المصباح الوضاح في صناعة الجراح" ولورتبات كتب في علم التشريح. ولم يدم التعليم بالعربية طويلاً في الكلية فحلت الإنجليزية مكانها بعد مضي بضع سنين من تأسيس الكلية (1955، 43).
    وتداركت نهضة المصطلح العلمي العربي دمشق حين نشأت كلية الطب بجامعتها في 1919. وكثيراً ما جرت الإشارة لسوريا كاستثناء لتدريسها الطب بالعربية. وعرض الشهابي لدور الجامعة السورية ودورها في المصطلح. تأسست الكلية في 1919 بأمر الملك فيصل الأول فوق انقاض كلية الطب التركية . وتعاهد أساتذتها للتدريس بالعربية فألفوا شبه مجمع لغوي ينظر في ما يعرضه كل أستاذ من مصطلح في نطاق تخصصه (1955، 55). فالأستاذ مرشد خاطر له سفر في ستة مجلدات في الجراحة وأحمد حمدي صنف في علم الجراثيم ومحمد جميل في علم الطبيعة وحسني سبح له مصنف في الأمراض الباطنية في سبعة مجلدات. ومحمد صلاح الدين الكواكبي كتب في المصطلح الكيماوي. وكانت كلية الطب تسمى "المعهد الطبي العربي" ولها مجلة كانت أداة فعالة في نشر المصطلح. وتكثف جهد أساتذة الكلية في تصنيف جامع للمصطلح الطبي في لغات أجنبية وكذلك العربية (1955، 58).
    رزئت اللغة العربية بالتبخيس بعد همة في أصيل التهضة العربية التي ترافقت مع مقدم الاستعمار إلى الدول العربية. وجاء ذلك بريب في العربية أزعجت فصحاءها. فكان لهم على "أم اللغات" عويل. وكان أكثر ما أغمهم افكار وممارسات استبدلت الفصحى بالعامية بقصد تيسيرها للطلبة إتبع فيها محدثو العرب المستشرقين وأضرابهم. وكان ذلك "انتقاص للعربية" (الجندي 1982، 126). وارتكزت هذه الدعوة على مماثلة للمستشرقين جعلت اللآتينية بمثابة اللغة العربية الفصحى ولهجات العربية بلغي أوربا التي هجرت اللآتينية حين لم تعد سائغة على الألسنة في آواخر القرون الوسطي وتحدثت بتلك اللغي.
    ولشد ما كان كيد الحداثيين للعربية كبيراً لأنهم سايروا في دعواهم للعامية مستشرقين (وليم ويلكوكس) ومبشرين (الدكتور زويمر) ومستعمرين (لورد دوفرين) بمصر رأوا أن تكون عامية مصر "حجر الزاوية لبناء منهج الثقافة والتعليم والتربية في مصر". وكان ذلك منهم بغضاً للإسلام هدفوا به إلى إقصاء القرآن الذي لن يحصل بغير اقصاء العربية (1982، 127). وشَغِبوا بالدعوة حتى أنهم قضوا بكتابتها بالحروف الأجنبية من باب تسهيل تعلمها في المدارس. ودرسوا صرف العاميات وكتبوا أدباً بها ليطالعه التلاميذ (1982، 131).
    جاء الجندي بقائمة على صفحتين من كتابه ممن سماهم أعداء الفصحي من بنيها. بدأت بلطفي السيد (1913) وقاسم أمين (1913) والخوري مارون غصن (1926) وعبد العزيز فهمي (1944) والزهاوي (1910) وسلامة موسي (1926) وطه حسين (1939) وسعيد عقل (1961) وأنيس فريحة (1955) ولويس عوض (1947) وأحمد أمين وأمين الخولي. وعوقب الأول على قوله "مذهبي أن اللغة ملك لنا ولسنا ملكاً للغة" التي تفتح باب الشيطان لزعزعة اللغة العربية باسم إصلاحها. وتفاوت وزر هذه الجماعة المارقة بين الدعوة للعامية بديلاً للفصحى وإصلاح اللغة بتسكين أواخر الكلمات أو تطوير النحو أو اتخاذ الحروف اللآتينية لرسم الكتابة العربية أو كسر عمود الشعر (1982،185-186 وهامش على 186). وعرض الجندي للأشاوس من محبي اللغة العربية الذين تصدوا لتلك الدعوات المعادية للعربية التي كلها صدى حاك للدعوة الغربية الصليبية مثل مصطفى صادق الرافعي وعبد الوهاب عزام وإسعاف النشاشيبي وعباس محمود العقاد ومحمود محمد شاكر وحب الدين الحطيب ومحمد كرد علي والأب لويس شيخو اليسوعي والأب صالحاني والشيخ على يوسف وعزة دروز وعمر فروخ (1982، 187-212).
    سنجانب الحق إن غمطنا المسعي العربي الكبير لتأهيل اللغة العربية لتصير وسيطاً لتعليم العلوم والطب. لربما لم يبلغ تمامه. وهذا نقص غير مستغرب بالطبع. ولكن المأزق الحق أننا لم ننم بعد معياراً للحكم إن كنا بلغنا ذلك التمام أم قصرنا دونه. وسأستعرض أدناه عينة عشوائية لجهود مجامع اللغة العربية وهيئات قومية ومهنية عربية لم تألو جهداً في تعريب التعليم العالي. وعلى جزالة هذا الجهد واتساعه لم يتفق لنا بعد التعريب بقلب سليم. فلا غلاط أن الطاقم الطبي العربي خلو من همة اتخاذ التعريب جسراً للنهضة. فذرائعه دون التعريب شتى يرواح بها في مكانه أو يجرجر ساقيه يكاد يتمنى أن ينسى الناس المسألة برمتها.
    مَجمع مصر
    جرى بتأسيسه في 1932 تكليفه بالحفاظ على سلامة اللغة العربية وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها باستخدم المعاجم. وله مجلة تنشر ابحاثه (الشهابي 1955، 60). وتَقَسَّم على 26 لجنة منها لجنة اللهجات وأخرى للمصطلحات كان بينها لجنة للطب وأخرى للكيمياء والطبيعة وثالثة للأحياء والزراعة ورابعة للهندسة والعلوم والرياضة، وخامسة للاقتصاد والقانون، وسادسة للعلوم الفلسفية والاجتماعية، وسابعة للتاريخ والجغرافيا وهلمجرا. وتستعين اللجان بالخبراء حيث هم في أشغالهم (1955، 61).ومن إنجازاته وضعه لقواعد صناعة المصطلح (1955، 62). ومن قرارته إجازة استعمال الألفاظ العجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم. وكان بالمجمع فريقان: متسامح مع اللفظ العجمي وآخر متشدد. فالشيخ أحمد الاسكندري كان "عدواً أزرق" للتعريب. واستحسن الشهابي شرط الضرورة في القرار لأنه عارف "بسخافات بعض أساتيذ العلوم الحديثة الذين عربوا ألفاظاً علمية اعجمية كان في استطاعتهم أن يجدوا لها ألفاظاً عربية مقبولة بقليل من الجهد، ومن المعرفة بأصول تلك الألفاظ الأعجمية وبمعانيها (1955، 63). وكانت في قرارت المجمع نباهة. فقرر أن يصاغ "فعّال" قياساً للدلالة على الاحتراف أو ملازمة الشيء. فإذا خيف لبس بين صانع الشيء وملازمه كانت صيغة فعّال للصانع وكان النسب بالياء لغيره: زَجَّاج لصانع الزجاج وزُجَاجِيّ لبائعه. فصنع الشهابي قياساً "زهّار" لبستاني الزهر وزهري لبائعه وهما واحد في الفرنسية (1955، 66). والشهابي حسن الظن جداً بقرارت المجمع ووصف بعضها بالحكيمة (1955، 67).
    اتحاد المجامع العربية
    تأسس هذا الاتحاد في عام 1971م وضم مجامع القاهرة ودمشق وبغداد. وانضمت إليه لاحقاً مجامع الأردن وفلسطين والسودان وليبيا والجزائر.كما التحق به أكاديمية المملكة المغربية في الرباط والمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) بتونس، لأنهما يستوعبان العلم المجمعي اللغوي. وعقد الاتحاد بين 1972 و 1997 عشر ندوات حول التعريب وتوطين العربية في التعليم والأعمال (وحظر استخدام العامية) وتوحيد الرموز العلمية في الرياضيات والكيمياء وتوحيد المصطلحات الطبية على ما تواضع عليها مجمع القاهرة في عام 1992 والجيلوجيا ولتحرير معجم لعلوم الأحياء. وله في ذلك ست مطبوعات وسابعة جرى التوصية بطبعها بالإنجليزية والفرنسية والعربية .
    IMG_4292.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    مركز تنسيق التعريب بالرباط
    يهدف إلى خلق جهاز عربي متخصص يعنى بتنسيق جهود الدول العربية في مجال تعريب المصطلح واستعمال اللغة العربية في الحياة العامة وجميع مراحل التعليم وسائر الأنشطة الثقافية والاجتماعية. وهو من بنات افكار الجامعة العربية وتأسس تنفيذاً لقرار من مؤتمر التعريب الأول في الرباط (1961). فاجتمع مجلسه لأول مرة في 1962. وبقي تابعاً للامانة العامة للجامعة العربية حتى قيام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في 1972 فصار بعضها. وله مجلة، اللسان العربي، تعينه في شغله التنسيقي لكافة أوجه ومؤسسات التعريب في الدول العربية. وعقد 11 مؤتمراً للتعريب حسب نص قانونه الذي ألزمه بعقد ندوة كل ثلاثة أعوام. وصادقت تلك المؤتمرات على 42 معجماً (صدر منها 35 والجاهز منها للطبع 7 و9 تحت الإعداد) في مختلف العلوم والفنون، بجانب مناقشة أكثر من سبعين بحثاً عن مسائل التعريب المختلفة. واجتمع خبراء في المعارف المختلفة في 26 ندوة بين 1982 و 1989 لمناقشة هذه المعاجم قبل عرضها على مؤتمرات التعريب لإجازتها. كما عقد ندوتين في 1981 و1993 ناقشت التصور النظري لمنهجية وضع المصطلحات وإقرار خطة موحدة لوضع المصطلحات وتطويرها. وعقد مجلس التنسيق 6 حلقات دراسية بالتعاون مع مؤسسات تعليمية لاستنكاه رأيها في المعاجم في محيط شغلها. وينظم المجلس ندوات متخصصة بلغت ست: اثنتين منهما حول مصطلح الطب بمراكش وباريس. ووضع أول قاموس إلكتروني في 2010 للمصطلحات التقنية في العربية والألمانية والفرنسية والإنجليزية. واستعان في عمله بمجلة "اللسان العربي" التي صدر منها نحو 190 عدداً. وبدأوا في 1975 مشروعاً لاختزان المصطلحات العلمية والتقنية المستخلصة من الخمسين معجماً التي أصدرها المكتب حتى 2009 في الحاسوب بصورة تضمن الاضافة إليها والتصحيح والتغيير والمراجعة . وذكر عبد العزيز بنعبد الله، الذي كان مديراً لمركز تنسيق التعريب، أنهم جردوا كتب الطب المستعملة في الجامعات العربية لتحديد المصطلحات الجارية في كل قطر عربي ثم التنسيق بين الجامعات لانتقاء الصالح منها للجميع. وباركت المشروع ندوة انعقدت خلال المؤتمر الطبي العربي والإسلامي الثالث في أنقرة ."ولكن المشروع"، في قول بنعبد الله،" ظل حبراً على ورق كالكثير من المشاريع العروبية" ووجد أن معاجمهم العلمية مستخدمة في دائرة الترجمة بالأمم المتحدة. ورد الفشل إلى التنازع القطري وإرادة كل دولة أن يكون مصطلحها هو الفائز (بنعبد الله 2009).
    مجلس وزراء الصحة العرب
    ولو احتكمنا إلى عرض خالد محمد متيمينة (على الشبكة العالمية) لجهود قطاع الطب والصحة العربي لتعريب التعليم الطبي لرأينا عظم الطاقة التي أنفقها للغاية. فعرض متيمنة للنشاط العربي الكبير الذي اضطلع به مجلس وزراء الصحة العرب ووزراء التعليم العرب واتحاد الأطباء العرب لتعريب العلوم والطب بين عامي 1972و 1994. بدأ ذلك الجهد بتضمين اللغة العربية لغة معتمدة في جمعية الصحة العالمية ودفع رسوم ذلك في 1977. وكان أول قرارت المجلس بتعريب التعليم الطبي في 1974. واستعداداً لذلك استعان بأساتذة طب عرب لتزكية كتب طبية للترجمة (1978)، وعقد ندوات للغرض (ديسمبر 1988). وطبع المعجم الطبي الموحد (1978). وقرر المجلس في 1987 تعريب التعليم الطبي وأيده اتحاد الأطباء العرب (يناير 1988). وانعقد المؤتمر الطبي العربي في يناير 1988 فاحتج لتعريب التعليم الطبي، ضمن أشياء أخرى، بلزوم التزام الجامعات بدساتير الأقطار العربية القاضية برسمية اللغة العربية. وانعقد مجلس وزراء الصحة في الخرطوم في 1987 وقرر أن يكون عام 1988 بداية عقد التعريب والتوقف نهائياً عن استعمال اللغة الأجنبية في الدراسات الطبية في 1997. ورصد جائزة للكليات الطبية المبادرة في الشأن، وكون لجنة لمتابعة الأداء خلال ذلك العقد، وقرر أن تكون بحوث ملتقيات الأطباء العرب في اللغة العربية، وأمر بتشجيع كتابة الرسائل الجامعية الطبية باللغة العربية، وجعل التأليف في العربية من شروط الترقية بالجامعات، وتدريس الطلاب بكليات الطب فن الترجمة، والبدء الفوري بتعريب مناهج "الصحة والطب الوقائي" و"الطب الشرعي" و"الطب النفسي". وانعقدت ندوة لتعريب التعليم الطبي في دمشق (1989) ووصت بقيام مركز عربي للتعريب والترجمة واستثمار خبرة سوريا في التعريب ومسح المراجع المتوافرة في العربية تأليفاً وترجمة.
    وباشر المجلس الرقابة على ما يتم من تعريب لكليات الطب العربية. فانعقد في 1990 المؤتمر الإقليمي لتعريب الطب ومسح حالة تعريبه في الأقطار العربية. فوجده يدرس بالعربية بجامعات بسوريا وليبيا والسودان بينما تسود الإنجليزية في بقية الأقطار ماعدا الصومال (الإيطالية) والمغرب والجزائر ولبنان وتونس (الفرنسية). ووُجِد الطب الشرعي يُدرس بالعربية في الأزهر والعراق كما يدرس بها مقرر للطب الإكلينيكي في اليمن الجنوبي. ووجد مقرراً في العربية في سوريا تكون من 73 كتاباً. ونظم المؤتمر زيارات لأساتذة طب عرب لزيارة جامعات سوريا. وأجاز معجم مصطلحات طب العيون والوراثيات والعلوم البيولجية . وقرر أن يبدأ التمهيد لتدريس الطب باللغة العربية خلال 1995 حتى سنة نهاية العقد في 1999. ثم انعقدت حلقة تدريس المواد العلمية بالخرطوم في يوليو 1990. وتداول المؤتمر الطبي السابع والعشرون في 1991 ونظر في مسألة التعريب. ونظم أطباء البحرين مؤتمراً لتعريب التعليم الطبي في فبراير 1993. كما انعقد مؤتمر التعريب السابع بالخرطوم في فبراير 1994 فأشاد بما يقوم به السودان من تعريب للتعليم العالي والطبي ودور الهيئة العليا للتعريب السودانية في هذا المجال. واتضح أنه حتى تاريخه أنه ما تزال سوريا هي موئل التعريب (جامعات دمشق وجلب وتشرين) وشاركتها ليبيا (جامعة سبها) والسودان (جامعتا الجزيرة وشندي) .
    الجمعية المصرية لتعريب العلوم
    ومركز الجمعية جامعة الأزهر. وتعقد اجتماعاً شهرياً لدعم قضية تعريب العلوم وممارستها. وتنظم حلقات علمية حول التعريب بالتعاون مع جامعات أو كليات مثل كليات طب الأزهر وهندسة عين شمس ومع جمعيات مهنية مثل نقابة أطباء مصر والأطباء العرب وجمعية الحاسبات العربية وجمعية مهندسي الكهرباء ومنظمة الصحة العالمية. وانعقدت تحت مظلتها ندوات للتعريب أو مؤتمرات لجمعيات للتعريب بلغت نحو سبع: أثنتين لعلوم وهندسة الحاسبات، ومؤتمر لرابطة تعليم العلوم الصحية، وندوتين عن الأرقام العربية الأصيلة وندوتين عن تعريب الطب بعناوين فرعية مثل ":القضية والحل أو :ماله وماعليه) .
    جمعية حماة اللغة العربية
    جمعية حماة اللغة العربية جمعية مصرية تأسست عام 2000 يرأسها الإعلامي المصري طاهر أبو زيد مهمتها الحفاظ علي اللغة العربية والوقوف أمام الغزو الثقافي للحضارات الغربية الذي يؤدي إلى تآكل اللغة العربية داخل المجتمع المصري.
    هذا الجهد العربي للتعريب غيض من فيض. ومع سعة الجهد لم نبلغ غايه التعريب. ولا نكف مع ذلك عن طلبها. وقد أشهر الأمير مصطفى الشهابي سقمه منذ أكثر من نصف قرن عن المشاركة في هذه الدائرة المفرغة من اندفاع السقيم للسقم. فسئم من تواتر مؤتمراتنا للتعريب ووصفها بالعبث. فذكر الجمعية الطبية المصرية (1919) التي ظلت تعقد مؤتمرات سنوية في مختلف بلاد العرب يؤمها الأطباء العرب وتنظر في تعريب الطب. فعقدت مؤتمرها الخامس في دمشق ثم عقدت آخر في حلب. وشارك الشهابي فيهما بورقة عن المصطلح. وأضاف "ومن غريب الصدف أنني أكتب هذا الموضوع في اليوم الذي يفتح فيه بدمشق مؤتمر هذه السنة لهذه الجمعية (الأحد 9 آب "اغسطس" سنة 1954) ولم أر فائدة، في هذه المرة، في إدلاء دلوي بين الدلاء، لأن موضوع المصطلحات الطبية وتوحيدها يتكرر كل سنة، من دون ان يُعمَل فيها عمل جدي، وتظل مدارس الطب في مصر وفي بغداد تدرس بالإنجليزية، وهكذا تذهب محاولات المؤتمرين عبثاً" (1955، 128).
    وكان سقم الشهابي حقاً. فكتابه "المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث" (1955) وهي عبارة عن محاضرات ألقاها على طلاب معهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة بدعوة من مديره الأستاذ ساطع الحصري، قول فصل في استحقاق اللغة العربية لتدريس العلوم والطب. وتناصرت في الكتاب خبراته كمختص في علوم الزراعة وساهر على تعريب تلك العلوم عن معرفة وثقى بالعربية. فجسد بذلك مطلب الدكتور عبد الله الطيب، أستاذ اللغة العربية بالسودان، في المعرب المثالي. فإشكال التعريب عند الطيب موهوم. فالمشكلة ليست في اللغة بل في العلوم. فالحاجة في التعريب هي لمختص عالم بالعربية وعالم بعلمه الدقيق: يعلم اللغة العربية ويعلم العلم المراد تعريبه. فلا فائدة أن يطلب من أستاذ اللغة العربية أن يعرب الهندسة النووية مثلاً. فهذا مما يطلب من المختص في ذلك العلم ذي الحظ الحسن في اللغة العربية (1990، 52). واقتدى الشهابي في ذلك بالعلماء السلف الذين ساغت ترجمتهم عن الإغريق لأنهم "عارفين بأسرار اللغة العربية. ولذلك جاءت مصطلحاتهم فصيحة ومحكمة ومستنبطة من صلب اللغة" (الشهابي 1955، 25).
    رأينا مما تقدم أن نقص اللغة العربية أو انتقاصها غير مجد لفهم مَطلَنا التعريب. وجاء الوقت ربما لبحث هذا المطل في غير انتظار إحسان العربية نقل معارف الغرب وهو انتظار طال. ولا أعرف من جدد إشكالية التعريب مثل دان داينر الأكاديمي الألماني. فهو كمن نصح أن لا نحتج على التعريب بضيق ماعون اللغة بل ببؤس سعة المجتمع العربي للمعرفة. واستحسنت نظره لهذه الإشكالية على ضوء تناص أقامه بين "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" (1834) لرفاعة رافع الطهطاوي وتقرير التنمية العربية، الصادر عن الأمم المتحدة في 2002. فكلاهما، بجانب بيان تردى حال العرب، طلبا تدراك تلك الأوضاع بهمة وغيرة. وكلنا يعرف همة الطهطاوي، بعد ما وقف على كساد مجتمعه على ضوء خبرته الأوربية، التي تلازم فيها التعريب بزيادة سعة المجتمع للمعرفة (2009، 21). وبالنتيجة فالعربية عند داينر براء من النقص المزعوم الذي يحوج أمتها لتلقي العلم بوسيط أجنبي. فمن فساد الرأي عنده اللجوء للإنجليزية مثلاً حلاً لجبريات في الثقافة والتعليم العربي. فلو فعلنا ذلك لقصرنا بث المعرفة على صفوة ضيقة وتغاضينا عن الجمهور الأوسع (2009، 21). فلا مناص من إصلاح لغوي جذري للعربية تدخل به الجمهرة الواسعة إلى ساحة المعارف المستحدثة بصورة لم تكن منتظرة في عهد الطهطاوي (2009، 22).
    جاء تقرير التنمية العربية بإحصائيات مزلزلة عن عجز العالم العربي عن امتصاص المعرفة المكتوبة وبسطها لأهله وأن يفعل ذلك بالسرعة التي تناسب إطراد إنتاج المعرفة. فنحن في أسفل الدرج في الترجمة عن اللغات الأخرى. فكل ما عربناه في العالم العربي قاطبة (300 مليون في 22 قطراً) في السبعينات لم يتجاوز خمس ما ترجمه بلد صغير كاليونان. وخلال خمس سنوات من الثمانينات ترجمنا 4 فاصل 4 كتاب لكل مليون عربي بينما ترجمت هنغاريا 519 كتاباً لكل مليون من شعبها. وكان الرقم في اسبانيا 920 كتاباً. ومن حيث التأليف أصدرنا في 1991 عدد 6500 من الكتب بينما صدر في الولايات المتحدة 102000. وكان حظنا 2 فاصل 2 في المائة من إنتاج العالم من الكتب لشعب هو 5 في المائة من سكان العالم. وتدنى إنتاج الكتب في 1996 فأصدرنا 1945 كتاباً بما يعني مجرد صفر فاصل 8 من إنتاج العالم. وحجم المطبوع أشد تدنياً. فالروايات عندنا لا تزيد طبعتها عن بين الف وألفين نسخة ومتى وزعت 5 ألف يكون ذلك قصب السبق (2009، 21- 22).
    وضرب داينر مثلاً على ضيق ماعون العرب للمعرفة بتخلفنا من جهة براءات الإختراع. فالعالم العربي رفع كشوفه العلمية المنشورة في مجلات علمية 10 في المائة من عام 1967 إلى 1995 بينما رفعت كوريا الجنوبية مساهمتها إلى 24 ضعفاً. وانعكس هذا على براءات الاختراع. فبين 1980 و2000 قدم العالم العربي إلى الولايات المتحدة 370 طلب براءة بينما تقدمت إسرائيل بثمانية ألف وكوريا الجنوبية ب 16 ألف. وأكثر طلبات العالم العربي جاءت من باحثين أجانب صدف أن كان العالم العربي مكان عملهم وقت تقديم الطلب (2009، 23).
    ويسوق هذا البؤس البحثي التقرير لإثارة شح التمويل للبحث عند العرب. فالدول النامية تنفق 5 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي في مباحث تداخل العلوم و التكنولوجيا وتطبيقاتها الاقتصادية. أما العالم العربي بأسره لا ينفق ما يزيد عن صفر فاصل اثنين من ذلك الدخل. وتقوم الدولة ب90 في المائة من ذلك الإنفاق ولا يساهم القطاع الخاص بأكثر من 3 في المائة. وفي الدول المتقدمة تكون نسبة الدولة للقطاع الخاص مناصفة. وفي هذا دلالة على نكوص القطاع الخاص عن الاستثمار طويل المدى (2009، 23).
    وتلك صورة محزنة لحالنا مع المعرفة تجعل الثقة في محض الترجمة كحل للتعريب المأمول في غير مكانها. فمتى استخرنا تجربة العربية الكلاسيكية في الأخذ من علوم اليونان في العصر العباسي وجدنا أن ترجمتها لم تكن استدراكاً لما كان يفوتهم في زمانهم الذي أنتجوا فيه هم الصنائع والمعارف. وهذا خلاف ترجمتنا المعاصرة لعلوم الغرب التي هي إجرائية طالما انسدت مسامنا من امتصاص علوم العصر بقعودنا عن الإنتاج أصالة لا وكالة.. فالتعريب، في نظر دارسيّ تاريخ العلوم العربية، ليس إجراءاً ميكانيكياً "بل جزء من عملية تاريخية مركبة لا يمكن خفضها إلى نقل معرفة خارجية في اللغة العربية. فالترجمة تشتمل بالأحرى على قوي مستسرة في الثقافة المترجم فيها. وأهم جوانب هذه المسألة قاطبة هو الأحوال المعرفية الباطنة للثقافة الإسلامية في وقت وقوع الترجمة. فخبرة التعريب الكلاسيكية ليست في توفير قاعدة معرفية للعلوم الإسلامية المنتظرة بل، وهذا مربط الفرس، في كون التعريب من علائم الهمة الإسلامية. فلم يكن للتعريب أن يقع لولا عزائم الثقافة الأسلامية آنذاك التي انقدح فيها الشغف بالعلم واقتحمته من فوق معبر الترجمة ( دلال 2010، 10-11). وسبق لبيتر آدمسون في كتابه عن الكندي نزع الميكانيكية عن التعريب الإسلامي التاريخي. فالمعروف أن الكندي اشتغل بتعريب المصطلح الفلسفي الإغريقي. ولم تقتصر تلك الهمة على خدمة إجرائية لمشروع إسلامي معرفي طموح. كان ذلك نصف غاية الكندي. أما النصف الآخر والمهم فهو مقاصده في دمج هذا الكسب الفلسفي الإغريقي في التيارات الفكرية الإسلامية التي بدأت تكتنفها نذر المسائل الفلسفية حول العقيدة الجديدة من كل جانب. فالكندي، في قول آدمسون، لم ينجر تعريب التراث الإغريقي فحسب بل "أسلمه" باستصحابه في مشروعه لشرح حقائق مسألة التكليف النبوي والدفاع عنها (2007، 38، 40).
    ثم جاء الشهابي في طرائق وضع المصطلح عند الغرب بما يزيل الشبهة عن نقص العربية. فعلو الغرب ليس في مرونة جوهرية في لغاته. بل لعلوه في المزاوجة بين إنتاج الأشياء من جهة ونهوض لغاته بتسميتها. فلم يقع المصطلح للغربيين لمحض سعة لغتهم بل لأن أيديهم مشغولة بالابتكار في العلوم وغيرها فيحملون لغتهم حملاً لتسعفهم. فالعالم منهم متى اكتشف مادة (ولنقل عشبة طارئة) سماها إما باسمه (1955، 74) أو باسم الموضع الذي اكتشف فيه العشبة، أو بالاسم الذي يطلقه أهل البلد عليها، أو بصفة من صفاتها وجد لها مسمى في اللغة اللاتينية، أو باسم آلهة إغريقية. فالمصطلح، على أنه يقع خلال عمل تأسيسي مبدع هو الاكتشاف أول مرة، هو مما يبذل فيه العالم جهداً وخيالاً ليوافق غرضه. فهناك "ألوف من الأجناس ومئات الألوف من الأنواع والأصناف النباتية ليس لها أسماء حتى في أرقى اللغات الأوربية". ومتى ابتكروا لها الأسماء لا غرابة إذن "أن يجيء بعض هذه الأسماء ثقيلاً على الأسماع". وهذه مصطلحات يدور معظمها بين الخاصة لا العامة. وليس هذا بجديد. فلما كان العرب والمسلمون يبدعون العلوم وضعوا قواعد للمصطلح فأتى ابن سينا على قواعد تسمية الأمراض في كتاب القانون :
    قد تلحقها التسمية من وجوه: إما من الأعضاء الحاملة لها كذات الجنب وذات الرئة، وإما من أعراضها كالصرع، وإما من أسبابها كقولهم مرض سوداوي، وإما من التشبيه كقولهم داء السد وداء الفيل، أو منسوباً إلى أول من يذكر أنه عرض له كقولهم قرحة طيلانية منسوبة إلى رجل يقال له طيلان، وإما منسوباً إلى بلدة يكثر حدوثه فيها كقولهم القروح البلخية. . . (1955،81).
    بدا واضحاً الآن أن إشكالية التعريب كما نراها خرجت من نطاق بؤس العربية ونجابة اللغة الأجنبية. وصَحَّ بالتالي أن ننظر للحيلولة دون العربية وتدريس العلوم لا في نقص مفترض فيها بل في علم اجتماع المعرفة الذي يكتنف تهوين المحدثين المشاهد لها. فنقص العربية في هذا العلم بديهة قرينة بكل لغة تستدرك علماً طاريء أو بيئة مستحدثة. فالمفاهيم العلمية المستجدة في العالم ربما تجاوزت الخمسين في كل يوم ودولة عظمى كفرنسا تعاني فرنستها قلا تحيط إلا بنصف هذه المدركات الجديدة ويضطر أساتذتها في الجامعات للجوء للمصطلح الأجنبي (بنعبد الله 2009).
    وقد نصح سيد حسين العطاس، الأكاديمي الماليزي، منذ 1972 بالأخذ بعلم اجتماع المعرفة في دراسة شغل الصفوة المبتلية بالغرب. فقد وصف شغل اكاديميّ العالم الثالث من علماء الاجتماع ممن وطئهم الاستعمار بأنه يصدر عن "ذهن أخيذ" (captive mind) مستتر خلف شغلهم الفكري الخبير. فبمثل هذا العلم الاجتماعي نُخضع فكر هؤلاء العلماء العلمي ونتاجهم للتحليل فنفككه ونقف على مصادره وطرائق تشكيله.
    وأقترح العطاس أن نبدأ تحليل ذلك الذهن المرتهن للغرب بالنظر إلى ما يسميه الاقتصاديون ب "مزية البرهان" (demonstration effect". وهو مصطلح استمده الباحثون من دراسات سلوك المستهلكين. وفهموا به كيف ينفق المرء على ما يعتقد أنها البضائع ذات القيمة العالية غير ملق بالاً للإدخار. ويقع هذا الصرف المجازف لأن المستهلك يريد أن يرقى في العزة بالنفس غير عابيء لموضوعية نفع تلك البضائع له. فمعدل استكثاره من تلك البضائع القيمة وقوته يعتمدان على معدل احتكاك المستهلك بها. فكل احتكاك بها برهان جديد على سمو تلك البضائع ومزيتها والرغبة في الاستزادة منها.
    فمتى جئنا إلى حقل التثاقف مع الغرب، وقد استبدلنا مفردة "بضاعة" ب"معارف" أو "لغة"، وجدنا أن الدافع الغالب في هذا التثاقف هو العقيدة في نفع وسمو معارفه. فطول الاحتكاك بالغرب، مثل حالنا في تدريس علومة بلغته، يضاعف مزية البرهان ويُسَعِر الرغبة في اقتناء المنتوج الغربي. ولذا بقينا ننتظر "جودو" التعريب يأتي بعد طول مكث في لغي الغرب ننتظر أن يشتد عود العربية فنستقل عنها. ولكن بدا واضحاً أنه كلما طال احتكاكنا بالغرب غليت بضاعته في نظرنا واستطبناها وعضضنا عليها بالنواجذ. فبرهان علو الغرب قائم في طول الاحتكاك به لأنه كلما طال كلما شغفنا به. فنحن لسنا مأخوذين بهيبة علومه المستحدثة فحسب بل، وربما الأهم، مصابين بتبخيس قدر موروثنا. واستبقنا مآلات هذا الموروث في التثاقف مع الغرب بالحكم عليه بالعقم كخوالف وأوابد (1972، 10-11).
    ولبازل ديفدسون، المؤرخ البريطاني لأفريقيا، تشخيص جيد للصفوة الأفريقية المحدثة على ضوء علم اجتماع المعرفة. فطول احتكاكها بالغرب مكن من مزية البرهان لمعارفه ومنتوجه فيها فتدأب لإقتنائهما بما يشبه الإدمان. ففي كتابه "عبء الرجل السود: أفريقيا ولعنة الدولة-الأمة" (1992) حلل مأزق أفريقيا ما بعد الاستعمار. ووجد أن تلك الصفوة معيبة جداً وعليها وزر محنة القارة. فهذه الفئة المتعلمة تعليماً غربياً سيئة الظن بثقافة أهلها حتى قبلت صاغرة أن تخلع نفسها عن تلك الثقافة طمعاً منها في النهضة بالوصفة الغربية حذوك النعل بالنعل. فقد قر في وعيها بإلحاح استعماري معروف أن تقاليدها صنو للجمود. ووجب عليها لكي تصبح في عداد المتحضرين أن تكف أن تكون أفريقية. ولضمان أن يخلع أفراد هذه الفئة أنفسهم عن أفريقيتهم حرص الاستعمار أن لا يصبحوا أوربيين أبدا. فهم في المنزلة بين المنزلتين حتى قيام الساعة. فلا هم بقوا على أفريقيتهم ولا هم ترقوا فأصبحوا أوربيين: لا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا. أي أنهم بلسان عربي مبين لم يبلغوا حيث أرادوا ولم يريحوا رواحلهم عن هذا السفر الضال. وتلك حال شبهها علماء ما بعد الاستعمار بحال القرد مع الإنسان. يتشبه به ولن يبلغه حتى بشق الأنفس. وسموها ب "المقردة الاستعمارية" (بهابا 1994).
    ووصف ديفدسون شقاء هذه الفئة الأفريقية المميزة الأزلي بما يذكر بحالنا مع التعريب. فقال إنه من فرط ترملهم الثقافي بقي عليهم أن يجوبوا في خلاء خاص بهم حتى يصيح منادي القدر فيشرع لهم أبواب الحضارة على مصراعيها ويأذن لهم بالدخول في وقت لا معين ولا معلوم. وهذا الجهد الضائع النازف قريب من معنى أسطورة إغريقية قديمة أكثر كتابنا من الإشارة إليها. وهي أسطورة سيزيف. فقد سرق هذا البطل الأغريقي النار من عرين الآلهة وهبط بها للناس على الأرض يستضئون بها ولهم فيها مآرب أخرى. فغضبت عليه الآلهة وحكمت عليه بشغل شاق سرمدي. فقد قضت أن يحمل صخرة من أسفل جبل ما فيصعد بها إلى قمته ثم يرميها إلى السفح مرة ثانية ثم يعود ويحملها إلى القمة وهكذا دواليك حتى قيام الساعة. وصارت عبارة "الجهد السيزيفي" مجازاً في ديمومة الشقاء والإعادة المملة بغير حصائل. وهذا حالنا لا يخفى عليك مع التعريب نحمله كرهاً حتى يصيح منادي القدر فيأذن لنا بإحلال لغتنا في مناهج تعليمنا كلها بعد أن حسن تأهيلها. ولم يقع لنا هذا الحدث السعيد بعد أكثر من قرن.
    لقد افتتنا بلغة الغرب الغراء وبقية معارفة بمزية البرهان. ولذلك لم نبلغ نقطة التشبع منها لنخرج من الإتباع اللغوي إلى الإبداع اللغوي الذي هو صنو النهضة. لم نصل إلى النقطة في الاستهلاك الثقافي لا يعود المزيد منه بمزية فنقلل من شرائه حتى نكف عن ذلك مرة واحدة. وهذا هو قانون الغلة المتناقصة. ولكنه لا يعمل في الثقافة عمله في الاقتصاد. فالذي يعمل في التثاقف هو قانون مزية البرهان كما تقدم. فخلافاً لقانون الغلة المتناقصة فبقانون مزية البرهان لا نبلغ من تثاقفنا حد الإشباع إلا بقرار تحرري نهضوي واع. وقد نوه بوجوب مثل هذا القرار باتريك سميث في معرض تساؤله عن لماذا كان الاحتكاك العظيم للغرب الصناعي بغيره سبباً لزعزعة أهله عن كينونتهم وماضيهم. ووجد الإجابة في فشل آخر الغرب في توقيت متى يفطم نفسه منه. فروى عن المصور الفوتغرافي الهندي راي قوله إن التصوير وسيط غربي وأنهم تأثروا به عن طريق الغرب لوقت طويل. وزاد المصور بقوله إنه تأتي مع ذلك لحظة تشبع منه لكل فنان وقع تحت تأثير الغرب ووسائطه. وقال إن لحظة تشبعه جاءت حين بدأ يستخدم نوعاً من الكاميرا البانورامية لسبب محدد ليصور الهند بطريقة فريدة وصفها. فلحظة التشبع هي تلك اللحظة التي توقف فيها راي عن الاستماع إلى الغرب، وتوقف فيها عن استيراد أياً من طرائقه، وتَرَفّع ان يكون تلميذاً لأحد أو مكفوله. لقد بدا يتجاوب مع العالم كما يراه أمامه، فالهند بدأت تلقي عليه كيف وماذا يفكر عنها (سميث 2010، 29-30).
    المشاهد أننا نجرر أقدامنا دون تعريب مناهج الطب والعلوم خاصة ونلوم اللغة العربية ونطلب أن تستأهل للغرض. ولما كان هذا ديدننا لنحو قرن ونيف صح أن نراجع الأمر برمته. فلربما لمنا العربية والعيب فينا. وتنباحنا الشجرة الخطأ، في قول أهل الإنجليزية، شاهد على بؤس حكمنا على مآلاتنا ومقاصدنا من رحلتنا العصيبة السدى دراكاً للغرب. ولا أعرف من اقترب من مأزقنا المعلوم من الغرب مثل جاك بيرك، المفكر الفرنسي، في كلمته أمام خريجي الجامعات العرب في الولايات المتحدة في 1973. فأحسن استهلال كلمته ببيت من أمريء القيس حين خرج إلى الروم في صحبة الشاعر عمرو بن قميئة يطلب نصرة قيصر له في استرداد ملكه. فقال إنه شق السفر وتناء المطلوب حتى بكى صاحبه من شدة السفرة:
    بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
    فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
    وساغ لبيرك هنا أن يزاوج بين سفر امريء القيس للروم وسفرنا المعاصر للغرب موئل الثورة الصناعية والتكنولوجية وسادن مصطلحها. فقال إنه وجب على العرب أن ينفذوا إلى هذا العالم الغربي تحت جنح الألم فإما استعبدوا أنفسهم له أو قضوا دونه. ولكن الرحلة إلى الغرب ليست هينة تكنفتها المشقة من أقطارها. فمتى أدار العرب وجوههم خلال الرحلة ووعثائها إلى الخلف، فعل عمرو بن قميئة، ليروا أي أرض قطعوا ثم نظروا أمامهم للطريق المترامي ما يزال، شعروا بمثل شعور شاعرهم امريء القيس. وهذا الطريق اللاحب هو ما يطبع نظرة العرب إلى أنفسهم بالتشاؤم. اما الأجانب المعاصرون الذين يسقطون فريسة لعبارت قادة العرب المطمئنة عن حال أهلهم فيغيب عنهم ما يثقل على العرب من نقد غير راحم وإنزعاج مقلقل يساورهم وهم في عثراتهم طلباً للنهضة. وهو عبء شعوري يرتد فيصيبهم في كبد حسهم حين يُقَومون ما قطعوه في درب النهضة فيبخسون أشياءهم (1973، 9).
    فتاريخ العرب اليوم نكد ليس من جهة أنه مثل كل تواريخ الأمم تعاورته العثرات والإقالة منها والنجاح والإخفاق ولكن من جهة أن ليس بيدنا مؤشر لإمكانية إخضاع تغيرات ذلك التاريخ وتقلباته لنقد عقلاني (1973، 12). وربما كان من نوع هذه النقد غير العقلاني ما ظل المحدثون يوجهونه للغة العربية لنقصها. فمع مؤاخذة بيرك لكسب العربية المعاصر إلا أنه يسجل لها أنها استعارت المصطلح المحدث ما وسعها. فالعرب رأوا أن المعارف الثمينة المستحصلة من تعلم اللغات الأوربية مما يكمل تعلقهم القوي بلغتهم وثقافتهم. وهو يرى أن سياسات خاطئة قصيرة النظر أدت إلى تسعير الشقاق ما بين اللغة العربية ولغات العالم وثقافته وتحويل ما بينهما إلى نقائض بدلاً عن التجاوب والتواشج. إلا إن هذه الحركة المزدوجة (1973، 19)، التي تحافظ بها العربية على ذاتها بينما تشارك في عالم آخر من اللغات، تظل طاقة للأفراد من العرب والجماعات. وما ساق بيرك إلى هذا التفاؤل عن جدل العربية والعالم إلا حسن ظنه في العرب كبشر قديم وكلاسيكي. فهم استسروا في حضارتهم تشكيلة من الذكر والطبائع، وذوقاً للتعبير الجمالي والنبالة في الفعل، وحساً بالقسط وانسجام الإنسان، الإنسان السوي، مما سيحول دون قبولهم بتقدم مرتجل (1973، 20).
    ومع أننا نأخذ على الهمة في التعريب المآخذ لأن العرب لم يولونه أفضل جهدهم كوسيط للتربية والتبليغ لا معرضاً للبلاغة السياسية الخداعة. ومع ذلك قطع العرب خطوات متقدمة في مسألة اللغة من جهة استخدامها كأداة ، لا كوسيط في المفروض، للإبداع الأصيل (1973، 11). وتساءل إن كان التعريب، كوجه من وجوه ديمقرطة الثقافة، قد أثمر. وواصل التساؤل عن المفارقة بين حال العرب قبل نصف قرن كانت فيه معرفة النصوص الكلاسيكية العظيمة مثل القرآن ، وممارسة الأساليب التقليدية، والعلوم الدينية أكثر ذيوعاً بكثير مما مما هو الحال اليوم. ونبه إلى مفارقة أن هذا الإفقار في المعارف الكلاسيكية وقع في ذات الوقت الذي يلهج فيه العرب بكهانات الإرث القومي والعودة إلى القيم الغراء القديمة. وتساءل بيرك إن كانت معارفهم باللغات الأجنبية وبآدابها بأفضل مما كان عليه الجيل الماضي، أو لو أن توسع التعليم والإعلام وغيرها تجاوز محض الاستهلاك؟ ( 1973، 14).
    وفق بيرك في رد الاعتبار لسعة العرب ولغتهم للنهضة حين استقام له نهج مقسط في تقييم رحلتهما إليها. وساقه هذه إلى توجيه ضربة مزدوجة طالت أطراف الجدل الأزلي حول اللغة العربية وسعتها لعلوم الغرب وطبه. فعاب على المحدثين، من شانييّ العربية، سوء تقديرهم لما قطعته اللغة العربية في رحلتها لمعارف الغرب. وألمح إلى أن تسويفهم في توظيفها في حقل التعليم والثقافة فيه مجافة لمبدأ ديمقراطية الثقافة الذي يذيعونه في ما عدا استثمار اللغة العربية لذلك السبيل. ومن الجهة الأخرى لام المحافظين، ممن يؤمنون حقاً ب"عبقرية العربية" (عبد البديع 1976) وصلاحها للعصر لبؤس خدمتهم للعربية بتحويلها إلى مزار تاريخي لطماً للخدود عليها أو لإعلاء شأنها لفظاً لا فعلاً. وأخذ على الجماعتين أنهما فرطا في زمانهم هذا في المعرفة الجيدة التي وقعت لجيل مضى في كل من التراث ومعارف الغرب.
    لعل أوسع أبواب فساد أحكامنا على كسبنا في الرحلة إلى الغرب هو تعذر المعيار نفسه لبناء مثل تلك الأحكام. فبعضنا من الحداثيين ما يزال يعتقد بعجز العربية دون علوم الغرب بعد استثمار حسن في إصلاحها قام به جيل النهضة العربية والمجامع والجامعات التي نشأت بأثره. وصحّ أن نسأل، من فوق مثل هذا الإصلاح، أن متى ستأتي تلك اللحظة الفارقة التي يقع لنا بها تعريب العلوم؟ متى؟ فسنرى أن علماء النهضة ومؤسساتها لم يدخروا جهداً في تعريب العلوم ومصطلحها خلال قرن ونيف ومع ذلك فالعربية موصومة بالنقص والطرد من رحاب العلوم والطب كلما اثير أمر التعريب. فالبادي أننا نراوح في مكاننا من التعريب. ولا حياة في الواضح لمن تنادي. فالتعريب الذي التبس بدعوتنا المعاصرة له صنو للتلكؤ وأقرب للتربص بالمسألة منه بالولوج منها إلى نهضة العرب. وصار حالنا في معاظلة التعريب حال صخرة سيزيف كما مر. فكلما اكتملت دائرته لنشرع في تنزيله انفتحت دائرة أخرى وهكذا دواليك. ويرجع بي هذا السفر الضال الشقي إلى التعريب إلى خطبة افتتاح ندوة للتعريب بجامعة الخرطوم استهلها الدكتور عزالدين الأمين، رئيس شعبة اللغة العربية بالجامعة، وقد استبطأ التعريب بجامعته حتى سقم، ببيت الشعر العربي الأمثل في الجهد الهباء:
    كناطح صخرة يوماً ليوهنها فما أضرها وأوهى قرنه الوعل (إبراهيم 1985: 73 ).
    الخاتمة
    ليس أشبه بنا في دوراننا حول أنفسنا في التعريب للدولة والتعليم والجامعي بوجه خاص من جهة سعينا الأزلي له بغير سداد ب###### الفرنجة الذي يقال إنه يطارد ذنبه فلا يبلغه ولا يكف عن المحاولة. كان مأمولنا أن نبلغ هذا التعريب بالترجمة عن الفرنجة ولكن ذهننا الأخيذ بهم بمزية البرهان كما تقدم لم يتشبع من الترجمة منهم فنبلغ الفطام لنخرج للتعريب بهمة للنهضة لا نلوي على شيء. وانطبق علينا من فرط الترجمة وإدمانها قول ولتر بنجامين إن الترجمة تستحيل إذا كان جوهر غايتها القصوى أن تطابق الأصل.
    فلم نتشبع من الغرب بعد برغم طول احتكاكنا به فنستقل عنه بأدواتنا في ابتلاء الحداثة (إبراهيم 2008، 333). فقد ورطنا قانون مزية البرهان في الغرب في حين كنا بحاجة لقانون الغلة المتناقصة لنفطم أنفسنا من بضاعة الغرب المزجاة.
    ربما فات علينا بعد هذه المعركة الطويلة حول التعريب أن نسأل عن مزية "البضاعة" التي نسوق لها أو نسوق ضدها. أي جمال نبشر به للغة وبها سواء عربنا أو لم نعرب؟ وبدا لي أننا لم نتواضع بعد عند كلمة قديمة لطه حسين قال بأن عربيتنا المعاصرة لاشيء. فكتب في 1927 ""إن لغتنا العربية لا تدرس في مدارسنا، وإنما هي شيء غريب لا صلة بينه وبين الحياة، ولا صلة بينه وبين عقل التلميذ وشعوره وعاطفته" (1927، 7). ووجدت صداها عند لغوي فطحل هو عبد الله الطيب الذي كاد يصف لغتنا المعاصرة ب"الكريول" وهي لغة هجين تنشأ من لقاء لغتين وغايتها التفاهم البسيط. فسماها لغة "ألف أرنب، ب بط" لتقطع الأسباب بينها وبين بلغة البيت وهي القرآن. وصارت فينا لغة في حدها الأدني وهي لغة "الحاجة إلى التفاهم" (1990، 51).
    طالت معركة التعريب بين أنصاره وخصومه طولاً نأنس في أنفسنا الجراءة للقول بإنها كانت معركة خاسرة على نحو ما. وأكثر خسارتها في أن غبار جدلها ومزاعم النصر فيها منعنا من تكوين فكرة واضحة عن ما جرى بالفعل. وهذه جراءة يمليها على المرء الولاء للحقائق لا للخنادق (إبراهيم 1985، 73). فلم تأخذ الأطراف بالعناية الواجبة إن خصومتنا حول لغة مستضعفة في عالم رجحت الكفة فيه للغرب وصارت أحكامه في لغتنا وفينا هي الفيصل. وضُرب علينا الذل والمسكنة. ولا أعرف من اقترب عندي من هذا المعنى مثل أحمد فؤاد نجم. فقد زاره صحفي أمريكي في داره يوماً قبل ربيع مصر في يناير 2010. ولما فرغا من الحديث أخذ نجم زائره إلى شرفة شقته ونظرا إلى جلبة القاهرة الشعبية واكتظاظها. فقال نجم للصحفي، "ديل مش مصريين ديل غلبانين وبس".
    وبدا لي من صمت اللغة العربية في بيانها الدفين صلاح انطباق مفهوم "الديفراند" للفيلسوف الفرنسي دريدا عليها. وهو ببساطة تنويع معاصر لقول بن المقفع إن اللسن في عالم الأقوياء محض مهذار. فدريدا يقول إن المستضعف خاسر لو كان في بلاغة سحبان. فنزاع المستضعف للجدارة لا خلاص منه لخلونا من معيار مشترك للحكم على الحجج من الأطراف. فثمة طرف من تلك الأطراف مُصمت لتعذر حتى حكية عن مظلمته. فمصطلحه ليس هو المصطلح الذي تواضعنا عليه للنظر في فض النزاع. ففي كل خصومة هناك خاسر. ولا يشقى الخاسر بما وقع له من ضيم فحسب بل أيضاً من تعذر التفريج عن كربته لأن جنس الخطاب السائد في منابر فض الخصومة ليست هي من جنس خطابه، ولذا يخيم عليه الصمت (جوات، 2101، 43 56).











    مراجع مشروع البحث
    باللغة العربية

    إبراهيم، عبد الله علي ، أنس الكتب، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر، 1955.
    ____________، الأفروعروبية أو تحالف الهاربين، المستقبل العربي 119 (يناير 1989): 110-119.
    ____________، الثقافة والديمقراطية في السودان، القاهرة: دار الأمين، 1996.
    ____________، الماركسية ومسألة اللغة في السودان، الخرطوم: دار عزة للنشر، 2001.
    ____________، الشريعة والحداثة، القاهرة: دار الأمين، 2004.
    ____________، صدأ الفكر السياسي، القاهرة: دار الأمين، 2006.
    ____________. حركة وطنية سودانية أم حركات وطنية: تاريخ ما أهمله التاريخ عن جنوب السودان، فصل من كتاب عن السودان يصدر عن المركز العربي للأبحاث وداسات السياسة، قطر، 2011.
    ابكر، آدم إسماعيل، حول مسألة التعريب في السودان في كتاب مداولات مؤتمر واقع ومستقبل التعليم العلمي العالي في السودان. تجرير محمد الأمين أحمد التوم، القاهرة: رابطة الأكاديميين السودانيين، 1999.
    أحمد، عبد الغفار محمد ، في تاريخ الأنثربولوجيا والتنمية، درا الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة: 2000.
    أحمد، عادل مصطفى، حول التعريب وإسلامية المعرفة في التعليم العلمي العالي بالسودان، في كتاب مداولات مؤتمر واقع ومستقبل التعليم العلمي العالي في السودان، تحرير محمد الأمين أحمد التوم، القاهرة: رابطة الأكاديميين السودانيين، 1999.
    بنعبد الله، عبد العزيز. قصة التعريب في المغرب. الخبر: صحيفة مجتمع المعلومات على الإنترنت، 20 يوليو 2009.
    بولا، عبد الله ، شجرة نسب الغول في مشكل الهوية السودانية، الصحيفة (الولايات المتحدة) 5، 1998: 12-15.
    التوم، محمد الأمين، مداولات مؤتمر واقع ومستقبل التعليم العالي في السودان، القاهرة: رابطة الأكاديميين السودانيين، 1999.
    التوم، مهدي أمين، خواطر حول تنظيم التعليم العالي في السودان في كتاب مداولات مؤتمر واقع ومستقبل التعليم العلمي العالي في السودان. تجرير محمد الأمين أحمد التوم، القاهرة: رابطة الأكاديميين السودانيين، 1999:
    الجندي، أنور، الفصحى لغة القرآن، بيروت: دار الكتاب العربي، 1982.
    مقابلة مع برفسير عبد اله الطيب، حروف 1-1 (سبتمبر 1990).
    حزين، سليمان، شجرة الجامعة في مصر، القاهرة: مطبعة جامعة القاهرة، 1985
    حسين، طه، في الأدب الجاهلي. 1927.
    خالد، منصور، حوار مع الصفوة، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر، 1974.
    ________________، النخبة السودانية وإدمان الفشل، الجزء الثاني، القاهرة، سجل العرب، 1993.
    الجميعي، عبد المنعم إبراهيم، مدارس عليا ساهمت في إنشاء الجامعة المصرية: دراسة في الوثائق، القاهرة، 2007.
    رايح، تركي، التعليم القومي والشخصية الجزائرية، الجزائر: الشركة الوطنية للتورزيع، 1981.
    سليمان، محمد ، اليسار السوداني في عشرة أعوام، 1954-1963، القاهرة: مكتبة الفجر، 1971.
    الشهابي، الأمير مصطفى، المصطلحات العلمية في اللغة العربية (في القديم والحديث)، القاهرة: معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، 1955.
    طه، فيصل عبدالرحمن. مسالة جنوب السودان في سياق تاريخي، الحلقة الأولى، موقع سودانايل على الإنترنت، 18 أكتوبر 2011.
    عباس، على عبد الله ، المرتكزات السياسية والإيدلوجية لتوجهات وسياسة الجبهة القومية الإسلامية في مجال التعليم العالي في السودان، في كتاب مداولات مؤتمر واقع ومستقبل التعليم العالي في السودان، تحرير محمد الأمين التوم، القاهرة: رابطة الأكاديميين السودانيين، 1999: 71-135.
    عثمان، إبراهيم عثمان، التعريب: قضية السودان المحورية (2)، على موقع السودانيزآونلاين دوت كوم، يناير 8، 2010.
    عمار، حامد، ثقافة الحرية والديمقراطية بين آمال الخطاب وآلام الواقع، القاهرة: مكتبة الدار العربية للكتاب، 2007.
    علي، سعيد إسماعيل، دور التعليم المصري في النضال الوطني، زمن الاحتلال البريطاني، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995.
    عيسي، سعاد إبراهيم، مسيرة التعليم العالي في السودان، 1898-1987، الخرطوم، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1996.
    مادبو، وليد، الكيان العربي الغائب الحاضر في مداولات الدوحة، سودانيزأونلاين، يونيو 29، 2011.
    محجوب، عبد الخالق محجوب، حول البرنامج، الخرطوم : دار عزة ، 2002.
    محجوب، محمد احمد، نحو الغد، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر، 1970.
    محاضر جلسات البرلمان السوداني، 1967.

    باللغة الإنجليزية

    Adamson, Peter, Al-Kindi. New York: Oxford University Press, 2007.
    Alatas, Syed Hussein, The Captive Mind in Development Studies. International Social Science Journal, 24, 1, 1972: 9-25. .
    Anderson, Benedict R, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. London: Verso 1983.
    Beshir, Mohamed Omer, The Southern Sudan: Background to Conflict. New York: Praeger. 1968.
    __________________, Educational Developments in the Sudan. Oxford: Clarendon Press, 1969.
    Bhabha, Homi, The Location of Culture. London : Routledge, 1994.
    Choat, Simon, Marxism through Poststructuralism: Lyotrad, Derrida, Foucault, Deleuze. London: Continuum, 2010.
    Collins, Robert, Shadows in the Grass: Britain in Southern Sudan, 1918-1956. New Haven: Yale University Press, 1983.
    Dalal, Ahmad. Islam, Science, and Challenges of History. New Haven: Yale University Press, 2010.
    Daly, Martin, Imperial Sudan: The Anglo-Egyptian Condominium, 1934-1956. Cambridge: Cambridge University Press, 1991.
    Diner, Dan, Lost in the Sacred, Princeton: Princeton University Press, 2009.
    Gagnon, Alain G., Andre Lecours, and Genevieve Nootens, Contemporary Majority Nationalism. Montreal: McGills-Queen’s University, 2011.
    Hurreiz, Sayyid H, Linguistic Diversity and Language Planning in Sudan, Khartoum: Sudan Unit of Khartoum University, 1968.
    Ibrahim, Abdullahi A, Manichaean Delirium: Decolonizing the Judiciary an Islamic Renewal in the Sudan. The Hague: Brill, 2008.
    Joseph, John E. Language and Nationalism. In Guntram H. Herb and David H. Kaplan, editors, Nation and Nationalism, Santa Barbara, ABC-CLO, Inc., 2008.
    Kok, Peter Nyot, Hasan Abdalla al-Turabi. Orient 33, no. 2 (1992): 185–192.
    Mac Michael, H.M, History of the Arabs in the Sudan. 2 Vols. Cambraidge: Cambridge University Press, 1922.
    Mahmud, Ushari Ahmed, The Cultural Question in the New Sudan Discourse. Sudan Studies Conference: Sudanese Studies: Past, Present, and Future. Khartoum, January 5-9, 1988.
    Mamdani, Mahmood, Saviors and Survivors: Darfur, Politics, and the War on Terror. New York: Doubleday, 2009.
    Micaud, Charles. Bilingualism in North Africa: Cultural and Sociopolitical Implications. The Western Political Quarterly, 27, 1 (1974): 92-103.
    Mukhtar, al-Baqir. The Crisis of Identity in Northern Sudan. In Carolyn Fluehr-Lobban and Kharyssa Rhodes ,editors, Race and Identity in the Nile Valley. Trenton, NJ: The Red Sea Press, 2004.
    Murray, W. A., English in the Sudan: Trends and Policies. Relations with Arabic. In Spencer, editor, Langauge in Africa. London: Cambridge University Press, 1963.
    Oduho, Joseph and William Deng. The Problem of the Southern Sudan, London: Oxford University Press, 1963.
    Said, Edward, The World, the Text, and the Critic. Cambridge: Harvard University Press, 1983
    Said, Edward and Fuad Suleiman. The Arabs Today: Alternatives for Tmorrow. Columbus: Forum Assoiates, 1973
    Sanderson, Lilian P. and Neville, Sanderson, Education, Religion and Politics in Southern Sudan. London: Ithac Press, 1981.
    Sharkey, Heather, Living with Colonialism: Nationalism and Culture in Anglo-Egyptian Sudan. Berkeley: University of California Press, 2003.
    _____________, Arab Identity and Ideology in Sudan: The Politics of Language, Ethnicity, and Race, African Affairs 197/426 (2008): 21-43.
    Smith, Patrick, Someone’s Else Century: East and West in a Post-West World. New York: Pantheon, 2010.
    Spaulding, Jay and Lidwien Kapteijns. The Orientalist Paradigm in the Historiography of the Late Precolonial Sudan. In Jay O'Brien and William Roseberry, editors, Golden Ages, Dark Ages: Imagining the Past in Anthropology and History. Berkeley: University of California Press, 1991: 139-151.
    Suleiman, Yasir, The Arabic Language and National Identity: A Study in Ideology, Washington, D.C: Georgetown University Press, 2003.
    El Tom, M.E.A, Sudan. In Damtew Teffera and Philp G. Altbach, editors, African Higher Education: An International Reference Book. Bloomington: Indiana University Press, 2003: 563-573.
                  

02-25-2012, 07:23 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حول قضايا تعريب التعليم (مُلخص + صور) . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    IMG_4130.JPG Hosting at Sudaneseonline.com


    تعقيب دكتورفاروق محمد ابراهيم :-
    السلام عليكم
    سعيد جداً على حديث عبدالله على ابراهيم السلس وعلى تعبيراته التى ينحتها وتضيف الطرفة على احاديثه من امثال الهذيان المانوى والصفوة الغردونية .
    وقبل دخولى فى الموضوع وفى باب الثنائيات التى فرضها الاستعمار عندنا وفى مجالى المهنى فى الابحاث الزراعية , عندما دخلت زراعة القطن للسودان كان هو المحصول الملك , وكانوا يطلقون تعبير (القطن والمحاصيل الأخرى) , والذين يعملون فى مجال القطن كانوا هم المحظيين يسكنون الثريات ولديهم الامتيازات , وبقية الأخرين حالهم اقل , تماماً مثل حال القضاة الشرعيين , وكان هذا موضوع تندر , وتم حل هذه المشكلة بعد الاستقلال بتكثيف الزراعة وتنويعها وكانت معالجة موضوعية وليست ايدلوجية , لكن جانب المعالجة الايدلوجية جاء فى نظام الانقاذ وبالرغم من انتاج فدان القطن يأتى لك بمحصول اكثر من عشرة افدنة من القمح , لكنهم اطلقوا حملة على القطن تحت شعار ((ما ديرين دقيق فينو قمحنا كتير بكفينا)) و ((نأكل مما نزرع)) وتم الغاء تقييم القطن وتحويل مساحته الى زراعة القمح , وضاع امتياز البلد فى مجال القطن بسبب سياسات قائمة على الايدلوجى , ومثل هذا النوع من السياسات دائماً ما تخفى خلفها اشياء من عمليات فساد وبيع , مثل حال مشروع الجزيرة الخ .
    سوف استخدم هذا المدخل عن الايدلوجى والمهنية فى قضية التعريب , الاخ عبدالله على ابراهيم اتفق معه حول التعريب , وما ذكره عن المجموعة الاولى التى ذهبت بعد الحرب الفرنسية من امثال الطهطاوى , وانا قد قرات الكثير من كتبهم باللغة العربية وكان فيها مجهود ترجمة ممتاز ورفيع فى وقته ولو كنا ا قد واصلنا فيه لما اصبحنا فى الوضع الذى نحن عليه الان .
    وانا اتفق قطعاً مع سياسة التعريب وكنت اطرحها باستمرار مع كثير من الممتحنين قبل حقبة الانقاذ , حيث كنت لا استطيع اكمال المقرر اثناء التدريس لان الطلبة كانت لغتهم الانجليزية ضعيفة , وانا نفسى افهم بالعربية اسرع رغم اننى درست بالانجليزية فى كل مراحل تعليمى , ولا خلاف لى مع الاخ عبدالله فى هذه النقطة .
    لكن الاخ عبدالله عندما ذكر فى الورقة مؤتمر التعليم العالى / وكنت من مُنظميه / , نسب التوصيات لهذا المؤتمر الى محمد الامين التوم , وقال ان التوصيات كانت مُلتبسة وتضمر خلاف ما تعلن بشأن التعريب , وانا اقول ان ما نسبته الورقة لمحمد الامين التوم ليس له , فى هذا المؤتمر المذكور تم تقديم اربع اوراق فى موضوع اللغة , واحدة من عادل على احمد والثانية من ابكر آدم اسماعيل وهما غير متخصصين فى اللغة, لكن المتخصصين فى علم اللغويات كانا اثنان من الجنوب من اخوانا فى الحركة الشعبية وهما تنقن لاكو وايكوزى لوكى , وانا كنت منسق توصيات ذلك المؤتمر المذكور فى ورقة الاخ عبدالله , كان هناك 12 محور وكنا فى كل محور نبحث عن المختصين لتشكيل لجنته , وفى محور توصية اللغة كانت اللجنة من تنقن لاكو وايكوزى لوكى ومعهما اثنان ايضاً من جنوب السودان , والتوصية غير ملتبسة وعلى درجة عالية من المهنية وتقول (( ان السودان بلد متعدد الثقافات واللغات مما يستوجب اختيار سياسة لغوية واقعية وشاملة تاخذ هذه المعطيات فى الاعتبار وعليه نوصى بالاتى
    1/ اعتبار اللغة العربية لغة قومية , واللغات القومية السودانية الأخرى ذات دور وظيفى فى المناطق التى تحتوى قوميات سودانية مختلفة .
    2/ اعتبار اللغة الانجليزية لغة ثانية فى تستخدم فى التدريس والتدريب والبحث وفى التعاون مع البلاد الأخرى .
    3/ تدريس الاطفال السودانيين القرأة والكتابة بلغاتهما الام شريطة ان تتوفر الشروط الموضوعية والامكانات اللازمة لذلك بمناطقهم .
    4/ اعتماد سياسة التعريب للتعليم تمثل جزءً لا يتجزاء من سياسة لغوية شاملة للسودان فى اغلبه ويراعى فى سياسة التعريب هذه التدرج .
    5/ اعتماد سياسة لغوية فى التعليم تشجع استخدام اللغات السودانية بما فيها العربية بالاضافة للغة الانجليزية فى التعليم على نطاق القطر وخاصةً فى جنوب السودان )) .
    وقد ذكر هؤلاء فى اوراقهم ان القهر ومحاولة فرض التعريب بالقوة هو المشكلة وليس مبدأ التعريب فى حد ذاته .
    النقطة الثانية حول قضية الايدلوجى والمهنى , انا كنت محظوظ لاننى اول من اعرف بقرارات الثورة التعليمية وعلى راسها التعريب , اول سودانى يعرف من خار ج الجهة التى قررته , عرفته وانا معتقل فى بيوت الاشباح , واى شخص قرأ تحقيق بشرى الفاضل والقصة التى رواها فسوف يجد ما قلته , ابراهيم عمر ونافع على نافع وبكرى حسن صالح قالوا لى وانا معصوب العينين فى واحد من بيوت اشباحهم انهم قرروا التعريب ومضاعفة القبول وسألوا عن رأيي فقلت لهم سوف اقول رأيي بعد التطبيق , كانوا يحتفلون بقرارات ثورة التعليم فى نفس وقت تهديد استاذ لهم بالقتل والاغتصاب , ليس زميلهم بل استاذهم , وهذه هى الايدلوجيا فى ابهى صورها فى تعاملها مع المهنية .
    النقطة الاخيرة , المشكلة ليست فى التعريب بل فى عدم توفير اى إمكانيات له , واذكر اننى قد سافرت للقاهرة وقمت بشراء 3 الف كتاب تساعد فى التعريب وفى رفع مستويات الطلاب وقدمت توصية كممتحن خارجى فى الكلية بان هذه الكتب تكفى كل طلاب كلية العلوم اذا تم تقسيمهم الى مجموعات صغيرة 10 طلاب فى كل مجموعة , وهذه الكتب ومعها اعداد من مجلة العلوم الامريكية جمعتها فى 12 عاماً , كلها قدمتها هدية للكلية وهى كتب بترجمة رائعة وثمنها رخيص , وكان الاقتراح ان يتم بيع الكتاب بـ 2 جنيه ونصف ثمن سندوتش , هذه الكتب 3 الف كتاب موجودة حتى الان داخل الكراتين فى الكلية فى مخزن كلية العلوم وعلى ما يبدو ان البعض اعتقد انها كتب ضد النظام رغم انها كتب علمية ! , والان مرت 6 او 7 سنوات واصبحت اطلب الان بالكتب التى اشتريتها من حر مالى حتى اقوم بتنفيذ المشروع مع جهة أخرى ! , هذه ليست ايدلوجيا فقط بل هذا انحطاط كامل للتعليم فى السودان .
    شكراً جزيلاً .


    IMG_4124.JPG Hosting at Sudaneseonline.com
                  

02-25-2012, 08:59 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حول قضايا تعريب التعليم (مُلخص + صور) . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    مُـداخـلات

    IMG_4247.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    زاهر عكاشة :-
    الدكتور متحمس للتعريب , رغم اننى اعتقد ان التعريب هو واحد من مشاكلنا , واغلب المشاكل الأخرى تتمثل فى الاصرار عليه , حتى مشاكلنا فى الاقتصاد سببها فى اعتقادى هو التعريب .
    لو تحدثنا عن التعريب فان هناك لبس حول مصطلحى التعريب والترجمة , حيث نجد فى الدول المتقدمة والتى تقوم بانتاج المعرفة نجدها تهتم بالترجمة ايضاً .
    عندما تنادى بالتعريب فهذا اعتراف بانك متأخر خطوة عن الأخرين , وعندما تنتج علم ومعرفة فان الأخرين سوف ينقلون عنك دون خجل , وفى تقديرى فان اللغة العربية حتى فى الوقت الذى كان من الممكن ان تقدم فيه للعالم فان العالم كان يأخذ عنها دون حرج , مع ملاحظة ان الرواد الذين لمعوا فى تلك الفترة فى مجالات الطب والفلك وغيره هم ليسوا عرباً فى الاساس , بل حتى من قدموا اسهامات فى مجال اللغة العربية نفسها وفى النقد الادبى هم ليسوا عرباً .
    وقت ان كنت ادرس بالجامعة فى 1992 وكانت سياسة التعريب تتم صفحة صفحة كان هناك ابناء مسئول كبير يدرسون مرحلة الروضة باللغة الانجليزية والفرنسية .
    **********
    د. امانى عبيد :-
    IMG_4253.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    اتفق مع دكتور عبدالله فى اننا يجب ان نكون موضوعيين ومهنيين الى حد ما فى الحديث عن التعريب , لكن الايدلوجيا تفرض نفسها علينا , حيث نجد ان الانقاذ قد عانت فى البداية من عدم وجود شرعية سياسية لها باعتبار ان جاءت بواسطة انقلاب عسكرى واتخذت التعليم كحملة تعبئة سياسية لها , وفرضت ايدولجيا الاسلمة والتعريب , ونحن لا نستطيع تقييم التعريب بمعزل عن الوضع السياسى او بمعزل عن الايدلوجيا .
    النقطة الثانية ان العالم الان يتجه نحو العولمة والانترنت , والجيل الذى تلقى تعليمه فى فترة التعريب مُغيب تماماً عن المعرفة الموجودة على الشبكة العنكبوتية والتى هى فى معظمها باللغة الانجليزية , وبالتالى فان الاهتمام بالتعريب دون الاهتمام باللغة الانجليزية هو موضوع خارج سياق التاريخ .
    **********
    IMG_4257.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    أ/ محمد مختار :-
    مسألة التعريب قد حسمت واصبحت هناك قناعة به , اى دولة فى العالم تقوم بتدريس طلابها بلغتها السائدة فيها , والدليل على ذلك اسرائيل التى تقوم بالتدريس باللغة العبرية .
    والطلاب الان ليس لديهم الميل لتعلم اللغة الانجليزية , واعتقد ان مشكلة اللغة العربية تكمن فى اهلها الذين لم يقوموا بتطويرها , وانا معلم لهذه اللغة فى المدارس الثانوية , واشعر ان منهج اللغة العربية به تكرار فى كل المراحل فى الامثلة ونفس الطريقة فى التدريس , وهى نفس المشكلة التى اشتكى منها التيجانى يوسف بشير
    ولقيت من عنت الزيود مشاكلاً
    وبكيت من عمرو ومن اعرابه .
    ونحن الذين قمنا بجعل الطلاب يكرهون اللغة العربية عندما لم نقوم بالتجديد فى المنهج وجعله جذاب .
    **********
    IMG_4259.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    أ/ حسين زكريا :-
    عملت بالتدريس فى الجزائر , واعتقد اننا لسنا بصدد مفهوم واحد للتعريب بل هناك عدد من المفاهيم , حيث وجدت فى مادة الرياضيات تعريب مختلف بين مصر والجزائر فى المصطلحات .
    بالاضافة لذلك هناك بعض الصعوبة فى ايجاد تعريب بعض المصطلحات العلمية , وعلينا قبل التعريب ايجاد والاتفاق حول مفردات معينة لهذه المصطلحات ثم بعد ذلك نقوم بالتعريب .
    **********
    IMG_4261.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    د. الباقر العفيف :-
    ينعقد هذه الايام المؤتمر القومى للتعليم بالسودان وتم نشر توصيات هذا المؤتمر على نطاق واسع , وكان من المفترض ا ناهل الحكم بعد هوجة ثورة التعليم العالى , وبعد كل هذه السنوات الطويلة من الحكم , المفترض انهم قد تعلموا من الدروس , لكننا قرانا توصيات هذا المؤتمر الاخير ووجدنا انهم لم يتعلموا حيث قال المؤتمر الاخير ان هدف التعليم هو انتاج جيل رسالى ! , ما هو هذا الجيل الرسالى ؟ هل هو جيل من المجاهدين ؟ أم هو جيل من الدعاة الدينيين ؟ , لم يقوموا بتحديد فحوى هذه الرسالية , هى فقط شعارات والسلام .
    وكل توصيات هذا المؤتمر هى عن القرآن والتاصيل والقيم الاسلامية والدين واللغة العربية الخ , وليست هناك تلك العقلانية لتى تدعو لها فى ورقتك .
    الورقة تقوم بتحميل الخراب الحادث فى التعليم , وموضوع التعريب , باعتبار ما صنعه الاستعمار وانه ردة فعل من الانقاذ , ردة فعل عشوائية للغاية وغير متعقلة , اين يقع اللوم هنا ؟ هل نقوم بتحميل المسئولية كلها للاستعمار ؟ أم نحن من نتحمل المسئولية الحقيقية , لاننا لو اردنا الرد على الاستعمار وتحقيره للغة العربية , فاننا لا نرد بالهوس , بل نرد بالعلم .
    القضية هى قضية انتاج معرفة , وليست قضية لغة قادرة او عاجزة , انا لغوى واعرف ان ليست هناك لغة لديها امكانيات اكبر من لغة أخرى , كل اللغات لديها هذه الامكانيات , والفرق هو فى الثقافة وفى انتاج المعارف والعلوم , وبالتالى فان النقاش حول هل هذه اللغة افضل من تلك هو ناقش عبثى وغير علمى , العلمى ان نتناقش هل نحن نقوم بانتاج معرفة بلغتنا أم لا ؟ .
    الالمان يقومون بالتدريس بواسطة اللغة الالمانية والفرنسيين باللغة الفرنسية ومن يتحدثون باللغة العربية يقومون بالتدريس باللغة العربية , هذا امر طبيعى جداً , لكن الفرق انك تريد تعريب كلام الانجليز وتدريسه باللغة العربية , وهى معرفة لم يتم انتاجها هنا بل هى معرفة مستوردة , وعليك الاعتراف بذلك . وبدون انتاج المعرفة فان المسألة ستكون ردود فعل , وهى ردود فعل حمقاء وليست مُتعقلة .
    **********
    IMG_4264.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    أ/ عادل مصطفى
    انا من المعجبين جداً بكتابات عبدالله على ابراهيم , لكن لا اتفق مع اى شيء ذكره فى هذه المحاضرة .
    سوف اتحدث فقط عن التعليم العلمى , واقول ان المادة التى تنتج باللغة الانجليزية ليست هناك نسبة بينها وبين المواد التى تنتج باللغات الأخرى , صحيح ان الالمان يدرسون بالالمانى والفرنسيين بالفرنسى لكن البحث الاساسى لهم يكن باللغة الانجليزية , وانا ششهدت كيف ان السوريين وهم اشد الناس تحمساً للتعريب قد انعزلوا عن العالم العلمى , وليس هناك مؤتمر علمى عالمى محترم به سورى يقدم ورقة او بحث التعريب قد قتلهم , هم يعرفون لغة عربية جيدة لكنهم لا يعرفون اى شيء أخر فهم لا يُنتجون علماً وليس هناك فى العالم العربى من يُنتجه .
    هذا بالاضافة للدروشة التى تجعل الحكومات نفسهاتمنعك من تلقى العلم لان اللغة الانجليزية لغة خطيرة اذا علمتها للاولاد فانك لن تستطيع السيطرة عليهم.
    ايضاً ينبغى ان تكون لدى الحرية فى اختيار التعليم المناسب لابنائى , وان تكون هناك مناهج مختلفة ومدارس مختلفة وانا من يُحدد ان يذهب ابنائى لمنهج سودانى او مصرى او انجليزى , اختيار خاص بى ولن يُحدده لى ابراهيم احمد عمر .
                  

02-26-2012, 08:32 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حول قضايا تعريب التعليم (مُلخص + صور) . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    IMG_4096.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

    IMG_4101.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

    IMG_4117.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  

02-27-2012, 03:05 PM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حول قضايا تعريب التعليم (مُلخص + صور) . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    IMG_4078.JPG Hosting at Sudaneseonline.com


    د. عبدالله على ابراهيم:-
    شاكر لكل المداخلات , وللحماسة فى التعليق على الورقة .
    اتفق ان هناك ارتباك , ومن سهل ان نقوم بتجسيد مشاكل الوطن فى فلان وفلان , النداء كبير ولو اننا اعتقلناه فى عبارة هنا وعبارة هناك , فان هذا ليس استنهاض كافى للمهمة الصعبة , وكاننا نستمتع بشقاء هؤلاء الناس فى ظل النظام .
    هذه المدة طويلة كم وعشرين سنة , وانا لم احضر هنا من اجل استنقاذهم من انفسهم , المدة طالت وليس هناك فى المقابل اى رؤية للتعليم , كل مداخلات هذه الندوة عبارة عن استنكار وغضب وضيق وكلها دون مستوى المهمة التى يستنهضها التعليم , يجب ان تقدم المقرارات والرؤية الخاصة بك وهذا عمل طويل , وكما قال جرامشى فان الثقافة مهمة طويلة , وانا ليس لدى محبة فى الانقاذ , واشكر الروح التى لدى دكتور فاروق محمد ابراهيم بان يحمل الكتب ويذهب لتقديمها للكلية وان يظل متداخل فى ان يقدم , هذه هى الروح المطلوبة حتى وان ارتدت خاسئة وحسيرة فان فاروق فى المحل الصحيح , وهذا باب للفاعلية وللرؤى البديلة .
    فى مؤتمر التعليم الذى ذكرته فى الورقة فان التوصيات فيه قد اقرت اللغة العربية كلغة قومية , وهناك الكثير ممن يعتقد ان اللغة العربية قد انتهت , او ان لن تكون هناك لغة عربية , او ان تكون لغة التدريس لانها لغة مستعمرة ولغة غازية , لو اتفقنا فى توصيات محمد الامين التوم بان اللغة العربية لغة قومية فهذا يعنى اننا قد اتفقنا على أطار , واذا اردنا الخروج عن هذا الإطار فهو امر مسموح به , وعندما تقول ان اللغة ستكون لغة قومية فان السؤال هو , متى ؟ , فمنذ ان اعتمدنا التعريب فى 1956 فهل قمنا برعاية اللغة ؟ أم ستظل هذه المسألة محنة معلقة امامنا وتسويف ؟ .
    التعريب قد حدث ولن نستطيع ان نخرجه من الجامعات هكذا بكل بساطة , ومن حق الشعب علينا ان تكون لدى صفوته المعارضة فلسفة وسياسة وخطط تعليمية .
    الانجليز والفرنسيين وجدوا لغة عربية قوية وقائمة بالامر منذ 1840 وهى فترة محمد على باشا , الانجليز هم من تطفلوا فى المنطقة على التعليم باللغة العربية فى 1882 وهو ما ستجده فى كتاب الامير مصطفى الشهابى وستجد كيف افسد الانجليز خطة تعريب التعليم .
    لا اعتقد ان هناك تعريب سودانى , بل التعريب هو تعريب عربى عنده قاموس ومصطلحات معروفة , وهى تجربة يتم بينها التنسيق فى جانب المصطلحات .



    IMG_4083.JPG Hosting at Sudaneseonline.com
                  

02-27-2012, 03:28 PM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حول قضايا تعريب التعليم (مُلخص + صور) . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    IMG_4113.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

    IMG_4125.JPG Hosting at Sudaneseonline.com
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de