عبد الباري عطوان 19/02/2009 قبل عشر سنوات تقريباً دعيت إلى جامعة أكسفورد البريطانية العريقة للمشاركة في ندوة حول صورة العرب في الغرب، إلى جانب العديد من الأساتذة والمختصين من مختلف الجامعات الأوروبية والبريطانية، علاوة على الأمير الحسن بن طلال الذي كان حينذاك لا يزال ولياً لعهد الأردن. رئيس قسم الدراسات الشرقية في الجامعة واسمه ديرك هوبوود فجر قنبلة من الوزن الثقيل في الندوة، عندما قال ان الطلاب العرب يأتون إلى الجامعات البريطانية ليس من أجل الدراسة والتحصيل العلمي، وانما لمضاجعة الفتيات البريطانيات الشقراوات للانتقام من المستعمر البريطاني الذي احتل بلادهم. البروفسور هــــوبوود عـــزز نظريته هذه بتأليف كتاب تحت عنوان Sexual Encounters in the Middle East، فسر فيه التاريخ الشرق اوسطي من زاوية العلاقات الجنسية للشخصيات السياسية الرئيسية التي لعبت دوراً في أحداث المنطقة على مر العصور. قنبلة البروفسور المذكور، وتفسيره الجنسي للتاريخ أثارا جدلاً ساخناً في تلك الندوة، خاصة من جانب المشاركين العرب الذين فوجئوا بمثل هذا الطرح المهين، وتصدوا بشراسة لصاحبه، ونظرته الدونية، وميوله ذات الشبهة العنصرية الاستفزازية لمشاعرهم. تذكرت الأديب الكبير الطيب صالح آنذاك، وروايته العالمية الشهيرة 'موسم الهجرة إلى الشمال'، التي ترجمت إلى 65 لغة، وبطلها مصطفى سعيد الذي ذهب إلى الجامعات البريطانية لجمع الحسنيين، أي التحصيل العلمي العالي واثبات فحولته الجنسية مع نساء بريطانيا 'البضات' انتقاما لاحتلال بلاده. فالطيب صالح كان، بطريقة أو بأخرى، يكتب سيرة بطل روائي تشبه ربما سيرته، مع بعض البهارات الدرامية والتخييل الذي لا بدّ منه للعمل الروائي، لكنه لم يكن مسكوناً بهاجس الجنس مثل بطل روايته، فقد تزوج من أول سيدة اسكتلندية أحبها، وقد زرته في منزله في ضاحية ويمبلدون جنوب العاصمة أكثر من مرة، بصحبة صديقه الأديب والممثل والكاتب نديم صوالحة. اعترف أنني تأثرت كثيراً بأدب الطيب صالح، فقد كان لدي ميل لكتابة القصة القصيرة بدأ منذ دراستي الآداب قسم الصحافة في جامعة القاهرة، وواصلت كتابتها بعد انتقالي إلى لندن في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وحاولت محاكاة اسلوبه في عدد من القصص المستوحاة من الأجواء اللندنية والعواصم الأوروبية الأخرى بحكم ترحالي كصحافي، ونُشر بعضها في مجلة 'العربي' الكويتية، وبعضها الآخر في الملحق الأدبي لصحيفة 'المدينة' السعودية الذي كان يشرف عليه الأديب السوداني الراحل سباعي عثمان، ولكني توقفت لعدة أسباب أهمها ان الصورة لا يمكن ان تضاهي الأصل أو حتى تقترب منه، ولان الهم السياسي تفوق وانتصر، حتى ان المرحوم سباعي عثمان كتب مقالاً أشار فيه إلى ما وصفها بموهبة أدبية قتلتها السياسة. تعرفت إلى الأديب الكبير للمرة الأولى في مطلع الثمانينات، وعن طريق الصدفة المحضة، فقط كنت أعمل مديراً لتحرير مجلة 'المجلة' في عصرها الذهبي عندما كان يترأس تحريرها الصديق عثمان العمير. الزميل العمير كان في حينها معجباً بالرعيل الأول من المثقفين العرب، وخاصة الراحل أكرم صالح الذي جمعته به صداقة حميمة، فطلب من الأديب الساخر المرحوم أيضاً الزميل عوني بشير ان يسجل معه سلسلة من الحلقات حول ذكرياته، أي ذكريات أكرم صالح. ولكن عوني بشير استنكف ان يقوم بهذه المهمة مع 'معلق رياضي' وقال انه أكبر من ذلك.الزميل العمير طلب مني أن اتولى الأمر، وبالفعل سجلت ما يقرب الأربع ساعات مع أكرم صالح، كانت حافلة بكل ما هو ممتع حول ذكرياته في الجامعة الأمريكية في القاهرة، حيث بدأ دراسته ولم يكملها بسبب حرب 1948، والتحاقه باذاعة الشرق الأدنى البريطانية، ثم اضرابه مع زملائه عن العمل بسبب الغزو البريطاني لقناة السويس. أكرم صالح كان يجسد الارستقراطية الفلسطينية، وعائلته كان يضرب بها المثل في الثراء، فقد كانت تملك معظم جبل الكرمل المطل على مدينة حيفا أجمل مدن البحر المتوسط. أكرم صالح اضطر لقطع جلسات الحوار للعودة إلى الرياض حيث كان يعمل من أجل الاستقالة والعودة إلى لندن، وهو الذي كان يحلم ان يموت ويدفن في أرض عربية، بسبب طبيعة مزاجه الحادة، وبعض المضايقات في العمل، ولكنه لم يعد وباغتته أزمة قلبية حادة أدت إلى وفاته ودفنه في الرياض. اكراماً لأكرم صالح نشرنا الحلقات في مجلة 'المجلة'، وكانت من أجمل ما كتبت في حياتي، لمفارقاتها الغريبة، وفوجئت بالأديب الكبير الطيب صالح يهاتف رئيس التحرير، ويهاتفني من أجل كتابة سلسلة حلقات عن أيامه في لندن في القسم العربي لمحطة اذاعة 'بي بي سي' وصداقته مع أكرم صالح. الحلقات كانت من عيون الأدب، وتعكس خفة دم غير مسبوقة. وما أذكره منها، لحظة وصفه لوفاة أحد زملائه المسلمين وكان من مصر الشقيقة، واصراره في وصيته ان يدفن على الطريقة الاسلامية. المفاجأة ان معظم زملائه لم يكونوا من المتدينين، ولا يعرفون مراسم الدفن وواجبات التغسيل والتكفين والتلاوة المرافقة في الحالين، فعدد المسلمين في لندن (أواخر الخمسينات) كان محدوداً جداً، ولا توجد مساجد، وهؤلاء لا يعرفون أداء الصلوات العادية، ناهيك عن صلاة الميت. وبلغت المفارقة ذروتها عندما ذهبوا إلى المقبرة، وتساؤلهم هل يجوز دفنه مع 'الكفار' الانكليز وكيف؟ والأهم من ذلك أين يوجهون الرأس وكيف يكون الشاهد؟ وتفاصيل كثيرة عن حيرتهم وجهلهم، دوّنها بطريقة رائعة، وبأسلوب أدبي ساحر. اعجابنا بهذه الحلقة على وجه التحديد تبخر عندما اعترضت الرقابة في السعودية على كل هذه التفاصيل، لان المذهب الوهابي لا يقبل بثقافة القبور هذه ويعتبرها بدعة. وأصر الرقيب على حذف كل هذه المقاطع، والا لا حلقة ولا نشر. الطيب صالح من جانبه قال اما ان تنشر كلها دون حذف أو لا تنشر على الاطلاق. رئيس التحرير وقع في حرج كبير، وبعد اتصالات مع علية القوم جرى ايجاد مخرج، وهو ان تفاصيل الحكاية وقعت في لندن في بلاد 'الكفار'، ويبدو ان هذا التفسير 'غير الوهابي' انقذ الحلقة، ورئيس التحرير، وبعدها أصبح الطيب صالح كاتباً منتظماً في المجلة. وللتاريخ فان الرجل لم يطلب مالاً على الاطلاق، سواء مقابل الحلقات المذكورة، او كتابته للصفحة الأخيرة في المجلة بشكل اسبوعي. وعندما جرى تحديد مبلغ المكافأة الشهرية لم يساوم على الاطلاق، ولم يناقش الأمر مثل بعض الكتاب الآخرين. الطيب صالح كان مغرماً بأبي الطيب المتنبي، والقى محاضرة عنه في المركز الثقافي السعودي، بدعوة من الدكتور غازي القصيبي، كانت من أجمل ما سمعت في حياتي، فقد كان خفيف الظل في طرحه، ممتعاً في تحليله لشخصية الشاعر الكبير وظروفه، وكانت حسرته الوحيدة ان ابا الطيب لم يزر السودان، وقال ان عزاءه ان ناقته 'بجّاية' كانت سودانية. وأكد انه، اي المتنبي، لم يكن ينطلق من نزعة عنصرية عندما هاجم كافور الاخشيدي ووصفه بالعبد. وقال من كان سيعرف كافور هذا أساساً او يتذكره لو لم يهجه المتنبي. رحم الله الطيب صالح، الذي كان مثل الغالبية الساحقة من أبناء السودان، قمة في التواضع وهو المبدع الكبير، وعاش حياة بسيطة هادئة، محاطاً بمجموعة صغيرة من الأصدقاء وفي البيت نفسه، وكم كنت أتمنى لو انه حصل على جائزة نوبل في الأدب تكريماً لمسيرته، ولكنه مع ذلك يسجل له انه جدّد دم الرواية العربية وأضاف إليها نكهة لم تكن تعرفها من قبل. لا أعرف أين سيدفن أديبنا الكبير، ولكن ما أعرفه انه أياً كان المكان، فإنه لن يواجه المعضلة التي واجهها زميله وأصدقاؤه في أواخر الخمسينات، حيث سيلقى كل الحفاوة والتكريم، وسيتحول قبره إلى مزار للملايين من عشاق ابداعه.
رحم الله الطيب صالح، الذي كان مثل الغالبية الساحقة من أبناء السودان، قمة في التواضع وهو المبدع الكبير، وعاش حياة بسيطة هادئة، محاطاً بمجموعة صغيرة من الأصدقاء وفي البيت نفسه، وكم كنت أتمنى لو انه حصل على جائزة نوبل في الأدب تكريماً لمسيرته، ولكنه مع ذلك يسجل له انه جدّد دم الرواية العربية وأضاف إليها نكهة لم تكن تعرفها من قبل.
02-19-2009, 00:53 AM
ابوعسل السيد احمد
ابوعسل السيد احمد
تاريخ التسجيل: 12-12-2005
مجموع المشاركات: 3416
شكرا جلبك مقال عطوان هنا.. أستاذ الطيب شكل حضورا راسخا في ساحات الأدب و الأكاديميا بكتاباته و بالذات الروائية منها. منذ فترة كنت أحادث صديقا من الأردن و يشتغل بالتدريس في جامعة هارفارد عن الأدب فذكر لي أن الطيب صالح لو بحثت عنه في مكتبة الأدب العربي لوجدته و لو بحثت عنه في مكتبة الأدب الأفريقي لوجدته و لو بحثت عنه طي مكتبة الـ"post colonialism" لوجدته ايضا. كان صديقي منذ أسابيع قليلة يسعى لإستجلاب الطيب صالح حتى يلقي بعض المحاضرات أمام تلاميذ ذلك الصديق. منه عرفت أن الأديب الكبير ظل "on dialysis" و هو ما لم يكن ليسمح له بالقدوم نواحي بوسطن و كمبردج.. ها هو الموت يغيبه و قد هب أهل الثقافة و الأدب في السودان لترشيحه لنيل جائزة نوبل..
.. عارف أني مدين لك بأكثر من مكالمة.. سأهاتفك قريبا.. إلى ذلك الحين لك العتبى حتى ترضى..
بوعسل أبوعسل
02-19-2009, 01:31 AM
Mohamed Yassin Khalifa
Mohamed Yassin Khalifa
تاريخ التسجيل: 01-14-2008
مجموع المشاركات: 6316
صعقت كما صعق كل من تأدب بفكر وروائع الصالح الطيب حينما أتتنا خبرية وفاته فجر اليوم وكأنما للموت رغبة في حرماننا من كل مبدع في بلادي
الموت حق! وهو حق علينا... نحمد الله عليه وعلى قضائة!
ولكن فراق لمثل الطيب لن تجد أقسى منه فراق. وفراغ تركه صالح لن يملأ... وحزن عليه لن ينقطع
إتصل بي أحد الزملاء في العمل من أصل عربي متسائلا عن خبر وفاة أديبنا الراحل... فقلت له: وهل مثله يموت! فقال لي: نعم... هنيئا له... فمثله لا يموت أبدا
نبكيك أيها الطيب بحرقة... فأننا لفراقك لمحزونون
رحم الله أديبنا بقدر إبداعه الكثير وخالص تعازينا لأسرته وكل محبيه... والحمد لله ______________________________________ لا بأس عليك صديقي من الأتصال... فأنا مقصر معك بدوري
02-19-2009, 09:13 AM
اسعد الريفى
اسعد الريفى
تاريخ التسجيل: 01-21-2007
مجموع المشاركات: 6925
Quote: وللتاريخ فان الرجل لم يطلب مالاً على الاطلاق، سواء مقابل الحلقات المذكورة، او كتابته للصفحة الأخيرة في المجلة بشكل اسبوعي. وعندما جرى تحديد مبلغ المكافأة الشهرية لم يساوم على الاطلاق، ولم يناقش الأمر مثل بعض الكتاب الآخرين.
تذخر المكتبات الأمريكية من الكونغرس إلي نيويورك وبوسطن بكتب الطيب الصالح وبعدة لغات وكانت ومازالت لي أمنية في أن أحصي الترجمات الموجودة في هذة المكتبات لكتب أديبنا الراحل هذا
قالها لي في مالطا أديبنا الراحل الترجمان العبقري أستاذي محجوب كرداوي - رحمه الله قال: من تمعن في أدب الطيب صالح والتراجم المصاحبة أجاد اللغة! قلت له: كيف ذلك قال: إن الكتابة التصويرية الناطقة والتي تميز بها عبقري الأدب العربي الطيب صالح والتي لم يرتقي إلى مثلها سوى الكاتب "سلمان رشدي" لن تجد لها مترجما دونما أقصى براعة لغوية (في لغتين على الأقل) تتماشى مع تفهمه الكامل للنص... ومشاهدته الحسية لمنظر مكتوب... وإستماعه لصوت عميق متناغم مع النص... أو هو صوت الطبيعة الساحرة العالي أو الهامس
تعجبت من كلامه...
وذهبت أنقب في كتابات الطيب صالح وترجماتها عسى أن أرتقي للمستوى الرفيع الذي ذكره لي معلمي
ومازلت أنقب...
نبكي معا... نبكي بحرقة
02-20-2009, 05:46 AM
Mohamed Yassin Khalifa
Mohamed Yassin Khalifa
تاريخ التسجيل: 01-14-2008
مجموع المشاركات: 6316
الطيب صالح في "مركز الحوار العربي": الأمة العربية أمة قفزات.. لا أمة حسابات
Quote: لمناسبة وفاة الروائي السوداني الكبير الطيب صالح، يوم الثلاثاء 17/2/2009، نعيد نشر هذا التقرير الإعلامي عن حديث الطيب صالح في مركز الحوار العربي- يوم 22/10/1995- أي بعد أشهر قليلة على تأسيس المركز في منطقة العاصمة الأميركية واشنطن.
============================================
الطيب صالح في "مركز الحوار العربي":
الأمة العربية أمة قفزات.. لا أمة حسابات!
لبّى الكاتب السوداني المعروف الطيب صالح، دعوة "مركز الحوار العربي" لأمسية حوار مفتوح معه. وقد رحّب ناشر مجلة "الحوار"، صبحي غندور، بالأستاذ الطيب صالح، قائلا: شكراً للأستاذ الطيب صالح على تلبية دعوة "مركز الحوار العربي" لهذه الأمسية الخاصة، التي هي في الحقيقة تكريم لمركز الحوار العربي وللمشتركين فيه وللمترددين عليه. شكراً للأستاذ الطيب على تعديل برنامج سفره، لأنه كان من المقرر أن يغادر اليوم لولاية نيويورك للحديث بإحدى الجامعات، لكنه تجاوب مع الدعوة لهذه الأمسية.. هذه الدعوة التي عمرها أكثر من سنة، أي قبل تأسيس مركز الحوار العربي. ففي زيارته الأخيرة لأميركا منذ أكثر من سنة، حيث ألقى محاضرة في إحدى جامعات بوسطن، زار الطيب صالح واشنطن لأيام قليلة، وقد أخبرته آنذاك عن اللقاءات والحوارات الفكرية التي كانت تدعو لها مجلة "الحوار" شهرياً وعن سعي مجلة الحوار لتأسيس منتدى ثقافي فكري عربي في واشنطن، وعن قناعتي بأهمية وجود منبر حواري عربي يستفيد من ظرفين: ظرف تواجد الكفاءات العربية المتنوعة في واشنطن، وظرف المناخ الحر الذي يسمح بأفكار وآراء عربية حرة تستفيد من بعضها البعض، وتغني بعضها البعض. وتمنيت عليه آنذاك أن يزور واشنطن مرة ثانية وأن يتحدث بهذا المنتدى الفكري الثقافي في حال تأسيسه، فوعد بذلك. وها هو معنا اليوم في مركز الحوار العربي، يحافظ على وعده، ويؤجل سفره، ويعدل برنامج نشاطه في أميركا. فشكراً للأستاذ الطيب صالح، وأهلاً به في مكان لا يبغي إلا تبادل المعرفة بين العرب، وصولا إلى الأفضل من الأفكار والآراء، بفعل أسلوب الحوار الحر والجاد بين أصحابها.
واليوم يتشرف مركز الحوار العربي أن يكون ضيفه هو الأستاذ الطيب صالح، الذي لا يحتاج إلى تعريف أو تقديم، لكني من موقع الاعتزاز بحضوره وبمعرفته، أقول عنه القليل: هو من مواليد السودان، وقد سافر إلى لندن في العام 1952 حيث عمل هناك في هيئة الإذاعة البريطانية في القسم العربي، أي بدأ حياته إعلاميا وهو الآن من أشهر الروائيين العرب فكانت سيرة حياته وتجاربه ومعايشته لتجارب الآخرين، هي مصادر إلهامه الرئيسي في كتابة رواياته. ثم كان تنقله بين عدة مواقع مهنية، مصدرا لاتساع خبرته بواقع العرب وبآلامهم وأمالهم، فهو في تنقل دائم بين المحيط والخليج، بين المشرق والمغرب، بين الشرق والغرب، ولم يجعله كل ذلك الشرق، وكل ذلك الغرب، أن ينسى أنه ابن جنوب الأرض الذي هاجر إلى شمالها بحثا عن الحياة الأفضل، فكان ربما سبب ذلك، شهرة روايته الرائعة “موسم الهجرة إلى الشمال". وقد عمل الأستاذ الطيب صالح مديرا إقليميا في منظمة اليونسكو في باريس، كما عمل أيضا ممثلا لليونسكو لمنطقة الخليج العربي، وأيضا مديرا عاما لوزارة الأعلام والثقافة في دولة قطر، وهو كتب لسنوات الصفحة الأخيرة من مجلة “المجلة" الصادرة في لندن، وإنتاجه الأدبي غزير ومعروف في الوسط العربي عموما إضافة إلى اتساع شهرته في الوسطين الأوروبي والأميركي، وقد ترجمت بعض أعماله إلى اللغة الإنكليزية. ورغم أن معظم رواياته تعالج حالات سودانية وأشخاص سودانيين، فان قراء الطيب صالح هم من المحيط إلى الخليج، وأنا أنظر إلى الطيب صالح كنموذج يجمع في شخصيته بين الوطنية السودانية وبين العروبة الثقافية وبين الإسلام الحضاري وبين عالمية الإنسان الحر، فهو المثقف العربي الذي لم تحجب عنه هموم السودان، هموم أمته العربية التي منها جاءت ثقافته ولغته، ولم يبهره تقدم الشمال الأوروبي فيسنى انه ابن جنوب هذه الأرض، وما في الجنوب من فقر وتخلف وآلام. ولم ير في مجتمع الغرب العصا السحرية لمشاكل العرب، بل ساحة ومنبرا لإبداع الفكر العربي المستنير. انه الطيب صالح الذي يجمع، في شخصيته وكتابته، بين الكلمة الطيبة والعمل الصالح. فأهلا بالأستاذ الطيب في مركز الحوار العربي.
ثم تحدث الطيب صالح، وتحاور معه الحضور لأكثر من أربع ساعات. وفي ما يلي، مقتطفات من الشريط المسجّل للحديث والحوار:
الطيب الصالح:
السلام عليكم ورحمة الله، وأود أن اعتذر أشد الاعتذار على هذا التأخير لأني حبستكم مدة ساعة، ولكني وضعت نفسي في أيدي هؤلاء السودانيين الضائعين فضيعوني (يقصد مازحاً صديقه الفاتح إبراهيم الذي رافقه لندوة المركز). نحن ككل العرب، يكون الهدف قريبا، لكن نتوه عنه ونأخذ الكثير من الوقت لنصل إليه. فانا آسف جدا. كما أشكر الأخ صبحي على كلماته الجميلة ولعل هذا أجمل تقديم حظيت به. طبعاً الجهد الذي يقوم به الأخ صبحي من عدة جهود عربية في بلاد المهجر للم شمل العرب وللتفكير بقضايا الأمة العربية ومحاولة إيجاد مخارج من ما يسمى بالأزمة، ونحن ما في شك نواجه أزمة. وأنا حضرت على مدى هذه الأيام الماضية عدة مناقشات في وجوه كثيرة من قضايا الأمة العربية. أنا صحيح كثير السفر بحكم عملي في منظمة اليونسكو، ولكن الآن رغم تقاعدي من اليونسكو ما زلت أتجول كثيرا في البلاد العربية. وما يدهشني دائما ويحيرني هو كثرة الإمكانات وكثرة المواهب في هذه الأمة. يعنى انتم الآن ممكن تقيموا بلد، أنا متأكد من أن الجمهور المتواجد هنا فيه اختصاصات ومعارف وناس درسوا وفكروا، ومثلكم في كل مكان، في المغرب في تونس في ليبيا في السودان في لبنان في سوريا في مصر في بلاد الخليج في المملكة العربية السعودية، ناس كثيرين عندهم طاقات وعندهم خيال وعندهم رغبة وإحساس بأن هذه الأمة تستحق الوصول إلى شيء أحسن. فلماذا نحن أقل مما نحن مؤهلون له؟
لذلك أي جهد في إقامة حوار وفي طرح القضايا- كالذي يقوم به مركز الحوار العربي هنا- يستحق التأييد ويستحق التشجيع. ويجب أن أعترف أني حقيقة عاشق للأمة العربية، ولعلي لست بدعة، فنحن في السودان "عرب وزيادة"، كما كان يقول أحد شعرائنا الكبار "رحمه الله" صلاح أحمد إبراهيم، يقول "نحن عرب وزيادة، فينا شيء آخر". ولذلك، عندنا هذا الحنين إلى مراكز التأثير العربي، بيروت كانت منطلقا مبكرا بالنسبة لنا، ففي بدايات العهد الإنكليزي كانوا في السودان يرسلون بعثات إلى بيروت، كانوا يستصعبوا الإرسال إلى بريطانيا في تلك الأيام.. بعدين غيروا سياستهم، ولم يرسلوهم إلى مصر، لأنهم لا يريدون منهم أن يتأثروا بأفكار الوحدة مع مصر. فهؤلاء الناس، يعني صادف بأنهم جميعا أصبحوا من كبار رجالات الدولة في السودان، ومنهم المرحوم إسماعيل الأزهري أول رئيس للدولة في السودان، وناس كثيرين من المربيين الفضلاء الذين تعلمنا على أيديهم. ولذلك، نشأ بيننا وبين لبنان على بعد الشقة، نوع من الألفة. ثم أنا شخصيا خلال عملي في هيئة الإذاعة البريطانية كنت أقضي أوقات طويلة في بيروت في مكتب الهيئة في بيروت. وهناك، في أواخر الخمسينات والستينات، تعرفت على المناخ الثقافي في لبنان، وتعرفت على عدد كبير من الشعراء والكتّاب، ليس فقط من اللبنانيين.. بل أيضا من الفلسطينيين والسوريين والعراقيين. فبيروت كانت ملتقى لكل هذه التيارات، وتوجد معنا الآن هنا الأخت ناهدة فضلي الدجاني التي تشرفت بمعرفتها ومعرفة زوجها في تلك الأيام في بيروت. ثم بيروت كانت أول من نشر لي، فأنا أدين بالفضل للبنان، لأني أول ما نشرت، نشرت في لبنان. واللبنانيون عندهم هذه الحفاوة بالثقافة، ومن العجيب أني فهمت القضية الفلسطينية ربما أكثر خلال زياراتي للبنان.
السودان كان دائما سندا للأمة العربية، نحن في شمال السودان، والشمال بمعناه الواسع، بمعناه الشمال والغرب والشرق والوسط، دائما عندنا هذا الإحساس العميق بانتمائنا للأمة العربية دماً وفكراً وديناً، كنا نظن أننا العرب الوحيدين في العالم، لأننا ما شفنا كثيرين، حتى الأربعينات، من إخواننا العرب من الشمال فكان عندنا هذا الإحساس بالعصبية العربية الشديدة، هذه العصبية طبعاً الآن أصبحت عرضة للجدل لأنه إخواننا الجنوبيين، ومعهم الحق، يريدون هوية تشملهم، وهم ليسوا عرباً، لكننا نحن عندنا هذا الإحساس العميق بأننا جزء من هذه الأمة ودائما تظهر عواطفنا، لأن السودانيين لا يعبرون عن عواطفهم باندفاع وسهولة، عندهم شيء من الحياء إذا قورنا بإخواننا المصريين الذين هم أقدر منا على التعبير عن عواطفهم، ولكن في أزمات الأمة العربية، دائما كان السودانيون واضحين في انتمائهم لهذه الأمة، ولست بحاجة أن أذكركم بما حدث عام 1967 اثر الهزيمة المرة التي منيت بها الأمة العربية، حيث كانت الخرطوم هي العاصمة العربية التي احتفت بزعيم الأمة المهزوم (جمال عبد الناصر) كأنه زعيم منتصر إلى درجة أدهش الناس في الغرب، ما هذه الأمة، عندهم في الغرب الزعيم إذا قاد الأمة إلى هزيمة خلاص انتهت القضية، فما هذه الأمة التي تحتفي بزعيم مهزوم كأنه منتصر. ثم دائما قواتنا حاربت في فلسطين في كل الحروب، وحاربنا مع إخواننا المصريين، وقواتنا شاركت في لبنان وفي الكويت. دائما وأبدا كنا سندا للأمة العربية ولا نفعل ذلك منةً ولا مجاملة ولكنه الشيء الذي يجيش في قلوبنا وصدورنا لأننا ننتمي حضاريا وفكريا ووجدانيا لهذه الأمة العربية.
هذه بعض الأسباب التي جعلتني أرحب بدعوة الأخ صبحي، وأحضر هذا اللقاء، وبصراحة أنا جئت وما عندي أي شيء محضّر، واعتمد عليكم بأن تطرحوا الأسئلة وسأحاول أن أجيب عليها ثم تشاركون انتم في الحوار. يعني القضية أني لا أملك أي حكمة انتم لا تملكونها وتريدون أن أعطيكم إياها، ولكن لنتبادل الآراء في أي شيء تحبون طرحه.. والله الموفق.. وشكراً.
وردا على سؤال: كيف يفهم الطيب صالح العلاقة بين الإسلام والعروبة والوطنية والديمقراطية، قال:
هذه قضية طويلة وكبيرة.. هذه عايزة Symposium ، مش لقاء. حقيقة نحن السودانيين بنأخذ الأمور كما هي، يعني إلى حد قريب ما كنا نسأل عن موضوع قضية الهوية.. هذه التي جاءتنا من بلاد الشام، ما كان عندنا أزمة الهوية: من نحن.. وإيه تركيبتا.. إلى أي حد نحن عرب والى أي حد نحن أفارقة، نحن عرب مسلمين هذا هو الذي نفهمه، في السودان. يقال في السودان: دا ولد عرب، والعروبة عندنا قضية مفروغ منها، مفهوم قائم بحد ذاته، لما يقال دا فلان ولد عرب، دي قيمة. بعدين يدخل في نطاق هذه العروبة كل من يتكلم اللغة العربية، عندنا في الشمال قبائل نوبية وهي أعرق قبائل في وادي النيل هؤلاء أمة ورثت الحضارة الفرعونية القديمة، وهم الآن عرب. بعدين نحن مسلمون.. الحقيقة المهمة في السودان، هو أن الإسلام دخله سلماً ولم يدخله حربا، وأنا متأكد أنه العديد منكم يعرف تاريخ السودان، لكن فقط أذكركم أن دخول العرب للسودان بدأ في بداية الفتح العربي لمصر لأن بعدما دخل عمر بن العاص مصر في خلافة سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) دخل جيش عربي بقيادة عبد الله ابن أبي الصرح، ووجد ممالك مسيحية مستقرة ومتطورة ومتحضرة جداً فصالحهم العرب، صالحوهم ولم يحاربوهم، ثم ظلت القبائل العربية تهاجر جنوباً وتدريجيا بدأ التزاوج بين العرب وبين القبائل النوبية إلى أن آل الأمر إلى العرب والى المسلمين وتكونت عندنا دولة عربية إسلامية هي دولة سنّار، وسنّار هذه دولة كثير من المؤرخين اعتبروها تعويضا عن ضياع الأندلس حين قامت في السودان هذه الدولة المسلمة العربية. فنشأ عندنا إسلام يتميز بروح تسامح لا حد لها. ما عندنا أبدا التشنج بأمور العقيدة، وعندنا في أم درمان، التي هي العاصمة الوطنية للسودان، حي كامل يسمونه المسالمة، لأنه لهؤلاء أصول قبطية وبعضهم دخل الإسلام وبعضهم ظل على مسيحيته، ومرات في العائلة الواحدة تجد جزءا مسلما وجزءا نصرانيا، ثم نحن في إسلامنا أخذنا كثير من التراكمات الحضارية الموجودة في وادي النيل، فالإسلام بالنسبة لي هو هذا، ولذلك ما يحدث الآن في السودان، أنا أعتبره ضد طبيعة الأرض وطبيعة الحضارة التي أنشأناها على مدى القرون، هذه الحدة في الفصل بين الأمور، انه هذا مسلم وهذا غير مسلم، وهذا كافر.. لم يكن عندنا هذا الكلام، وأظن أن المنطقة العربية كلها تميزت بهذه السماحة في المعاملة منذ صدر الإسلام، منذ عهد الرسول، وفي التاريخ طبعا تعرفوا بأنه في معركة القادسية حين أصيب المثنى بن حارث الشيباني التفت خلفه فوجد عربيا نصرانيا، فقال له: أنت لست من ملتنا ولكنك أخونا فاحمل الراية. عربي نصراني حمل راية المسلمين في معركة القادسية. هذه القضية مهمة جدا لأنه الآن في الغرب يتهموننا بأننا ناس متزمتين ومتعصبين، بينما حضارتنا كلها قائمة على فكرة التسامح وفكرة خلط الأخذ من كل شيء مفيد وجمعها في سياق واحد. في بلاد الشام فعلوا ذلك، في وادي النيل فعلنا ذلك مع إخواننا المصريين، في بلاد المغرب العربي عملنا ذلك، في أرض الرافدين.. هذا هو تراثنا. وأرجو أن تتغلب روح التسامح في نهاية الأمر على التزمت ومحاولة فرض الأشياء، وأكتفي بهذا الجزء من سؤالك ولنتحاور على شيء آخر.
سؤال: من المعروف أن في تراثنا العربي الإسلامي ظهرت مجموعة من المدارس، وبرزت مدرستان، مدرسة المشرق ومدرسة المغرب. وفي الظروف الحالية الآن، هنالك سعي لإحياء التراث، هل لديك تعقيب على ذلك؟ على مشاكل إحياء التراث.. وماذا نستطيع أن نأخذ من التراث بحيث يتفق مع الظروف في الحاضر، ثم هل التراث شيء محدود يجب أن نأخذه كما هو أم لدينا القدرة على تعديله؟
الطيب صالح: أنا الأسبوع الماضي بالصدفة كنت في مؤتمر في برشلونة، نظمته منظمة اليونسكو للحوار في قضايا جنوب السودان، وفي الكلمة الافتتاحية التي ألقاها مدير عام اليونسكو، وهو أسباني، قال جملة لفتت نظري، يقول: "الماضي هو مثل المرآة الخلفية للسيارة تنظر إليها علشان تتأكد من طريقك إلى الأمام"، التراث هو في واقع الأمر، يعني تصوري له، انه شيء عايش فينا، في ناس بتصوره وكأنه في مخزن ونفتح المخزن ونأخذ منه التراث، نحن نحمل التراث في أنفسنا.. نحن نسير والتراث يسير معنا، طبعا يكون من الجميل لو عرفنا كيف نأخذ من التراث ما نصلح فيه أمرنا في الحاضر. يعني التراث فيه أشياء طبعا لا حاجة لنا بها.. في حروب وخصومات، لكن قمم التراث، القمم المضيئة في التراث العربي الإسلامي ما تزال إلى يومنا هذا تعتبر جديرة، وأنت قلت بين المشرق والمغرب، هو في واقع الأمر ما فيش خلاف حقيقي، يعني حصل بطبيعة الحال بحكم الجغرافيا والمناخ في كل منطقة، الناس يؤكدوا أشياء ويقللوا من أشياء، والغريب أننا في وادي النيل، مصر والسودان، نحن مسلمون سنة في وادي النيل، كلنا، ولكننا في ولائنا لآل البيت، كأننا شيعة، خلطنا بين هذا وذاك، وما حصل عندنا أي تـناقض.. السوداني والمصري في ولائه لآل البيت، كأنه شيعي، ولكنه سني. ونحن في السودان كلنا سنة مالكية، فالتراث يجب أن يستعمل لتأكيد القيم الايجابية في الأمة وليس لتفرقة الأمة. لسوء الحظ هناك بعض الناس، بيستعملوا التراث لتفرقة الناس، أنا عندي محك بسيط جدا: لما اسمع كلام أي زعيم أو قائد، أسأل هل هذا الكلام يفرق الناس أو يجمعهم، إذا كان يفرقهم، فمهما بلغ من الفصاحة والبيان، أنا عندي هذا الكلام لا قيمة له، إذا كان يجمعهم ويؤكد نوازع الخير والايجابية فيهم، فهذا عندي حسن. هذه قضية طويلة طبعا، قضية التراث، لأنه ما أدري من أين عملنا هذا التمييز، الإنكليز مثلا عندهم كلمة لقضية التراث Heritage ما عندهم شيء انه شكسبير مثلا يقول التراث، نحن عندنا بعض الناس يقول لك هذا هو التراث، يا أخي الجاهلية عايشة بيننا اليوم، المتنبي عايش بيننا اليوم، نحن عندنا شعراء في السودان، بوادي السودان كأنهم يعيشون في زمان الجاهلية من ناحية الفصاحة، فهذا الشيء عائش بيننا.. ليس هناك هذا التفريق الذي يقولك الأصالة والمعاصرة، السفور والحجاب، هذه الثنائية في الفكر العربي الحديث لا أدري من أين جاءتنا، وكان واضح جدا في أيام تأجج ماضينا أن المفكر أو العالم يحسن كل شيء.. ابن سينا كان يحسن في الطب والفلسفة والشعر والموسيقى.. وكل شيء، لم يكن عنده هذه التفرقة بين هذا وذاك.
سؤال: أود أن اسأل عن رأيك بالنسبة للسودان وكيفية التعامل مع مشكلة الهوية التي تتحدث عنها.. وكيف يمكنها أن تحتوي الاختلافات القائمة داخل السودان ومع جنوبه؟
الطيب صالح: أنا قلت لك عن بعض الناس الذين يحددوا وجهة نظرهم بالنسبة للمستقبل، ويقولون لك: هذا هو الحل ولا تتناقش معي! أظن أول ثورة عسكرية في العالم العربي كانت انقلاب حسني الزعيم في سوريا.. يجي واحد يقولك خلاص هذا هو الحل. فالقضايا، عشان نصل إلى حلول، يجب أن تطرح بحرية وبدون خوف، فلا بد من الحوار الحر الصريح، وهذا منتدى حوار الذي نحن فيه، إذن لا بد من نظام ديمقراطي. ونحن طبيعتنا في السودان أصلها طبيعة ديمقراطية. لا تصدق الذين يقولون إن الشعب غير مؤهل للديمقراطية.. مافيش شعب عربي.. مافيش شعب إطلاقا، ليس مؤهلا للديمقراطية. يا أخي تجد الرجل الأمي في العالم العربي يقوم بمسؤوليات جسام في تربية أولاده وفي إصلاح حاله واتخاذ قرارات معيشية مهمة جدا، فكيف هذا الإنسان غير قادر أن يقول أن هذا يصلح وهذا لا يصلح كنائب للبرلمان؟.. كلام فارغ.. لأنهم يريدون أن يستأثروا بالسلطة ويوهمون الناس بأحلام لا أساس لها من الواقع، ويحجروا الرأي.. وبعدين لا تصل إلى حل. لو أن الديمقراطية استمرت في السودان بعد الاستقلال إلى يومنا هذا لكنا أولا في تقديري المتواضع عملنا مثل ونموذج في منطقتنا للحكم الديمقراطي.. لأن هذا الشعب عنده استعداد ديمقراطي. ثانيا، كنا حللنا مشكلة الجنوب، كنا حللناها إمّا بوحدة حقيقية أو بفصل الجنوب بالتراضي. لكن في كل مرة كان يجينا عهد حكم عسكري ويقولك نحنا سنحل مشكلة الجنوب ويدخلوا جيش نظامي في غابات وأحراش ويفشلون في كل مرة. وهذا الحكم الآن أيضا فاشل. فلا بد من حرية الفكر ولا بد أن كل إنسان يقول بأمانة كيف يرى الأشياء...عندها نصل إلى حل. وأظن أن الأمة العربية ككل في حالة كهذه يمكن أن تنطلق انطلاقة كبيرة جدا.
ورداَ على تعليق تضمن تشاؤما بشأن مستقبل الأمة العربية، قال الطيب صالح:
فكرة أن الأمة ماتت، أنا أعتقد أن هذا تشاؤم لا مبرر له، ما في أمة تموت، هذه الأمة لو كان لها أن تموت لماتت من زمان لأنها تعرضت إلى بلاوي. هذا الغرب بالمناسبة الواحد حين يقرأ تاريخ أوروبا كل الذي نراه هذا عمره أقل من قرن، كل الذي نراه كما تعلم سيدي بأوروبا عمره أقل من قرن ما في معجزة بالمناسبة نحن مرات لأنه بنشوف هذا الغرب عنده هذا الجبروت الصناعي والحربي والطيارات، بنفتكر أن الإنسان الأوروبي أو الإنسان الأميركي نزل من السماء. هؤلاء ناس ..بشر.. بالمناسبة عاديين زينا، بل لعلنا من ناحية الذكاء الفردي والقدرة على الإبداع أكثر منهم إبداعا، الموضوع كله إننا طبعا تعرضنا إلى تجارب مريرة.. يعني يدوب تنفسنا الصعداء بعد الحكم العثماني.. جاءنا الاستعمار الغربي .. يا دوب تحررنا من الاستعمار الغربي وما عرفنا نلقط نفسنا.. جابوا لنا إسرائيل. فنحن ووجهنا بقضايا ضخمة كونية، وما كنا مستعدين لها.. والأمة في حالة من البلبلة، لكن هذا لا يعني بأنها أمة ميتة إطلاقا، هذه أمة حيّة. أنا أظن- وهذا إحساسي من مشاهداتي- حين تجد المفتاح، ممكن يحصل انطلاقة وقفزة كبيرة جدا. هذه أمة قفزات.. لأن عندك مثلا الإنكليز أو الفرنساويين بيمشوا واحد اثنين ثلاثة أربعة حتى يصلوا للنتيجة، وكل واحد في مصنع بيعطوه ال Manual وماشي عليه.. نحن مش ناس بتاع Manual.. جايز نوصل للنتيجة. كنا فعلا في المدارس، ودرّسونا إنكليز عن مشاكل حسابية، وكنا نوصل للحل ونكتب الحل، هو يقول لك لا، إيه الخطوات التي وصلتك إلى هذا الحل. فهذه الأمة ليست أمة خطوات، هذه أمة قفزات. ويا سيدي أنت تشاؤمك في غير مكانه، وأظن تشاؤمك مصدره الإفراط في الحب للأمة.. مرات المحب يصدم.
Quote: الطيب صالح روائي العودة إلى الجذور غاب عن 80 عاماً في لندن عاصمة منفاه
كتب عبده وازن الحياة - 19/02/09// هل يمكن أن تصنع رواية واحدة من صاحبها «أسطورة» مثلما فعلت «موسم الهجرة الى الشمال» من الطيب صالح «أسطورة» الأدب العربي الحديث؟ هذا الروائي السوداني الذي رحل فجر الثلثاء الماضي في لندن عن ثمانين عاماً، لم يستطع طوال حياته أن يتخلّص من سطوة هذه الرواية التي جلبت له من الشهرة ما جلبت من المتاعب، كما عبّر مرّة. ظل الطيب صالح أسير «موسم الهجرة الى الشمال»، فوسمت به مثلما وسم بها، مع أنه كتب روايات أخرى لا تقل فرادة عنها، ومنها مثلاً «عرس الزين» و «بندرشاه» وسواهما.
وعندما اصدر صالح هذه الرواية العام 1966 في بيروت لم يكن يتراءى له أنه سيسبق المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون في نظرية «صدام الحضارات»، فالرواية كانت سبّاقة فعلاً الى رسم حال هذا الصراع عبر بطلها «مصطفى سعيد» وموقفه، هو ابن العالم الثالث، من الغرب المتقدّم. وكان صالح أشدّ جرأة من الروائيين العرب الذين كتبوا في هذا الحقل قبله ومنهم توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» وسهيل إدريس في «الحيّ اللاتيني». فالبطل السوداني كان يدرك في الرواية أن الغرب لم يحمل الى الشرق حضارته فقط بل الاستعمار أيضاً. أما حنينه الى الشمال فبدا فيه من الحقد والضغينة مقدار ما فيه من الحبّ والتسامح.
عاش الطيب صالح حياة صاخبة، روائياً وسياسياً، في السودان وبعض الدول العربية كما في أوروبا ولا سيما في بريطانيا. ومكث طوال هذا العمر المديد مشدوداً الى السودان الذي لم يفارق مخيلته ولا وجدانه على رغم ترحاله و «منفاه» الطويل الاختياري. وظل على علاقة وطيدة، وبما طرأ عليه من تحوّلات، في السياسة والاجتماع. ومعروف عنه موقفه السلبي من نظام «الانقاذ» الذي تبوّأ السلطة عبر انقلاب حزيران (يونيو) 1989، وراجت عنه مقولته الشهيرة «من أين جاء هؤلاء؟» التي تبنّاها حينذاك مثقفون سودانيون كثر. وعمدت السلطة السودانية الى منع أعماله من التدريس في جامعة الخرطوم. لكنّ الكاتب المعارض ما لبث أن لبى دعوة النظام للعودة العام 2005 فعاد ليشارك في مهرجان «الخرطوم عاصمة للثقافة العربية» وليكون «نجم» هذا المهرجان. ولكنْ سرعان ما ارتفعت أصوات تعارض زيارته وتنتقد مواقفه من قضية دارفور والحركات المسلحة وسواهما. وقد حلا للبعض ان يقارن بينه وبين المتنبي، شاعره الأثير، في علاقته بالسلطة. وهو كان فعلاً من عشاق المتنبي، يحفظ شعره غيباً ويردده في المجالس، ووضع عنه كتاباً سمّاه «في صحبة المتنبي».
كان الطيب صالح هو الابرز والأشهر عربياً بين أدباء السودان، وان كان أدبه الروائي والقصصي بمثابة الجسر بين الداخل السوداني والخارج العربي والعالمي، فهو لم يدَّع يوماً انفصاله عن الأدب السوداني، ولا انقطاعه عن الهموم السودانية على اختلافها. وقد كتب «موسم الهجرة الى الشمال» في لندن حيث كان يقيم بدءاً من العام 1953. وعندما نشرت هذه الرواية في بيروت العام 1966 كانت بمثابة الحدث الروائي الذي كان منتظراً، لكنه عوض أن يأتي من القاهرة أو بغداد أو بيروت جاء من السودان. استطاع الطيب صالح في هذه الرواية الفريدة أن يقدم مشروعاً روائياً جديداً يحمل الكثير من علامات التحديث، شكلاً وتقنية وأحداثاً وشخصيات، علاوة على القضية الإشكالية التي حملتها الرواية وهي الصراع بين الشرق والغرب أو بين الجنوب والشمال من خلال علاقة مأسوية بين مصطفى سعيد و «زوجته» البريطانية. ومنذ أن صدرت الرواية أصبح اسم هذا البطل (مصطفى سعيد) في شهرة بعض أبطال نجيب محفوظ لا سيما أحمد عبد الجواد في «الثلاثية».
وإن بدت «موسم الهجرة الى الشمال» ذروة أعمال الطيب صالح، وأكثرها شهرة ورواجاً، فإن أعماله الأخرى، الروائية والقصصية لا تخلو من الخصوصية، سواء في لغتها السردية أم في تقنياتها وأشكالها. ومن تلك الأعمال رواية «عرس الزين» التي ترصد أسطورة الشخص القروي الغريب الأطوار الذي يدعى «الزين» في علاقته بالفتاة «نعمة»، وكذلك رواية «بندر شاه» في جزئيها: «ضو البيت» و «مريود». وتمثل هذه الرواية الصدام البيئي والحضاري بين القديم والحديث. ومن أعماله القصصية البديعة «دومة ود حامد» وهي تدور حول الصراع بين الحكومة وأهل قرية «ود حامد» التي تقع على الضفة الشرقية من النيل، فالحكومة تريد تحديث القرية واقتلاع شجرة الدوم التي هي رمز القرية والأهل يصرون على تقاليدهم المتوارثة. وهذه القرية السودانية «ود حامد» تحضر كثيراً في نصوص الطيب صالح رمزاً لعالم الطفولة والبراءة المتجذر في شمال السودان.
رحل الطيب صالح وكان في نيته أن يكتب سيرته، لكن ظروفه لم تساعده فاكتفى بنشر كتاب عنوانه «منسي: إنسان نادر على طريقته»، ومن خلاله تتبدّى بعض معالم تلك السيرة الحافلة بالأحداث والوقائع الطريفة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة