اختار الرؤساء الذين أطاح بهم الربيع العربي في العام الماضي أن يخاطبوا شعوبهم الثائرة عبر التلفزيون، في خطابات يردون فيها على واقع ما يجري، ويحاولون ما أمكنوا امتصاص غضب الجماهير والشباب، أما البشير الذي يقول ان "ربيع السودان" حل قبل أكثر من عشرين سنة، وهو يعلم انها كذبة يحاول ان يسلي بها نفسه، فقد اختار ان يمتص شعبه بلقاء تلفزيوني مرتب له.
إذا بدلا من أن يخرج البشير إلى السودانيين الثائرين "صمتا" وتمردا واعتصاما واحتجاجات متفرقة هنا وهناك، والضائقين في سبيل لقمة العيش والأمان، بخطاب على شاكلة مبارك والقذافي وقبلهما رئيس تونس الهارب، فقد اختار ان يغير الصورة النمطية بأن يرتب لذلك اللقاء المتلفز، لأنه لو خرج على الشعب بخطاب على الشاشة، فسوف يبدأ الناس في العد، وهذا يعني نذير شؤم وأن اللعبة ستقترب من النهاية إن لم تكن قد انتهت.
فلقاء البشير، هو خطاب ضد الثورة والتغيير مستوف الشروط، فلا إجابة وإلا وراءها احتجاج وأزمة ماثلة للجميع، تلك الحالة من الغليان التي تشمل عموم الشعب والمعارضين وحتى النظام نفسه. ولم يقدم البشير حلولا واضحة سواء الوعيد بالحرب لانتزاع النفط من الجنوب أو نسج الأمنيات بأن يكون "القادم أحلى" أو تحذير المعارضين داخل الحزب "الأوسع جماهيرية خمسة ملايين بتقدير البشير"، بأن يعرضون للمحاسبة، أو قطع الطريق أمام المناصير وإغلاق باب التفاوض، و"ليركبوا أعلى ما في خيلهم"، أو الدفاع "الممجوج" عن "الحكومة العريضة" وكونها تضم كفاءات وشباب "عاطلين عن المواهب"، وغيرها من صور لا تعكس سوى استفحال الأوضاع وتمدد الأزمات.
أراد البشير أن يتكلم بأي شكل كان، واستعجل ان يكون هذا اللقاء التلفزيوني ظنا منه انه سوف يقطع الطريق على ما أصبح حديثا داويا، قضايا الفقر والعطالة والفساد والنزاعات داخل حزبه والعجز عن إدارة سديدة مع دولة جارة كانت جزءا من الوطن، لكن طريقة حديثه وتعابير وجهه وإجاباته كشفت عمق التسلط والرغبة في السلطة بأي شكل كان، حيث لا كبير على القانون إلا "البشير نفسه"، الذي اعترف بالحرف الواحد كيف أقصى صديقا، حتى لو انه هذه المرة لاطف "شيخه" بقوله "شيخ حسن". وهي دلالة واضحة على الاستنجاد المغلف ساعة تحتلك الظروف وتصبح النهارات ليال موحشة.
وفي وطن بات اللجوء إليه متكئا أمرا مخجلا ومخيفا في مثل هذه السنوات القاحلة، فإن أجيال من السودانيين يقفون في طريق مسدود، بعد ان انهارت كل مقومات الدولة المدنية كانت أم التقليدية، بحيث أصبحنا في حكم "اللادولة"، فالسودان اليوم وبعد مسار طويل وعريض في ذاكرة القرون يدخل لحظات مقلقة وهو يبدأ مرحلة جديدة مجزأ ومبتورا ومريضا، بدخوله ما يحلو للبشير وجماعته المتشرذمين أن يسموه "الجمهورية الثانية".
وعمق الأزمة لا يتعلق بالنظام في حد ذاته، بل في انهيار منظومة المجتمع وقيمه وكينونته، بحيث بات من الصعب الآن تعريف أي مفهوم محدد داخل سياق ما يعرف بـ "السودان"، وبالتالي فإن التحدي المربك والكبير كيف سيكون ممكنا تجاوز الراهن إلى المستقبل.
سيزول البشير وستمضي كل صور عصابات المال والضمائر التي طحنت هذا الشعب الصابر، عاجلا أم آجلا، لن يطول الوقت، ولكن كيف سيكون مستقبل هذا البلد، هذا هو السؤال الذي على الجميع أن ينشغلوا به منذ اليوم.
كيف سيكون ممكنا بناء دولة مدنية حديثة قائمة على المساواة والعدالة والحريات والقضاء النزيه والاستناد على العقل السوداني الخلاق المضطهد في بلده أو المسكوت عنه في مهاجره.
كيف سيكون ممكنا ترميم جروح السنوات الطويلة من الفقر والألم والحروب والأوجاع، وكيف سيعود ملايين المغتربين والمهجرين إلى بلدهم ليشاركوا في رحلة بناء حقيقية اتجاه الغد المأمول.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عماد البليك
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست