دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
في اربعينيته ....دموع الطيب صالح ودموعي ...د.كمال ابوسن ....يكتب
|
دموع الطيب صالح ..ودموعي..!! د.كمال أبو سن
كان صباحا بهيا في دولة الإمارات وبالتحديد في مدينة دبي، الشتاء له طعما خاص في هذه الدولة،حيث يتقاطر إليها الأوربيون كالطيور المهاجرة إلي واحة الدفء من صقيع ديارهم القارص ،تفتحت عيناي ذلك الصباح علي شمس في غاية الإشراق وهي عملة صعبة طوال سنين مهجري التي تجاوزت العشرون عاما في المملكة المتحدة ،وبالتحديد عاصمة ضبابها الكثيف "لندن"،وفي معظم السنين يمر فصل الشتاء بأكمله ولا تشاهد شمسا بهذا الاشراق . صحوت باكرا لأنني كنت علي موعد مع وكيل وزارة الصحة المساعد الصديق الدكتور أمين الأميري، ومقر وزارته مدينة أبو ظبي الأنيقة، وتطوع أحد فتيان بلادي لقيادة السيارة كعادتهم في المهجر تواقين لرد الجميل...كان السائق مصطفي الدسوقي ادريس من مدينة كرري، تفاكرنا في أسرع وليس أقرب الطرق الي مدينة أبو ظبي، فقد أصابت أمراض الحضارة هذه الدولة العصرية بكل معاني الكلمة. عزيزي القارئ ما أود أن أقوله أنك ستصل أسرع من دبي إلي أبو ظبي كلما كانت المسافة أطول لتجنب ازدحام الطريق وأرتال السيارات رغم اتساع طرق المرور السريع قررنا أن نسلك طريقا يختصر زمن الوصول ساعتين ويزيد مسافة الطريق 72 كلم ،وهذه مفارقة وهي إحدى آفات العصر ،ولكن قطعا أخف وطأة من الباجا وهي مسافة باتساع 13 كلم جنوب مدينة دنقلا باتجاه الخرطوم ،هي نفس المسافة بين منزلي والمستشفي التي أعمل بها في بريطانيا ،أقطعها في 11 دقيقة وكانت اللورى يحتاج الي يوم بحاله لقطع الباجا ،وهي عبارة عن أرض أقرب الى السيولة منها الى الصلابة ومعركة يهابها أمهر السائقين ،وأتي طريق شريان الشمال وغير الحال من حال الي حال . سرحت في الكثبان الرملية اللانهائية بلونها العسجدي علي جانبي الطريق، مررنا علي مضمار سباق الهجن في قلب الصحراء، رأيت أحدث الوسائل للتدريب، تاملت المنازل البدوية البدائية وحولها الأبل وكنت غادرت دبي بكل زخمها الحضاري وعمرانها الفاتن،فقد بدأت دبي حيث أنتهي الغرب في مجال المعمار والتسوق والطيران . منذ بداية الرحلة كنت كلي أذنا صاغية للوحة فنية من مسجل السيارة قصدت إعادتها مرات ومرات وهي رائعة عبد العال السيد وكمال ترباس "إنت العزيز أفرد جناحك وضمني خايفك تفوت والدنيا بيك ما تلمني ..إنت المهم والناس جميع ما تهمني، كلماتها لحن ولحنها كلمات ،وهي نتاج طبيعي لعملاقين أثريا الساحة الفنية ،قطع اندماجي مع الأغنية رنين الهاتف الجوال أو الخلوي كما يحلو لأهل الخليج تسميته ،تطلعت الي شاشة الهاتف كان الاسم "أوبرا عايدة"،هي عايدة عبد الحميد القمش ،لم أعطها فرصة للكلام أمطرتها وابل من عبارات الإطراء والفخر والإعجاب ..عايدة عزيزي القارئ حصلت علي جائزة الأم المثالية العربية 2009 من بين مئات الأمهات في كافة أنحاءالعالم العربي. رد فعل عايدة لم يكن بمقدار حماسي لها ، قاطعتني وقالت يا دكتور :" أنا متأسفة أنقل اليك خبر حزين جدآ ..الأديب الأستاذ الرائع الطيب صالح توفي بلندن، عرفت الخبر من الإنترنت فجرا ". وجمت وصمت ،قلت لها :" مش معقول ..البقاء لله وحده. تبادلت مع عايدة عبارة " له الرحمة وحسن الخاتمة" انتهت المحادثة". أمتلاءت عيناي بالدموع.. .بكيت وانتحبت..لقد كنت في طريقي الي لندن بعد يوم، كان هو علي قائمة أولوياتي بأن أزوره بمستشفي "سانت هلير"st helir) بجنوب لندن،فهو طريح الفراش طيلة الثلاثة أشهر الماضية ، قطع صمتي صوت مسجل السيارة وتلك الاغنية ..انت العزيز افرد جناحك وضمني .خايفك تفوت والدنيا بيك ما تلمني ) تسمرت أذني علي هذا المقطع الأخير تحديدا الذي كان "مرثية" بحالها فقد فات الصديق والأديب وأبن البلد الطيب صالح ولن تلمني به الدنيا مرة أخري. اتصلت علي الفور بصديق الطيب صالح وبصديقي الأخ محمود عثمان صالح، تبادلت عبارات التعازي بأسي، بادرت محمود قائلا:هل سبب الوفاة المباشر "التهاب رئوي"؟..أجاب مؤكدا نعم ..وقاطعني..أنت عندك خبر..!..قلت له:"لا ..ولكن هذا هو السيناريو الأعم في مثل هذه الحالات المرضية،،بادرني معي بشير شقيق الطيب صالح وعمر صديق سفير السودان في لندن ،ونحن بالسفارة لإكمال إجراءات ترحيل الجثمان الي السودان ..تبادلت التعازي معهم ودعوت لهم بالصبر. كان أول ليلة شتاء قارص في مدينة "بورت ماوث" الرابضة علي الساحل الجنوبي لانجلترا قبل أربع سنوات رن جرس الهاتف كان علي الجانب الآخر صوت جهوري إذاعي وقور دافئ ملئ بالعزة والكبرياء المتواضع،قال محدثي :"إزيك يا دكتور ..معاك الطيب صالح من القاهرة..أنا بشكرك علي كل العمل الجميل البتسويهو لي أهلنا في السودان، وعاوز أوصيك علي أخونا وحبيبنا سيد أحمد الحردلو، فهو كما تعلم مصاب بالفشل الكلوي، وأنا علي استعداد لإكمال إجراءات سفره الي الدوحة لإكمال العلاج، وأنت ما مشحوت عليهم ". علمت أن برد الشتاء القارص في لندن كان وراء وجود الطيب صالح في القاهرة ،وهو القائل عن انجلترا" البلد التي تموت من البرد حيتانها )،كانت القاهرة من أحب المحطات الي قلبه مثلها مثل أصيلة وفأس في المغرب ، قلت له يا استاذ الطيب .. دة واجب..وإنا علي اتصال دائم بالأخ سيد أحمد الحردلو وشكر الله سعيكم ،كانت هنالك محبة ومودة خالصة وخاصة بين العملاقين الطيب وسيد أحمد كلاهما من الشمال رضعا من ثدي واحد ،هو النيل الخالد (سليل الفراديس) ، لم يكن حينها الطيب صالح يعلم أن ما أصاب الحردلو بدأ ينهش في كليتيه ببطء وفي صمت ،أنه القاتل الصامت "الفشل الكلوي اللعين"..كان هم الطيب صالح صحة الحردلو وقتها كان مصابا بارتفاع ضغط الدم، ولكن حبه للناس والابداع والترحال أنساه الإلتفات لصحته في بواكير مرضه. كان ولا زال منزل الشيخ الدكتور إبراهيم الطيب الريح، بسويس كوتج (swiss cottage) بوسط لندن عامرا بالموائد التي يتجمع حولها السودانيين في المهجر، وعلي رأسهم الطيب صالح ،أعطاه شيخ أبراهيم في إحدي الأيام مقال نشر لي في جريدة الرأي العام يجسد الصراع ما بين الشر والخير وكانت عن أول سيدة أجريت لها عملية زراعة كلي في مستشفي أحمد قاسم وهي السيدة "مها سرور" ،صارعت المرض بعزيمة واصرار طوال ثمانية سنوات ،أنقطع عنها الحيض بسبب المرض ،وحرمت من الأبناء وهي متزوجة في الثامنة والعشرين من العمر ،احتال احد ضعاف النفوس وأختفي بالفلوس والتي كانت قد جمعت منها 27 الف دولار عند لقائي بها لإجراء عملية الزراعة بالأردن ،ومعها جواز سفرها وجواز والدتها وأخيها ، نجحت عملية زراعة الكلي لمها وهي تجسد بتمسكها بحقها الطبيعي في الحياة،أجهشت بالبكاء عندما رأتني في اليوم الثاني للعملية ،كانت دموع الفرح والشكر . تعافت مها وخرجت من المستشفي، عاد لها دم الحيض ،حملت ووضعت طفلا أقر عينها وكان يوم عرسها الثاني . قرأ الطيب صالح هذه الخواطر، وأتصل بي تلفونيا وقال لي :"يا دكتور بكيتنا وبإنجليزية رصينة كعادته..you are an excellent story teller ،أنت روائي رائع أرجو أن تواصل مشوار الكتابة ،وأرجو أن توثق هذه التجارب الإنسانية في كتاب ،وأنا علي استعداد تام للتقديم له .. كم تمنيت أن يعيش الطيب صالح،ويكون جزءا من هذا الحلم الذي تمناه لي .. كان للطيب صالح معزة خاصة عند الشيخ الدكتور إبراهيم الطيب الريح أساسها الود والاحترام ،وفر لنا شيخ ابراهيم فرصة البقاء سويا أنا والطيب صالح في أسبوع الخرطوم عاصمة الثقافة ضمن وفد ضم قمم ثقافية عربية وأوربية ، وكان علي رأسهم الكاتب الصحافي الأستاذ محمد الحسن أحمد ،فقد غيبه الموت . عاد الطيب صالح الي ارض الوطن وقتها بعد غياب دام 18 عاما،أحتفي به الجميع كل علي طريقته ،كرمته جامعة الأحفاد ، نادي عبد الكريم ميرغني الثقافي ، اتحاد الطلاب السودانيين ،اتحاد المرآة أوأتحاد الصحفيين السودانيين ...و،ووو,. كنت جلوسا في السيارة في طريقنا لأحدي المناسبات، حدثني عن أيامه في وادي سيدنا ،وحصوله علي "قريد ون" في كل المواد ،وخاصة في المواد العلمية ،ودخوله الي كلية العلوم بجامعة الخرطوم ،رغم توجهاته الأدبية ،وتشجيع أحد الأساتذة الإنجليز له بدخول كلية الآداب آثر أن يترك مكانه المرموق في كلية العلوم للالتحاق بسلك التدريس ،وكانت أول محطاته مدينة رفاعة ،كان تضحية من أجل الأهل قدم وقتها الي وظائف في الدراما للالتحاق ب"B B C" في لندن ،سمع عنها بمحض الصدفة في الإذاعة ،أجتاز المعاينة ،شكلت هذه الصدفة غربة الطيب صالح باتجاه الشمال وبدأ موسم الهجرة في شهر فبراير 1952 ،وقال لي سلك طريق البر الي القاهرة ثم البحر الي فرنسا والعبارة لقطع القنال الإنجليزي من مدينة (كاليه) في فرنسا الي مدينة دوفر الجنوب الشرقي لإنجلترا ،وكيف بهره منظر الصخرة البيضاء(the white clifft)،وهي عبارة عن جبل جيري بعلو 120 متر علي حافة القنال ،وبهرته الخضرة اللانهائية ،وهو القادم من صحراء الشمال الجرداء كتب عن منازل الإنجليز ذات الطوب الأحمر القاني المتراصة بتناسق . قال لي:"كرهت ديار الإنجليز، وكدت أن أرجع الي السودان بسبب برد الشتاء، وصقيع شهر فبراير، ولكنني تحاملت علي نفسي. قرأت موسم الهجرة الي الشمال كغيري من الناس أكثر من خمس مرات، كان له طعم خاص بعد اغترابي الي ديار الإنجليز، كنت محظوظا أن أنحدر من نفس الديار التي ترعرع فيها الطيب صالح في شمال السودان علي النيل الخالد. كرمكول،دبة الفقراء ،والدبة ،وأرقي ، عناقيد تزين جيد نهر النيل ،وهو ينحني تأدبا لتلك الديار ، عملت بجزيرة "إيل أوف وايت"(Isle Of White )بانجلترا كانت أحد مسارح الرواية عاشت بها مسسز روبنسون ، داعبت مرة الطيب صالح عندما قلت له ،كان عمري 8 سنوات عندما عدت من الجزيرة الي أرقي بعد أن قابلنا جدي لوالدي القادم من الأراضي المقدسة بعد أداء فريضة الحج ،أهداني ساعة كانت وقتها أكبر من يدي النحيلة ،عبرنا ضفة النهر من مدينة الدبة الي قرية أرقي علي قارب ، كنت أداعب الماء علي حافة المركب بيدي الصغيرة ،انزلقت الساعة واستقرت في قاع النهر ، قلت للطيب صالح :"غرق مصطفي سعيد في نفس الموقع إعجابا بساعتي وأخرجها قبل أن يغرق ، فهل له أن يرد الأمانة لي؟ . كان عزيزا فرد جناحيه..ضم الوطن بحاله..وقبل أن يعيد لي الساعة، قلت له:"خايفك تفوت والدنيا بيك ما تلمني..! أنت المهم والناس جميع ما تهمني..
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: في اربعينيته ....دموع الطيب صالح ودموعي ...د.كمال ابوسن ....يكتب (Re: عبدالله الشقليني)
|
Quote: أمتلاءت عيناي بالدموع.. .بكيت وانتحبت..لقد كنت في طريقي الي لندن بعد يوم، كان هو علي قائمة أولوياتي بأن أزوره بمستشفي "سانت هلير"st helir) بجنوب لندن،فهو طريح الفراش طيلة الثلاثة أشهر الماضية ، قطع صمتي صوت مسجل السيارة وتلك الاغنية ..انت العزيز افرد جناحك وضمني .خايفك تفوت والدنيا بيك ما تلمني ) تسمرت أذني علي هذا المقطع الأخير تحديدا الذي كان "مرثية" بحالها فقد فات الصديق والأديب وأبن البلد الطيب صالح ولن تلمني به الدنيا مرة أخري. |
رحم الله الطيب صالح وابدع دكتور ابوسن في وصف لحظة فوات صديقه عندما فرد الموت جناحيه وأخذ الصالح
شكرا استاذه نعمات على نقل المشاعر الصادقه لاثنين من عظماء سوداننا تجمعهما خصله نادره هي التواضع ومحبة الناس
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في اربعينيته ....دموع الطيب صالح ودموعي ...د.كمال ابوسن ....يكتب (Re: نعمات حمود)
|
صدق شاعرنا الراحل الكبير إدريس جماع عندما تحدث في شعره : ( إن الحياة نغم ونحن لها صدى ) .
إن الراحل الروائي الكبير الطيب ، كان كما الحياة : نغماً يسير في وجدان الكثيرين . أحيى محبة باهرة للموطن الصغير الذي وُلد فيه ، قبض على القلب من جسد التاريخ ، وغطس في تجارب حياته الثرية ، وأخذ من الفابية وكان جليس أهلها . وسكن في بيئة المُستعمِر ، ونهل من هنا ومن هناك وأعمل فكره الوثاب فكان كما رأينا : زمُردة في عقد والعقد يلتف حول جيد والجيد يتأبى إلى أن ينظر العُلا .
تحيات زاكيات لكِ أختي الأستاذة نعمات حمود وأن يجعل المولى لهذا البنان الذي يكتُب شرعته المُبدعة ، وآفاقه النضرة . شكراً لكِ ، فقد قدمتِ المديح على الصفاء ، وليتنا بقدر ما تصفين . لكِ من الشكر أجزله .
عبد الله الشقليني
| |
|
|
|
|
|
|
|