مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 06:34 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-02-2006, 03:23 AM

محمود الزين- كَوستاريكا


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة

    محمود الزين
    هل تَحَقّق "السودان الجديد" ديموقرافيّاً ؟
    محاولة لقراءة مدلولات الخارطة السكانية الراهنة
    مقدمة:
    لقد حدثت تحوُّلات عميقة فى الخارطة السكانية خلال العقود الثلاث الأخيرة تجعلنا نتساءل حول مدلولاتها السياسية والثقافية وما إذا كانت تُعطى معنى جديداً لطبيعة الخطابات الراهنة وعلى وجه التحديد فكرة "السودان الجديد". هذه التحوُّلات فى حدّ ذاتها هى نتاج طبيعى لتحوُّلات تاريخية أكثر عمقاً وَسَمَت الفترة من 1820 (وهى السنة التى بدأ يتخلّق فيها ما يعرف الآن بجمهورية السودان) وحتى يومنا هذا. سوف نركِّز فى هذه الورقة على بعض الشروط الجديدة التى ارتبطت بهذه الفترة (تحديداً شرطى المركزية السياسية/الإدارية والندرة فى الموارد الطبيعية) وأثرها على تشكُّل الخارطة السكَّانية وما صحبه، من وجهة نظرنا، من تغيُّر فى موازين القوى السياسية والعسكرية للمجموعات السكانية السودانية وأثره على علاقات التداخل والتثاقف والتعايش السلمى بين هذه المجموعات. سوف نتساءل ونناقش بتفاصيل وافية ما إذا كانت الخارطة السكانية الراهنة تمثِّل تحوُّلاً جوهرياً فى علاقات السلطة يجعلنا نأخذ فكرة "السودان الجديد" على محمل الجد. أننا نُعْنَى فى هذا السياق تحديدا بمسألة جِدّة " السودان الجديد" من عدمها، وبالتالى الحاجة الى تغيير حقيقى يواكب هذه الجِدّة او بالمقابل يكرِّس للإستمرار فى إجترار نفس الآفكار القديمة التى وَسَمَت "السودان القديم". السؤال المحورى الذى نحاول الإجابة عليه فى هذا الصدد هو "هل تحقق السودان الجديد ديموقرافياً"؟ أو بمعنى آخر هل تمثِّل الخارطة السكانية الراهنة شرطاً داعماً لفكرة "السودان الجديد"؟ هنالك أسئلة اخرى مهمة يجب إثارتها وهى تدور حول طبيعة تشكُّل الخارطة السكانية تاريخياً وما هى الأسس التى ضمنت (أو بالمقابل هددت) التعايش بين المجموعات السكانية المختلفة التى كونت هذه الخارطة؛ تحديداً ما هو دور مؤسسات المجتمع الأهلى (نذكر منها هنا الطرق الصوفية والقبائل) فى تحقيق التعايش السلمى والتلاقح الثقافى؟ ما هى السمات التى تميِّز "السودان الجديد" سكانياً؟ وهل نشهد فى قمة أزمة نظامنا السياسى والإجتماعى والأخلاقى الحالى ميلاد أخلاق وضمير سودانى جديد؟
    في مثل تناولنا هذا للتاريخ الحديث للسودان يجدر بنا في البدء الإشارة إلى أن التاريخ المكتوب عن هذه الفترة ينطوي علي كثير من الغموض والثغرات والتجنِّى والتي هي في الواقع نتاج لتدخل السياسة الواعي في كتابة التاريخ من جهة والقصور المنهجي من جهة أخري. فتدخلات السلطة في كتابة التاريخ وإعادة كتابته جعله مشحون باللاتاريخية واصبح واحداً من الخطابات التي تؤسس لعلاقات الهيمنة/القمع؛ بل أكثرها خطورة لما يسببه من وهن فى النظام السياسى والإقتصادى فى السودان ناجم أصلاً عن الفشل فى الإستفادة من "الموارد الثقافية" والطبيعية السودانية وتوظيفها لمصلحة بناء الدولة الوطنية وترسيخ قيم العدل والديمقراطية. ولهذا فان النظر إلي هذا التاريخ بعين الحذر والتفحص أمر لابد منه، وبنفس القدر هذا ينطبق علي الدعوة إلى نبشه وإعادة كتابته.
    الفكرة الأساسية التي تستند إليها هذه الورقة هي دور الهجرات السكانية فى تشكيل الكيان السوداني ثقافياً وسياسياً وبالتالى وجود هذا الكيان أوعدمه (جدل الوحدة-التقسيم) في التاريخ الحديث وإلي أي حد أدى تمدد سلطة الدولة الحديثة بدءاً بمجئ الاستعمار التركى إلى الإخلال بالتوازن السكانى وبالتالى كبح التطور الطبيعي لهذا الكيان وتأسيس وخلق علاقات هيمنة/ قمع جديدة تتكاثف في الفترة الاستعمارية الثانية (الحكم الإنقليزي) لتصبح علاقات مركز/هامش تلعب فيها العوامل السياسية والاقتصادية الدورالأهم. فالتاريخ الحديث للسودان هو في الواقع تاريخ التثاقف الذى تؤسس له وتوجهه مؤسسات المجتمع الأهلى فى جدله مع استراتيجيات التسلط المرتبطة ببِنَى استعمارية ووطنية نخبوية، أو هو، فى مستو ما، تاريخ مقاومة السودانيين المستمرة لأشكال التسلط الجديدة التى لا تتواءم مع نظمهم السياسية ومؤسساتهم الأهلية التاريخية أو رؤيتهم للكون المتسامحة إجمالاً؛ ومقاومتهم لواقع الندرة الذى نجم عن هذا التسلط. وهكذا فإن هذا التاريخ فى مراحله الاولى، كما سوف نبيِّن، هو تاريخ تثاقف وتلاقح إجتماعى بين وحدات إجتماعية وثقافية وسياسية متنوعة وفى مراحله الاخيرة هو تاريخ إستقطاب حاد يتبدى مشحون "بالسياسي" المكرِّس بالضرورة للمركزية والذى صارت كل الانشطة الاجتماعية تكتسب معانيها وتستعير مفرداتها منه كمرجعية تحددها أجهزة الدولة القمعية. طابع التثاقف والتلاقح (أو الإتجاه نحو الإندماج بين الكيانات السودانية) فرضته شروط داخلية تاريخية وجغرافية ودينية. أما الاستقطاب والإفراط في "السياسي" والعنف المرتبط به (وهو ما أسس ويؤسس للإنقسام) فقد أسهمت فى خلقه بشكل مباشر شروط خارجية مكتسبة من الفعل العسكري الذي تمثَّل فى لحظة الغزو (التركى والإنقليزى) ثم قام ( بتأديب) المقاومة وأورث فيما بعد جهاز دولة تسلطى للحكومات الوطنية.
    قصْدنا من هذه الورقة هو الإسهام فى إثارة بعض الأسئلة والإسهام فى إدارة حوار عقلانى نخرج به من دائرة الخوف المسيطر والهرج السياسى الذى يعمى الأبصار إلى بر التفكير الهادئ الهادى الذى لن تتحقق وحدة البلاد وأمنها وسلامتها إلا بإعماله. وهذا التفكير يتطلَّب مواجهة الأسئلة الصعبة بدلاً من دفن الرؤوس فى الرمال والإرتكان للإجابات السطحية أو إنكار الحقائق القائمة التى تثيرها تلك الأسئلة الصعبة. ومن بين الأسئلة المهمة فى هذا السياق سؤال يرتبط بتحقيق الدولة المدنية الديموقراطية وهو ما إذا كانت النخبة العروبية الإسلاموية المهيمنة على جهاز الدولة مستعدة للتعاطى مع واقع ثقافى جديد يتجذَّر الآن داخل قلعتها التاريخية (الخرطوم)؛ أي إستعدادها للتخلِّى عن إستعلائها الثقافى التاريخى. مثل هذه الأسئلة يجب أن تواجهها القيادة السياسية ليس على صعيد الحلول اليومية—مستوى إدارة الأزمة—و إنما ضمن نظرة إستراتيجية تهدف قبل كل شئ للحفاظ على وحدة السودان وكرامة شعوبه.
    لقد تصاعدت فى الآونة الاخيرة أصوات عديدة لا لكى تبرهن على وجود إستعلاء ثقافى وعرقى بالسودان فحسب بل ولترفضه وتنادى بإنهائه إذا اراد السودانيون البقاء معاً فى دولة موحدة. نحن نعتقد أن هذا الاستعلاء موجود ومتجذِّر وأن محاولة إنكاره غير مفيدة. فهو كثقافة موجود على كل الصُعُد، دينية ولغوية وعرقية ومهنية ونوعية (gender)، بين الشمال والجنوب، بين الغرب والوسط‘ بين قبائل تنتمى للعرق الواحد، بين أفخاذ القبيلة الواحدة بل وأحياناً بين أفراد الاسرة الواحدة. ولكننا نعتقد أنه ليس أصلاً راسخاً فى "الثقافة السودانية". إذ أن هنالك أسباب تاريخية وجيوسياسية وثقافية شكلتها التدخلات الخارجية وكرَّستها النخب السياسية هى التى قادت لما يمكن أن يطلق عليه إستعلاء ثقافى وعرقى وأسست لما يمكن أن نطلق عليه "السودان القديم" وهو سودان إستند إلى حدٍ كبيرٍ على إلغاء "الإختلاف". إلا أن نفس هذه الاسباب تتبدل الآن تبدلاً كبيراً مما يدفعنا إلى القول أن ضمانات بقاء ذلك الاستعلاء الثقافى والعرقى قد بدأت تهتز وأن فرص بناء "السودان الجديد" القائمة على الإعتراف بالآخر صارت كبيرة بسبب التعبئة المتزايدة فى صفوف المهمشين الداعين للديموقراطية والعدالة الإجتماعية من جهة وبسبب تراجع أو هزيمة الإستعلائيين من جهة أخرى. لكن ما نركز عليه هنا كسبب يجعل فرص بناء "السودان الجديد" كبيرة هو التغيُّر، أو بالأحرى الاتجاه نحو (التوازن) فى "ميزان القوى السكانى/الإثنى"‘ إذا صحَّ التعبير‘ الذى ظل مختلاً لما يزيد عن قرنٍ ونصف من عمر السودان الحديث.
    ننطلق من فرضية أساسية وهى أن المجتمع السودانى أو المجموعات ذات السمات المشتركة المكونة له هو إلى حد كبير ظاهرة سابقة على الدولة السودانية بشكلها المركزى الحالى وأن السودانيين كانوا يألفون بعضهم البعض قبل قيام هذه الدولة. فإذا أخذنا كتاب الطبقات، مثلاً، كسِفْر عبَّر عن "حدود" المجتمع فى تلك المرحلة نجد أنه حشد بين دفتيه "سودانيين" كُثُر أولياء وشعراء وصالحين هم فى الواقع ينتمون حينها إلى كيانات سياسية شملت كل ممالك شمال السودان الحالى وضمت شعوبا سودانية اكبر من أى رقعة جغرافية لأي من الممالك القائمة حينها. نضيف إلى ذلك ان هذا المجتمع السودانى كان آخذاً فى التشكَُل وأنه كان ربما سوف يحقق وحدته السياسية المغايرة لما هو عليه الان لولا أن قطع طريق تطوره التدخل الإستعمارى. والآخير هذا، أى التدخل الإستعمارى، لم يشوِّه سيرورة التاريخ هذا فحسب بل وَسَمَه بطابع التناحر والشقاق والاستقطاب الذى كبح انطلاقة السودان بالرغم من توافر كافة الموارد الداعمة لهذا الإنطلاق. نزعم أن تشكُّل الخارطة السكانية، أو بالأحرى التدخل السافر فى تشكيلها كمثل أن يجبر الغزاة الأتراك سكان أقاليم كاملة على النزوح إلى أقاليم اخرى (وهو ما سنفصِّله فى هذه الورقة) قد خلق شرطاً نادراً لتحقق تلك السيرورة الشائهة وأضفى نوعاً من "المشروعية" على الخطابات الإستعلائية التى تسببت فيما بعد فى كل الحروب واشكال الغبن المختلفة التى عانى منها غالبية السودانيين. فالتوازنات السكانية/الإثنيَّة المختلفة فى حراكها التاريخى الطبيعى أسست للسلام فى السودان لفترات طويلة وسادت الحروب حين اختلت هذه التوازنات.
    لقد ظلت المساحة التى نطلق عليها السودان حاليا منذ القدم مجالا ً للتداخل السكانى والتلاقح الثقافى شمل ذلك هجرات المجموعات السكانية والثقافية من اقاليم الجوارالإفريقى مثلما شمل هجرات مجموعات من آسيا وأوربا، حيث استقر بعضها بينما واصل البعض الآخر المسير. فالسودان من هذا المنطلق إما كان معبَراً أو وطناً لمهاجرين وجدوا فيه فى أغلب الأحيان الوفرة ونعمة الأمان بجانب سكانه الاصليين. وهكذا كان جاذباً اكثر منه طارداً. لكن هذه السِّمة ايضا تتفاوت فيها اقاليم السودان المختلفة بسبب من تفاوت وفرة مواردها وتغيُّر بيئاتها وطبيعة نظمها السياسية واستعداد قاطنيها لإستقبال الوافدين. سوف نعتمد فى هذه الورقة تقسيماً جغرافياً يستند ألى فضاءين تميِّزهما وفرة/ندرة مواردهما الطبيعية وطبيعة نظمهما السياسية. ففى الجانب الأول من هذا التقسيم نجد سودان وادى النيل وقد اتسم بمحدودية الموارد وصرامة الأنظمة السياسية فى ادارة هذه الموارد، وفى الجانب الأخر منه نجد السهول والهضاب الممتدة غربا وشرقا وقد اتسمت بوفرة الموارد وفى الغالب الأعم بأنظمة سياسية اقل صرامة فى ادارتها لهذه الموارد.
    العلاقة بين سودان وادى النيل من جهة والممالك التى حكمت الى الشرق والغرب منه من جهةٍ اخرى كانت علاقة تكاملية وَسَمَها التأثير المتبادل المتكافئ على مر الحقب التاريخية رغم الاختلاف المتمثل فى الانظمة السياسية واستمرت هذه العلاقة هكذا حتى مجئ الإستعمار التركى (1820-1885). هذا الإستعمارأحدث انقلاباً هائلاً ربما لا مثيل له فى تاريخ السودان الحديث على الإطلاق نتج عنه، من وجهة نظرنا، قيام "السودان القديم". فى مقاربتنا هذى ولكى نفهم أثر الإستعمار التركى والوجود الاجتماعى السابق عليه سنعرض لثلاث تحولات تاريخية عميقة أثرت تأثيراً كبيراً على صياغة السودان الحالى وكانت طبيعة الخارطة السكانية فيها مُعَرِّفاً أساسياً للحراك الإجتماعى.التحول الاول وهوالأطول زماناً ويبدأ بدخول الجَمَل إلى السودان، ونرى أن الفترة التى أعقبت دخول هذا الحيوان واستمرت حتى مجئ الغزو التركى تمثل تاريخ التلاقح والتثاقف بين المجموعات السودانية الذى أفضى إلى خلق هجينٍ ثقافى واجتماعى متسامح، أو أنه على أقل تقدير تاريخ محتفاً به ومثَّلت استعادته للنخبة السودانية الحديثة سبباً فى إدعاء صفة التسامح عند السودانيين عموماً، أى زعمهم أن السودانيين قوم (أقوام) متسامحون. سوف نسمى سودان هذه الفترة "بالسودان الرومانسى"، تجاوزاً، ونعنى به السودان المُتًََََََصَوَّر لدى النخبة، "سودان التنوُّع الثقافى" والوفرة فى الموارد الطبيعية. والتحول الثانى هو الذى بدأ بمجئ الإستعمار التركى وهى الفترة التى اختلّت فيها موازين القوى الديموقرافية والعسكرية بين المجموعات السودانية وبدأ يسود الغبن الاجتماعى وتتصاعد وتائر العنصرية وشروط العجز التاريخى عن بناء دولة الوحدة وإكمال مهام التحرر الوطنى أو بإختصار ما نطلق عليه "السودان القديم"، "سودان الإستقطاب" والإستعلاء العرقى وتخريب مؤسسات المجتمع الأهلى وخلْق وتكريس الندرة. أما التحول الثالث فهو الشرط السياسى والإقتصادى والاجتماعى والثقافى والنفسى الذى نستشرفه الآن والذى بدأ بأتفاقية السلام الشامل بنيفاشا والذى ربما يحقق "السودان الجديد" والذى نتوسم فيه أن يكون، بالدرجة الاولى، "سودان إحترام الإختلاف" وحشد المقدرات للتغلب على شروط الندرة. من وجهة نظرنا أن "إحترام الإختلاف" و"التغلب على الندرة" (أو خلق شروط الوفرة) هما شرطان ضروريان لقيام وتشكُّل "السودان الجديد". سوف ننظر لهذه التحولات الثلاث بإعتبارها تمثل جدلية البنية التاريخية للسودان؛ إذ بينما مثل التحول الثانى قطيعة سياسية مع الأول نزعم أن بذرة الثالث تخلَّقت فى الاول وأن شرط نموها يكمن فى تحقيق قطيعة سياسية مع الثانى وقطيعة معرفية مع كليهما.
    السودان الرومانسى:
    الفترة التى شهدت دخول الجَمَل إلى شمال السودان وذلك فى العهد الرومانى فى القرن الثالث الميلادى كانت البداية لتحولات عميقة ولإختلال التوازن بين الفضاءين الذين حددنا، أى فضاء سودان وادى النيل من جهة وفضاء السهول الغربية والشرقية من جهة اخرى. أحدث دخول الجمل فى هذا الاقليم أختلالاً فى موازين القوي بينها وأسهم فى تمكين مجموعات البجا فى السهول والهضاب الشرقية من جهة من الإستيلاء على جزء من وادى النيل فى النوبة السفلى ربما لقرن ونصف من الزمان ومن جهة اخرى مكَّن المجموعات الناطقة بالنوبية فى شمال كردفان من إنتزاع الحكم من ملوك مروى القدامى وتأسيس حكمهم الوراثى الخاص بهم .
    نزعم هنا ان استيلاء المجموعتين اعلاه على سودان وادى النيل كان قد تم بسند ديموقرافى ساعد فى توطيد نظام حكم هاتين المجموعتين مما يعنى ان اعدادا مقدرة من سكان السهول الغربية والشرقية كانت قد هاجرت واستقرت على طول الشريط النيلى وربما تسببت تلك الهجرات فى تغيير الثقافة السياسية السائدة. أى أنه، إفتراضاً، قد حدث تغيُّر فى الخارطة السكانية سمح لمجموعات السهول الشرقية والغربية بتحقيق الغلبة على وادى النيل لبعض الوقت. نستطيع القول ان تلك الهجرة السكانية من السهول إلى سودان وادى النيل كانت هى اخر ما نعرفه أو ما نزعم أنه حدثَ كهجرة شملت مجموعات سكانية استقرت باعداد كبيرة هناك وأحدثت أثراً سياسياً ملموساً؛ إذا اننا لا نجد دليلا تاريخيا على ان مثل تلك الهجرة قد تكررت فى كل الفترة منذ حدوثها وحتى بداية القرن العشرين باستثناء حدَثَين يبدوان عارضين فى حساب الحقب التاريخية الطويلة وهما حملة السلطان تيراب سلطان دارفور فى نهاية القرن الثامن عشر وموجات الهجرة الانصارية الى ام درمان فى ثمانينات القرن التاسع عشر يضاف إلى ذلك هجرات الأُسر والأفراد المتمثلة فى الحجيج القادم من غرب إفريقيا والتى استمرت منذ القرن الحادى عشر باعداد قليلة استقر بعضها فى السودان وعبر البعض إلى منتهاه فى الحجاز وأماكن اخرى أو تنتهى بالعودة إلى الوطن الأصل. أى أننا لا نجد فى كل هذه الفترة الممتدة حتى بداية القرن العشرين أى دليل على أن هنالك هجرات سكانية إلى وادى النيل من السهول الغربية أوالشرقية ذات تأثير سياسى كبير قد حدثت. فقط مع بداية القرن العشرين بدأ سودان وادى النيل يستقبل موجات هجرة كبيرة ومستمرة من تلك السهول محدثةً إنقلابا هائلا فى نمط التحركات السكانية والتى سوف نتعرَّض لها بالتفصيل لاحقاً.
    يجب ان نشير هنا بإقتضاب إلى ان دخول الجمل لم يصادم هذين الفضاءين(السودان النيلى من جهة والسهول من جهة اخرى) فحسب، بل أنه قد ادخلهما معاً فى علاقة تجارية أوسع مع سواحل البحرالأبيض المتوسط شمالاً استمرت عبر العصور وأدت إلى تأثيرات وتحولات عميقة فى القرون اللاحقة أسهمت فى تشكيل السودان سياسياً واقتصادياً وثقافياً. إلا أن ما يهمنا التفصيل فيه هنا هو أسهام الجمل فى فترة تاريخية لاحقة فى تسهيل حركة المجموعات السكانية وربط وادى النيل بكل الشريط المتمثل فى التخوم الجنوبية للصحراء الكبرى -- الحزام المتد من السودان النيلى شرقا وحتى ما بعد بحيرة تشاد غرباً، محدثاً إنقلاباً ديموقرافياً هائلاً. نود أن نشير هنا إلى انه باستثناء الفترات اعلاه فإن الهجرات السكانية الكبيرة كانت دائما خارجة من سودان وادى النيل ذو الموارد الشحيحة فى تجاه السهول والهضاب الغربية والشرقية ذات الموارد الوفيرة. ربما تجلَّت بدايات هذه الهجرات بشكل أكثر وضوحا فى هجرات القبائل العربية التى دخلت السودان فى منتصف القرن السابع الميلادى والتى استمرت لفترات متقطعة عبر القرون تلتها هجرات وموجات هَرَبِ السودانيين الجماعى من بطش الغزاة والتى استمرت منذ نهاية العقد الثانى للقرن التاسع عشر حتى العقود الاولى من القرن العشرين.
    فبالنسبة للهجرات العربية إلى السودان نجد أنها فضلا عن موجتها العارمة بين بداية النصف الثانى من القرن السابع الميلادى وحتى نهاية النصف الاول من القرن الثامن نجد أنها قد استمرت فى التدفق لفترات متباعدة حتى قرون متأخرة. فالصراعات التى عصفت بمصر فى القرن الرابع عشر مضافا أليها موجات الجوع والطاعون فى عهد المماليك دفعت بمجموعات كبيرة إلى الهرب الى بلاد النوبة . يضاف الى ذلك ان سقوط الممالك المسيحية فى السودان كان قد شجع على الهجرة وان اعدادا مقدرة من المهاجرين دخلت السودان فى القرن الخامس عشر والسادس عشر قادمة من مصر ومن تونس (راجع البروفيسور يوسف فضل حسن). هل استقرت كل هذه المجموعات على الشريط النيلى ام أنها تغلغلت الى الداخل وما أثر هذا التغلغل فى علاقة المهاجرين بسكان السودان الاصليين؟
    لا جدال حول أن أغلب المجموعات الوافدة قد توغلت إلى الداخل، وما يستلزم إلقاء مزيد من الضوء هو الجانب الآخر من السؤال وهو طبيعة علاقة الوافدين بسكان السودان الاصليين. على عكس الفهم السائد الذى يقدِّم هذه العلاقة تاريخياً بإعتبارها علاقة غلبة وهيمنة من جانب المهاجرين على عكس ذلك نرى أنها كانت علاقة تثاقف وتلاقح استمرت قروناً عديدة وأن أسباب تَبَدُّلها اللاحقة كانت فى الغالب بفعل التدخلات الخارجية. يمكننا القول ان أسباباً جغرافية وسياسية كانت وراء بذرة التلاقح الاولى بين السكان الاصليين فى شمال السودان والمجموعات العربية المهاجرة؛ ففى الغالب الاعم نجد أن كل الهجرات التى دخلت الى بلاد النوبة (السودان النيلى) عبرتها الى السهول الغربية والشرقية مؤسسة لنمط يمكننا ان نطلق عليه "النمط الألفى للهجرات" إذ أنه استمر لما يزيد عن ألف عام؛ أو ما يقارب 1300 عام، إذا توخينا الدقة. والاسباب وراء ذلك تكمن فى ندرة الموارد فى السودان النيلى إذ أن كل الأرض مملوكة لاصحابها النوبيين أو للملك النوبى مما يقلل من فرص المهاجرين من الحصول علي مساحات يستزرعونها أو يستخدمونها كمراع ويستقرون عليها. كذلك فإن الطبيعة المركزية للنظام الادارى والسياسى فى بلاد النوبة لا تتواءم مع طبائع القبائل البدوية المجبولة على التنقل والترحال. ولعلنا نلمس تلك الشروط الموضوعية المرتبطة بندرة الموارد بوضوح فى شروط اتفاقية البقط (عام 652م) بين ملوك النوبة والمسلمين فى مصر والتى شددت على ألا يأت المسلمون إلي بلاد النوبة إلا عابرين غير مقيمين. ومما يجدر ذكره هنا ان طرفا هذه الاتفاقية ظلا يحترمان شروطها لمدة 520 عاما تلت توقيعها . إذاً، بجانب ندرة الموارد وطبيعة النظام المركزية الطاردتين فإن القبائل البدوية وجدت ضالتها فى السهول الغربية والشرقية، إذ أنها تناسب نمط عيشها البدوى وعليها تتهاطل امطار كافية لنمو المحاصيل والاعشاب التى تعتمد عليها هذه القبائل كما يشير بروفيسور محمد هاشم عوض . ما جعل هذه السهول جاذبة بشكل خاص من وجهة نظر المهاجرين، كما يضيف البروفيسور، هو بعدها عن المدن الواقعة على ضفاف النيل والتى مثلت العواصم التقليدية للممالك النوبية. هذا البعد منح البدو المهاجرين قدرا كبيرا من الاستقلال الذى يتوقون إليه وهى خصيصة سوف تشكِّل علاقات هؤلاء المهاجرين مع النظم السياسية التى آوتهم وهى هكذا ربما أحدثت تحولاً إيحابياً فى طبيعة النظام المركزى فى تلك الممالك. هذا الوضع ظل هو طابع العلاقة بين سودان وادى النيل والسهول الغربية والشرقية إذ كلَّما جاء فوج جديد من المهاجرين نأى بنفسه عن ضفاف النيل وتمدد فى السهول الغربية والشرقية. الواقع ان قليل من افراد القبائل العربية المهاجرة كانوا قد استقروا وسط المجموعات النيلية وهو السبب الذى بمرور الوقت ربما دفع بأعداد من المجموعات النيلية نفسها للهجرة جنوبا شملت على سبيل المثال هجرات المحس لولاية الخرطوم الحالية والدناقلة لمنطقة الجزيرة وكردفان. يمكننا القول بشكل عام أن الحماية التى حظيت بها أراضى وادى النيل أو منع القبائل المهاجرة من الإستقرار فيها قد أفضى إلى إستقرار سياسى نسبى فى هذا الفضاء بينما شكلت موجات الهجرة المستمرة إلى السهول الغربية والشرقية سبباً لعدم الأستقرار فيها أو أنها صارت أقل إستقراراً مقارنة بالسودان النيلى. نشير هنا إلى وضعية كردفان التى ظلَّت لفترات طويلة لا تخضع لحكم أيٍّ من المملكتين الكبريين (الفونج والفور) وذلك ربما بسبب التبدُّل المستمر الذى يطرأ عليها بسبب الهجرات وهو سبب لا يجعل ضمان الولاء لأيٍّ من المملكتين ممكناً.
    نشير هنا إلى أن هجرات القبائل العربية، تحديداً التزايد السكانى الناجم عنها، فى علاقتها بمجموعات أخرى قد أحدثت ثورةً سياسية تمثلت فى تحالفية دولة الفونج كما أسهمت بشكل ما فى قيام مملكة الفور. فثمة أدلَّة على أن بعض القوى المتنافسة فى الممالك السودانية قد استفادت من وجود المهاجرين (أو التغيُّر فى الخارطة السكانية) واستخدمته لصالحها إما للإستيلاء على السلطة بالكامل أو لتحسين مواقفها التفاوضية فى سعيها للمشاركة فى السلطة. يشير البروفيسور يوسف فضل حسن إلى أن سليمان سولونق مؤسس مملكة الفور قد استعان بالبدو الرحل فى إنهاء مُلْك التنجر. ما يهمنا الاشارة إليه هنا هو أنه فى كلا الحالتين لم يتبوأ العرب العروش فى هذه الممالك كسلاطين بل قبلوا بدورهم شيوخاً على قبائلهم يديرونها كوحدات إدارية مستقلة نسبياً ضمن النظام السياسى الذى يتربع على رأسه سلاطين الفونج والفور. أى أن العرب حتى حين كانت الايديولوجية القبلية أكثر رسوخاً قد قبلوا بأن يكونوا فى دولة يحكمها من ليسوا من بنى جلدتهم واكتفوا فى أغلب الأحيان بالقيام بالدور الادارى فى المستوى الثانى فى النظام السياسى. هذا بالطبع إذا افترضنا وجود نقاء عرقى عربى ونمط أنتاج بداوى محض. وقد صان ذلك النظام وجودهم وكرامتهم على عكس الإدعاءات الضمنية الراهنة والتى ترى أن لا كرامة للعرب بدون أن يكونوا هم السلاطين على السودان وأن أندلساً آخر سيفقد إن هم قبلوا بمشاركة الآخرين فى السلطة.
    نوَدّ هنا أن نستخدم هرمية السلطة أعلاه—كوْن الأفارقة هم الملوك وأن العرب رعاياهم فى تمتعهم بإستقلالهم النسبى—للتدليل على أن فرضية الغلبة العربية تاريخياً هى فرضية لا يمكن أخذها على إطلاقها. من الواضح ان مجئ المجموعات البدوية المهاجرة قد أحدث تأثيراً كبيراً على توزيع السكان بالسودان. فقد أزاحت تدريجياً بعض المجموعات السكانية الاصلية عن مواطنها مثل النوبة أو تسببت فى هجرة بعضها كما ذكرنا آنفاً أو أنها دفعت بمجموعات اخرى للتراجع عن تغلغلها المحتمل شمالاً مثل الشلك والدينكا. إلا ان تلك الازاحة ربما حدثت لفترات قصيرة تاركةً المجال‘ على المدى البعيد‘ للتلاقح الثقافى والتمازج العرقى المتمثِّل أكثر فى الهجرات "الطوعية". ما يدفعنا الى هذا القول هو أننا نرجِّح أن متطلبات وطبيعة نمط الانتاج البدوى الوافد الذى تركَّز على تخوم الصحراء فى مقابل الانماط السائدة جنوباً منه لا تقود إلى التصادم بشكل مباشرومستمر بل تقود إلى التثاقف والتلاقح. والاطروحة التى نقدمها هنا هى أن الهجرات هذى لم تحدث فى البدء احتكاكات كبيرة مع السكان الاصليين بل على العكس من ذلك قد أسست لتداخل تجارى وتلاقح ثقافى بين المهاجرين والسكان الأصليين وذلك يرجع الى طبيعة نمط الانتاج البدوى الوافد وتحديداً وسيلة انتاجه (الجمل) فى علاقته بالفضاء الجديد الذى يتمثل فى تخوم الصحراء وشبه الصحراء. ذلك أن تلك التخوم فى الغالب الأعم إما أنها غير مأهولة أو أن سكانها قليلون ويتمركزون فى نطاق ضيق مما جعلها مسرحاً لهذا الحيوان الجديد دون أن ينافسه عليها نمط انتاج زراعى أو رعوى اخر. بمعنى آخر أن الصحراء كانت فى الغالب مسرحاً للقبائل المهاجرة لوحدها ولهذا فإن الصراعات التى حدثت إنما كانت تتم بين مكونات هذه القبائل المهاجرة وليس بينها وبين السكان الأصليين الذين يقطنون فى الغالب الأحزمة الواقعة إلى الجنوب لوفرة مواردها ومناسبتها لنمط إنتاجهم الزراعى. من دون أن ننظر الى هذا الوضع وكأنه حالة عزلة ودون التقليل من التداخلات والصراعات مع المجموعات الزراعية فقد ظل البدو القادمون ردحاً من الزمان يستمتعون بهذا الفضاء الواسع قبل أن يتغلغلوا جنوباً فى الاحزمة المناخية الاخرى بسبب تغيُّر بئتهم. ساعد فى هذا الوضع ما تطور من علاقات تبادلية بين سكان تخوم الصحراء "الجُدُد" والمزارعين إلى الجنوب منهم عمَّقَتها قوافل الحجيج فى قرون لاحقة وهو ما أسهم فى سد بعض حاجات المجتمع الرعوى (البدوى) من السلع المنتجة فى حزام السافنا. وبمرور الوقت أسس البدو لعلائق قويٌة تربطهم بمجموعات المزارعين وأنظمتهم السياسية والاقتصادية. لكن أهم ما يميز وضعهم السياسى الجديد هو مفارقته للاستبداد الشرقى الذى تركوه وراءهم واستمتاعهم باستقلالهم الذاتى ضمن كونفدراليات الحزام السودانى. الواقع أن الاتساع الجغرافى فى السهول الغربية والشرقية قد اسهم فى خلق طبيعة مرنة بين الانظمة الحاكمة والكيانات القبلية إذ من السهل على الاخيرة تغيير ولائها فى حال تعرضها لضغط السلطة المركزية (لمزيد من التفاصيل راجع شريف حرير 1993) وقد كان ذلك من ناحية أخرى سبباً فى مرونة الانظمة السياسية المركزية فى تعاملها مع "مواطنيها" الآخرين. هذا الإستيعاب التدريجى ضمن الأُطر السياسية فى الحزام السودانى كان قد دجّن هذه القبائل الصحراوية صعبة المراس وأدمجها إلى حد كبير فى ثقافات الحزام السودانى الزراعية.
    فى أوقات لاحقة تغلغلت مجموعات بدوية بكاملها الى داخل حزام السافنا محتفظة ببداوتها لكن بتغيير وسيلة إنتاجها من الجَمَل الى البقرة بحكم الشروط المناخية. هذه الوضعية شكلت نسيجاً جديداً تحدده التداخلات الطولية (من الشمال الى الجنوب والعكس) بدلاً من تلك العرضية (الانتشار من سودان وادى النيل شرقاً الى ما بعد بحيرة تشاد غرباً) عمق من فرص التلاقح الثقافى والتمازج العرقى حددته المصالح المتبادلة بين البدو فى الشمال والمزارعين إلى الجنوب. هذا التأثير التعاضدى المتمثِّل فى الحراك والتداخل بين البدو والمزارعين يسمح بتَمَثُل المزارعين لنمط الإنتاج الرعوى والعكس وهكذا يحدث، على سبيل المثال، "تنوّب" البقارة و"تبقّر" النوبة كما تشير بعض الدراسات (راجع حامد البشير إبراهيم 2002). لابد من أن نشير هنا إلى أن ذلك الإئتلاف التاريخى قد وضع المجموعات السكانية للحزام السودانى على عتبة مرحلة جديدة يحددها حجم التبادل التجارى بين المجموعات السودانية ودرجة تطور التجارة الخارجية التى يمثل وسيلة نقلها الجمل المملوك فى الغالب للبدو فى تخوم الصحراء وتمثل بضاعتها منتجات مزارعى وصيّادى الدواخل الافريقية.
    بدءاً من القرن الحادى عشر بدأت أعداد كبيرة من الحجيج تتنقَّل جيئةً وذهاباً داخل الحزام السودانى فى طريقها إلى الاماكن المقدسة بالحجاز. رحلات الحجيج أصبحت أكثر عنفواناً بنهاية القرن الثامن عشر حيث بدأت أعداد كبيرة منهم تستقر داخل حدود ما يعرف حالياً بجمهورية السودان. هذا الحجيج أضاف عنصراً آخر للخميرة الثقافية والإقتصادية بين تخوم الصحراء وحزام السافنا.
    بجانب دور القوافل التجارية والحجيج فى التأثير على العلاقة بين تخوم الصحراء وحزام السافنا نجد أن مناخاً ثقافياً خاصاً قد أسهم فى تحقيق مصالحة حقيقية بين هذه الفضاءات تمثل فى دور الطرق الصوفية التى لم تكسر حواجز الحدود القبلية فحسب بل كذلك الحدود الاقليمية والحواجز بين المجموعات المختلفة فى لغاتها ونظراتها إلى الكون. نجاح الدور الصوفى هذا لا يمكن تصوره بمعزل عن طبيعة النظام السياسى والادارى للممالك السودانية التى هى فى الواقع عبارة عن "كونفيدراليات". سوف نقدِّم هنا بعض التفاصيل حول فضاء الكونفدراليات السياسى بإعتباره الفضاء الذى بدأت تتطور فيه "الموارد الثقافية" التى تعطى مشروعية لفكرة الوحدة والتعايش السلمى بين الكيانات السودانية المختلفة وهو ما يدعو إليه حداة "السودان الجديد". بل بإعتباره الفضاء الذى يجعل فكرة الوحدة التى نتنادى لها الآن محفزة وخلاقة. فالصوفية، مثلاً، كمؤسسة مجتمع أهلى تطورت داخل هذا الفضاء هى ليست فقط نظام دينى وثقافى وإنما بالإضافة إلى ذلك هى صيغة لتفعيل الاقتصاديات المحلية ودفعها لمستويات أعلى فى سلم الرقى الاجتماعى. من هذا المنطلق فإن الصوفية وما شابهها من مؤسسات تؤسس للوحدة والسلم الإجتماعى تمثِّل "مورداً ثقافياً" يجدر بنا صيانته مثل كل الموارد الأخرى.
    كونفدرالية الفونج (1504- 1821م): جنينيات الوحدة فى التنوع:
    سلطنة الفونج من وجهة نظرنا هى الزمان البنيوى والنفسى لنضج فكرة الوحدة فى التنوع فى وسط السودان. قامت سلطنة الفونج في حوالي عام 1504م علي أنقاض مملكة سوبا المسيحية اثر تحالف بين الفونج والعرب. وقيام دولة الفونج فى حد ذاته يشير إلى تحولات عميقة نتجت عن تفاعل عناصر البيئة السياسية فى شمال ووسط السودان التى من بينها التحولات فى الخارطة السكانية. فالقبائل التى أسست لهذا التحالف هى قبائل مهاجرة دخلت إلى وسط السودان واستقرت لقرون عديدة تستمد وجودها من أيديولوجياتها القبلية واستمرت مبعثرة هكذا حتى قيام دولة الفونج . أسس التحالف بين الفونج والعرب لنظامه السياسي والإداري المستند إلى اقتسام السلطة والثروة بين سلاطين الفونج (الحكومة المركزية في سنار) وبين زعماء القبائل والعشائر (حكام الوحدات الإدارية المتمثلة فى ديار القبائل) إذ إن الأيديولوجيا القبلية التي كانت سائدة والتي تأسس عليها التحالف لا تسمح بقيام نظام مركزي صارم، وان مستوي تطور المجتمع عامة لا يوفر شروط ذلك النظام المركزي فضلاً عن أن حدود هذه المملكة مفتوحة على السهول الواسعة شرقاً وغرباً. ظلت القبائل ضمن هذا التحالف أشبه بوحدات حكم محلي في دولة مركزية ، فقد كان لها كامل استقلالها الإداري والسياسي، وهكذا بدت دولة الفونج "كونفدرالية" اكثر منها دولة مركزية كما يشير دكتور مختار الأصم . ورغماً عن ذلك فان لهذا التحالف دلالة سياسية خاصة تتمثل في كونه تجميع وتوحيد لكيانات متفرقة كانت مضطرة للدخول فيه بفعل شروط موضوعية مستجدة ربما كان اكثرها وضوحا حدة الصراعات بين الكيانات الصغيرة مدفوعة بعصبياتها واييولوجياتها القبلية. هذه الشراكة التى نشأت بين الفونج والعرب، كما يشير البروفيسور يوسف فضل حسن، قد ولدت نوعاً من الاستقرار والوحدة السياسية. وما يهمنا لفت الإنتباه إليه هنا هو أن دواعى الإستقرار السياسى دفعت مجموعات بينها اختلافات واضحة لتؤسس لنظام سياسى موحد دام لثلاثة قرون ونيف.
    من وجهة نظرنا فإن شروط هذه الشراكة قد مهدت الطريق أمام تحول نوعى مهم أسهم بشكل مباشر فى تعزيز الاستقرار وإستمرار الشراكة؛ فداخل هذه الكونفدرالية الفونجية ثمة أيديولوجيا أخري غير الايدولوجيا القبلية بدأت تتطور وتقفز فوق حدود القبلية وتؤسس إلى علاقات جديدة وان روادها الجدد هم في الغالب لا ينتمون إلى قبائل سودانية . هذه الأيديولوجيا هي الصوفية التى ببروزها كنشاط ديني واجتماعي يمكننا الحديث عن كيان بدأ يتوحد ثقافياً فى وسط السودان؛ إذ "في إطار هذا النشاط الصوفي، الديني ، والاجتماعي" كما يورد البروفيسور يوسف فضل "تهيأ للشعوب التي تكون مملكة الفونج بعض أسباب الاستقرار والوحدة والاندماج التي تحول دون الصراع المباشر من جهة وتؤلف بينهم من جهة أخرى". وتأكيدا على مدى إنتشار الصوفية يضيف البروفيسور قائلا: "ولا أظنني أعدو الصواب إذا قلت أن معظم السودانيين قد انخرطوا في سلك الطرق الصوفية وقلَّ أن نجد من لم يتأثروا بها في حياتهم" . نود أن نشير هنا إلى أن أسباب الاستقرار والوحدة والاندماج التى اتاحها النشاط الصوفى لم تقتصر على محيط دولة الفونج فقط بل طبعت ما جاورها. فالكيانات السياسية السودانية فى تلك الحقبة، رغما عن كونها كانت إلى حد ما متماسكة داخليا، صارت بمنطق تطورها الداخلي تؤسس لعلاقات تكاملية وتستند إلى نزوع باتجاه التوحُّد مع بعضها البعض. برزت الصوفية كتعبير عن هذا النزوع الوحدوى الذى تمثل فى الروابط التجارية والثقافية النامية خلال القرن الثامن عشر التي جذبت مملكة دار فور بشكل متزايد إلى محيط قبائل السودان الأوسط، وقد بلغ ذلك ذروته بحاجة هذه المملكة إلى غزو كردفان عام 1785م ومحاولة المك جاويش لتوحيد المنطقة من دار الشايقية حتى سنار .
    تطورت الصوفية هكذا لتطبع الثقافة الدينية في السودان بخصائص مميزة . ولعل ما يبعث علي الاعتقاد أن الصوفية كانت صاعدة باتجاه أن تصبح أيديولوجيا لكل الفئات هو كونها صارت معتقد السلاطين والملوك والعامة في دولة الفونج. وما يؤكد ذلك اكثر هو استطاعة الصوفية حسم الصراع بينها وبين الثقافة العلمية (الفقهية) الموازية لها، بل واستدماج تلك الثقافة في نسقها العام . يضاف إلى ذلك أن شيوخ الطرق الصوفية أخذوا يقومون بدور زعماء العشائر فى فض النزاعات القبلية وصاروا ذوى نفوذ واضح على الشيوخ والسلاطين. من هذا المنطلق فإن الصوفية قد خلقت شروط "وفرة" جديدة فى الموارد لما أتاحته من فوائد متبادلة وهجرات موسمية فى مسارات جديدة لبعض القبائل أو تنقل وحدات من هذه القبائل للإستقرار فى أراض جديدة فى جيرة شيخ صوفى أو "إخوة فى الطريق".
    تصاعد الآيديولوجيا الصوفية تأثر سلباً بعدم الإستقرار والإنهيار اللاحق لدولة الفونج. المناخ الذى تعاظم فيه دور التجارة الخارجية أدى إلى هزات عميقة على الصعيد السياسى مما اعطى الأيديولوجيا القبلية سانحة جديدة فقد بدأت تستعيد شيئاً من "عنفوانها" السابق وتحدث أثراً سلبياً علي صعود الايدولوجيا الصوفية. لكن أخطر ما ترتب على ذلك هو إضعافها للممالك وتحفيزها للتحالف مع الغزاة كما سوف نفصِّل أدناه.
    مما تقدم يمكننا القول أن السودان فى الغالب الأعم إنما تأسس جيوبوليتيكياً ضمن محور الحزام السودانى وهذا الشرط وَسَمَه بمكونات الثقافات والنظم السياسية والاقتصادية السائدة فى هذا الحزام. وتأسيساً على هذا يمكننا القول أن القبائل العربية المهاجرة أخذت تنعتق قليلاً قليلاً من عصبياتها وما لامسها من إستبداد شرقى، فاتحةً الطريق أمام خميرة جديدة يحدد مسار تطورها الوفرة النسبية فى الموارد الطبيعية وما نتج عنها من صيغة تفاهم سياسى بين الكيانات السياسية القائمة والقبائل البدوية الوافدة والتى تأسس بموجبها أول أشكال اللامركزبة المتمثل فى الاستقلال النسبى للقبائل البدوية وتأثير ذلك على المجموعات السكانية الزراعية التى تخضع للدولة المركزية. انصهر السودانيون عبر القرون وتحديدا ضمن الفضاء الدينى والثقافى الصوفى وخلقوا مزيجا أسمراً هو الشاهد الأقوى على غياب العنصرية بينهم فصاروا ألوان طيف عدة فى درجات سمرتهم إذ صاروا يضفون الصفات أزرق وأخضر (خَدَر) وأحمر(حَمَر) وأصفر على آحادهم وهى أوصاف لتمييز الافراد الذين ينتمون للقبيل الواحد أو الاسرة الواحدة لا لتمييز أعراق. ولعل وجود هذه الالوان بتعددها فى الاسرة الواحدة جعل صعود النعرات المستندة على التمييز بحسب اللون امراً أقرب للمستحيل فى السودان، إذ لا يميز أب أو أُم بين أبنائهما بحسب ألوانهم. كذلك نجد مجموعات عربية كاملة تحمل الصفات "الحُمُر" و"الزُرْق" مما يعنى أن الالوان لا تحمل مدلولات إزدرائية. هذا الوضع المُحَيِّد للألوان والسحنات ربما ضاعف من أهمية اللغة والدين فى فترات لاحقة كمبررات للتمييز "العنصرى" بين السودانيين. (وهذا مبحث آخر لا نعالجه بالكامل هنا).
    أشرنا سابقاً أن الفضاء السياسى للكونفدراليات السودانية ومناخها الثقافى المتمثل فى الصوفية هو ما يبرر إدعاء السودانيين اليوم أنهم قوم متسامحون. أنقلب هذا الوضع بمجئ التركية، إذ بمجيئها حل الاستبداد وتمدد وانتشر فى فترتيها السابقة واللاحقة وعلى ايدى النخب التى تحالفت معها وورثت اساليبها فى العنف والجشع والعنصرية؛ فبدءاً بمجئ التركية صارت الالوان سُبَّة وكون الفرد ينحدر من عنصرمعين سبباً للازدراء والافتراء؛ أو بالمقابل مبرراً لتحالف المستعمر معه وأسباغ صفات السادة عليه. نشير هنا أيضاً إلى أن الازدهار الاقتصادى النسبى الذى تحقق بسبب المناخ الصوفى والاستقرار الناتج عن التلاقح بين المجموعات السكانية فى ممالك الحزام السودانى قد كان سبباً فى بروز طبقة وسطى طامحة للإستقلال عن هيمنة السلاطين على التجارة وكذلك كان مجلبةً للغزاة والطامعين كما سوف نفصل أدناه. أى أن شروط الوفرة التى أسهمت الصوفية فى إستدامتها كانت، للأسف، سبباً دفع بالطامعين لإستعمار السودان وقلب الوفرة ندرة والتسامح والإخاء كراهية وعداء – أى خَلْق "السودان القديم".
    السودان القديم:
    زمنياً حسب التقسيم الذى نعتمده هنا فإن "السودان القديم" يغطى كل الفترة من 1820 وحتى توقيع إتفاقية السلام الشامل وهى فترة شملت الإستعمار التركى، المهدية، الإستعمار البريطانى، والحكم الوطنى منذ الإستقلال. فيما يلى سوف نعرض لهذه الفترات بشئ من التفصيل.
    الاستعمار التركي (1820- 1885م): بذور الإستعلاء والإستقطاب العرقى وحلول "العروبى" مكان "العربى":
    بدءاً من العام 1820 صرنا نعيش شرطين جديدين تماماً على السودان هما، أولاً، شرط المركزية السياسية الصارمة وما ارتبط بها من هيمنة اقتصادية وثقافية لمركز النظام السياسى كرِّست لهيمنة السودان النيلى على كل أقاليم السودان الأُخرى، وثانياً شرط نهب الموارد والمقدرات الاقتصادية لمصلحة الادارة الاستعمارية وأعوانها وبالتالى إفقار مجموعات سكانية بكاملها فى أقاليم السودان المختلفة. الشرط الاول نتج عنه تمدد جهاز الدولة وقوتها المتزايدة على حساب الإستقلال النسبى لمؤسسات المجتمع الأهلى وما ترتب على ذلك من أشكال الغبن التاريخى والإستقطاب والصراعات المستمرة بين المركز والاطراف (تدهور الموارد الثقافية). أما الشرط الثانى فقد نتج عنه خلْق الندرة فى الموارد الطبيعية وانمحاقها المستمر(تدهور الموارد الطبيعية) وهذا قد فاقم وانحرف بالصراعات بين القبائل على الصعيد المحلى وأسس على الصعيد القومى لتبعيتها للمركز ولتبعية السودان الاقتصادية ورهن إرادته السياسية للعالم الخارجى.
    إننا بصدد التفصيل فى الشرط الجديد، شرط النظام المركزى الضامن لهيمنة السودان النيلى والذى تحقق نسبةً لإلحاق السودان بمحور وادى النيل فى ارتباطه بالسياسة الاستعمارية لحكام مصر الاتراك فى القرن التاسع عشر(التركية السابقة 1820-1885) والترتيبات الجيوستراتيجية التى تبنتها لاحقاً بريطانيا بعد استعمارها لمصر فى 1882 واحتلالها للسودان فى 1898 وتأثير ذلك على مؤسسات المجتمع الأهلى السودانية وعلى راسها القبيلة والطريقة الصوفية. سوف ننظر للاستعمار البريطانى للسودان (1898-1956) بإعتباره "تركية لاحقة" أو إمتداد للتركية السابقة، تحديداً لتكريسها لموقع السودان ضمن محور وادى النيل مصرياً-انقلوفونياً وعزله عن فضاء الحزام السودانى الذى صار فى الغالب فرانكوفونياً. إن أكبر خسارة مُنِى بها السودانيون هى انتزاع ممالكهم من أنساق الحزام السودانى (Sudanic Belt) السياسية والثقافية والإجتماعية ودمجها فى محور النيل الجيوسياسى (geopolitical). هذه الخسارة تتمثل من جهة فى أن أدنى النهر الذى أُدمج فيه السودان هو الأقوى سياسياً وعسكرياً (وهذا يتسبب فى فقدان الندية المفضية إلى شراكة غير متوترة) والأهم من ذلك كله أن أدنى النهر هذا مطبوع ومنتج تاريخياً ضمن ذاكرة الاستبداد الشرقى وهى تجربة لا تتعاطى مع "ديموقراطية الرعاة" التى يعيشها السودانيون فى كونفدرالياتهم. من جهة أخرى فإن هذا المحور أيضاً إرتبط بالأطماع الدولية المرتبطة هى أيضاً بالأهمية الإقليمية لمصر. هذه الأطماع الدولية خرَّبت علاقة السودان بمصر وذلك بإستخدام السودان كفزَّاعة لتخويف مصر (تحديداً تخويفها بتعطيشها أو تقليل مياه النيل الواردة لأراضيها عبر السودان). بسبب هذا التخويف صارت مصر ترى فى السودان إما مستعمرة أو دولة يجب أن تكون تابعة وترتب على ذلك وجوب أن تحكمها أنظمة مركزية لاتسمح بما يفهم منه أنه مهدد لأمن مصر.
    التركية سابقة ولاحقة قد استندت وأسست إلى تخريب "الموارد الثقافية" السودانية والتى نعنى بها القيم أو المناخ الذى يحفز الاعتراف بالآخر والاستقلال النسبى لمختلف الكيانات السودانية عن أنظمتها السياسية المركزية وبالتالى يؤسس للسلم والأستقرار. المؤسسات التقليدية من طرق صوفية ومؤسسات قبلية بإعتبارها منتج الموارد الثقافية قد تشوهت كثيراً فى فترتى التركية ضمن نزوع عام لتكريس الاستبداد الشرقى وضع السودان فى حالة غربة لم تتركه ضمن فضاء الحزام السودانى وفى نفس الوقت لم تحقق إلحاقه الكامل بمصر. هذه لحظة فارقة فى تطور السودان وهنا نتحدث عن الانتقال الواضح من "السودان" الذى كانت تتكامل كياناته فى سيرورة تطوره الطبيعى رغماً عن درجات إستقلالها النسبى إلى السودان الذى بدأت تتمزق أوصاله بمجئ التركية رغماً عن فرض النظام المركزى الذى يبدو ظاهرياً وكأنه يشد تلك الأوصال إلى بعضها البعض ويوحِّدها. بمعنى اخر أن طابع التثاقف (الدافع بإتجاه الاندماج والوحدة فى التنوُّع) بين الكيانات السودانية الذى فرضته شروط داخلية تاريخية وجغرافية ودينية قد حل محله شرط جديد تمثل فى الإفراط في "السياسي" والعنف المرتبط به وما نتج عنه من تقطيع للكيانات التى بدأت أو كادت تتكامل سياسياً وثقافياً.
    ثمة تحولات كبرى حدثت فى العهد التركى أثرت على "وحدة" السودان نذكرها هنا بالتركيز على التغيرات فى الخارطة السكانية. يمكننا القول إجمالاً أن السودان السابق على التركية قد تميِّز بالتسامح والتلاقح الثقافى بين كافة المجموعات السودانية وهو إلى حدٍ كبير معافى من الإستعلاء العرقى ومنضبط بتوازن للقوى بين مجموعاته. هذا التوازن فى القوى حددته نوعية الاسلحة المستخدمة واخلاق الحرب السائدة المراقبة من مؤسسات المجتمع الأهلى التى تضبط سلوك الخصوم وهى أخلاق وإن برَّرت الإخضاع حين تصطرع المجموعات المختلفة لم تبررالابادة أو التطهير العرقى. فالقبائل حين تصطرع يوقفها ويحقق التصالح بينها رابط الإنتماء إلى طريقة صوفية واحدة أو طرق صوفية متقاربة فى فلسفتها. من المرجَّح أن القبائل "العربية" كانت تتحالف وتتصارع فيما بينها مثل تحالفها وصراعها مع القبائل "غير العربية" وأن "العربى" السودانى كان أميل للتعايش السلمى وذلك مع محيطه "العربى" وغير العربى على السواء وبالتالى أبعد من أن يعتمد التحالفات المفضية للآيديولوجيات العرقية الإقصائية. هذا السودان أخذ يتوارى ليحل محله سودان العنف والاسترقاق والتطهير العرقى ومثاله الاكثر قتامة هو فترة الاستعمار التركى. يجدر أن ننوه هنا إلى أننا سوف نستخدم المفردات مثل "استعمار" و"غزو"، كضرورة للتمييز بين الوطني وغير الوطني، وكضرورة أيضاً لتحديد الموقع الأيديولوجي المتواطئ الذي يستخدم المفردات مثل "الفتح" التركي والتي تمثل أدانه للسؤاال الوطني ولا تمنح أجابته المشروعية، وهي بالتالي تقود إلى إختلالات منهجية عميقة بموجبها يصبح التاريخ السودانى غير موجود عملياً أو انه علي اقل تقدير تأريخ أيديولوجي ومتحامل على الوطنى؛ تاريخ يراهن على "البرانى"‘ يخلع عليه المشروعية.
    أشرنا فى ما سبق أن السودان كان يتشكل ثقافياً لقرون عدة قبل أن يتشكل سياسياً فى نظام مركزى محدد. فى الجزء أدناه نود أن نشير إلى أن السودان الحالى تشكل سياسياً وإدارياً بدايةً عن طريق التدخل الخارجى (الإستعمار التركى ثم فيما بعد الاستعمار الانقليزى) وأن هذا التشكل أخذ زماناً طويلاً لكى يكتمل. السودان الحالى أخذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان لكى يتشكل إدارياً وسياسياً بواسطة الاستعمار التركى فى القرن التاسع عشر.
    باستيلاء الأتراك علي سلطنة الفونج تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ السودان مختلفة عما قبلها بنظامها المركزي الصارم، المعتمد علي القوة والقهر، الذي ألغي الاستقلال النسبي الذي كانت تتمتع به المشيخات والقبائل والطرق الصوفية . هذه لحظة مهمة فى تعريف العلاقة بين المركز الجديد والاطراف ليس فقط لطبيعة الادماج القسرى لتلك الاطراف وإنما أيضاً بسبب آلة العنف الحديثة التى استخدمت لتحقيق ذلك الادماج. إذ أن مركزية الاستعمار التركي تلك هي شرط تفرضه منظومة اجتماعية غريبة علي المجتمعات السودانية. فالتحديث الذى بدأه محمد على باشا في مصر والطموحات الجيوستراتيجية المرتبطة به كان يستدعي غزو السودان واستعماره. وهكذا فان الاستعمار التركي للسودان يجب النظر إليه من داخل الزمان البنيوي لهذا التحديث ودوافعه وأدوات وفلسفات عنفه، وأنه كأي استعمار حديث قد احدث هزة عميقة في المجتمع السودانى ارتبطت بالعنف الذي صحب الغزو والحملات الانتقامية والادوات القتالية الفتاكة المستخدمة فيها والنزعة الاجتثاثية التى تبناها الغزاة. وهكذا بهذه المواصفات مجتمعة يقطع الاستعمار التركي مسار التطور الطبيعي للتشكيلة الاجتماعية للسودان وذلك يتمثل فيما فرضه من وحدة قسرية وأشكال تمحور واستقطاب أسست إلى علاقات هيمنة/قمع جديدة أيديولوجية وسياسية وإقتصادية نتج عنها شروط هيكلية لخلق الندرة. فالوحدة السياسية التي كانت سوف تتحقق وتتأسس ضمن أطرها وبدينامياتها الخاصة يجب أن تكون – بمجيء الغزو التركي—خاضعة لضرورات التطور فى مصر وان تطور البنية الطبيعي من أشكال ادني إلى أشكال ارقي يجب ان يعجل به لتحقيق مطامح محمد علي باشا راعي التحديث في مصر والسودان. بمعنى اخر قطع طريق التطور وتشويهه وأخطر ما نتج عنه هو ربط وإيهام النخبة المتحالفة مع الإدارة الإستعمارية أن مصلحتها تكمن فى إستمرار تحالفها مع المستعمر فى وجوده وبعد رحيله ضد مواطنيها الذين يجب ألا تعير مطالبهم الإهتمام الذى تستحق. منذ هذه اللحظة بدأت "صناعة" النخبة؛ بل بدأت تتطور "النخبة الخائفة" التى صارت توفِّر الحماية لنفسها ليس بصياغة عقد إجتماعى وطنى وإحترام شروطه بل بالتحالف مع الأجنبى وبالتالى مصادرة الحقوق السياسية والإقتصادية والثقافية للمجموعات السودانية.
    تفتيت بذرة الوحدة السودانية فى فترة التركية تمثّل فى الرهان على مصادمة المجموعات الثقافية السودانية بعضها ببعض وهى إستراتيجية لعبت فيها النخبة بوعى أو بغير وعى دوراً كبيراً. تستند الأيديولوجيا الاستعمارية التركية إلى ادعاء أنها راعية الخلافة الإسلامية بمذهبها السني علي السودان وبهذا سعت لكسب تأييد المسلمين فى السودان. ولكي تخلق شروط هيمنتها واستمرارها أسست لثنائياتها: مسلم- غير مسلم، سني – صوفي وبالتالي عربي –غير عربي والتى بالضرورة قادت لتفتيت بذرة الوحدة النامية لما أحدثته من إستقطاب. كأى نظام إستعمارى، بل كأي نظام سياسى، كانت الادارة التركية بحاجة إلى أعوان وسعيها إلى ذلك قاد إلى إستقطاب (وتوريط) بعض المجموعات العربية عن طريق إستمالة قيادتها. المجموعات العربية ذاتها كانت مهيأة (أو بالأحرى مجبرة) للدخول فى تحالف مع الأتراك وذلك، بالدرجة الاولى، لكى تحمى نفسها من الإسترقاق أو التطهير العرقى ونهب الموارد كمخاوف جديدة كرَّسها مجئ الاتراك وإرهابهم. لكن فى الواقع تورطت قيادة بعض هذه المجموعات المتحالفة أو التجار الجلابة المرتبطين بها تورَّطت بالإسهام فى إسترقاق الاخرين من بنى وطنها وهكذا قد خانت العلاقات التى ربطت بينها وبين المجموعات التى لم تتحالف مع الاستعماريين أو التى فضل الاستعماريين عدم التحالف معها. وهكذا تأسس حلف يضم الادارة التركية وبعض من النخبة من شمال السودان من جهة فى مواجهة مجموعات مستهدفة هى فى الغالب ليست عربية أو مسلمة من جهة اخرى.
    برزت في فترة الإستعمار التركى طبقة من علماء السلطان مثَّلت، من وجهة نظرنا، البذرة الاولى للإسلام السياسى فى السودان وبداية تصاعد المراتبية العرقية (بداية الخطاب الإستعلائى) ولهذه الفترة بالذات تنتمي عقلية الاسترقاق الذى يستند إلى مراتبية عرقية صنفت ووسمت مجموعات بعينها("الأفارقة") بأنها قابلة للإستعباد بالميلاد بينما حصّنت مجموعات أخرى ("العرب") ضد هذا الاسترقاق. الاسترقاق لشعوب بعينها دون الأخرى فى السودان هكذا ارتبط بالاستعمار التركي وكان الهدف منه هو خلْق تحالف مع "العرب" دون سائر الشعوب السودانية ليس كتقديرٍ خاص للعرب وإنما لكى يتمكَّن الغزاة عن طريقهم من مضاعفة أعداد ضحاياهم من هذه الشعوب، أولئك الضحايا الذين يصطادونهم ويصدرونهم او يستخدمونهم فى العمل المجاني القسري. وبالتالي فان التاريخ المتوتر للمجموعات السكانية فى السودان يمكن ان يفهم بجلاء داخل علاقة الهيمنة/القمع والتي يتبدى فيها كأن "العرب" السودانيين جميعا متورطون تاريخيا فى استرقاق غير العرب دون ان يتعرضوا هم انفسهم للاسترقاق. هذه التحولات حدثت بالضبط بعد أن تضعضعت مؤسسات إنتاج الموارد الثقافية؛ أى بعد أن انحسر دور مؤسسات المجتمع الأهلى.
    التقسيم أو الاستقطاب وسط المجموعات السودانية هكذا ارتبط بشروط خارجية مكتسبة من الفعل العسكري الذي حقق الإستيلاء على البلاد ثم قام بتأديب (فى الواقع إرهاب) المقاومة أو "تهدئتها" بطريقة اكثر شراسة من لحظة الغزو ذاتها مما أسس لدوامة عنف جديدة (عنف الدولة) عبر عنها بدقة كتاب "سيرة الإعدام السياسى" لمؤلفه محمد عبد الخالق بكرى. كذلك إرتبط التقسيم أو الاستقطاب وسط المجموعات السودانية بالمركزية الصارمة (التي طبعت الفترتين الاستعماريتين) والتي هدفت في نهاية المطاف إلى تماسك الكيان السياسي وذلك على حساب اشكال الإستقلال النسبى الذى تمتعت به المجموعات السودانية ضمن شروط تاريخية وبيئية معينة.
    المركزية التى جاء بها الإستعمار التركى لم يقتصر أثرها على ربط المؤسسات التقليدية بالمركز بل فى خلق مراتِبية جديدة داخل هذه المؤسسات عزَّزت من سيطرة شيوخها واستخدامهم للإساليب القسرية ضد أبناء قبائلهم وأتباعهم. التحالف بين الأتراك وبعض النخب العربية تم بأدوات المركزية القسرية وتشويه علائق المجموعات السودانية والطرق الصوفية. الشاهد ان تبدلات هامة حدثت وان اكثر ما تأثر بها هو المؤسسات التقليدية‘ تحديداً القبيلة والطريقة الصوفية فى شمال السودان. فقد فرضت المركزية بالقوة وقد تمثل أثرها الأكثر خطورة فى صبغها للمؤسسات التقليدية بصبغتها. لقد إنعكست مركزية جهاز الدولة الاستعماري التركي سلباً علي الطرق الصوفية والنظام القبلى. فقد ألغت هذه المركزية استقلال "الوحدات" المكونة للطرق الصوفية؛ فقد إضطرت بعض الطرق الصوفية إلي تبني شكل من أشكال المركزية وأن الحكومة الاستعمارية فى الواقع قد خلقت بنية تحتية سهلت من مهمة "مركز" الطريقة فى تقوية مكانته وتأسيس إدارة فعالة . وهكذا نلاحظ أنه بقدر ما أن مثل هذه المركزية التى طبعت الطرق الصوفية هي استجابة لطبيعة النظام السياسي المهيمن نجد أنها أثرت على طبيعة المؤسسة الصوفية وأدخلتها ألي دائرة جهاز الدولة والذى إستخدمها لتحقيق أغراضه. تمثل ذلك بوضوح فى استخدام الطرق الصوفية فى كبح تقدم الثورة المهدية وربما فى كبح ثورات وإنتفاضات كثيرة سبقت المهدية. المركزية أو تواجد المرجعية الدينية فى الرئاسة أو "مركز الطريقة" حدَّت كثيراً من التثاقف الذى كان سائداً والذى كان سبباً فى تجذره إنتشار شيوخ الصوفية فى أصقاع السودان المختلفة دون أن يكونوا خاضعين إلى أوامر صادرة من رئاسة مركزية للطريقة التى ينتمون إليها.
    وهكذا نستطيع القول أن تطور الصوفية الطبيعي وانتشارها وسط السودانيين قد تأثر سلباً بهذه الوضعية. أما الأثر الأخطر الذى حاق بالصوفية هو أن دعاتها صاروا وكأنهم مستخدمون في جهاز دولة هو عبارة عن تاجر كبير للرقيق. علي ان النظرة الفاحصة توضح ان الإدارة التركية كانت تخلق الالتفاف حولها قسراً وبالتالي فهي تحقق أغراضها بالآخريين وضد الآخرين قسراً والمستفيد فى النهاية طبقة إجتماعية وليس كل السودانيين "العرب". هذا ما يجعلنا نقول أن الاسترقاق التجاري في السودان المستند على تصنيف معين للشعوب ليس جزءاً أصيلاً من تطور الفضاء الاجتماعى السودانى بل هو مرتبط إلى حد كبير بنمو الإنتاج البضاعي الرأسمالى فى السودان المرتبط بمجئ الأتراك. إذ أن ما ساد قبله كان فضاء فيه العرب مرشحون مثل غيرهم للإستعباد بواسطة الأعراق الأخرى ضمن حسابات معروفة هى حسابات المنتصر على المهزوم وهنالك أمثلة لعرب استعبدهم بعض قادة الفور بعد غزوهم لكردفان . الاتراك أنفسهم ورغم تحالفهم مع العرب نجد أنهم قد استعبدوا فى بداية عهدهم بعض العرب الذين قاوموهم أو رفضوا الانصياع لترتيباتهم الادارية المركزية .
    أما المؤسسة القبلية فقد تأثرت كثيرا هى الأخرى إذ افقدها الاٍستعمار التركي وطبيعته المركزية تماسكها المتبقي وألحقها بآلة الحكم الجديد مما يتنافى مع طبيعتها كمؤسسة تعبر عن واقع المجتمعات الرعوية وأدت الخلخلة تلك إلي استبعاد الزعماء غير المتعاونين ومن المرجح أن حروباً قبلية كثيرة قد حدثت في غياب أو بسبب خلخلة المؤسسات التي تنظم حياة القبائل. هذه التغيرات طبعت النظام القبلى منذ ذلك التاريخ وبالتالى من المستحيل الحديث عن قبيلة سودانية بإضفاء تلك الصفات الرومانسية عليها وكأنها ظلت كما هى مكاناً للنبل والشهامة والأنفة. لقد صارت القبيلة واحدة من أدوات تكريس السلطة الإستعمارية بكل قسوتها وإرهابها، بل أداة "عسكرية" فى يد الإستعمار.
    المركزية التي جاء بها الغزو التركى كانت مركزية سياسية ألغت الكونفدراليات السودانية ومركزية اقتصادية بموجبها تكرست السلطات والثروات في أيدي الأقلية الحاكمة وأعوانها وهكذا بذرت البذرة الأولى للصراع حول الموارد على الصعيد المحلِّى والصراع حول السلطة والثروة على الصعيد القومى. وقد ترتب على ذلك تحولات عميقة أثرت على بقية الاقاليم كلها دون استثناء وأضحت العلاقة بين فضاء وادى النيل من جهة والسهول الغربية والشرقية من جهة اخرى علاقة متوترة تضبطها الإجراءات القسرية بدلاً من التكامل المتكافئ بين طرفيها. لهذه الأسباب الهيكلية قد برز سودان وادى النيل كأقوى إقليم وسط كل الاقاليم السودانية واستخدم قوته هذى لإخضاع تلك الأقاليم. كما سوف نبين بالتفصيل لقد اعتمد هذا الإقليم منذ ذلك الوقت على الإجراءات القمعية (المستمدة من الخبرة الإستبدادية) ولم يركن إلى تأسيس هيمنة سياسية بالمعنى التقليدى. مثل هذه العلاقة تجعلنا ننظر للصراعات الحالية بإعتبارها أصلاً صراعات هيكلية‘ ليست عرقية كما يسعى لتصويرها عدد كبير من الكتاب السياسيين فى الآونة الأخيرة. وبمنطقها الهيكلى هذا هى أيضاً صراعات داخل هذا الفضاء ذاته بين عروبيين يسعون لإستلاب كافة المجموعات غير العربية وتغريبها عن ثقافاتها من جهة وأبناء تلك المجموعات الذين يسعون لتعميق جذور ثقافاتهم من جهة أُخرى. هذه الصراعات فاقم منها الوضع الجديد فى إدارة الموارد الذى بموجبه صارت أقلية من الناس بإمكانها الحصول والإستحواذ على الجزء الأكبر من الموارد بينما تم تهميش وحرمان الأغلبية الساحقة من السودانيين من حقوقهم التاريخية فى الإستفادة من هذه الموارد.
    جيوستراتيجى الندرة:
    إرتبط عهد الأتراك فى السودان إرتباطاً كبيراً بخلق الندرة فى الموارد الطبيعية على نطاق واسع. شرط الندرة أو خلق الندرة نتج عن اسباب سياسية-أمنية وأسباب اقتصادية وايديولوجية. الاسباب السياسية تتجلى اكثر فى حرق الغابات لدواعى أمنية. فالقوم حكام صحارى مكشوفة والغابات بالنسبة لهم هى ليس سوى أماكن لإختباء المتمردين وقطاع الطرق والذئاب والافاعى. لذلك فقد أحرق حكام مصر الأتراك غابات السودان بقدر خوفهم وهواجسهم. مثال الحرق على نطاق واسع ما حدث لغابات القاش حين ضم أبو ودان اقليم التاكا . يضاف إلى الأسباب السياسية-الأمنية للندرة الإرهاب الذى مارسه الأتراك على مناطق واسعة فى السودان النيلى. فقد كانت هذه المناطق عامرة بسكانها وصارت خراباً بعد أن هلك الاتراك جزء كبير من سكانها وزرعوا الرعب فى قلوب من تبقوا فتركوها هاربين ناحية الجنوب والجنوب الغربى. وبذهاب الانسان الذى يعمِّر الارض تزحف الرمال قليلاً قليلاً فتدفن أراض كانت منتجة وتهوى كل الاشجار التى لا تجد من يسقيها. أما الأسباب الإقتصادية فتمثلت فى الإستفادة من أخشاب السودان وما ترتب عليه من قطع جائر للغابات. ومثال القطع الجائر ونهب الغابات هو ما اوكل لبعض العبابدة فى شمال شرق السودان وذلك بهدف تصدير الفحم إلى مصر ؛ جزء كبير من قطع ونهب الغابات ربما تم بشكل قسرى وربما أحدث ذلك تصحراً على نطاق أوسع مما نتصوره اليوم، إذ أن جزء كبير من إستهلاك مصر من الأخشاب والفحم كانت تتم تغطيته من السودان ولعل ما ورد من ذكر هجرة عائلة الإمام المهدى من جزيرة لبب إلى الخرطوم وهى عائلة تحترف صناعة القوارب هو أبلغ دليل على التصحر الناتج عن القطع الجائر للغابات فى الشمال فى عهد الأتراك؛ وهو أيضاً دليل واضح على تبنِّى الأتراك للإستراتيحية الإجتثاثية المتمثلة فى طرد سكان هذا الإقليم. كذلك حدثت الندرة بسبب تراكم أعداد كبيرة من السكان فى مناطق ظنّوا أنها آمنة وبعيدة عن متناول الاتراك. هذا الوضع الاخير يخلق بمرور الزمن جزراً صحراوية تكون عرضة لزحف الرمال تدفع فى وقت لاحق بسكانها إلى مناطق اخرى متسببة فى صراعات محلية على الموارد وربما تتحول هى الاخرى بدورها إلى جزر صحراوية. هذا الشرط (صراع الموارد على النطاق المحلِّى) مثَّل الأرضية الخصبة لسياسة "فرِّق تسد" التى وجدت فيها الإدارات الإستعمارية والوطنية النخبوية ستراتيجية ناجعة للسيطرة على الشعوب السودانية وإستغلالها من جهة وأوجدت الأسباب الآيديولوجية لخلق الندرة فى الموارد الطبيعية من جهة اخرى. سوف نشير أدناه إلى تطور مفهوم جديد فى عهد التركية يتمثل فى الشعور بالغَلَبة لدى المجموعات الشمالية وهو الشعور الذى أسس للأسباب الآيديولوجية للندرة. هذا الشعور، كما سوف نوضح لاحقاً، قد عمقته قوانين ملكية الأرض فى عهد الإنقليز وإستيلاء الحكومات النخبوية على أراضى المجموعات السكانية فى فترة ما-بعد الإستقلال وتخريب هذه الأراضى وقمع وطرد سكانها الأصليين.
    ندرة الموارد الناتجة فى البدء عن أسباب سياسية-أمنية وإقتصادية تسببت فى تصادم مجموعات تخوم الصحراء مع مجموعات حزام السافنا وهو التصادم الذى أفاد المستعمرين كثيراً وذلك لما سببه من إخلال فى موازين القوى وميل بعض المجموعات للتحالف مع الغزاة. لقد نتجت الندرة التى قادت للتصادم عن تكدُّس المجموعات الهاربة من الإرهاب التركى فى نطاق ضيِّق نسبياً فى هذه الحقبة. إرتبط الغزو التركى بقسوة لا تماثلها قسوة على الاطلاق فى تاريخ السودان الحديث. فهو تاريخ مذابح مستمرة لم يسلم من دمارها السودانيون إلا بعد أن هزموا الاتراك وحرروا السودان من إرهابهم. فالغزو التركى كان نقطة البداية للعنف على نطاق واسع ولتحوُّل كبير فى علاقة المنتصر بالخاسر فى المعركة. ففى كل المرات التى ظفرت فيها قوات الحكومة بمقاوميها أو بمعارضيها سحلتهم أو نكلت بهم تنكيلاً ما عهدوه أو أرهبتهم وأجبرتهم على الفرار بعيداً إلى أقاليم أخرى. لقد أباد الأتراك أعداد هائلة من مُلاِّك السواقى فى الشمال واجتثوا الرعاة وطردوهم من اقاليم واسعة فى شمال السودان. لقد أسس الأتراك لعنف الدولة على نطاق واسع. بسبب هذا الارهاب التركى أُجبرت مجموعات سكانية كبيرة على الهرب والتغلغل جنوباً تاركةً وراءها أراضيها ومواردها الاخرى؛ اتجه معظمها إلى الجنوب والجنوب الغربى (أعالى النيل، بحر الغزال ودارفور على وجه الخصوص). ففى الفترة ما بين 1840 وحتى 1860 كانت مملكة الشلك فى أعالى النيل من أكبر أماكن اللجؤء للمجموعات القادمة من السودان النيلى وتخوم الصحراء . فقد شرد الاترااك مئات الالاف بل الملايين من سكان تلك المناطق ويكفى أن نشير هنا أنه ورد فى مكاتبات الاتراك أنفسهم أن سكان 650 قرية فى شمال السودان قد هجروا قراهم فى بداية العشرينات من القرن التاسع عشر هرباً من الضرائب الباهظة التى فرضها الغزاة ومن هول الحملات التأديبية التى شنها الدفتردار إنتقاماً لحرق صهره إسماعيل باشا والتى أبادت مجموعات كاملة وتسببت عمداً فى عاهات مستديمة لمن لم يقتل .
    هذا النزوح وبهذا الحجم سوف يتسبب فيما بعد فى بذر بذور الغبن التاريخى بين السودانيين الجنوبيين والشماليين. ذلك أن تراكم أعداد كبيرة من السكان الهاربين من الارهاب التركى قد قاد لإختلالات أمنية بمملكة الشلك، مثلاً، مما حدى برَثِّها (يعرف ملك الشلك بالَّرث) إلى تبنى إجراءات من شأنها حماية مملكته تمثلت فى تنظيم الهجرة إليها ومنع تجارة الرقيق فيها. لم يرق ذلك لتجار الرقيق الشماليين الذين أضحوا يخلِّون بأمن هذه المملكة ودخلوا فى تحالف غير مباشر مع الاتراك وأخذوا يخربون هذه المملكة بلا هوادة عن طريق الهجمات المترافقة أحياناً والمتبادلة أحياناً اخري مع هجمات الادارة الاستعمارية . بينما كان الصراع أصلاً قائماً بين الشلك والاتراك كانت هذه هى بدايته مع السودانيين الشماليين إذ أخذ يتفاقم حتى وصل مراحل لا يمكن تداركها. أنهارت مملكة الشلك كمقاومة منيعة فى وجه الغزاة وتدفق عبرها إلى بحر الغزال مزيد من السودانيين المقهورين الهاربين من الارهاب التركى فى الشمال. أدى ذلك إلى الاختلال فى موازين القوى بين مجموعات سكانية هى فى الاصل كانت مجموعات متكافئة من حيث القوة العسكرية وكان توازن القوى التقليدى هذا هو ضمانتها الأقوى فى التعايش والاندماج.
    إننا نزعم هنا أن ذلك التراكم السكانى الذى سببه الارهاب التركى قاد إلى إختلال كبير فى الخارطة السكانية تحققت بموجبه الغلبة الديموقرافية للمجموعات الشمالية فى بعض أجزاء الجنوب. هذه الغلبة الديموقرافية تمثِّل فى نظرنا هى السبب الذى مكَّن الزبير باشا من أن يحكم قبضته على بحر الغزال وليس إستخدامه لجيش من المستعبَدين كما تذهب إلى ذلك كل كتب التاريخ تقريباً. فى الواقع أن فرضية جيش المستعبَدين هذى لا يمكن التحقق منها أو قبولها إلا إذا إفترضنا أن جغرافيتها هى غير بحر الغزال وتحديداً جغرافيا لا تسمح بالتخفى والهرب وتفادى قهر المجنَّد لأبناء جلدته لصالح جلاده. إن فرضية سيطرة الزبير باشا على الجنوبيين وتطويعهم لصيد إخوانهم إنما تعبِّر عن تفسير عنصرى للتاريخ يضفى صفات الذكاء والشجاعة والإقدام على الشماليين وينكرها على الاخرين وهو ما نفته حقائق التاريخ اللاحقة التى برهن فيها الجنوبيون أنهم فى سبيل حريتهم يمكن أن يقاتلوا إلى الأبد. خلاصة القول هنا أن الزبير باشا قاد حملات الإستعباد تلك بجنود هم فى الغالب من الشماليين الذين أفرزهم الرصيد الديموقرافى لأكثر من ثلاثة أجيال من الشماليين الهاربين من الإرهاب التركى. نقول ذلك ونضيف أن نفس الرصيد الديموقرافى الشمالى فى الجنوب هو الذى مكَّن الزبير باشا بمساعدة من الادارة التركية الاستعمارية من مهاجمة مملكة الفور وتحطيمها لصالح المستعمر. كانت هذه بداية الكراهيه وفقدان الثقة بين الشمال والجنوب وكذلك إلى حد ما بين الغرب والسودان النيلى. إذ بينما أسهمت السيطرة على بحر الغزال وتحطيم مملكة الشلك فى أعالى النيل فى شعور الجنوبيين بالغبن التاريخى كذلك أسهم تحطيم مملكة الفور فى شعورهم بخيانة إخوانهم لهم؛ إذ أن أكثر من استفاد من المناخ الآمن لمراكمة راس المال الذى أسست له مملكة الفور هم التجار الجلابة الذين ينتمى إليهم الزبير باشا . الحالتان تعبران عن وضعية إنقسام إلى معسكرين؛ معسكر باغ يضم الاتراك والتجارالجلابة من جهة ومعسكر مقهور يمثل جماع المجموعات السودانية المغلوبة على أمرها بما فيهم الشماليين النيليين. سوف نلاحظ لاحقاً أن هذا الانقسام ساد فى فترة الحكم الانقليزى وطغى على فترات الحكم الوطنى وأن أسوأ ما ترتب عليه هو أعتقاد مجموعة الجلابة المتنفذة أنها فى صراعها مع المجموعات المغبونةً سوف تكسب المعركة عسكرياً وأنه‘ بالتالى‘ لا داع إلى أن تتبنَّى مبدأ الحوار مع هذه المجموعات. هذا الإعتقاد مثل المرجعية الجديدة للتعامل بين السودان النيلى والسهول الغربية والشرقية.
    نشير هنا الى ان التغلغل جنوباً للمجموعات الهاربة من الأتراك قد أسس لإعتقاد عام هو أن الجغرافيا أو الفضاء الجنوبى والجنوب الغربى هذا هو فضاء مفتوح لتوسع المجموعات الشمالية وهو سوف يظل دائماً كذلك. تحول هذا المفهوم المرتبط أصلاً باتساع هذا الفضاء الجغرافى ووفرة موارده واستيعابه لكل المجموعات التى هاجرت إليه من تخوم الصحراء إلى مفهوم يستند إلى الغلبة؛ إذ صارت المجموعات الشمالية تنظر إلى نفسها وكأنها قد أستحقت هذه الفضاء الجديد بحكم قوتها القتالية وتفَرُّدها الثقافى وتمَيُّزها الأخلاقى على مجموعات صارت تنظر إليها باعتبارها مجموعات ضعيفة وغير مؤهلة أصلاً لتعمير الارض. نتج عن مفهوم (أو وَهَم) الغلبة هذا، من وجهة نظرنا، أسوأ خديعة إستعمارية انطلت على النخبة السودانية فيما بعد وهى القناعة الجديدة التى طورتها هذه النخبة والتى فحواها أنه بإمكانها أن تخضع بل وأن تركِّع كل الشعوب السودانية لإرادتها بالحديد والنار وهى بالتالى لم تتبنَّى أى مشروع ستراتيجى جاد للحوار والتعايش بين المجموعات والثقافات السودانية المتباينة. هذا تحول تاريخى أسس لإستصغار المجموعات الشمالية لكل المجموعات الموجودة بحزام السافنا وإلى إعتبار حقوقها وأملاكها حلالٌ نَهْبَهَا وتخريبها، بل أنه يمثِّل الخلفية التاريخية والنفسية للفساد ونهب موارد الدولة المستشرى الآن ولعل القطرسة التى تعامل بها حزب المؤتمر الوطنى مع فضيَّة دارفور هى التعبير الأكثر دِقَّة عن هذه العلاقة الهيكلية. إذاً نحن أمام تحول كبير بموجبه صار الاصدقاء فُرقاء وحلَّت الخيانة والتربُّص بالآخر محل التكامل والتآخى. بدأ هذا التحول تحديداً بمجئ الحكم التركى وتراجعت على قراره القيم السودانية المستندة الى العدل والاحترام المتبادل بين المجموعات السودانية. وقد أصبح هذه الفهم مؤسسياً بعد مجئ الإنقليز وذلك فى ارتباطه بالقوانين الجديدة التى أعطت السودانيين النيليين حق الملكية الفردية لأراضيهم وإنتزعت أراضى المجموعات الاخرى وحولتها إلى ملكية مشاعية. سوف نفصِّل ذلك فى الفقرات التاليات.
    من حسن الحظ لم تستمر التركية طويلاً بالقدر الذى يصيب ذاكرة السودانيين بالضعف. قاوم السودانيون المركزية والتخريب التركى بأشكال تمرد وثورات ما توقفت إلى ان توجت بالثورة الكبرى في عام 1885م. بالإضافة للمقاومة المستمرة التى قادها الشلك ضد الإسترقاق والعمل القسرى والتجنيد الإجبارى قاوم السودانيون الأساليب الإدارية والضريبية في شندي، الحلفايا، العيلفون، الجريف، وكانت دائماً تنتهي بالقمع والمذابح. قاومت قبائل الجنوب الحملات التي أرسلت لا سرها واسترقاقها ،وقاومت قبائل الهدندوة، الفور، ورفاعة الهوى، دفاعاً عن كيانها المستقل وقاوم الشايقية والحمدة والعبابدة والغديات . واجه السودانيون العنف التركى بعنف مضاد طال ليس فقط الجنود إنما قيادتهم المتغطرسة ذاتها. إذ بدأت المقاومة بحرق الجعليين لقائد الغزو (إسماعيل باشا) وجنوده عند المتمة بعد عامين فقط من الغزو كما أحرقت قبائل دار حامد في شمال كردفان (شاكر أغا) قائد الحملة التأديبية التي خرجت لقمع الدعوة السرية للمهدية حيث أحرق ومعه عدد كبير من جنده . انهارت المركزية التركية لأنها كانت أشبه بنبت شيطانى لم يستطع السودانيون التواؤم معه.
    الدولة المهدية (1885- 1898م):-
    كانت المقاومة للاستعمار التركى مقاومة للطبيعة القسرية، وقبل كل ذلك هي مقاومة للأجنبي ومن أجل وصل عري التطور الطبيعي للمجتمع وتُوِّجت المقاومة المستمرة بالثورة المهدية التي اقتلعت الاستعمار من جذوره وذلك بعد أربع سنوات من العمل العسكري المتواصل. يمكننا القول ان المهدية هي نتاج طبيعي للتحولات التي كانت تحدث في مملكة الفونج وتحديداً فى تناقضها مع ما جاءت به التركية. فهي تتأسس بالكامل داخل المجري العام للتصوف ومرجعيته . وبهذا تكون الصوفية فى هذا السياق قد برزت ليس فقط كنزعه نحو التوحد كما فى عهد الفونج بل كأيديولوجيا ثورية معنيَّه بالتَوَّحُد بالدرجة الأولى ليس علي مستوي السودان فحسب بل على مستوى العالم الإسلامي بأسره . علي ان المهدية كثورة لابد ان تحقق قطيعة مع الأنساق السابقة عليها وتنطلق من شروط عصرها وما طرأ علي السودان من تحولات. تمثلت هذه القطيعة فى "حَلِّها" للطرق الصوفية ومراجعتها لدور المؤسسة القبلية. علي أن ذلك يجب أن يتم النظر أليه ويكون ذا معني فقط بالنظر الى الدور السياسي للدولة.
    يمكننا القول انه قبل إن يرسم العمل العسكري الثورى ملامح التشكيلة الجديدة كان المهدى كامنا وبذرة موجودة وان الشروط الموضوعية التي خلقها الاستعمار التركي عَجَّلت بظهوره. فالظلم والعسف الاجتماعي والتفتيت الذي أحدثه الاستعمار كان ينتظر مهدياً "والمهدي يخرج إلى الدنيا وقد امتلأت جوراً وظلماً فيملأها عدلاً، يقسم المال بالسَوِّيَّة ويحمي الضعيف، ويعين علي مصائب الدهر، ويعز الإسلام ويضع الجزية. وهذا هو برنامج المهدي لدي الصوفية يرسم معالم عريضة لمجتمع العدل ". علي أن الأهم من ذلك هو بروز الحاجة الموضوعية لشكل أرقي من الوحدة والأُمه والدولة والتماسك الذى ظل مفقوداً طوال فترة الاستعمار التركى. ففكرة المهدي تنمو في الفترة التى يطغى فيها اتجاه الوحدة والأُمه والدولة علي القبلية مما يفتح الباب علي مصراعيه لمشاريع ومطامح كبيرة؛ إذ أن دعوة المهدي المنتظر في نهاية الأمر تطمح للاستيلاء علي السلطة السياسية وهذا ما طبع المهدية في السودان منذ البداية. هذه الدعوة لكي تتجاوز الإرث المجزأ والمبني علي ثنائيات أيديولوجية، أعلنت وحدتها علي الصعيد النظري في أن كل الناس متساوون ولا نعمة إلا نعمة الدين، ولا كرم إلا كرم التقوى، ولا حسب إلا حسب الامتثال لأمر الله والتواضع حتى يكون بالنسبة إلى آحاد عباد الله كواحد منهم" . هذا الطرح النظرى حقَّق الفكرة علي الصعيد العملي. انطلقت شرارة الثورة المهدية في عام 1881م وحررت مدن بارا والأبيض في عام 1982م وكان تنظيمها يكتمل وينضج . وحين بلغت قوات المهدية مشارف الخرطوم كان السودانيون في كل مكان يحررون مدنهم ويستولون علي الحاميات التركية باسم المهدية ، وتم تحرير الخرطوم في عام 1885م ليحكم السودان بحكم وطني استمر 13 عاماً.
    تكاتُف السودانيين هذا يتراءى وكأنه لحظة صحو مفاجئة. لكنه فى الواقع إستعادة لذاكرة كاملة كادت تطمرها الكراهية التى تجذرت إبان العهد التركى وهى ذاكرة التثاقف الصوفى الدافع بإتجاه الوحدة. لكي تتأسس دولة الوحدة المهدية هذه لابد ان تقدم مشروعها الجديد المغاير. النقد الذي مارسه المهدي علي (السياسي) يكمن في الرؤيا المهدية التي ترتكز علي "الزهد"، وهو زهد فى كل المكاسب التى حققتها الدولة التركية للمتحالفين معها. والزهد هنا أيضا دعوة لهجر هذه المكاسب والإبتعاد عنها والهجرة إلى حيث المهدى. هذه الهجرة كانت البذرة الأكثر أهمية لمشروع الوحدة لو أن الثورة ومن بعدها الدولة المهدية عمقت مدلولاتها. لقد استند المهدي إلى الإرث الصوفي في اعمق معانية . "وبعد ان أوضح المهدي عالم المهدية وهو عالم فيه بريق وجذب، دعا الناس للانتقال أليه والخروج من عالم التركية الملئ بالمظالم .. وكان ذلك الخروج يعبر عن أقصي درجات الرفض .وفكرة الخروج سواء كانت ’مصادقة المغارة، أو لحاق المريد بشيخه لها جذورها في التراث الصوفي ، ولكن دعوة المهدي كانت من اجل تحويلها من موقف سلبي إلى معركة من أجل القضاء علي الظلم الذي يعاني منه الناس… من الهروب خوفاً وفزعاً إلى الهروب من أجل تغيير الواقع. فكانت تلك الدعوة هي الوسيلة التي يستطيع بها تكوين جيش من المقاتلين الخلص والكوادر الطليعية. فلا غرو إذا غدت من الأفكار المركزية في دعوته ". مفهوم الهجرة المهدية هنا، بالذات من وجهة نظرالمريد، يمكن مطابقته مع مفهوم الهجرة الصوفية الذى ساد قبل مجئ الاتراك ولذلك أهميته فى كسر الحواجز الجغرافية والقبلية التى وجدت تعبيرها الأقوى ضمن الفضاء الصوفى كما أوضحنا سابقاً. أثرت التحولات التي حققتها الثورة المهدية علي مصالح بعض الفئات التي كان لها ارتباطات بالاستعمار التركي وأكثر ما تمثل ذلك في بعض الطرق الصوفية التي كانت تحالف أو تهادن الحكم التركى وبعض القبائل التي ناصبت المهدية العداء بسبب تحرير المهدية لبعض القبائل من سيطرة قبائل اخري داخل دائرة هيمنة/قمع التي طبعت الفترة التركية .
    رغماً عن أن المهدية أسست لتحولات كبيرة إلا أنها للأسف كرَّست لأسوأ ما فى الحكم التركى وقد تمثل ذلك تحديداً فى المركزية الصارمة وعنف الدولة وهما خصيصتان ورثتهما وعمقتهما الدولة الوطنية لفترة ما بعد الاستقلال أيضاً. كانت المركزية الصارمة وعنف الدولة من إهم الاسباب الداخلية التى أدت إلى سقوط الدولة المهدية إذ أننا نلاحظ أنه حتى بعد أن استقر أمر الثورة ظلت هنالك دائماً معارضة تمثلت في خروج البعض والرفض للأساليب الضريبية المو######## عن العهد التركي وهى أساليب أخذت عن الاطراف كل شئ ووظفته لمصلحة المركز والفئات الحاكمة فيه. كذلك فإن الندرة ظلت طاغية فى عهد المهدية وذلك بسبب الحروب المستمرة وعدم الإستقرار فى معظم أقاليم البلاد. من وجهة نظرنا فإن تغَوُّل المركز الجديد على الحقوق السياسية والاقتصادية للاطراف وحرمانها وخيبة أملها فى إستعادة إستقلالها النسبى هو من بين أهم الأسباب التى قادت إلى الصدامات العديدة مع القبائل وعجّلت بسقوط الدولة المهدية. وهذا هو نفس السبب الذى وسم نظام الحكم فى السودان بعدم الإستقرار طوال فترة ما-بعد الإستقلال.
    الاستعمار الإنقليزى (1898- 1956م):
    عنصر الإرهاب التركى الذى رجَّ الخارطة السكانية كان حاضراً بشكل أو بآخر فى فترة الحكم الثنائى على الأقل إبان العقدين الأولين منها. بجانب ذاكرة الخوف من الإرهاب التركى كانت المقاومة السودانية للغزو مستمرة وبالتالى فإن المواجهات بينها والجيش الغازى أثرت على تشكيل الخارطة السكانية. هنالك شواهد عدة على أن السودانيين فى مواجهة الغزاة بأسلحتهم النارية لجأوا لنفس الاسلوب الذى تبنوه فى مواجهة إرهاب التركية السابقة وهو الهرب أو الهجرة إلى المناطق الداخلية البعيدة عن مراكز تجهيز الحملات التأديبية. بسبب الخوف أو المواجهات هاجر سكان شمال السودان بأعداد هائلة للأقاليم الجنوبية والغربية. ولعل ما يبعث على الدهشة هو أن نصف سكان السودان، كما تورد بعض التقديرات‘ كانوا يعيشون فى إقليم بحر الغزال وحده حتى بداية العشرينات من القرن الماضى (راجع لاهماير 2001).
    لا ينفصل الاستعمار الإنقليزى عن الاستعمار التركى بل يُعتبر استمرارية له. وهكذا فان الاستعمار الإنقليزي هو تركيز لثنائيات الاستعمار التركي وضبطها اكثر بحكم مقتضيات التطور فى السودان. فقد اضطر النظام الجديد الى إدخال أساليب إدارية جديدة وتحديث أساليب الزراعة وإستصلاح مساحات واسعة لزراعة القطن الذي سوف يصدر إلى مصانع لانكشير ببريطانيا . برزت إلى الوجود علاقة استنزافيه بين القطاع الحديث المرافق لتوسع المشروع الرأسمالي والقطاع التقليدي بموجبها يستنزف الأول الأخير ويحدث تحولات عميقة في البنية التحتية للمجتمع أسست في نهاية المطاف إلى علاقة هيكلية أكثر صرامة بين المركز والهامش وذلك لما صحبها من تمدّد وقدرة فائقة توّفرت لجهاز الدولة فى مقابل المؤسسات التقليدية.
    أدت الاجراءت والقرارات التي اتخذتها الإدارة البريطانية فى السودان إلى خلخلة فى بناء مؤسسات المجتمع المدنى السوداني وتحديدا مؤسساته التقليدية وذلك بدفعها الى وضعية اكثر سلبية. وفي هذه الفترة بالذات تصبح القبيلة (قَبَلِيَّة) وتصبح الطريقة الصوفية (طائفية) وتصير الثقافة مصدر للعنصرية والغبن الاجتماعي. السبب فى ذلك من وجهة نظرنا يعود لإستدماج "السياسى" بشكل مباشر لهذه المؤسسات فى نسق الدولة؛ أى تسييسها بالقدر الذى يجعلها فى خدمة مؤسسات الدولة بشكل مباشرويؤسس لغربتها عن واقعها ودورها التقليدى. رافق تسييس الوحدات القبلية الصغيرة والطرق الصوفية هذا خلق مؤسسات أكبر أو بالأحرى تجميع هذه الوحدات "المتباينة" فى كيانات أكبر فيما أطلق عليه "نظارة العموم" وقُدِّمت بأعتبارها متجانسة وذات أهدافٍ وطموحات مشتركة. نشير هنا إلى أن نظارة العموم وهى تجميع قبائل مختلفة أو مجموعات سكانية لا تنتمى إلى قبائل فى وحدة إدارية وتدشينها وإطلاق إسم قبيلةٍ ما عليها. هذه فى الواقع بداية الغُربة الثقافية لمجموعات عديدة تمّت قسراً تحت ما سُمِّى بسياسة دمج القبائل (tribal amalgamation). على صعيد قومى نلاحظ أنه فى هذه الفترة قُدِّمت أو عُوملت الثقافة العربية والإسلامية بإعتبارها ثقافة واحدة ومتجانسة وذلك لإلغاء التعددية الكثيفة التى تعتبرها الإدارة الإستعمارية فضاء لتفريخ المهدويين والعيسويين—مصدر ذعر الإنقليز الإساس. توصيف الثقافات العربية والإسلامية فى شمال السودان بأنها ثقافة واحدة كان هدفاً إستعماريّاً الغرض منه تقديم هذه الثقافة "الضخمة" كثقافة متغوِّلة يجب حماية الثقافات الأفريقية "الصغيرة" منها. وبموجب ذلك يتم إصدار قانون المناطق المقفولة وتبَنِّى سياسة فصل الجنوب وتتعزز‘ تبعاً لذلك‘ الثنائيات مسلم - مسيحي ، عربي- أفريقي ، شمالي- جنوبي‘ الخ . بمعنى آخر أن التسييس الذى حدث للمؤسسات التقليدية لم يؤسس لغربتها عن واقعها فحسب، وإنما استدمجها ضمن استراتيجيات التحكُّم الإستعمارى ومصادمة السودانيين بعضهم ببعض. نشير هنا إلى أن ألإنقليز قد استخدموا العرب (بدو شمال كردفان وبدو جنوب دارفور) لتحطيم مملكة الفور وبهذا قد كرروا الدور الذى أوكله الأتراك للزبير باشا فى تحطيم نفس المملكة فى القرن التاسع عشر. نلاحظ أنه فى نفس الوقت الذى "جُرِّمت" فيه الثقافة العربية الإسلامية بإعتبارها معتدية نلاحظ أن حامليها قد حُظُوا بالقدرالأكبر من الرعاية من الإدارة البريطانية الإستعمارية. نحن نعتقد أنه بمثل هذه الإستراتيجيات حاول الاستعمار إيقاف التطور الطبيعي للتلاقح والتكامل الثقافي بين السودانيين ‘ أو بالأحرى تجفيف مواردهم الثقافية وذلك بقولبتها ضمن قوالب سلطوية مُوغِلة فى "البياض".
    كرفض لهذه السياسات برزت الحركة الوطنية باكراً كأقوى حركة تحرر وطني في مستعمرات أفريقيا المدارية وقد برزت كرد فعل علي وفد الزعماء الدينيين والقبليين إلى لندن في 1919م والذين نصبوا أنفسهم كمتحدثين وممثلين لجميع السودانيين وقد ارتبط هذا بإعلان الإنقليز لما عرف "بمسألة السودان" والذي عني به استئثار بريطانيا بالسودان وفصل مصيره عن مصير مصر التي كانت هى أيضاً تعيش تحت الهيمنة البريطانية آنذاك .
    تحولت الصوفية تحت مظلة الاستعمار البريطانى إلى أداة للتفتيت بدلا من تحقيق الوحدة. تمثل ذلك جليا فى علاقة زعمائها التقليديين بطليعة الحركة الوطنية متمثلة في الخريجين وهذه هي المرحلة التي بدأت فيها المؤسسة الصوفية والمؤسسة القبلية (بمختلف مكوناتها المتنافسة) تتحالف مع الاستعمار لتحقيق أغراضها وبالمقابل لكى تستخدم بواسطة الاستعمار في ضرب وعي الوحدة وتماسكه. إستثمر الإنقليز قدرتهم علي استمالة الزعماء التقليديين بكافة الأساليب لتحقيق أغراضهم الإستعمارية. فمثلاً قد استدعي الإنقليز فى هذا السياق الزعيم الصوفى سيدي بن عمر زعيم الطريقة التجانية (بعد ان امتدحته الحكومة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر) ليوقف مشاركة اتباعه السودانيين في الحركة الوطنية السودانية . بل أن ما يبعث علي الاستغراب ان نفس الطريقة كان المصريون، فى منافستهم مع الإنقليز، يحاولون استخدامها لفرض نفوذهم في السودان بواسطة محمد الحافظ التجاني شيخ الطريقة بمصر .
    أما بالنسبة للقبيلة فقد استن الاستعمار الإنقليزي عدة قوانين عام 1919م وعام 1921م و1926م لتقوية مراكز زعماء القبائل الحليف التقليدي لزعماء الطوائف الدينية علي اعتبار أن هؤلاء الزعماء العشائريين يمثلون الفئة الوحيدة ذات الأهمية التي لا تمثل خطرا علي الحكومة الاستعمارية . فقد استخدم الإنقليز هؤلاء الزعماء لتحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية مناهِضة للحركة الوطنية: أولاً تقويتهم بحيث يصبحوا قوة موازية للزعماء الطائفيين والانتلجنسيا ، ثانياً إستخدامهم لإبعاد سكان الأرياف عن الانتلجنسيا و"التلوث" الذى تسببه أفكار الانتلجنسيا، وأخيرا تقليل عدد السودانيين الذين يتلقون تعليما غربيا والذين عادةً ما ينتهي بهم المطاف ناشطين في الحركة الوطنية وفوق كل ذلك لكي يصير زعماء العشائر فيما بعد شخصيات قومية متجاوزة لدائرة القبلية‘ ممثلين للشعب . وهكذا تعزز مفهوم القبلية وأصبحت أيديولوجيا تتأسس داخل علاقات السلطة الاستعمارية تقوم علي المبدأ الاستعماري (فرق تسد) الذي خلق عملياً على الارض حيازات قبلية عززت الفرز بين القبائل وعزلها عن بعضها البعض .
    الضرب علي تماسك الوحدة لم يقتصر علي فرز السودانيين إلى كيانات ثقافية كبرى (عرب – أفارقة، مسلمين – مسيحيين، الخ..) بل إلى خلخلة النسيج الأخلاقى الذى يضبط الكيانات التقليدية. فالمؤسسات والعقوبات مثل السجن والجلد والغرامة لم تكن موجودة في النظام العقابي القبلي، بل حين يطبقها زعيم القبيلة علي أفراد قبيلته فانه إنما يجلب عليهم العار والإهانة والفقر وبتطبيقها تسقط‘ ضمنيا‘ فلسفة الأجاويد وتتشوه كل القيم الاجتماعية المرتبطة بها . أضافة إلى ذلك نجد أن علاقات الهيمنة/القمع صارت تتأسس داخل نظارة العموم وهى كيان جمع فيه الإنقليز قبائل عدة، أحياناً مختلفة عرقياَ، بهدف تقليل المنصرفات الإدارية. فقبيلة ناظر العموم صارت تهيمن على القبائل الصغيرة الملحقة بها. بل كذلك نجد أن الهرمية الإدارية الجديدة قد ميَّزت تمييزاً صارخاً بين النظار والعمد من جهة وأفراد قبائلهم من جهة أخرى . هذه الهرمية قد قادت في نهاية المطاف الي ظهور فئة استعمارية من بين (الوطنيين) يحكمون نيابة عن الاستعماريين الإنقليز وهى علاقة مهَّدت الطريق أمامهم فيما بعد ليكونوا ضمن النخبة الحاكمة المحتكرة للسلطة فى سودان ما-بعد الإستقلال . هذا طبع فيما بعد سلوك الأحزاب الطائفية في تحالفها مع القبيلة، فهى بدلاً من إشاعة الديموقواطية بين كل الناس إعتمدت بالكامل على كارزمية زعماء القبائل وهى كارزمية مهددة بحكم التحولات الإجتماعية وهذا فى حد ذاته جعل القيادة القبلية أميل للتحالف مع القيادة الطائفية لتحقيق مصالحها الذاتية على حساب المصلحة الجماعية للقبيلة أو تجمُّع القبائل.
    لم يتغير سلوك القبيلة والطائفة علي هذا المستوي فحسب بل تعداه إلى إضفاء المشروعية على الإدارة الإستعمارية علي حساب الحركة الوطنية وذلك بوقوفها كعقبة في طريق الطبقة المستنيرة التي أصبحت تتصور الاستقلال بطريقة تتعارض مع مصالح المؤسسات التقليدية وذلك أخذ يتضح بدءاً من العام 1920م. فى هذا العام تأسست جمعية الاتحاد السوداني كمنظمة سياسية سرِّية ترفع شعارات وطنية ومناهضة للاستعمار وتدعو إلى الوحدة مع مصر. تمخض عن الصراع الداخلي بين الجناح المعتدل والجناح الثوري لجمعية الاتحاد السوداني ميلاد جمعية اللواء الأبيض عام 1923م لتنتقل بالعمل السياسي من عمل سرِّي إلى علني مباشرلإثناء الإنقليز عن الإنفراد بحكم السودان. قيادة اللواء الأبيض التي تنبذ العرقية يقودها علي عبد اللطيف (دينكاوى/نوباوى) وتعبِّر أكثر عن موقع القبائل المستبعدة عرقياً والقوي الاجتماعية الصاعدة المتمثلة فى العمال والمزارعين ومثل هذه الحركة بإدراكها ووعيها بالوحدة تدق بقوة علي مصالح القيادات التقليدية. وهذا بالضبط ما جعل الجمعية تدعو إلى وحدة وادي النيل – اي الوحدة مع مصر الخارجة للتو من وطأة النفوذ الإستعمار البريطانى المباشر. مع جمعية اللواء الأبيَض بدأ يتبلور مفهوم جديد للامة السودانية تمثَّل فى الدعوة لقيام الأمة السودانية المتحدة ، ورفضاً لهاجس التشتت ومقاومته هي أيضاً "مجتمع قبائل السودان المتحدة" . والأخير هذا، أى مجتمع قبائل السودان المتحدة، يمثِّل من وجهة نظرنا أكثر المشاريع جرأة لأنه يستدعى الذاكرة ما-قبل الاستعمارية ويقدمها فى ثوب عصرى—يعترف بخصوصيتها فى إطار الدولة السودانية الموحدة. لكن للأسف أن ثورة 1924 التى قادتها جمعية اللواء الأبيض لتحقيق هذا الهدف لم تنجح عسكرياً فى طرد المستعمرين.
    نزعم أن الدعوة إلى مجتمع قبائل السودان المتحدة كانت فى جوهرها دعوة لإستعادة الإستقلال النسبى للوحدات القبلية والإدارية المكونة للسودان وأنها تطورت لاحقاً كمطلب أو دعوة لتحقيق "الحكم الذاتى". لكن مثل هذه الدعوة ربما تتعارض ليس فقط مع سياسات الإدارة الإستعمارية بل تتعارض كذلك مع مصالح المتحالفين مع هذه الإدارة. الشاهد أن الادارة الاستعمارية قد نجحت عن طريق الوفد المكون من الزعماء التقليدين الذى أرسلته إلى لندن ليس فقط فى إبراز هؤلاء الزعماء كمتحدثين باسم الشعب السوداني مما يعنى مواجهتهم لاحقاً لجمعية اللواء الأبيَض بل في تدشين لغة جديدة أسهمت علناً فى تعزيز الانقسام داخل المجتمع السوداني وهى لغة تنم عن نزعة عنصرية وعرقية وتعصب اتجاه الجنوب . إذ بدأ الزعماء التقليديون انطلاقاً من فرضية اصولهم النبيلة وفي تحالفهم مع الاستعمار يحرضون اتباعهم ضد قيادة ثورة 1924 ،ولهذا السبب لم يبذل الإنقليز جهداً كبيراً فى إخماد الثورة ، فالمتعاونون التقليديون كانوا يوئدونها فى مهدها .ولكن على الرغم من أن الزعماء التقليديين استطاعوا أن يؤثروا سلباً فى سيرورة حركة التحرر الوطنى بأشواقها الوحدوية إلا أن المقاومة لم تستكن. بلغت هذه المقاومة نضجها السياسي فى ما تم التعارف عليه بالحركة الوطنية التى برزت كعقيدة مدنية وحَّدت مكونات المجتمع المختلفة . فقد برز إلى الوجود مؤتمر الخريجين العام في عام 1938م وعلي الرغم من انه برز قانونياً كنادي مهتم بالأنشطة الثقافية إلا انه لا يمكن عزله عن السياسة. تمثل ذلك في روحه المنتمية إلى الوطن ووعيه المتجاوز للولاءات القبلية والشخصية متمثلاً برنامجه المهموم بخدمة المصلحة الوطنية ومصلحة الخريجين وهو بالتالي وعاء يستوعب كل الجمعيات . حاول المؤتمر تجاوز شروط الانقسام فى المجتمع السودانى وذلك برفعه فى عام 1942م مذكرة للحكومة الاستعمارية نادي فيها بالحكم الذاتي وإلغاء سياسة وقانون المناطق المقفولة وقد كان لإنتقاداته تأثيرها على سياسات الحكومة الاستعمارية المتمثلة فى فصل الجنوب والمناطق المقفولة وحرمانها من التنمية وفي قيام مؤسسات ذات طبيعة سياسية في الشمال دون الجنوب كالمجلس الاستشاري لشمال السودان عام 1943م.
    اعترفت الحكومة الإستعمارية أخيراً بوحدة الشمال والجنوب والتي كانت مطلباً للشماليين و(بعض) الجنوبيين عبر عنها مؤتمر جوبا 1947م عبر ضغط من المجموعات الوحدوية وحزب الأمة علي السواء . لابد من الاشارة هنا إلى أن مشروع الوحدة السودانية هو فى حد ذاته محل صراع بين الرافضين له من الجنوب والشمال وبين رؤى الناشطين المتحمسين لتحقيقه. فبينما يراه البعض مهماً لأسباب إقتصادية وسياسية/إدارية ودستورية يرى البعض الاخر فيه فرصة لإستنهاض راس المال الثقافى للسودانيين ولعب دور خلاّق يتجاوز المكاسب الاقتصادية والسياسية والدستورية. إن جوهر الوحدة كما يرى البروفيسور مدثر عبد الرحيم ليس إدارياً ودستورياً فحسب بل هو رؤية السودانيين المتعمقة لأنفسهم كحلقة وصل خلاّقة بين أفريقيا والشرق الأوسط، وهي علي وجه الخصوص تضع نصب عينيها مهمة تطوير علاقات إنسانية أرقي بين مختلف الأعراق. وهي أيضاً شرط تحقيق الدور الذي يأمل السودانيون ان يلعبوه علي مستوي العالم . جوهر الوحدة هذا، من وجهة نظرنا، هو بإختصار إستعادة ما-قبل الإستعمارى ضمن شروط جديدة؛ إستعادة السودان الرومانسى وعقلنته ضمن مسعى يرفض التقسيم العرقي والجغرافي وهو مسعى يؤمل له أن يحقق "وحدة الوعي" بوجود تعددى والوعى "بالإختلاف" الذى يمليه. دون إبتسار نحن نعتقد أن الشرطين الجديدين على السودان الّذََيْن ذكرنا سابقاً (وعلى وجه الخصوص شرط خلق الندرة) قد وقفا عقبة فى طريق هذه الوحدة المأمولة.
    فترة الحكم الثنائى هى الفترة التى عمقت الاحساس بالندرة وذلك من وجهة نظرنا يرجع لسببين أساسيين. الاول أن الادارة الاستعمارية ومن بعدها الحكومات الوطنية ضمن خطابات التحديث قد أوهمت الناس بتحقيق "وفرة" صار كل ما يتحقق دونها يشى بالإحساس بالندرة والثانى هو أن خلق الندرة إرتبط باسباب اقتصادية تمثلت فى إستيلاء الدولة على مساحات واسعة من الاراض الاكثر إنتاجية واستغلالها للقطاع الحكومى المروى والقطاع المطرى الآلى الخاص وما نتج عنه من نزوح لسكان هذه الأراضى المنزوعة إلى بئات اخرى وإثقال كاهلها فى الوقت الذى يتم فيه إحلال عمال قادمون من خارج السودان مكان أصحاب الأرض الأصليين.
    فى فترة حكم الانقليز تكرس الانقسام بين السودانيين ليس بمصادمتهم مع بعضهم البعض بتركيزهم الديموقرافى فى مناطق معينة كما حدث بسبب الإرهاب التركى بل بأدوات اخرى، أهمها على الاطلاق هو ما يتعلق بملكية الموارد. إذ لأول مرة فى تاريخ السودان يصبح من حق بعض القبائل قانونياً إمتلاك أراضيها بينما نزعت نفس القوانين أراض قبائل اخرى. فالقبائل التى لها أراض على إمتداد الشريط النهرى فى شمال السودان والتى شملت أراض منطقة الجزيرة أيضاً قد سُجِّلت أراضيها واعتُبِرت مملوكة ملكية فردية لأفرادها؛ بينما اعتُبِرت كل أراض السودان المتبقية ملكٌ للدولة وحصل مُلاكها السابقون على حق الانتفاع منها فقط. هذا التمييز فى تمليك الموارد خلق تمايزات عديدة بين مجموعات سكانية كانت فى الاصل مجموعات متساوية إلى حدٍّ كبير فى ملكيتها لمواردها‘ فى قوَّتها العسكرية، فى إعتدادها بنفسها، درجة فاعليتها ودرجة حمايتها لنفسها ودرجة تحقيقها لأمنها الغذائى.
    نشير هنا إلى أن وجود هذا القانون الذى ميَّز بشكلٍ غير عادل بين السودانيين فى ما يتعلق بملكية الأرض قد كان وما يزال السبب الأساس فى خلق الندرة وتعريض غالبية سكان السودان لكافة أنواع المخاطر. لقد تسبب هذا القانون فى إفقار الغالبية العظمى من سكان الريف وتعريضهم المستمر لنهب مواردهم بواسطة الدولة. فحتى حق الإنتفاع بما كانوا يملكون سابقاً من أراض يمكن للدولة فى الواقع أن تنزعه فى أى وقت شاءت مستندة إلى ما تعتبره تحقيق المصلحة العامة بما فى ذلك إعطاء الاراضى المنزوعة لبعض المتنفذين فى القطاع الخاص. ترتب على هذا التمييز ليس فقط الحصول على أشكال الدعم المختلفة من الدولة للذين يتمتعون بالملكية الفردية لأراضيهم والمتنفذين الذين تنتزع لصالحهم أراضى البسطاء فحسب، بل ترتب عليه التعالى الثقافى والعرقى أيضاً. بعض المتنفذين القادمين من "إقليم الملكية الفردية" وجدوا الطريق أمامهم مفتوحة بإستمرار للإستيلاء على الأراضى المنزوعة من أصحابها الأصليين الذين يقطنون "أقاليم الملكية المشاعية". هذا القانون غير العادل بخصوص ملكية الأرض كرَّس لرؤية ايديولوجية للموارد قوامها أن الفئات المتنفذة فى إرتباطها بجهاز الدولة صارت تعتقد أن لها الأحقية فى الاستيلاء على موارد الاخرين "وتعميرها" لأن أصحاب الموارد الأصليين كما تتصورهم غير مؤهلين حضارياً لتنمية هذه الموارد. إحساس المنتصر دوماً هذا فى زمان البقاء للأقوى تحت مظلّة الدولة النخبوية الإستبدادية (بالذات فى فترتى حكم مايو و"الإنقاذ") هذا الإحساس أعطى شعوراً زائفاً للمتنفذين بأنهم الأجدر والأعرق وأن الآخرين ليسوا سوى رعاعيين يجب أن يستباح حقهم. هذا هو المبرر الأخلاقى الذى بموجبه لم تنتزع الأراضى فحسب بل أُهلكت أعداد هائلة من مُلاكها الاصليين فى مواجهات مباشرة مع أجهزة الدولة القمعية شمل ذلك الحملات الجهادية الإنقاذية أو بتعطيل العملية الإنتاجية وتعريض هؤلاء الملاّك للمجاعات والمخاطر الأُخرى. تسبب نزع أراضى المزارعين التقليديين والرعاة لصالح المتنفذين تسبب بشكل مباشر فى مضاعفة أثر الندرة لأن الملاك الجدد قد تسببوا فى دمار هائل للموارد الجديدة عليهم وذلك يرجع لعدم معرفتهم بالاستخدام المستدام لها أو لعدم استعدادهم أصلاً فى توخى شروط الإستخدام المستدام لمثل هذه الموارد. المتنفذين أيقنوا أنهم فى موقف المهاجم المندفع دوماً إلى الأمام وأن أصحاب الأرض منهزمون وفارُّون ولهذا لم يستولوا على مواردهم فحسب بل أساءوا إستعمالها وهذه هى الأسباب الآيديولوجية لخلق الندرة التى أشرنا لها دون تفصيل فى مكان آخر من هذه الورقة.
    ما-بعد الإستقلال:
    بدلاً من أن يأتى الأستقلال قوةً ونفعاً وإنعتاقاً نجده فى الواقع، بالذات تحت سيطرة الحكومات العسكرية، قد كرَّس لشرطى المركزية والندرة التى خلقها الإستعمار وهى أهم الشروط التى قعدت بالدولة السودانية وعمَّقت من حالة عدم الإستقرار فيها. عنف الدولة (فى فترة التركية السابقة واللاحقة وفى فترة حكم المهدية) الذى فصَّلنا سابقاً كان بداية الضعف الهيكلى فى السودان، أذ أن المنتصر فى المعركة صار لا يبقى على اى معارضة، السمة التى توارثتها الدكتاتوريات العسكرية البغيضة فى السودان والتى عن طريق إعادة إنتاج الندرة حولت، فى العقود الأخيرة، بلاد الخيرات والرغد الى ارض بلقع طاردة الى ابنائها وموغلة فى سوء السمعة السياسية على صعيد عالمى. فى فترة ما-بعد الإستقلال لم نحقق قطيعة سياسية ومعرفية مع الأطر التركية وهكذا لم ننجز اى مشروع ذى بال. بل الأمَرّ من ذلك تحولنا من دولة كان يمكن ان تكون رائدة فى الحفاظ على كرامة مواطنيها وتحقيق رفاههم الى دولة متنطعة تستجدى من يملكون ومن لا يملكون وتشرد بنيها فى كل اصقاع الارض.
    لقد ذكرنا سابقاً إن أكبر خسارة مُنِى بها السودانيون هى انتزاع ممالكهم من أنساق الحزام السودانى وإدماجها فى نسق الإستبداد الشرقى. فى فترة ما-بعد الإستقلال كانت هذه الخسارة تتجلَّى بوضوح فى النزعة الإستبدادية الإقصائية التى بدأت تعبر عنها شرائح النخبة الشمالية بشكلٍ أكثر وضوحاً. لقد كان (بعض) السودانيين الشماليين "عرباً سودانيين" لقرون عديدة حين كانوا يتعاطون مع أنساق الحزام السودانى ولكنهم صاروا "عرباً عروبيين" حين تم إدماجهم فى أنساق الإستبداد الشرقى بدءاً بمجئ التركية وتعمَّق ذلك تحديداً فى الفترة التى أعقبت الإستقلال. أخذ السودانيون الشماليون (أو بالأحرى النخب الحاكمة) فى التخلى عن أعظم ملحمة أبدعها (أجدادهم) السودانيون من أجل التلاقح والتوحد الثقافى والإجتماعى وهى الصوفية كنظام أخلاقى قائم على الإعتراف بالآخر ودخلوا أحلافاً وبدأوا يتبنون ايديولوجيات إقصائية أجَّجت الحرب الأهلية وعزَّزت روح الانقسام. من وجهة نظرنا أن كل محاولات التوحُّد باستثناء ملحمة التوحد والتثاقف الصوفية االسودانية هى عبارة عن هرطقات وملاحم كاذبة حتى وهى ترفع شعارات التحديث والتقدمية وذلك لأنها لم تؤسس ألى أى مشروع للوحدة فى شمال السودان دعك عن الوحدة بين هذا الشمال والجنوب. القيام بنشر الإسلام والعروبة بالوكالة وباستخدام منهج الإسلاميين والعروبيين‘ الذى يمثِّل ملحمة القيادة السياسية الإنتهازية‘ أسس لآيديولوجيات إقصائية فى السودان تنسف فى النهاية الأساس الذى تقوم عليه مشروعية هذه القيادة. الايديولوجيات الاقصائية لم تُدِن وتبخس موروثاتنا وتخرِّب مواردنا الثقافية فحسب بل خرَّبت مواردنا الطبيعية أيضا وهكذا عجّلت بالمواجهة الشاملة بين المجموعات السودانية. فالأُطر الفكرية التى عبَّرت عن صراعات وقَدَّمت معالجات لأمراض إجتماعية "شرق-أوسطية" قد تم إستيرادها إلى السودان دون إخضاعها للتجربة والموروث السودانى ولهذا جاءت شائهة وما يزال كثير من السودانيين مصدومون ومستغربون "من أين أتى" حَمَلَتها حتى بعد أن "نجحت" هذه الاطر فى أن تصير "دولة" فى السودان فى العقود الثلاث الأخيرة. إن مأساة النخبة السودانية لا تكمن فى تاريخها المزرى فى التحالف مع "التركية" بل فى تمثلها التركية كنظام أخلاقى. ذلك يحدث بشكل ملتبس جداً يتمثل فى رفض الموروثات (جماع الموارد الثقافية) السودانية واستبدالها ("تحديثها") بما هو فى الصميم موروث عن التركية ويشمل ذلك الآيديلوجيات العروبية والإسلاموية ومعاييرها الإقصائية التكفيرية الغريبة على المعايير السودانية.
    بينما عطلت التبعية للقوى الخارجية تقدم السودان عموماً فإن أسوأ جوانبها هو تكريس الانظمة الدكتاتورية التى وجدت فى هذه القوى الخارجية معيناً قوياً يرجِّح كفَّتها على حساب الارادة الشعبية وخياراتها الديموقراطية. فالتبعية للأنظمة الإستبدادية العربية، مثلاً، تفترض ألا ينطلق السودان لآفاق الديموقراطية الأرحب لأن ذلك فى المحيط العربى يعتبر مهدداً لهذه الأنظمة. ليس هذا فحسب بل أن هذه الأنظمة دفعت بايديولوجياتها التوسعية ومعاييرها العروبية والاسلاموية إلى السودان وحمَّلت هذه الدولة الهامشية (هامشية هنا بالنسبة لمنظومة الدول العربية) أعباء القيام بنشر هذه الآيديولوجيات بالوكالة . تصادمت الآيديولوجيات التوسعية مع مقدرات السودان الحقيقية من جهة والإستعداد الفعلى للتوسعيين العرب لدعم الأنظمة المربكة التى تتعاقب على السودان من جهة اخرى، وتصادمت معاييرهم العروبية والإسلاموية مع القيم السودانية السائدة وهى قيم‘ أى القيم السودانية‘ أكثر تقدما من هذه المعايير فى تعبيرها عن التعايش والإعتراف بالآخر وتأسيس السلم الإجتماعى. هذا التخريب فى الغالب نتج عن إنتهازية القيادة السياسية السودانية التى قدمت السودان للمنظومة العربية باعتباره بلاد عربية وكل سكانها عرب ومتحمسون لإنتمائهم العربى. لقد تملّقت هذه القيادة وابتزَّت بعض العرب لما وجدت فيهم من حماس وجهل بالفسيفساء السودانية. فى أحيان كثيرة غاب عن وعى القيادة السياسية الإنتهازية أن السودان أكبر من أن يكون تابعاً لأى دولة عربية. بل أن العرب ذاتهم ربما يستغربون كيف تقبل القيادة السياسية فى دولة يفترض فيها أن تكون رائدة على نطاق قارتها أن تتهافت عليهم مثل ذلك التهافت. فاقم من هذا عدم مبادرة العرب لفهم وسماع الصوت السودانى الآخر، صوت الأغلبية الساحقة بالإضافة إلى جهلهم بتعددية هذه الأغلبية لوقت طويل. لقد تعامل العرب مع السودان على أحسن الفروض بعدم مبالاة. فالعرب لم يفشلوا فى وضع أستراتيجية تتعامل بوعى وحساسية مع التعددية السودانية بل ليس لديهم أصلاً أى إستراتيجية عربية تجاه السودان كما يقول الخبير الاستراتيجى السودانى محمد أبو القاسم حاج حمد.
    لقد نجح المستعمرون والنخب الوطنية الحاكمة على السواء فى أن ينتزعوا السودان من سياقه الثقافى والجيوبوليتيكى ويلحقونه "بمحور وادى النيل" بحسابات جيوستراتيجية جديدة تماماً أسهمت ليس فقط فى تخريب بنى السودان الثقافية والسياسية وإنما كرّست لغربته التاريخية التى لا تسمح بِتبَيُّن ما نحن بصدده الان. إذ أن مجرد القول والتذكير بحقيقة هذا التخريب والاغتراب ربما يثير حفيظة بعض الفئات التى ترتكن لأحكامها الآيديولوجية الجاهزة والتى ربما تعاقب "المتمردين" على النظرية السائدة بالطرد والارهاب الفكرى أو ربما تذهب إلى أبعد من ذلك. المثقفين المنتجين بالكامل ضمن فضاء وآليات هذا الاغتراب بدءاً لا يسمحون بوجود الهامش الذى يسمح بالتساؤل نفسه دعك عن محاولة الاجابة عليه وهم لا يتصورون أن السودان يمكن أن يؤسس لعلاقات أخويّة خلاّقة مع محيطه العربى دون الحاجة إلى التبعية والتملُّق والإبتزاز لهذا المحيط. فالبعض يفضلون قراءة إنتقائية تقفز من فوق الحقائق التاريخية التى يتوجب ذكرها ليس فقط من باب الامانة العلمية للمؤرخين والمفكّرين بل لأهميتها لخدمة مشروع هذا البعض ذاته. إذ أن القراءة الايديولوجية لتاريخنا الحديث لا "تّوسِّخ" ضميرنا الجمعى فحسب وإنما تعطل أسهامنا الواعى فى أنجاز المشاريع التى نتنادى لها أو التى نتباكى عليها سواء تلك التى تتعلق بوحدتنا الوطنية أو تلك التى تتعلق بتفاهمات إقليمية مثل وحدة وادى النيل أو الوحدة العربية. إن القراءة الحصيفة لتاريخنا والتقييم الواعى لراسمالنا الثقافى ولموقعنا الاستراتيجى كدولة تمثل نقطة التلاقى/التصادم بين الديانات العالمية الكبرى المتنافسة وكدولة فى جيرة دولية وثقافية متعددة هى ضرورة مُلِحَّة وضمانة لا بديل لها لإستمرار وحدة وإستقرار بلادنا وضمان رفاه شعبنا. تجدر الاشارة هنا مجدداً إلى أسهامات الخبير الاستراتيجى محمد أبو القاسم حاج حمد الذى بذل جهداً مقدرأ فى لفت نظر المثقفين والساسة السودانيين إلى التعامل الواعى مع الشروط الجيوبوليتيكية للسودان بدلاً من التخبط فى علاقاتنا الخارجية كأن ننقاد عاطفياً حيناً لشعارات مثل وحدة وادى النيل ونفشل فى تحقيقها لنفس السبب أو أن ننفعل حيناً اخر ونقطع دون مبرر كاف علاقتنا بمصر التى نتنادى بالتوحد معها. يضاف إلى الإنقياد العاطفى والإنفعال ما يلاحظ من تعامل بإنتقائية مع حقائق موضوعية فى جيرتنا الدولية. إننا نحتفى بحرارة بعلاقتنا بالشقيقة مصر وننكر بلا خجل علاقات جيرة بدولٍ شقيقة أُخرى رغماً عن أن هذه العلاقات تؤثر تأثيراً مباشراً على أمن السودان القومى وسلامه الإجتماعى بل ودوره الإقليمى والدولى المستقبلى.
    هنالك شروط جديدة ربما تفيد التحولات الجارية فى السودان. أهمها الإنعتاق المأمول للإقليم العربى من دائه التاريخى المتمثل فى الإستبداد وأنظمته السياسية التى قعدت به وبشعوبه. إذا تحقق إنعتاق هذا الإقليم من هذا الداء وذلك بتمكين الديموقراطية والعدالة الإجتماعية فإنه من المؤكد سينعكس إيجاباً على السودان داخلياً وعلى علاقة صحيَّة مع الإقليم العربى أوفر حظاً فى النجاح. فالأنظمة الإستبدادية المتبلدة فى هذا الإقليم ظلت بإستمرار تخوض معاركها الآيديولوجية الخاسرة على تراب السودان وتنسف إستقراره؛ لقد أسهمت هذه الأنظمة بشكلٍ مباشر فى تغذية وتقوية الأُصولية ةالآيديولوجيات الإقصائية فى السودان. فهى كما قعدت بشعوبها قعدت بشعب السودان أيضاً. نجاح الشعوب العربية فى إقصاء الأنطمة الكتاتورية وتأسيس ديموقراطية راشدة فى بلادها سوف يعطى دوراً داعماً للسودان بحكم تجاريه السابقة فى هذا المجال وسوف يتيح ظرفاً جديداً ربما يسمح بمسح العار الذى إرتبط بإسم بلادنا ومس العرب كثير منه وأحرجهم فى المحافل الدولية. إستعادة السودان للديموقراطية وتأسيس الديموقراطية فى الإقليم العربى سوف يسمح بقيام جسر صحِّى مع إفريقيا حداته ليسوا المهووسين ودعاة الإمبراطوريات الوهمية بل القيادة المؤمنة بالإختلاف والتنوُّع‘ داخلياً وخارجياً‘ كمحفزات لخلق عالم أكثر إنسانية‘ أكثر رفاهية. مثل هذا الوضع سوف يردّ غُربة السودان عن إفريقيا التى تطاول بها الزمن. المكوِّن الثقافى الإفريقى‘ فى زمن الإستقطاب‘ ظلّ دائماً هو البلسم الذى يخفِّف من فوران سموم الإستبداد الشرقى فى السودان؛ إنه الدواء الناجع لأمراض الهوس الدينى.
    السودان الجديد:
    بالإضافة للخطاب الفكرى الرصين الذى جذَّرته الحركة الشعبية وتمثَّلتة بعض قوى المعارضة الأُخرى وبعض منظمات المجتمع المدنى‘ فإن أهم ما يبرِّر الدعوة إلى "السودان الجديد" من وجهة نظرنا هو ما طرأ على الخارطة السكانية من تغيُّر أهم ما يميِّزه أنه، أولاً، قد أحدث تغييراً جيوبوليتيكياً مهماً ذلك لأنه أتى بالثقل السكانى بإثنياته المهمشة على إختلافها إلى مركز القرار السياسى—مركز الخطابات الجديَّة؛ ذلك المركز الذى كان نائياً وإستبدادياً فى علاقته بالمجموعات السكانية التى يحكمها. ثانياً، وكنتيجة لما سبق‘ أنه جلب ألوان ثقافية عديدة إلى مركز النظام السياسى الذى صحَّرته الآيديولوجيات الإقصائية—المركز الذى صار قاحلاً ثقافياً وعاجزاً عن إدراك مقدراته وموارده الثقافية وكابح لإنطلاقها. ثالثاً ما أحدثه من مراجعة للمواقف السياسية للأحزاب والإتجاه نحو الوسطية وتكريس الديموقراطية. رابعاً، شرط الوفرة الجديد المتمثل فى إستخراج النفط الذى يمكِّن من تخفيف الغبن التاريخى للمجموعات المهمشة.
    لقد تضافرت عناصر هيكلية عديدة أدت إلى أنعكاس نمط الهجرات السكانية التاريخية (النمط الألفى للهجرات) التى وصفناها سابقاً. هذه العناصر تتمثل بوضوح فى أهم ثلاث: أولاً تركيز التنمية الاقتصادية وبالتالى متطلبات سوق العمل فى سودان وادى النيل الأوسط وهذا ما دفع بأعداد كبيرة من العمال للهجرة إليه. ضاعف من ذلك ما نتج عن هذا التركيز من "وفرة" وترقى إجتماعى(social mobility) للمجموعات المحلية وبعض المجموعات الوافدة وإنتقالها لأعمال وأماكن اخرى وبالتالى الحاجة المتجددة لأيدى عاملة قادمة فى الغالب من الاقاليم (السهول الغربية والشرقية) المحرومة من التنمية لتحل محلها. ثانياً إنغلاق (أو إغلاق) الحدود التى كانت مفتوحة للمجموعات الشمالية للتوغُل جنوبأ وذلك تجلى بشكل واضح فى المساومة التاريخية بين حزب المؤتمر الوطنى الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان فى الابقاء على قوانين الشريعة الاسلامية فى الشمال مقابل الحكم الذاتى فى الجنوب ؛ أى الفصل العملى للجنوب عن الشمال قانونياً وثقافياً. ارتبط إنغلاق الفضاء المفتوح بتحولات بيئية عميقة وصراعات حادة حول الموارد نسفت التعايش السلمى بين المجموعات السكانية وأدْلَجَت وقلّلت أو حدَّت من الهجرة عبر المسارات التاريخية للقبائل واستضافة هذه القبائل لبعضها البعض.نتج عن هذا الإغلاق نزوح بعض هذه القبائل إلى السودان النيلى واستقرارها على هوامش المدن الكبرى والمشاريع الزراعية الحديثة. ثالثاً انحسار نمط البداوة الذى كان يمثل رأس الرمح فى دفع وتوغل المجموعات السكانية العربية المسلمة جنوباً وغرباً. يتمثل هذا الانحسار فى الشروط الهيكلية التى تدفع أو تجبر البدو على الاستقرار فى القرى والمدن أو فى هجرة بعضهم إلى أسواق العمل فى الدول العربية يساعدهم عامل اللغة دون غيرهم من بقية السودانيين. مما يدلل على إنحسار نمط الإنتاج البدوى‘ إن صحّ التعبير‘ وبالتالى إنحسار البداوة هو أن عدد البدو فد تناقض من مليونين ومائة ألف للعام 1983 إلى سبعمائة ألف فقط فى عام 1993 . المجاعات وموجات الجفاف والتصحر أنهت النمط الألفى للهجرات بدفعها لمجموعات بكاملها للهجرة والإستقرار فى السودان النيلى. سوف نفصِّل ذلك لاحقاً.
    خلاصة القول أن قوة الدفع السكانى جنوباً التى أعطت الاحساس بالغلبة للمجموعات العربية المسلمة القادمة من الشمال وبررت تاريخياً وصف السودان باعتباره الجسر الذى يربط بين إفريقيا والعالم العربى الاسلامى هذه القوة قد انحسرت كثيراً أو نفدت كلياً الان. وللمفارقة العجيبة أن ذلك حدث تحت قيادة وبموافقة الجبهة الإسلامية القومية—أكثر الأحزاب السياسية بالسودان نزوعاً نحو التوسع ليس فقط لأسلمة وتعريب جنوب السودان بل كامل قارة إفريقيا. هذا يوضح بجلاء أن المهمة التى اوكلت للسودانيين العرب/ المسلمين فى تعريب وأسلمة إفريقيا قد إنتهت بشكلها التاريخى وأن إعادة الكرَّة بالاساليب القديمة لهؤلاء الوكلاء ربما لا تقلِّص فضاءهم الثقافى فحسب بل جغرافيتهم السياسية ذاتها وذلك بدفعهم إلى تخوم الصحراء مرة اخرى. من هذه الزاوية تحديداً فإن الطرد من "أندلس" أُخرى الذى يحذِّر منه "منبر السلام العادل" وبعض العنصريين الآخرين من شمال السودان قد حدث وانتهى ولو جزئياً؛ لقد دخلنا فى ما يبدو مرحلة ما بعد الأندلس وهى مرحلة تحتاج إلى خطاب جديد ومغاير لما سبقه. (سوف نعود لهذه الجزئية لاحقاً).
    هل الخارطة السكانية الجديدة للسودان باعثة على التفاؤل فى كونها فضاء جديد من داخله يتعرف السودانيون على بعضهم البعض ضمن شروط حساسية جديدة ويجددون من داخلها اكتشاف شمائلهم الجميلة وإرثهم التسامحى الفريد؟ ما مدى العقلانية الجديدة التى تفرضها هذه الخارطة السكانية الجديدة وما مدى إسهامها فى خلق وتأسيس السودان الجديد؟ إلى أى مدى تفرض الخارطة الجديدة حاجة السودانيين لإستعادة إرثهم التسامحى والتأسيس لثقافة السلام والتعايش؟ هل تعكس الخارطة السكانية الجديدة توازناً سكانياً جديداً وما مدى إسهام ذلك فى إستعادة توازن القوى الذى اختل لما يقارب القرنين من الزمان بين المجموعات السكانية فى السودان؟ أم أن الخارطة السكانية الجديدة باعثة على الخوف وتعكس إختلالاً فى توازن القوى وما المخاطر التى تترتب على ذلك؟ ما مدى نجاح العنصريين من الشماليين فى الاستفادة من معطياتها وما مدى تأثيرهم على البِنْيَة الشمالية المتسامحة أصلاً والتى خرَّبها خطاب الكراهية الإسلاموى حالياً وجعلها قابلة للإنفجار فى أية لحظة؟ كيف تعمل اليات الخطاب العنصرى الشمالى الذى يزيِّن التغلغل السكانى جنوباً ويحرَّمه شمالاً؟
    سوف نحاول الاجابة على هذه الاسئلة بربطها بالتحولات التى تحدث فى الخرطوم بإعتبارها مركز السلطة وميدان إعتراك الخطابات السياسية الجديَّة. ماذا حدث لهذه العاصمة منذ تأسيسها وماذا يعنى ذلك للسياسة القومية عموماً؟
    الخرطوم "القلعة":
    الذى ينظر إلى تاريخ السودان منذ بدء الاستعمار التركى ولمدة عقد كامل يلاحظ أنه كلما توغل السكان الهاربين من الإرهاب التركى جنوباً أكثر فأكثر كلما كانت العاصمة التركية "تهرب" شمالاًَ. هل هذه مصادفةً؟ أم أنه منطق وسم العلاقة الجيوبوليتيكية بين الكثافة السكانية ومركز السلطة فى السودان؟ وما تأثير ذلك على النخب الحاكمة؟ إننا نزعم أن الخصيصة الهروبية التى لازمت الإدارة الاستعمارية التركية لأكثر من عقدٍ من الزمان منذ دخولها السودان وتأسيسها لعاصمتها فى الخرطوم قد طبعت هذه العاصمة حتى هذه اللحظة بِسِمَة عدم الإصغاء لمطالب الشعوب التى تحكم وهكذا ورَّطتها فى عدم إدراك حاجات هذه الشعوب وبالتالى مراكمة غُبنها والأخير هذا هو سبب هاجس الخرطوم التاريخى المتمثل فى إحساسها بأنها عرضة "للغزوات" المدمِّرة من قِبل هذه الشعوب. الخرطوم الحالية متورطة فى حالة كونها عاصمة تركية – عاصمة ورثت كل صفات العاصمة التركية الاستعمارية؛ عاصمة مُهَجَّسَة، وبالتالى متربِّصة بكل "الغرباء" وهى هكذا لن يهدأ لها بال إلا حين تُهجِّنهم، حين تُعِيد تشكيل كيميائهم النفسى فى قوالب الأرثودوكسية والإستبداد الشرق-أوسطيين‘ أو تسحقهم أو تقذف بهم بعيداً فى اتون المجهول أو فى أحيان أخرى تستدمجهم فى خطابها السياسى العام لكن تحديداً بهدف تقديمهم كقرابين لإستمرار مشروعية نمط حكمها الإستبدادى. عزلة الخرطوم جعلت منها عاصمة استبدادية. هل تغير ذلك الآن بعد أن تحوَّلت الخرطوم من عاصمة ذات أغلبية عربية إلى عاصمة أقليات لا تدعى أيٍّ منها الغلبة عددياً على الأُخريات؟
    يجدر بنا هنا أن نشير إلى أن مدن عدة كانت مرشحة لأن تصير عاصمة للسودان. ففى عام 1820 بعد دخول الحملة التركية الأُولى وبعد معركة بارا التى هزم فيها جيش المَقدوم مَسلَّم صارت مدينة الابيض أهم المدن التى يتمركز فيها الغزاة وهى بالتالى "عاصمتهم" الأولى. وبعد أن تقدمت الحملة الثانية بقيادة إسماعيل باشا صارت بربر العاصمة الانتقالية للغزاة والتى تقدمت منها الحملات جنوباً. باستسلام سنار عاصمة مملكة الفونج إتخذها المستعمرين الاتراك "عاصمة" لهم. لكن سنار لم تكن مقاماً طيباً للغزاة فتركوها وحلوا بود مدنى لتكون "عاصمتهم" التالية والتى لم تطب مقاماً هى الاخرى. وربما أدار الأتراك السودان من حاميات عسكرية عديدة كعواصم أخرى غير التى ذكرنا. وهكذا بعد ثلاثة عشر عاماً من بدء الغزو، أى فى عام 1834، استقر رأى الحكام الجدد على أن تكون الخرطوم وليس غيرها هى عاصمتهم الثابتة. وهكذا صارت الخرطوم منذ ذلك التاريخ عاصمة السودان بلا منازع بإستثناء الفترة من 1885 وحتى 1898 حين أصبحت توأمتها الغربية‘ أُم درمان‘ عاصمةً للدولة المهدية. ما هى المزايا إذاً التى جعلت الاتراك يفضِّلون الخرطوم عاصمةً لهم؟
    نبدأ بالقول أن الخرطوم لها صفات القلاع المُحَصَّنة، فهى محاطة بنهرين عملاقين يصعب عبورهما لمجموعات سكانية لم تتطور صناعة الزوارق عندها لمقابلة حاجات قتالية؛ يكفى أن نشير هنا إلى أن حصار قوات المهدية للخرطوم بعد نصف قرن من إنشائها كان قد إستمر لأكثر من عشرة إشهر من مارس 1884 وحتى تم تحريرها فى يناير 1885. كذلك مما يضاعف من صفات القلاع لوضعية الخرطوم هى أنها مُعَلَّقة بعيداً فى إقليم شبه الصحراء (الان فى الصحراء) فى شمال شرق السودان وهكذا يصعب الوصول إليها فى مجموعات كبيرة بهدف إخضاعها عسكرياً. كذلك فإن ندرة الموارد فى هذا الاقليم وبالذات بعد هرب السكان من الارهاب التركى جعل أى مغامرة بهدف الاستيلاء على الخرطوم عسكرياً فى ذلك الوقت أمراً فى غاية الصعوبة. الخرطوم بهذه المواصفات هى المكان الآمن الذى لجأت إليه قيادة المستعمرين المذعورة. إنها المكان المناسب الذى تستجمِع فيه الادارة الاستعمارية قواها فى مواجهة ردة الفعل وسيل الهجمات التى انتجتها مملكة الشلك والمجموعات العربية التى هربت من الشمال واحتمت بهذه المملكة بعد أن أخذت تستجمع قواها وتنظم صفوفها فى أدغال المناطق الجنوبية. فى الواقع لم تتمكن الادارة الاستعمارية التركية من إخضاع مملكة الشلك وكسر شوكة المجموعات العربية المحتمية بها إلا حين تمكنت من الاختباء فى الخرطوم؛ القلعة الجديدة التى ترسل منها كتائب الموت والاسترقاق والنهب ثم تتابع أخبار ضحاياها من على البُعْد. سبب اخر ربما دفع الاتراك لإختيار الخرطوم هو أنها تقع فى إقليم كل سكانه أو أغلبهم من العرب المسلمين الذين بدأت الادارة التركية فى ذلك الوقت تسعى للتحالف معهم بهدف تقوية صفها لكى تمارس مزيداً من الاسترقاق والنهب لأقاليم السودان الاخرى.
    الوضعية الجديدة هى أن العاصمة قامت فى أجزاء السودان الأقل سكاناً، أو بمعنى أكثر دقةً، أجزاء البلاد التى أخليت نسبياً من السكان بسبب الارهاب التركى. وهى هكذا على العكس من كل الممالك السودانية التى حكمت مجموعات سكانية فى حزام السافنا. بمعنى اخر، أن كل الممالك التى حكمت أجزاء من حزام السافنا، بإستثتاء الخرطوم، كانت عواصمها فى ذلك الحزام المأهول بالسكان أكثر من غيره. ولأن نمط الهجرات السكانية كما وصفناه سابقاً كان فى الغالب من السودان النيلى وإلى حزام السافنا فإن العاصمة ظلت لسنوات طويلةً تحكم الاقليم الأقل سكاناً؛ بل الإقليم الذى كان عدد سكانه فى تناقص طيلة الفترة من 1820 وحتى 1840 بسبب الهروب الجماعى والذى ربما إستمر حتى بعد هذه الفترة. وإذا افترضنا أن المجموعات الحاكمة تتأثر بكثافة محيطها السكانى فإن الخرطوم كانت بالكاد تحتكم إلي سكان البلاد الشاسعة التى تحكمها. إذ أن الاقاليم المأهولة بأعداد كبيرة من السكان كانت بعيدة جداً عن هذه العاصمة. بل أن الخرطوم تطورت هكذا على مدى أكثر من مائة وسبعين عاماً تلت تأسيسها لتصبح المركز الادارى، السياسى، الاقتصادى، والثقافى؛ مدمجةً ممالك كثيرة ومنهيةً الاستقلال النسبى لمجموعات سكانية عديدة، لا تصدر الأحكام إلا منها ولا تُعتمد خطة إقتصادية إلا التى يحبكها خبراؤها. ونتيجة لذلك صار سودان وادى النيل مهيمناً على كل أقاليم السودان الاخرى وصار يصبغها بصبغته وطبيعة حكمه التاريخية الأكثر مركزيةً. هذه العلاقة الهيكلية بين الخرطوم وأقاليم السودان الاخرى علاقة جديدة تماماً قائمة على أنكار الإختلاف فى طبيعة النظم السياسية وشروط شرعية النظام السياسى وقبول المحكومين به. كما سوف نعرض إلى ذلك لاحقاً كان عدم الاعتراف بالإختلاف هذا هو السبب الاساس فى عدم الاستقرار السياسى فى السودان فى معظم الفترة من 1820 وحتى الان. والخرطوم محصنة ونائية هكذا لا تتصوَّر محكوميها إلا باعتبارهم أقوام يجب أن تُطْبِق عليهم قبضتها الحديدية وتستنزفهم حتى النهاية وهو ما يفاقم من رفض هؤلاء المحكومين لسيطرتها‘ بل وشرعيتها. أضحت الخرطوم النائية تتفرَّج على الاقوام الذين تحكم وهم يعتركون ويقتتلون ويسحقهم الفقر والمجاعات دون أن تشعر بالخطر أو بالعار. ولعل هذا هو مبعث المفارقة العجيبة وهى أن الخرطوم تزدهر ربما أكثر من أى عاصمة أخرى بينما أطراف البلاد التى تحكم تحولت إلى محارق ومقابر. بسبب بُعْد الثقل السكانى ربما قل شعور الخرطوم بالخطر وبسبب بُعْد أولئك السكان الذين يجأرون بالشكوى قل شعور نخبها بالخجل. الخرطوم تضمن خراجها من محكوميها المغبونين وتضمن ثمن قيامها بقهرهم وإذلالهم ذهباً ونفطاً من العروبيين/الإسلامويين الذين تقوم بالوكالة عنهم بنشر ما يرفضه هؤلاء المحكومين. السمة الغالبة على علاقة الخرطوم بمحكوميها هى كونها علاقة نهبية من الطراز الاول ومأزق الخرطوم التاريخى هو أنها حَكَمَت بخبرة الاستبداد الشرقى شعوب وأقاليم تتأسس ذاكرتها السياسية فى الاستقلال الإدارى النسبى عن مركز النظام السياسى فى ممالكها التاريخية. إذاً نحن أمام علاقة هيكلية معقدة تجعل التفسير الثقافى لتاريخ الصراعات فى السودان‘ وهو ما يحلو للبعض الإتكاء عليه هذه الأيام‘ تجعله ناقص أو بدون معنى. نقصد بالتفسير الثقافى للتاريخ إعطاء الأولوية للعوامل الثقافية (دينية‘ عرقية‘ إلخ) باعتبارها المحرك الأساس للتاريخ وما ينتج عنه من ربط العسف الإجتماعى الراهن بهيمنة مجموعات إثنية بعينها. التفسير الثقافى يتجاوز المسألة الطبقية النخبويَّة المدعومة إقليمياً ودولياً.
    تطورت الخرطوم هكذا لتكون "قلعة" نخبويَّة واستمرت لتكون من أميز المدن التى تُراكِم الثراء فى داخلها دون أن يوجد أى شئ فى محيطها القريب يدلل على أنها مدينة مُنْتِجة وأستمر ذلك لفترة طويلة قبل أن تُراكِم وتُحَوِّل رأسمالها البدائى إلى راسمال تجارى وصناعى. ثمة ما يبعث على الاستغراب فى هذا التطور وهو ما عبَّر عنه الباحثان السودانيان (الأصم وخوجلى) بالتساؤل: كيف تسنَّى لهذه المدينة شبه-الصحراوية أن تخلِق كل هذه الوفرة فى محيطها رغماً عن مناخها الطارد ؟!.
    تطوُّر الخرطوم كعاصمة للتركية ثم إرتباط هذا التطوُّر بالتحديث الزراعى على مقربة منها فى الجزيرة على عهد الانقليز وتكريسه فى فترة ما-بعد الاستقلال قد أحدث تحولات جيوبوليتيكية هائلة سوف تؤثر من وجهة نظرنا على مجريات السياسة القومية بكاملها بل والسياسة الاقليمية لمنطقة شرق وشمال إفريقيا. هذا التحول أكثر ما يعبِّر عنه هو هذا الإنقلاب الهائل فى اتجاهات الهجرة السكانية، تحديداً إنعكاس إتجاه "النمط الألفى للهجرات" السكانية التى كما أوضحنا سابقاً كانت تاريخياً وبشكل عام تنطلق خارجة من السودان النيلى إلى السهول الغربية فى كردفان ودارفور وبحر الغزال. ونقصد بإنقلابها أن تلك الأقاليم التى ظلت تستقبل كل الهجرات الخارجة من السودان النيلى أصبحت تدفع بمجموعات سكانية كبيرة ولفترات متلاحقة إلى ضفاف النيل وبالذات إلى مدنه الكبرى مثل العاصمة المثلثة. هذا الانقلاب بدأ منذ العقد الاول من القرن الماضى لكنه أخذ شكلاً درامياً منذ سبعينات ذلك القرن واستمر حتى يومنا هذا. أى أن الأسباب الهيكلية التى جعلت من الخرطوم عاصمة للأستبداد قد تبدَّلت الآن تبدُّلاً كبيراً.
    فى الواقع إذا تأملنا زيادة السكان فى الخرطوم فإننا ربما نزداد إستغراباً فى درجة التحوُّل فى اتجاه الهجرة السكانية. لقد قفز عدد سكان هذه المدينة من 13 ألف نسمة فى عام 1843 ، أى بعد عقد من الزمان على إعتماد الاتراك لها عاصمةً، قفز إلى 7 ملايين وثلاثمائة ألف نسمة فى العام 2002 . أى أن عدد سكان الخرطوم قد تضاعف 540 مرة خلال 160 عاماً. ربما يقول قائل أن تلك الزيادة فى أعداد السكان قد حدثت فى جميع مدن وأقاليم السودان وأن الخرطوم، هكذا، ليست إستثناءاً. إلا أننا بالنظر إلى التقديرات والاحصائيات السكانية القومية لفترات مختلفة ندرك أن السودان النيلى عموماً هو الاكثر جذباً إلى السكان المهاجرين من أقاليم السودان الاخرى وأن ولاية الخرطوم الحالية هى الحائز على نصيب الأسد من جملة المهاجرين القادمين إلى السودان النيلى. فمثلاً فى الفترة بين 1922 وحتى العام 2000 تضاعف عدد سكان شمال السودان عموماً 10 مرات بينما تضاعف عدد سكان الشريط النيلى (الاقليم الأوسط، محافظة الخرطوم، والاقليم الشمالى) 12 مرة. ولأن التركُّز السكانى يختلف بإختلاف هذى الاقاليم النيلية الثلاثة فإننا نجد السكان يتركزون حيث المشاريع الزراعية الحديثة وحيث تركزالخدمات فى الاقليم الأوسط ومحافظة الخرطوم. ولهذا نلاحظ أنه فى نفس الفترة أعلاه قد تضاعف سكان هذين الاقليمين (الاوسط والخرطوم) مجتمعين 16 مرة. لكن كما أشرنا أن الخرطوم حصلت على نصيب الاسد فى هذه الزيادات السكانية. ففى نفس الفترة، أى من 1922 وحتى عام 2000، تضاعف عدد سكان الاقليم الأوسط 13 مرة بينما تضاعف سكان ولاية الخرطوم 29 مرة. تقديرات سكانية أوردها اخرون توضح أنه بينما تضاعف عدد سكان السودان إجمالاً 12 مرة فى الفترة من 1904 وحتى عام 1990 نجد أن عدد سكان الخرطوم قد تضاعف 50 مرَّة . الاحصائيات القومية للسكان فى السودان وهى أكثر دقة مما سبقها من "تقديرات" تشير إلى أن سكان ولاية الخرطوم كانوا يمثلون 5 فى المائة من إجمالى عدد سكان السودان فى العام 1956 بينما وصل عددهم 15 فى المائة بحلول عام 1990 وفى الوقت الراهن فإن عددهم ربما يكون قد تجاوز 20 فى المائة أو ربما بلغ ربع العدد الإجمالى لسكان البلاد. رغم أن التركز السكانى هذا قد إستمر لعقود عديدة إلا أنه أخذ يتسارع فى العقود الاخيرة. توضح الاحصائيات القومية أن الهجرة الداخلية قد أسهمت بنسبة 85 بالمئة من سكان الخرطوم فى الفترة من 1955 إلى 1983 . أما فيما يتعلق بالنزوح فقد إستقبلت الخرطوم وحدها فى العام 1990 ما يقارب 46 فى المائة من إجمالى عدد النازحين بالسودان . أن النمط العام للتزايد السكانى فى الخرطوم يشير إلى أنها تضاعف عدد سكانها كل 7 أعوام أو أنها تضاعفهم ثلاث مرات كل 15 عام . بمعنى اخر فإن عدد سكان الخرطوم إذا إستمرت نفس الشروط التى تدفع/تجذب السكان إليها سوف يبلغ 15 مليون نسمة بنهاية هذا العقد، أى بحلول عام 2010 على أقل تقدير؛ أو أنه سوف يصل 22 مليون نسمة بحلول عام 2017م. بمعنى اخر أنه ربما يأتى علينا يوم نجد فيه أن نصف سكان السودان يتركزون فى ولاية الخرطوم وحدها. بمنطق تضاعف سكانها كل 7 أعوام ربما لا يكون ذلك اليوم بعيداً، إذ بحلول عام 2025 حين يصبح عدد سكان السودان 61 مليوناً سوف يصبح عدد سكان ولاية الخرطوم 29 مليوناً- أقل بقليل من النصف.
    بالطبع أن هذه التكهنات ربما لا تصدق كلها بالذات إذا كان هنالك تدخلاً واعياً بهدف تلطيف التركُّز السكانى وتلافى مسبباته. إلا أن هنالك أسباب هيكلية تجعلنا نرجح أن التركُّز السكانى فى الخرطوم سوف يستمر لبعض الوقت وأنه ليس من المتوقع أن يعود "النازحون" لمناطقهم. هنالك سبعة أسباب تُخيف النازحين من العودة أو تُحفِّزهم على البقاء حيث هم الآن. أولها أن شروط القسوة التى دفعت بهم إلى الخرطوم ما تزال قائمة . ثانيها أن "النازحين" ربما لا يعودوا بسبب إنهيار النسيج الإجتماعى فى موطنهم الأصل وفقدانهم لما كانوا يملكون أو بسبب التكلفة العالية التى يتطلبها إدخال مناطقهم التقليدية فى العملية الإنتاجية بحكم تركها غفلاً لمدة طويلة . ثالثها، أن النازحين قد خبروا العيش فى المدينة واعتادوا عليه. رابعاً، أن حظ الخرطوم من ميزانيّات التنمية ما يزال كبيراً جداً وهو ما يجذب مزيداً من النازحين والمهاجرين إليها ويدفعهم للتمسك بالبقاء فيها. خامساً، أنه بحسب الإتفاقيات الموقعة بين الحكومة والحركة الشعبية فإن عودة النازحين يجب أن تكون طوعية وبالتالى ليس من حق أى جهة أن تجبر النازحين على العودة . سادساً، لأن الحكومة تبنت إعادة توطينهم فى الغالب فى الخرطوم أو ما جاورها. وأخيراً، بسبب أنه لا يلوح فى الأُفق "تركية ثالثة" تجبرهم على الهرب جنوباً وغرباً وكذلك بسبب الحماية الدولية المتوقعة ضد أى تطير عرقى أو إبادة جماعية يمكن أن تبادر بها جهةٍ ما. هذا بجانب "التوازن الديموقرافى" الذى يجعل أى مغامرة بهدف التطهير العرقى ذات نتائج وخيمة تطال من بادروا بها. بمعنى آخر أن النازحين/سكان الخرطوم الجُدُد باقون وأن على الخرطوميين "الأصليين" التعايش مع هذا الواقع؛ وهو واقع يفرز زيادة سكانية عالية بسبب إرتفاع معدل الخصوبة لدى الأسر القادمة من الأرياف وبسبب هجرة/نزوح ذويهم الذين سوف يلحقون بهم.
    لتعددية الثقافية الجديدة: ضد التصحير الثقافى:
    فى حديثنا عن الموارد الثقافية يجب أن نشير إلى أن السودان منذ مجئ التركية بدأ يشهد تصحُّراُ ثقافياُ ماحقاً تمثل فى تصاعد الايديولوجيات الإقصائية التى تبنَّت بوعى تخريب "الموارد الثقافية" للمجموعات السودانية المهمشة. وصل هذا التصحير قمته فى خطاب الجبهة الإسلامية القومية الذى أنكر ليس فقط حقوق "الإقليات" الثقافية وإنما أدان أى تعبير عن التعددية الثقافية لدى مسلمى شمال السودان باعتبارها تمثِّل شِركاً‘ أى أن إسلامهم مشوب يجب تطهيره من الشرك.
    الوضع السكانى فى الخرطوم وفى سودان وادى النيل الأوسط عموماً الذى وصفناه أعلاه يمثِّل وضعاً جديداً تماماً بحساب الحقب الزمنية الطويلة التى شكَّلت "ذاكرة" الحكم فى السودان. فالعاصمة التى كان عدد سكانها عند إنشائها لا يفوق الواحد فى المائة من سكان السودان يُوجد بها الآن وفى محيطها المُلامس ربع سكان هذا البلد وقريباً جداً سوف يتضاعف ذلك العدد. بالإضافة للأعداد السكانية الهائلة والضغوط التى سوف تنجم عنها فإن هذا الوضع يمثل فضاءاً جديداً تماماً للتعددية الثقافية على نطاق قومى ربما لم يكن ليتصوره كثيرون مِنّا لسنوات قليلة مضت. الاعداد الهائلة للنازحين/مواطنى الخرطوم الجدد تمثل فى الواقع كافة المجموعات الإثنية والثقافية للشعوب السودانية؛ إذ لا تخلو قرية أو مدينة، فريق أو آريت من كل محافظة/محلية فى السودان لم ترسل بعض أو كل أبنائها إلى الخرطوم. هذه المجموعات أتت إلى هنا مدفوعة بشروط القسوة فى مواطنها الاصلية؛ تلك الشروط التى أنتجتها سياسات النُخَب الحاكمة المتمثلة فى التهميش الاقتصادى المرتبط هيكلياً بالتهميش السياسى وما نتج عنه من إستخدام جائر للموارد، من إفقار للتربة تسبب فى إتساع وتسارع درجة التصحير والمجاعات والتطفيف والحروب الاهلية والقَبَليّة التى أفنت أعداد هائلة من الناس وجعلت العيش مستحيلا فى تلك الاصقاع من البلاد. ما يميز الهجرات السكانية الاخيرة عما سبقها هو أنها شملت فى بعض الاحيان هِجرة قرى بكاملها وقبائل بشيوخها ونسائها وأطفالها، بل ونِحاسها. شروط القسوة فى أطراف السودان المختلفة دفعت بمجموعات كبيرة إلى أطراف المدن بحثاً عن أمنها المفقود بأشكاله المختلفة وفى بعض الاحيان بحثأ عن شروط أفضل للعيش. هذه المجموعات جاءت إلى المدن بموروثاتها وأعرافها وأيضاً بغبنها وصراعاتها المحلية وتنافساتها القبلية وإنتماءاتها السياسية الحزبية وتسببت حقيقة فى "ترييف" المدينة كما يقول بذلك البروفيسور حسن مكى أو أنها خلقت سوداناً مصغراً بكل إختلافاته داخل ولاية الخرطوم بِصِغَرها المعلوم. نزعم أن هذا الوضع، أى "ترييف" المدينة، وهو شرط ناتج أصلاً عن التهميش بإعتباره تطوُّراً مشوَّهاً‘ قد أدى إلى تحَوُّلين مهمين على الصعيد السياسى تمثلا فى تصاعد "الغوغائى" فى المرحلة الاولى (وهو ما يمكن أن نعتبره بداية النهاية "للسودان القديم") ثم إلى إنفتاح "السياسى" فى مرحلة لاحقة (وهو ما نعتبره الشرط السياسى لإنطلاقة "السودان الجديد").
    تصاعد "الغوغائى":
    التزايد السكانى المذهل داخل ولاية الخرطوم الذى بدأ مع بداية الثمانينات، نزعم، قد قلب موازين كثيرة وقد أخذ الكثيرين على حين غِرَّة فوجفت له قلوب البعض واهتزت له فرائص البعض وأصاب بعضٌ مغانم وبعضٌ مصائب. إذ بينما الجميع يسعون للرزق فى عقد الثمانينات الخانق ضاقت مواعين الرزق ففازت بكثيره طيور الحدأ المستنسرة وضمرت بسبب ذلك حواصل الأطيار الصغيرة المسكينة. صارت النُدرة فى كل شئ هى السِّمَة الغالبة وصار المتنفذون والتجار الجشعون يكوشون على كل شئ ويصيغون القوانين التى تحميهم. وكان العالم بانتظار مهدى جديد يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جَورا. وجاء المهدى فى ثياب نفس الحاكم الذى كرس للظلم؛ فى ثياب نميرى الامام المستبد القاسى الذى طبَّق ما أسماه هو ومساندوه "قوانين الشريعة الاسلامية" بينما أسماه خصومه "قوانين سبتمبر سيئة السمعة". وما أن هتفت جموع الفقراء الباحثة عن العدل بحياة نميرى الإمام حتى انقلب عليها هذا الإمام يهدِّم مساكنها‘ يجوِّعها ويبدِّل أمنها خوفاً. فقد أصاب النازحين من تلك القوانين الضرر الأكبر فقد حُرموا فى البدء من دخول المدن وبعد دخولهم هُدِّمت منازلهم بشكل غير مسبوق وجُرِّموا كمجموعات وذُبِحت أكفهم وقطِّعت أقدامهم وقُدِّموا قرابيناً لإستمرار نظام يرى كثير من الناس أنه نظام فاسد ومفسد ما حقق عدلاً ولا انتصر إلى فضيلة. وهكذا لكى يتستر نميرى على الندرة التى أحدثتها سياسات حكمه وخيبة المشروع التنموى الذى نادى به قدَّم بل فرض على الناس مشروعاً ثقافياً أجوفاً دعامته المهووسين دينياً وهو مشروع كما تجلّت تبعاته لاحقاً فى عهد الإنقاذ لم يقدِّم للسودانيين شئ سوى هلاكهم وإمتهان كرامتهم وتكريس الكراهية والفرقة بينهم. من هذه الزاوية يتبدى لنا أن قوانين سبتمبر (وبالذات كونها إجراءات عقابية أكثر من أى شئ آخر) ليست سوى إستراتيجية دفاعية إستخدمتها النخبة الحاكمة لتخويف المجموعات الإثنية التى أصبحت "تحاصر" قلعتها فى الخرطوم. لقد كان ذلك نذير "للأقليات" الثقافية والجهوية التى أضحت تخشى من الظلم والإضطهاد المؤسسى الذى يسببه البقاء تحت سقف واحد مع مهووسي"الأغلبية". لقد مثَّلت الفترة التى أعقبت تطبيق قوانين سبتمبر كإجراءات عقابية بداية العنصرية المكشوفة وذلك لأن تطبيق العقوبات لم يطل سوى الفئات الضعيفة فى المجتمع وهذى فى الغالب تنحدر من الأقليات الثقافية المهمّشة وهذا سبب دفعها لأن ترى فى الدولة ليست سوى آلة عنصرية تستخدمها المجموعات المتنفذة.
    نود أن نشير هنا إلى أن التغيرات الهيكلية التى طرأت على الخارطة السكانية التى بدأت، كما أشرنا سابقاً، منذ بداية القرن الماضى كانت أدعى لتأسيس تلاقح ثقافى جديد فى وسط السودان لو أن القيادة السياسية استدعت موروثها الصوفى وتبنت مشروعاً استراتيجياً لبناء الدولة الحديثة قائماً على العدل والمساواة بين أبناء الوطن الواحد. أو أنها على أقل تقدير كانت أدعى لضمان توسيع دائرة الثقافة "الغالبة" فى الشمال لو أن الأخيرة وسَّعَت من مواعينها وتعاطت مع الثقافات السودانية "الوافدة". الواقع أن المنهج الإقصائى الذى تبنته النخبة فى "قلعتها" الخرطوم متمثلاً فى التضييق على ثقافات المجموعات الاخرى، تحديداً بتطبيق قوانين سبتمبر، التى خدمت مصالح طبقية إثنية لمجموعات بعينها واستهدفت أُخرى قمعتها ونكّلت بها؛ هذا التضييق قد أفسد إمكانية التلاقح الثقافى الخلاّق وقلَب ما كان من الممكن أن يكون لمصلحة الثقافة "الغالبة" فى الشمال. فى الواقع أن تطبيق قوانين سبتمبر قد أسس لانحسار هذه الثقافة ونسف المشروعية الأخلاقية التى تدعيها؛ إى تحوُّلها بالضبط من ثقافة قامت على مبدأ التسامح وتقديم القدوة الحسنة إلى ثقافة تفرز طاقات باطشة تنتهك حرمات كل ما هو متعارف عليه كمقدس لدى الثقافات السودانية الأُخرى بل لدى أتباعها أنفسهم. وهكذا فإن النخبة الحاكمة قد إختارت مع بداية الثمانينات من القرن الماضى أن تجاهر بما تفادته لأكثر من ثلاثة عقود فى فترة ما-بعد الإستقلال— ما رأت فيه بحسبانه مأزقى— وهو فرضها كأولويّة قُصوى لثقافتها بالحديد والنار على الاخرين كسياسة عليا للدولة تحظى بالأولوية على غيرها بل وتُحَرِّم كل ما عداها. من وجهة نظرنا إن كل محاولات الأسلمة والتعريب التى تمت قبل تطبيق قوانين سبتمبر لم تكن أولوية للنخب الحاكمة بهدف تحقيق المشروعية وأن محاولات حشرها فى الخطاب السياسى لم تكن سوى مناورات قصد منها‘ بالدرجة الأُولى‘ تحقيق مكاسب سياسية فى الدوائر الإنتخابية فى شمال السودان. الخطر الناجم عن تطبيق قوانين سبتمبر ونتاجه الطبيعى فى نفس الوقت هو تجييش الغوغاء لخدمة هذه السياسة الثقافية وهو سبب ألب عليها كل المجموعات الإثنية الاخرى تقريباً ليس فى بحث هذه المجموعات عن إستقلال ذاتى هذه المرَّة، بل لسعيها لتمييز ثقافاتها لدرجة دفعت بعض المجموعات الإثنية المسلمة لكتابة لغاتها بغيرالعربية وهذا وجه من أوجه فقدان "الأندلس" السودانى.
    وهكذا فإن أخطر ما ترتب على قوانين سبتمبر المايوية هو إنحسار خطاب "الوحدة فى التنوع" وصعود الخطاب الهُوِّياوى الإقصائى الغوغائى الذى كرسته الانقاذ بأمتياز فيما بعد لأكثر من عقد ونصف من الزمان. الشروط التاريخية لذلك تمثلت فى إنحسار دور الدولة التنموى والتطبيق الشائه لما عرف بالحكم الاقليمى. نتج عن الاخير نفخ الروح فى المؤسسة القبلية أو الإنكماش فى مؤسسات الدولة السياسية الحديثة وتمدد القيم القبلية على حسابها . هذا التحول الكبير نتج عن شرط اجتماعى اقتصادى بيئى هو شرط الندرة والتدهور البيئى المريع الذى انتهى إلى الافقار التام لقطاعات شعبية عريضة فى المجتمع السودانى. هذا الإفقار يمثل الشرط الموضوعى لتصاعد الخطاب الغوغائى، ذلك الخطاب المفارق لرزانة السودانيين العاديين فى ضبطهم لسلوكهم العام والمفارق أيضاً لأخلاق (أو مزاعم) الدولة الحديثة فى تثبيت قيم العدل والحريَّة.
    ضرب الإفقار أكثر ما ضرب القطاعات الضعيفة فى المجتمع لكنه أحدث ما يشبه الضربة القاضية لطبقة مهمة فى سيرورة تطور المجتمعات وهى الطبقة الوسطى. هذا الشرط أخرج الخطاب الجمعى الغالب للطبقة الوسطى تقريبا بالكامل من حلبة الخطابات السياسية الجادة (serious discourses) وأفزع مكونات هذه الطبقة كشرائح وأفراد وشردهم فى أصقاع العالم المختلفة. حلِّت مكان خطاب الطبقة الوسطى تلك الخطابات الناجمة عن "الترييف"‘ أو بدقَّة أكثر‘ الخطابات المستفيدة من شرط الترييف ويكمن وراء ذلك رهان الجبهة الاسلامية على الأعداد الكبيرة من فقراء الارياف. هذا الرهان قاد لملء الفراغ الذى تركه تغييب الطبقة الوسطى بخطاب غوغائى طغى على خطاب الاسلاميين بالذات فى الفترة التى تلت إستيلائهم على السلطة فى البلاد بإنقلاب يونيو 1989. فى هذا الصدد يمكننا أن نُمَيِّز بين خطابين للإسلاميين. أولها خطاب عالِم‘ على الأقل فى ظاهره‘ يَتَوَخَّى الرَّصانة يتوجه إلى الطبقة الوسطى؛ وهو خطاب يدعو إلى تأسيس قيم العدل والمساواة ولهذا قد جذب أعداد مقدرة من الشباب من مختلف الإثنيات فى السودان. فقد كان حزب الجبهة الإسلامية من حيث التركيب الإثنى هو الحزب الأكثر تمثيلاً لمختلف الإثنيات بما فيها الإثنيات الأكثر تهميشاً. خاطب حزب الجبهة الإسلامية‘ إلى حدٍّ كبير‘ عقول الصفوة فى هذه الإثنيات وعزَّز فى دواخلهم طموح تجاوز التهميش والتفرقة العنصرية المبطنة التى يعانون. وإذا قُدِّر لهذا الحزب أن يَتَبنَّى مشروعاً ديموقراطياً يطبق قيم العدل والمساواة على صعيد الواقع لكان قد ألغى أو أسهم بشكل كبير فى تجاوز الحدود الإثنية وذلك بالتأسيس على رابطة الدين ولكان قد بزَّ الأحزاب الاخرى وأجبرها على التنافس على أرضية كسر الحدود الإثنية.
    أما الخطاب الثانى فخطاب غوغائى يتوجه ويهدِف إلى إستدراج القطاعات الشعبية وتخريب أخلاقها التسامحية النبيلة وذلك لإستخدامها كأدوات عنف لتحقيق أغراض سياسية. تضافرت عدة شروط أفضت إلى هيمنة الخطاب الغوغائى على الخطاب العالِم تمثَّل أهمها فى إستهداف الجبهة الاسلامية للطبقة الوسطى وذلك على صعيدين: صعيد الوجود الفعلى لهذه الطبقة كمجموعة من الافراد الفاعلين فى الساحة السياسية وذلك بتشريدهم وإرهابهم كما ذكرنا أعلاه وصعيد الخطاب المتمثل فى تسفيه خطاب الطبقة الوسطى وهذا هو الاخطر. فقد جرَّمت الجبهة الاسلامية خطاب الطبقة الوسطى تحت دعاوى العلمانية وبالمقابل نجحت نجاحاً كبيراً فى تحقيق شعارها المتمثل فى "تغيير الكيمياء النفسية للشعب السودانى" وتحديداً عن طريق التكريس المشوَّه "لِما قبل-الحداثى" المتمثل فى الميل إلى الأسْطَرَة وتكريس الخرافة والشعوذة وتبَنِّى العنف والعدوانية كإستراتيجيات لتوزيع الخيرات المجتمعية.
    مثَّل "ترييف" المدينة الشرط الموضوعى الذى ساعد على الأسْطَرَة وتكريس الخرافة والشعوذة. هذا الترييف يمكن أن يفهم بإعتباره نتاج هجرات مجموعات سكانية ريفية بكاملها جاءت الى المدينة بقيمها ونظمها الاجتماعية المحلية ونظرتها للعالم ضمن شروط فقدت فيها تماسكها النفسى الجمعى واصبحت عرضة للإستخدام الشائه بواسطة المتنفذين فى المجتمع الحضري لخدمة أهداف هى ليست أهداف المجتمعات الريفية. وظَّفت الجبهة الإسلامية كوادرها "العالمة" ودعمتهم بكل وسائل الدعاية الحديثة لإقناع الريفيين "البسطاء". لقد وظَّف حزب الجبهة الإسلامية آلتة الإعلامية الضخمة لتخريب ثقافات المجموعات النازحة ببذر الكراهية بينها وتمجيد سحق الآخر. ففى البدء بادرت النخبة الحاكمة بقمع النازحين الذين أخذوا يتحلَّقون حول عاصمتها بل يحاصرون قلعتها وذلك عن طريق الكشَّات المستمرة وتهديم المنازل والترويع بالقوانين الجديدة ولكنها ركنت فى الاخر لتغليب ستراتيجية التحييد والإحتواء. هذا الدور-دور التحييد والإحتواء- قامت به الجبهة الاسلامية كحزب متحالف مع النظام الدكتاتورى المايوى (تحديداً فى الفترة 1978-1985) وكسبت ساحته أكثر من أى حزب اخر قبل أن تصير الحزب المسيطر بشكل مطلق فى فترة حكم الإنقاذ.
    فى فترة التحالف مع مايو بدأت شريحة من شرائح الطبقة الوسطى (فئة الاسلاميين المنتمية لهذه الطبقة) تحقق مكاسب إقتصادية هائلة فى علاقتها بالبنوك الاسلامية وبدأت تتحرك سياسياً فى مساحة أكبر. فى الوقت نفسه بدأت تتصاعد نبرات الغبن الإجتماعى الناجم عن فرض نفس الشروط التى أحدثت الثراء المذهل لكادر الجبهة الإسلامية مما تطلب فرض قوانين رادعة وناجزة تقمع وتخيف كل من يرفع صوته منادياً بوقف مثل هذا الفساد. أى بدلاً من إحداث إصلاح إجتماعى عمدت هذه الشريحة من الطبقة الوسطى المنتمية للجبهة إلى تعلية سور "القلعة" وذلك بتقديم "رؤية" ثقافية تقصى بها كل القوى السياسية والمجموعات الإثنية أو تركِّعها وتجبرها على تبنِّى نفس الرؤية. بحلول عام 1983 وبسبب إستمرار تحالفها مع الدكتاتورية العسكرية المايوية أقصت هذه الشريحة عن ساحة الخطابات الجديَّة بقِيَّة فئات الطبقة الوسطى المستنيرة وذلك بإستخدام الإرهاب الدينى وأصبحت هى الوحيدة فى الساحة تقريباً من حيث المساحة المسموح بها فى مخاطبة جماهير الشعب وتحديداً من حيث ترويج ما هو مسموح به من خطابات. كان بوسع هذه الفئة من الاسلاميين أن تقدم خطاباً مستنيراً نابعاً من خلفيتها كشريحة من شرائح الطبقة الوسطى؛ خطاباً تعكف فيه على تجديد الفكر الاسلامى وتعمقه بالنهل من قيم الحرية والديموقراطية. ولكنها بِِرهانها على تحقيق "أغلبية" عددية فى منافستها مع الاحزاب الاخرى فقدت أستنارتها واستسلمت للبنية الريفية التى أسهمت هى أصلاً فى تشويهها والتى صارت الان "تحاصر" العاصمة‘ قلعة الصفوة الحاكمة. أى أن تسارع صعود "الغوغائى" فى أعوام الانقاذ نتج عن رهان القيادة على الكم وليس الكيف لكن بفارقٍ مهم هو تجييش هذا الكم بوعود هى غير وعود الخطاب التنموى المعقلنة؛ بل بوعود الإنتصار فى معارك الهُويِّة (دينية وعرقية فى الأساس) وتجييش الناس بإستخدام أعتى وسائل الحداثة.
    فى إستهدافها للبنية الريفية صارت فئة الاسلاميين المنتمية للطبقة الوسطى تنتج خطاباً مشوهاً لا هو خطاب سكان الريف الطيبين ولا هو خطاب الطبقة الوسطى وما به من رصانة. هذا الخطاب المسخ (فى كون عقله إستبدادى ما-قبل حداثى وقنوات بَثِّه حداثية) الذى استغرب أغلب السودانيين "من أين أتى" حاملوه راهن بالدرجة الاولى على أنصاف الاميين/أنصاف المثقفين والمهمشين المُعَرَّضين لكافَّة أنواع المخاطر. فأنصاف الاميين/أنصاف المثقفين هم الاكثر عُرْضَةً للإنخداع باللغة السطحية لخطاب الجبهة الإسلامية، والأكثر إستجابة لخطاب يدعو فى ظاهره لتحقيق العدل وذلك من واقع غبنهم الناجم عن فشل المؤسسات التعليمية فى إستيعابهم أو توفير بدائل تحقق تطلعاتهم. فى الواقع أن المؤسسات هذى تصمهم بصفة "الفاقد التربوى" ثم تتركهم للأُصوليين المدعومين والمنتجين فكرياً ضمن إطار الآيولوجيات الإستبدادية لإعادة تنشأتهم ضمن نفس هذا الإطار الوافد. هذه الفئة تشمل قطاع عريض يندرج تحته طلاب المعاهد الدينية وبعض الجامعات الإسلامية الجديدة الذين بالكاد يُخضعون إلى التأهيل الذى يمكنهم من الولوج لمؤسسات الدولة الحديثة والذين بالكاد يدرسون أى شئ يمتُّ للسودان والثقافات السودانية بِصِلة. هذا الوضع يمثل الغربة التاريخية لإجيال كاملة كما يمثِّل الخلفية للتخريب المتعمَّد للتعليم الحديث ومؤسساته مثل جامعة الخرطوم التى حوصرت فى رسالتها التعليمية وأُفسدت أخلاقها الأكاديمية بجانب إفقارها مالياً. وهو أيضاً وضع يمثِّل الصراع الخفى بين الجامعات الدينية والجامعات التقليدية فى السودان.
    أما المهمشين المُعَرَّضين لكافَّة أنواع المخاطر فهم الأكثر عرضة لإستغلال الجبهة الاسلامية القومية لهم وذلك بسبب قلة البدائل المتاحة لهم. كما هو واضح فإن الفئتين أنتجهما واقع النُدرة. إستخدمت الجبهة الاسلامية القومية بعض أفراد هاتين الفئتين بعد أن غسلت أدمغتهم استخدمتهم لإحداث خلخلة مجتمعية تسعى من خلالها لترجيح كفتها على حساب الاحزاب الاخرى. من هذه الزاوية يمكننا القول أن المعركة بين الاسلام والكفر تم تقديمها فى هذه الفترة بالضبط لا لإظهار فضيلة بل فى الواقع لطمس طبيعة الصراع الاقتصادى وأخفاء واقع النُّدرة وما يفرزه من مهدِّدات للوضع القائم. فالندرة التى يكرِّسها جشع فئة التجار الاسلاميين وبقية الرأسمالية الطفيلية لا تُخْمِد مآلاتها سوى خطابات غير اقتصادية، خطابات من شأنها تجاوُز المحن الاقتصادية ليس بإيجاد الحلول الناجعة لها وإنما بتغليفها وتحويلها الى أسئلة ثقافية. أى بدلاً من تفسير الواقع فى السودان باستخدام حِزْمَة من المُسَبِّبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية، إلخ، يتم إختزاله فى عامل واحد هو العامل الثقافى بحصر الصراع فى صراع الهُوِّيات. وهكذا فبدلاً من أن تواجه النخبة التحديات المتجددة وذلك بتجديد خطابها نجدها تُراهِن على إثارة النعرات العرقية والدينية. فى ظل سيادة "الغوغائى" تدهورت موارد السودانيين الثقافية تدهوراً مريعاً؛ فقد تقطَّعت الأواصر التى بنتها حكمة السودانيين لقرون عددا، تراجع دور الحكماء الذين أسسوا للسلم والتعايش بين مجموعاتهم على إختلافها وعلا صوت دعاة الحرب الذين يجهلون تماماً ما يترتب على غوغائيتهم. تركز خطاب القيادة السياسة بالكامل فى تمجيد العدوانية وهكذا سادت الكراهية والانقسام بين مختلف المجموعات الاثنية فى السودان وبدت البلاد تنزلق بإتجاه الخراب الشامل. هذا الوضع، وضع الإنزلاق بإتجاه الخراب الشامل دفع معظم الفاعلين السياسيين لمراجعة مواقفهم المتزمتة السابقة وإدراك الحاجة إلى تحقيق تحوُّل ديموقراطى.
    السودان يتجه نحو الوسطية وتكريس الديمقواطية:
    مما تقدم فى هذه الورقة يمكننا القول أن المركزية السياسية وخلْق الندرة كانتا آفتى مؤسسات المجتمع الأهلى/المدنى إلتهمتها او شوهتها. السؤال الذى نحاول الإجابة عليه فى ما يلى هو هل استعادة هذه المؤسسات ممكنة؟ هل الململة الحالية وما يُحَايِثها من تصاعد فى الخطاب الهوِّياوى هى تعبير عن هذه الإمكانية؟ كسر الحواجز الجغرافية الذى نشهده الآن، إذا إستثنينا أنه نتاج أزمة، لا يماثله فى تاريخ السودان إلا ما حققته الصوفية من كسر لنفس الحواجز. هذا شرط هيكلى تطاول فوق الهويات الإثتية والثقافية والجغرافية ويبدو أنه هو الدافع الأعظم لبناء السودان الجديد والتحوُّل الديموقراطى فيه. هذا التحول الداخلى يترافق مع ما يعرف بال (moralpolitik) كشرط خارجى يوفر التضامن العالمى لحماية حقوق الإنسان فى الإستقرار والعيش بكرامة وهو شرط ضامن لإستقرار الخارطة السكانية الحالية فى وسط السودان النيلى بقفله الطريق أمام أى تطهير عرقى أو إبادة جماعية تهدف إلى التخلُّص من الوافدين الجدد.
    تكريس الديموقراطية:
    هنالك أسباب موضوعية نعتقد أنها أسهمت بشكل مباشر فى تهيئة المناخ لتلافى الخراب الشامل تمثلت فى فضاء "التعددية" الثقافية الجديد الناجم عن التغيُّر الهيكلى فى الخارطة السكانية. أى أن نفس الفضاء الذى يرى فيه بعض أفراد النخبة الشمالية سبباً للخوف والوجل هو شرط لإنتفاء الخوف الناجم عن تصاعد الخطابات الإقصائية الداعية والمحفِّزة على إبادة الآخرين – تلك المياه العكرة التى يتوالد فيها العنصريون وتكتمل دورة حياتهم وخطاباتهم السامَّة وما تسببه من "ملاريا سياسية مزمنة". لقد قاد فضاء التعددية فى تشكُّلاته الاولى إلى كارثة وذلك لإسهامه فى تصاعد "الغوغائى" كما أشرنا سابقاً. ولكنه بالضبط هو نفسه فضاء الإتجاه نحو الوسطية وتكريس الديموقراطية فى تشكُّلاته أو شروطه اللاحقة. إذ من داخل "الزمان الغوغائى" بدأت تتخلق بذرة "السودان الجديد". نستطيع القول أن ترَكُّز السكان فى الخرطوم فى العقود الاخيرة بكافة خلفياتهم الإجتماعية والثقافية قد أدى لتوازن ديموقرافى ولإنفتاح "السياسى" وذلك لما أتاحه من دور مباشر للمجموعات المهمشة فى إقتحام "قلعة" النخبة والتأثير على مجريات الامور فى مركز السلطة؛ تلك الامور التى ظلت حكراً على النخب السياسية وعلى أكثر تقدير حكراً على مشاركة سكان المناطق الحضرية لهذه النُّخَب فى قلعتها النائية. بمجيئهم بأعداد كبيرة وتمركزهم على هامش المجتمعات الحضرية طور النازحون أدوات ضغطهم ومساومتهم مع واقع جديد يستمر فى تهميشهم، يرفضهم بل وينكل بهم فى أحيان كثيرة. ذلك تطلب إستدعاء موروثاتهم فى الترابط والتآخى والنصرة والتى فى أغلب الاحيان قادت إلى إلتفافِهم حول‘ أو تكوين‘ روابط يحددها إنتمائهم العشائرى أو الجهوى أو الجيرة فى الفضاء الجديد (أحياء الشوَّالات والكرتون والصفيح). لقد صار النازحون ينعتقون قليلاً قليلاً من الكراهية التى كرسها الخطاب الأُصولى وبدأوا يستدعون الإخاء القديم الذى استندت عليه مؤسسات المجتمع الأهلى السودانية. فى مواجهة التحديات الصعبة على هوامش المدن متمثلة فى الكشَّات التى تستهدف طرد النازحين، وكذلك تهديم مساكنهم وتجريمهم ومعاقبتهم بما فى ذلك بتر أطرافهم التى وسمت سنوات مايو الأخيرة كانت هذه الروابط التى كونوها هى مصدر حمايتهم والمواعين التى تجمِّع طاقاتهم وتحوًِلها إلى برامج عون ذاتى كانت هى السبيل الوحيد لإستمرار بقائهم منذ ذلك الوقت وعبر سنوات الإنقاذ الطويلة بكل مخاطرها. ورغما عن قسوة جهاز الدولة فى مواجهتهم إلا أن النازحين قد حققوا بعض الانتصارات مثل تقنين ملكية الارض التى يسكنون وصاروا بموجبها نظرياً مواطنين يتمتعون بكامل حقوق مواطنى الخرطوم بالاضافة لما أصابوا من تعليم لأطفالهم وفرته المنظمات غير الحكومية وبعض الخَيِّرين. كذلك فإن رهان المجموعات السياسية المدينية علي النازحين قد أكسبهم أهمية ومرَّنهم على المساومة فى تحقيق مكاسب من شأنها تقوية شوكة روابطهم. يضاف إلى ذلك ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزاً "إستلاب" النازحين لشريحة الإسلاميين المنتمين للطبقة الوسطى وإعادة إنتاجهم ضمن "ما-قبل الحداثى" الذى وفَّره شرط "ترييف المدينة". لهذه الاسباب مجتمعة إزداد وعى النازحين السياسى وتأثيرهم وأصبحت قيادة الجبهة الإسلامية تتعامل مع وضعهم بحذر واضح. نشير هنا إلى أن قيادة الجبهة قد تراجعت عن إزهاق أرواح أبناء دارفور الذين اتهمتهم بالمحاولات التخريبية تماماً مثلما أزهقت أرواح شهداء 28 رمضان. نرجِّح أن ذلك التراجع لم يتم استناداً لوازع أخلاقى أو انتصاراً لعدالةٍ ما بقدر ما هو ناتج عن الخوف من ما يترتب عليه من رد فعل مجموعات سكانية كبيرة داخل القلعة "الخرطوم". لقد أصبح النازحون رقماً يحسب له حساب سواء تعلق الأمر بخطط إجلائهم من العاصمة أو بمحاولات تجييشهم واستخدامهم لأغراض سياسية. لقد صاروا لا يرتكنون إلى إنتماءاتهم السياسية السابقة دون إبداء رأيهم؛ بل أضحوا يناصرون قيادات معيَّنة فى أحزابهم وفى أحيان أخرى ربما دفعوا بمن رأوهم أكفاء إلى مواقع القيادة فى هذه الاحزاب. الناتج عن ذلك هو خلخلة القداسة المو######## لبعض القيادات السياسية ورجرجة البنية البطرياركية بل وإحداث إنقسامات داخل الأحزاب ذاتها. هذه الانقسامات، من وجهة نظرنا، تمثِّل تغيُّراً فى المواعين التى نظمت الممارسة السياسية فى بعض أوجهها فى "السودان القديم". أنها تعبِّر عن خلق لامركزية داخل الخطاب السياسى الراهن وربما تنجز مهمة تفكيكه بالكامل.
    نعتقد ان التغيُّر فى الخارطة السكانية يمثِّل سبباً رئيسياً وراء إنقسامات الأحزاب وهو بالتالى سبباً فى إنفتاح "السياسى". إذ أن هنالك عدة دوافع ومصالح ومطلبيات قبَلية او جهوية اوثقافية او ربما مرتبطة بالنوع قد اسهمت مجتمعة اسهاما كبيرا فى إحداث وكشف هذه الانقسامات الحزبية وهذى مجتمِعةً قد أبرزها إلى السطح بشكل أعمق الشرط الجديد المتمثِّل فى"ترييف المدينة". نقول هذا دون القدح فى مشروعية أيٍّ من تلك المطلبيات. وإنقسام الاحزاب من وجهة نظرنا يجب تناوله بالنظر إلى التحولات الهيكلية العميقة التى حدثت فى السودان ووسمت جميع أوجه الحياة بطابع جديد يختلف تماما عن ما هو مألوف او متعارف عليه فى السابق. كذلك يجب النظر الى انقسامات الاحزاب ضمن جملة حقائق اخري؛ إذ لا يمكن أن ننظر إلى الحقائق السياسية - الاجتماعية الماثلة أمامنا الان بمعزل عن الحقائق المرتبطة بالاستفادة من الموارد الإقتصادية والحقائق النفسية المرتبطة بمكان معيَّن وتاريخ معيَّن وجملة مؤثرات محلية واقليمية وعالمية. ولهذا فإن التغير فى الخارطة السكانية ربما أسهم إسهاماً مباشراً فى طرح أسئلة جديدة وبروز تحديات جديدة أدت بدورها إلى الإنقسامات التى تشهدها الأحزاب السياسية.
    من أهم العوامل التى نعتقد انها اسهمت بشكل مباشر فى ما نشاهده اليوم من انقسامات وسط الاحزاب السياسية ونابعة من شرط "ترييف المدينة" هو العامل المتمثِّل فى تصاعد خطاب الهُويَّة التقافية على حساب الخطاب التنموى، أو بمعنى اخر صعود خطاب يُحَفِّز على الانشطار إلى كيانات أصغر مكان الخطاب الذى يُحَفِّز على التجميع فى كيانات أكبر. هذا يضعنا أمام تَحَوُّل هيكلى كبير فى طبيعة الخطاب السياسى والفاعلين السياسيين. التَحَوُّل من خطاب يتأسس بالكامل على الوعد بالتقدم الاقتصادى والاجتماعى والسياسى الداعم لمشروع "الدولة-الامة" الى خطاب اخر مختلف تماما يعطى مشروعية للإلتفاف حول ما هو مُكَوِّن صغير من مُكَوِّنات هذه "الدولة"؛ أى التحوُّل من الخطاب التنموى إلى الخطاب الهُوِياوى. ولعلنا نلاحظ بوضوح "التحفيز" على الإنشطار بادياً فى أكثر الإحزاب تمثيلاً للإثنيات المختلفة، أى حزب الجبهة الإسلامية كما ذكرنا سابقاً. مأزق هذا الحزب أن آيديولوجيته المتزمتة المتأسسة على التصحير الثقافى لا تستوعب الألوان الثقافية العديدة التى فرضتها الخارطة السكانية الجديدة فأخذ يبهتها أو يطمسها بفرض كافة أنواع الإجراءات التعسفية الإقصائية. هذه الإجراءات ربما استفزَّت بعض كوادره التى بدأت تفتح أعينها على أشياء لم تكن تتحسبها. لقد بدأت كوادر الجبهة التى تنحدر من الإثنيات المهمشة وهى كوادر تمَّت تعبئتها بقيم العدل والمساواة وطمحت إلى تجاوز تهميشها بدأت هذه الكوادر ترى أمام أعينها أشكال الظلم الواقعة على أهلها من تهديم للمنازل وتجريم وإنزال العقوبات من بتر للأطراف وغيره على أفراد هذه الإثنيات.
    لقد ظل الخطاب التنموى بكل ما فيه من وعود بالرفاه الاجتماعى (أو تحقيق "الوفرة") وسيلة التعبئة والاستقطات السياسى واكتساب المشروعية السياسية للاحزاب والحكومات فى كل دول العالم الثالث تقريبا. فى السودان نعتقد أن تغير الخارطة السكانية أثر تأثيراً كبيراً على إنقسام الأحزاب وذلك لما أحدثه من تأثير على دور الطبقة الوسطى وخطابها التنموى—تحديداً إستبدال هذا الخطاب بخطاب الهُوِيَّة (دينى‘ عرقى‘ الخ) كما ذكرنا سابقاً. فى معظم دول العالم الثالث تقوم الطبقة الوسطى على تسويغ وتسويق الخطاب التنموى او انه‘ أى الخطاب التنموى‘ ينظر اليه باعتباره يخدم مصلحتها بشكل مباشر. والطبقة الوسطى هى أكثرالطبقات الاجتماعية حركية وهى طبقة طموحة وفى أحيان كثيرة تملك أدوات التغيير الاجتماعى ومن بين أهم أدواتها لتفعيل العمل السياسى هو محاولة تجاوُزها ونبذها للانتماءات العرقية والجهوية الضيِّقة ومناداتها وقدرتها الكبيرة على حشد قطاعات عريضة من المؤيدين للإبتعاد عن مثل هذه الانتماءات والرُّقِى بوعيهم لتَبَنِّى الاسئلة الوطنية الكبرى أو على أقل تقدير إدعاء تبنيها. وهى طبقة من مصلحتها أن تكون القضايا والاسئلة المجتمعية الكبرى هى قضايا بناء الدولة الوطنية وبالتالى، فى تجربة السودان، يتقاطع برنامجها إلى حد كبير مع الطبيعة المركزية لنظام الحكم وبالتالى قيام أحزاب قوميَّة برئاساتها الموجودة فى مركز النظام السياسي. يقوم خطاب الطبقة الوسطى على المسائل التى تُصَوِّر الصراع بإعتباره صراعاً بين قوى التقدم والتحرر من جهة وقوى التخلف والتقليد من جهة اخرى وهذا الصراع يتم على صعيد قومى.
    يمكننا التجرؤ على القول، خلاف ما ذهب إليه كثيرون، أن هذه الطبقة قد تحاشت بقدر الامكان الدخول فى مطب الهوية الثقافية كخطاب يستخدم لإكتساب المشروعية يحظى‘ تبعاً لذلك‘ بالأولوية على غيره على الرغم أن بعض أحزابها قد ناورت بذلك وهى بالتالى قد ركَّزت على التنمية الإقتصادية والإجتماعية كخطاب لاكتساب المشروعية. لكن مع بداية الثمانينات بدأ الخطاب التنموى يتزحزح لصالح خطاب الهوية الثقافية، وأخذ الاخير شكله الرسمى فى إبراز الهوية الدينية كأولوية قصوى أو كهدف لا تشاركه أى أولويات اخرى فى الخطاب السياسى وهو وضع جديد قدمت الدولة نفسها من داخله كدولة معنيّة بالأسئلة الثقافية "الروحية" بدلاً من الدولة المعنية بتحقيق الرَّفاه الاجتماعى—التحوُّل من الدولة المعنية بالتنمية إلى الدولة المتدينة‘ "الدولة العابدة". الهوية الدينية‘ فى هذا السياق‘ قد تحولت إلى مناخ أو خطاب عام وصارت مصدر مشروعية لهويات كثيرة اخرى دينية، قبلية، وغيرها وذلك لأن هذه الهُوِّيات تتناغم إبستمولوجياً مع الخطاب الدينى عموماً. لكى تكرس الدولة "للثقافى" على صعيد قومى حفزت "الثقافى"‘ خطابياً‘ على صُعُد محلية وقد تمثّل ذلك فى إستنهاض وتكريس القبلية والعرقية. من جهة أخرى فإن منافحة "الثقافى" على الصعيد القومى والمحلى بل على الصعيد العالمى تتطلب من جانب المعارضين الارتكان إلى "الثقافى" أيضاً؛ وهكذا صارالناس يستنصرون بإخوانهم فى الدين (على صعيد محلى‘ قومى‘ وعالمى) وبقبائلهم وعشائرهم ضد الدولة الدينية والمجموعات الإثنية التى تساندها. بمعنى اخر حلَّ التفسير الثقافى (الإثنى‘ الدينى) للصراعات فى السودان مكان التفسير الاجتماعى-الاقتصادى-السياسى وصار الناس انما يتصارعون حول هُوَيَّات وليس حول تحقيق برامج اقتصادية، إلخ.. هذا هو الشرط الاساس لإعادة إنتاج الغوغائى؛ إذ حتى أن المبعوثين الدوليين إلى السودان (دانفورث‘ مثلاً) أصبح يتم إختيارهم بحساب خلفيتهم الدينية.
    كان لتصاعد "الغوغائى" أثره على مجموعات النازحين الذين استقروا والذين صاروا يلتفون حول قيادة قبائلهم الموجودة داخل وحول الخرطوم؛ فتصاعد "الغوغائى" فى منافاته للأخلاق العامة للقبائل السودانية قد أسهم بشكلٍ غير مباشر‘ فى إرتباطه بالتركُّز السكانى فى الخرطوم‘ فى إنقسام الأحزاب. فالعزف على وتر "الثقافى" قد أكسب القبلية قدراً من الأهمية والخوف الفطرى الذى عزَّزَه عنف الدولة وأجهزة الجبهة الإسلامية الحزبية قد أكسب روابط النازحين أهمية بالغة بالنسبة لهم وصاروا هم أكثر إنتماءاً لها مقارنة بإنتمائهم للكيانات السياسية الأكبر. وإنقسام الأحزاب فى هذا المناخ ظاهر وباطن لأن الهويات هذى تتعدد بتعدد القبائل فى السودان وتعدد الاقاليم واختلاف درجة تطورها الإقتصادى وإمكانية تشكيل إئتلافات بينها وما نراه من إنقسامات فى الواقع قليل جداً لأن هنالك ما لا نراه. ترتب على هذه الإنقسامات نتائج خطيرة وأيضاً مكاسب يمكن أن تظهر نتائجها لاحقاً.
    فإذا أخذنا إنقسام حزب الجبهة الاسلامية كمثال نجد أنه قد عرَّض البلاد إلى مخاطر كثيرة وكان يمكن أن يقود إلى حرب أهلية طرفيها دعاة الهوس الدينى وحربٌ هؤلاء أطرافها كان يمكن أن تقود إلى حريق شامل وإبادة جماعية تطول ليس فقط جناحى الجبهة المتقاتلين بل قطاعات واسعة من سكان الخرطوم وما جاورها. ولكن "مفاصلة" هذا الحزب قد تنزَّلت‘ فى الواقع‘ بركات كثيرة على أبناء الشعب السودانى الذين كان هذا الحزب، كما توعّدتهم بعض قيادته، ربما سيسحق ثلثيهم فى حروبه الدينية إذا استمر موّحَداً. وهكذا فخطاب الهوية بدأ نقمةً بإستراتيجياته الاقصائية ولكنه انتهى إلى نعمة وذلك بإضفائه المشروعية على هويات أخرى أسهمت فى النهاية فى مقاومة وتفكيك حزب الجبهة الإسلامية أو شغلته بصراعات قلَّلت من توجيه آلة عنفه الضاربة ضد المجتمع. أى أن حزب الجيهة بِرهانِه على الهوية كأُس للخطاب السياسى قد حفر قبره بيده. لقد تشظَّى الحزب إلى مجموعات متناحرة تستند إلى حد كبير على عصبيات عرقية وجهوية فقدت جزء كبير من مصداقيتها بحكم إفشاء المخبوء الذى بدأ يتجلى من سجالاتها الكلامية. لقد فضحت هذه السجالات قدر كبير من المخبوء وأضحى دعاة التَطَهُّر يصغرون يوماً بعد يوم فى أعين من وثقوا بهم فى السابق وقدَّموا أنفسهم فداءاً لمشروع الجبهة. الفساد الظاهر كان يدفع بحزب الجبهة إلى هاوية سحيقة وتطلَّب الأمر تداركاً سريعاً من جانب بعض قيادتها . هذا التدارك تمثل فى العودة بدرجةٍ ما لخطاب التنمية والإتجاه نحو الوسطيَّة لعبت فيه ضغوط المعارضة المسلحة والضغوط الإقليمية والدولية دوراً كبيراً.
    الاتجاه نحو الوسطية:
    ربما يقول قائل أن إستراتيجيات العنف والخطابات التى تبنتها الجبهة الإسلامية قد تغلغلت إلى كل النسيج المجتمعى وأصابته بلوثة التطرُّف والكراهية. هذا صحيح إلى حدٍ ما ولكن هنالك أيضاً مؤشرات ربما تدفعنا إلى التفاؤل أن هناك ثمة ميل إلى تبنى خطابات أكثر إعتدالاً، خطابات وسطية وأحزاب الجبهة الإسلامية ذاتها تنحو فى هذا الإتجاه رغماً عن ما فرَّخته من أورام وجيوب جديدة للغلاة والمهووسين وهذا باب يحتاج إلى معالجة منفردة لا نسعى إلى تفصيلها هنا فى هذه الورقة. أوضح المؤشرات بالاتجاه نحو الوسطية هو المراجعة التى تتم على صعيد الاحزاب الطرفية فى الطيف السياسى المؤثر ونقصد الحزب الشيوعى فى اليسار والجبهة الاسلامية القومية فى اليمين. الحزب الشيوعى بدأ يراجع رؤيته ويسعى إلى تغيير إسمه. هذا التغيير مهم ليس فقط لما يحققه من ضخِّ دماء جديدة فى شرايين هذا الحزب وإنما لما يحدثه على صعيد مشروعية الاحزاب اليمينية المتطرفة الاخرى وتحديداً أحزاب الجبهة الاسلامية القومية. تغيير إسم الحزب الشيوعى وتجديد أُطروحاته سوف يُفقد الحركة الاصولية السودانية جزء كبير من مقولاتها وأدوات تعبئتها، فقد مثَّل هذا الحزب فزَّاعَتها الأصلية فى تخويف السودانيين مما سوف يحيق بهم إن هم مكَّنوا الشيوعيين من تبوء مواقع السلطة.
    بالمقابل فإن الحركة الاصولية قد فتحت أعينها على حقائق تاريخية مهمة وهى أن مشروعها الظلامى لم ولن يتحقق لأنه ضد طبيعة الإنسان العصرى وتطلعاته إلى عالم إنسانى‘ ديموقراطى‘ محقق للرفاهية. وهى بهذا تكون قد دخلت زمن التحولات المهمة بعد أن فقدت مصداقيتها وضاق الناس ذرعاً بمشروعها الحضارى. فالحركة الاصولية متمثلة فى نظام الإنقاذ قد دفعت لسدة الحكم بأكثر القوى كفراً بالعقلانية السياسية للدولة الحديثة وأجلستهم على كراسى الحكم حيث أسسوا لفوضى سياسية أدركوا فى آخر المطاف أن مخرجهم منها لن يتم إلا بالعودة للعقلانية السياسية التى يكفرون بها. هذه "التوبة" رغماً عن تأخرها إلا أنها يمكن أن تمثل طوق النجاة الذى ينقذ هذا الحزب من الإنقراض السياسى وكذلك تجعل من فكرة إستمرار السودان موحداً ممكنة بالذات إذا وضعنا فى الإعتبار أن العناصر الأكثر خطراً على الوحدة هم أجنحة الجبهة الإسلامية الناشطة حالياً والمتمثلة فى التكفيريين والعنصريين كما نوضِّح لاحقاً. لكن ما يبعث على القلق هو كوْن هذه التحولات لم يصحبها تطوراً فكرياً يُفضى إلى رؤية وبرنامج سياسى جديد وأنها إنما حدثت بسبب من أن الحركة الاصولية قد وجدت نفسها فى مهب الريح. فهى قد فقدت قدر كبير من مصداقيتها وأنها ربما تفقد قطاع كبير من أنصاف الاميين/أنصاف المثقفين المغلوبين على أمرهم الذين راهنت عليهم. فهى قد حشدتهم ضمن تحقيق مكاسب أخروية ودنيوية وهذه المكاسب قد فَقَدَت الان مرتكزاتها بحكم تخلى الحركة العملى عن الجهاد (الأصغر) من جهة ومن جهة أخرى بحكم تجفيف موارد دعمها الخارجية و"تخفيض" مواردها الداخلية نسبة لإقتسامها للثروة مع حملة السلاح. والأكثر أهمية هو أن هذه التحوُّلات‘ بوجه ما‘ قد حدثت بسبب تكشُّف العقلية النهبية المهمومة أصلاً بمراكمة الثروات أكثر من إهتمامها بالإنتصار إلى الدين والعدل؛ أى فساد المشروع الحضارى أخلاقياً وشعور كوادر مهمة بالعار لمشاركتها فيه. لعل هذا التحول فى عقلية القيادة الانقاذية من جهة والتحول الممكن فى رؤية الجيل الجديد الذى كان فى الغالب ربما يُربَّى على التزمت والرؤية الإقصائية كسياسة رسمية للدولة لعله من بين أفضل التحولات الممكنة. ذلك أن أى طريق اخرى للتغيير (بالعنف مثلاً) ربما لا ترسى أى دعائم للإستقرار فى السودان والسبب فى ذلك أن الانقاذيين ربما لن يستسلموا قبل أن يُزهِقوا أرواح ملايين السودانيين. فى هذا السياق يمكننا القول أنه من مصلحة القيادة الانقاذية التى استمتعت بملذات الدولة العليا وملذات الحياة العصرية أن تبنى دولة المؤسسات التى تحمى مكاسبها الاقتصادية بل وربما مكاسبها السياسية. بناء هذه المؤسسات سوف يكون فى نهاية التحليل من مصلحة قطاعات عريضة فى المجتمع روَّعها غياب المؤسسات التى توفر الأمان والحماية من بطش أجهزة الدولة وأجهزة الجبهة الإسلامية الحزبية وأفرادها المتنفذين. لقد شرعت الجبهة الإسلامية على الأقل فى بعضٍ من خطابها فيما يبدو فى تحقيق ذلك تاركة وراءها ذلك التهور القديم الذى أوشك أن يطيح بها نهائياً كجماعة سياسية. فهى الان على الصعيد العالمى تُصالِح الأُمم التى تَوعّدتها بأن "قد دنا عذابها" وتكتسب وتضيف كل يوم إلى مشروعيتها بالاعتراف بخصمها الداخلى المتمثِّل تحديداً فى الحركة الشعبية‘ هذا الخضم الذى حوّرت كل تاريخ السودان الحديث لإلحاق الهزيمة به. هذا دون شك تحوًُل كبير فى عقلية حزب لا يرى فى الآخر‘ على صعيد قومى وعالمى‘ سوى تابع أو فريسة يلتهمها‘ يسلبها‘ يستلبها‘ أو يتخذها معبراً للجنّة وذلك بإزهاق روحها فى حملاته الجهادية.
    رغم أن مصالحة الواقع والتحول نحو الوسطية هو شرط لا فكاك منه وأن هذه المصالحة بدأت فعلاً‘ وإن بدت ملتبسة‘ فى الخطاب "الجديد" للجبهة الإسلامية إلا أن هنالك بعض العوائق البادية. أحد هذه العوائق هو أن تستمر القيادة الإنقاذية فى التعبئة الحزبية بنفس خطاب العنف والكراهية السابق الذى لن يحقق أى نصر وبالتالى لن يؤسس لأى إستقرار. عائقٌ آخر‘ متمفصل فى الأول‘ هو أن تترك هذه القيادة الحبل على القارب لجماعات اخرى أكثر تطرفاً فى التمادى فى إفساد الجو السياسى بنشر مزيد من الكراهية ودق طبول الحرب. هذه الجماعات تنقسم إلى مجموعتين متناغمتين كلاهما ضد إستمرارية السودان الموحَّد؛ الأُولى تكفيريَّة والثانية عنصريَّة. فالجماعة التكفيريَّة من فرط غُلُوِّها تتهم الجبهة الإسلامية ذاتها بالعلمانية والكفر لما ترى فيها من تساهُل تجاه فرض نظام الإسلام الحقيقى فى تصوُّرها والذى يقصى ليس فقط المجموعات الثقافية غير المسلمة بل وكافّة قطاعات المجتمع السودانى بإستثناء الجماعات التكفيرية. هذه المجموعة معنية أساساً بمصالحها الخاصّة المرتبطة أصلاً بوجود دولة إسلاموية ‘ ليست إسلامية؛ إذ أن قيام الدولة المدنية سوف يحرمها من مصادر دعمها الأساسية القائمة على تنفيذ برنامج التوسعية الهادف لتضليل السودانيين الشماليين ودفعهم للتخلِّى عن دينهم المتسامح وإتباع التزمُّت والإرهاب. أما الجماعة الثانية‘ الجماعة العنصرية‘ التى يعبر عنها "منبر السلام العادل" فتُراهِن على خطاب عِرقِى مكشوف وتنادى علناً بفصل الشمال عن الجنوب ويرتكز خطابها فى الأساس على تخويف الشماليين من أن الجنوبيين قادمون لطردهم من الشمال.
    نشير هنا إلى أن الجنوب ومشروع التعريب والأسلمة بمنهج عروبى إسلاموى قد خلق أندلساً فى السودان للمرتزقة العروبيين/الإسلامويين السودانيين لما وفّره من رَغْدٍ لهذه الجماعة هو ثمن إرتزاقها من دور القيام بالوكالة بنشر الايديولوجيات الشرق-أوسطية الإقصاية. على أن إسفاف خطاب الطرد من الأندلس بيِّن؛ فهو فى مستواً ما يحاول إخفاء الجرائم التى ارتكبتها الجبهة الإسلامية فى جنوب السودان وتأنيب الضمير الناجم عن فقده وذلك بنقل الصراع إلى خانة أُخرى تستند بالدرجة الأُولى على تخويف السودانيين الشماليين من جحافل الجنوبيين القادمة لطردهم وهو فى مستواً آخر يدَّعِى بِوُثُوقِية مطلقة عدم إمكانية التعايش بين الشماليين والجنوبيين وبالتالى ورود إمكانية الطرد من الأندلس. خطاب "منبر السلام العادل" فى إجماله يؤكد أن مسلمى التخوم لا يتبصّرون فى حقائق التاريخ‘ إذ أن كل ذى بصيرة كان يعلم أن مجرد صعود الأُصوليين للسلطة فى السودان كان يعنى أن أندلس السودان قد فُقِد تماماً مثلما فُقِد الأندلس الأصل بعد صعود الأُصوليين "الموحِّدين" فى شمال إفريقيا وتمددهم داخل إسبانيا. فقدان "أندلس السودان"‘ أو بمعنى آخر فقدان ثمن الإرتزاق للقيام بالفتوحات العروبية/الإسلاموية‘ يعنى موت الخطاب الأُصولى التوسعى وهو ما يوضِّح سَعْي المجموعات الاصولية لخلق آيديولوجيا أُخرى تمكنهما من البقاء فى السلطة والتى هى ضامن سلامتهم من ما يتوهمون أو يتوقعون من إنتقام أو عقوبات تطالهم إن هم فقدوها أو تخلّوا عنها. هذا الخوف يعمى بصيرة الجماعة الاصولية العنصرية عن تصوُّر أى بدائل للخروج من الأزمة. هنالك بدائل بسيطة تتمثل‘ مثلاً‘ فى أن يعتذر الاصوليون للشعب السودانى عن جرائمهم وأن يلتمسوا العفو ويعلنوا التخلِّى عن مشروعهم الإرهابى ويعودوا إلى حظيرة المجتمع السودانى. أو أقله أن يتخلّوا عن دق طبول الحرب.
    ربما يكون مفيداً للاصوليين ان يدركوا أن ضحايا الحروب لهم حساسية مفرطة تجاه دق طبول الحرب وتجاه صياح الغوغاء المتعطشة للدماء. إن ضحايا الحرب يطورون موقفاً مبدئياً منها ولا يمكن أن ينضموا طواعية إليها. الذين لم يعانوا ويلات الحرب هم وحدهم الذين يشعلون نارها وهم وحدهم الذين لا يدركون فظائعها وهم وحدهم غير المبالين حين تدق طبول الحرب. الجنوبيون الذين نجوا من حرب العقدين ونيف المدمرة لا يريدون حرباً أُخرى لأن تبعات الحرب السابقة ما تزال تهد مضاجعهم وأن فقدهم لمن يحبونهم لا يزال جرحاً نازفاً وعميقاً فى دواخلهم ولهذا فالبقاء معهم فى وطن واحد يستلزم وقف دق طبول الحرب التى يحرص عليها بل تشكل رأس المال السياسى للمتزمتين الذين يبدو أنهم لا يكسبون رزقهم دون إستمرار التقتيل والدمار. المهووسون لا يتوقفون عن دق طبول الحرب ولا يدركون أن السودانيين الذين عاشوا فى زمن الظلاميات الإسلاموية لا يمكن تجنيدهم لحرب دينية أُخرى بنفس طرق التعبئة السابقة قبل أن يمر وقت طويل كافٍ للنسيان. فهم إن أدركوا هذه الحقيقة لأيقنوا أنه ليس هنالك من سبب لدق طبول الحرب. وقف دق طبول الحرب التعبوية‘ إسوة بوقف إطلاق النار‘ يمثل أحد أكبر تحديات المرحلة الإنتقالية وبالضرورة ضمانة ديمومة السلام فى المراحل التى تليها. المرحلة القادمة، وبالذات إذا كان ترسيخ الوحدة الوطنية هو هدفها الاستراتيجى، تتطلب من أحزاب الجبهة الاسلامية القومية إعادة هيكلة عميقة وتحقيق قطيعة معرفية مع المرجعية التى تبرر إعلان الجهاد على أخوة الوطن وتتطلب إعادة تأهيل الغلاة من كوادرها وتوظيف طاقاتهم للخير والتعمير. إنها تتطلب خطاب خصومة جديد يتوسل لكادر الجبهة أولاً ويدعوه للعودة للأخلاق السودانية التى أسست للتعايش بين السودانيين لقرون عديدة ونبذ الأفكار الدخيلة والإرهاب.
    جيوستراتيجى الوفرة وإمكانية الوحدة الجاذبة: إمكانية التعاضدية بين المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية:
    هذا مبحث عريض لا نستوفيه كتابةً فى هذه المساحة الضيقة‘ بل نكتفى بتعليق مختصر نبدأه بالسؤال التالى: هل هنالك سانحة لبروز "نخبة واثقة" تعتمد التفكير الإستراتيجى المدفوع بتحقيق الوفرة لتحل محل "النخبة الخائفة" وتكنولوجياتها الإستبدادية وميولها الغوغائية؟ ما هى الشروط الجديدة التى يجب أن تخلقها هذه النخبة فى السودان بهدف الحفاظ على الوحدة وبناء دولة المؤسسات؟ نبادر ونقول أن أحد أهم هذه الشروط لبروز نخبة واثقة وقادرة على الحفاظ على الوحدة وبناء دولة المؤسسات هو الحفاظ على التوازن الديموقرافى الراهن الذى أنتج العقلانية الجديدة بدلاً من محاولات نسفه. التحدى الأكبر لهذه العقلانية الجديدة يكمن ليس فى التحسب لما يمكن أن يحدث من مخاطر بل تحويل الشرط الجديد إلى وضع أكثر إيجابية – تحويله إلى نبع لإعادة غرس وإرواء "الموارد الثقافية" السودانية الأصيلة الداعمة للتسامح والتعايش السلمى.
    شرط آخر عالى الأهمية لبروز نخبة واثقة وقادرة على الحفاظ على الوحدة وبناء دولة المؤسسات هو وجوب الإستفادة القصوى من المورد الجديد (النفط) بهدف تغيير وضعية "الندرة" فى الموارد الطبيعية وبالتالى تدعيم الموارد الثقافية المحفزة للوحدة بين المجموعات السودانية. النفط ضمن محاسبية وشفافية معينة كفيل بخلق الرفاه الإجتماعى الذى ربما يفضى إلى إنحسار آيديولوجيات الجوع والندرة الإقصائية وبالتالى إنتفاء الخوف من الظلم والإضطهاد والإبادة الناجمة عن هذه الآيديولوجيات تحديداً خوف "الأقليات" من البقاء تحت سقف واحد مع مهووسي"الأغلبية" وهو بالتالى يكون أحد أهم الوسائل التى يمكن أن تجعل الوحدة جاذبة. النفط يوفر فرصة جديدة وموضوعاً جديداً للصراع السياسى من أجل كسب العضوية وهو صراع بين القوى السياسية حول تعريف وتحقيق التنمية كهدف ينشده الجميع وليس الصراع حول تعريف الهويات الذى يقصى مجموعة أو مجموعات ما لمجرد إنتمائها الإثنى.
    فى حديثه عن تحالف المعارضة الجديد وإتفاق القاهرة قال رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدى "أن المطلوب فى هذه المرحلة ليس وحدة صف، وإنما وحدة هدف". هذه الفكرة البسيطة فى وضوحها عميقة جداً فى دلالتها وتستوجب أسئلة كثيرة حول طبيعة القيادة السياسية وطرائق تفكيرها، وهى بالضرورة موجهة إلى "رجال الدولة" الذين يتوافرون على فهم ستراتيجى لما يدور فى الساحة السياسية ويرجِّحون كفة "الممكن المفيد" لسلامة البلاد وأمنها على كفة "الممكن الضار" الذى ينسف الإستقرار فيها. بناء "السودان الجديد" يتطلت "وحدة هدف" يتمثَّل بدءاً فى الإعتراف بالتباينات الثقافية واحترامها ووضعية التهميش السياسى والإفتصادى ومعالجتها ليس بالأساليب الفوقية بل بمشاركة جميع الأطراف. هذا يتطلب دور واضح لكل القوى السياسية وهو دور يتطلب بالضرورة مبادرة من المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية تهدف إلى خلق المناخ الملائم للحوار والتثاقف والتعاطى الإيجابى مع الخصوم السياسيين. المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية يمكنهما‘ ضمن هذا الفهم‘ أن يوحدا الهدف ويتبادلا التأثيرالإيجابى. ضمن أفق تعاضدى يمكن للحركة أن تؤثر على المؤتمر وذلك بدفعه إلى طرح برامج سياسية تنموية تنقل المجتمع نقلة نوعية تقلل من أعداد الغوغاء والمهوسين المحتملين وهى ضمانة لكرامة الانسان فى السودان الموحد أو للجيرة الحسنة فى حال انقسام السودان إلى دولة جنوبية وأُخرى شمالية. فالسودان الشمالى الذى يسيطر عليه المهووسون سوف يكون شوكة دائمة الوخز فى خاصرة الدولة الجنوبية سواء من منطلقات الأوهام التوسعية للعقل المهووس أو بسبب التفكك والخراب الذى ينتج عن سياسات هذا "العقل" أو بسبب موجات اللاجئين المطرودين التى ينتجها هذا "العقل" كما اتضح ذلك جليّاً فى فترة إستيلائه على السلطة.
    الجبهة الاسلامية تحت مسماها الجديد (المؤتمر الوطنى)، من جهتها، يمكنها ان تتبنى خطاً جديداً يجعل شريكها المتمثل فى الحركة الشعبية يقتنع بأنها تحترم المواثيق والعهود وبالتالى بمكنها أن تجعل الحركة أكثر إيجابية تجاه تطوير الثقة فى الشماليين وجعل الوحدة جاذبة. هذا يتطلب فهم أعمق قوامه أن إستقرار السودان ورفاهه يقوم فى الواقع على الرهان على إستعادة الثقة وتطويرها كمورد ثقافى ضامن لإستعادة الكيان السودانى التاريخى. فرهان الجبهة الإسلامية على الدعم والحماية من الخارج (الدعم المالى من التنظيم العالمى للإخوان المسلمين‘ التخويف بالتحالف مع القاعدة‘ إو الحماية من دول أُخرى مقابل بيع السيادة الوطنية‘ إلخ) لا يجدى وبالتالى ليس امام الموتمر سوى تجديد خطابه باستدعاء الموروث السودانى والرهان على جماهيره بالداخل والتخلِّى عن المرجعية الإقصائية الإستبدادية. إذا كانت قيادة المؤتمر الوطنى معنية بالوحدة وجعلها جاذبة فعليها أن تتخلى صراحة عن اساليبها التحريضية التى تبرر إزهاق ارواح الناس وأن تهذِّب كوادر حزبها وتدفعها للتخلى عن العنف ولإحترام خيارات الآخرين. هنالك راسمال ثقافى كبير فى شمال السودان أنتجته عناصر البيئة الثقافية فى الكونفدراليات السودانية يمكن لحزب المؤتمر الوطنى أن ينهل منه ويقدم اطروحات جديدة حول التسامح والتعايش بين الشعوب السودانية وإحترام حقوقهم الإنسانية والثقافية بدلاً من طرائقه الإقصائية الداعية للكراهية‘ المتعالية على قيم الشعب السودانى. لعل ما يبعث على القبطة‘ فى هذا السياق‘ أن الحركة الشعبية لتحرير السودان قد أولت إهتماماً كبيراً وأعطت دوراً مهماً لبعض القيادات الصوفية يهدف لإرساء قيم السلام والمحبة والوحدة. لقد أدركت قيادة الحركة من قراءتها المتأنية المستنيرة أهمية الصوفية كمورد ثقافى يؤسس لإجتماع سودانى متسامح متحرر من الكراهية والإستعلاء وبرهنت قيادتها السياسية والفكرية على أنها أوسع أفقاً وأبعد نظراً فى فهمها لمتطلبات بناء الدولة الحديثة. مثل هذا الطرح أظهر بجلاء قزمية الجبهة الإسلامية التى توافرت لها كل مقومات القيادة ولكن نسبة لطبيعة طرحها السياسى المفضى للإقصاء والتقتيل قد بدّدت هذه المقومات وتركت البلاد بكاملها فى مهب الريح. إن ما قامت به الحركة الشعبية لتحرير السودان من دعم معنوى وبعث لقيم التسامح الصوفية لهو أصدق تعبير عن تحقيق "السودان الجديد" الموحَّد وبهذا تقدم الحركة طوق النجاة للسودان والسودانيين وتسهم بشكل قوى فى قفل الطريق أمام الغلاة والمهوسين الذين يخنقهم مناخ التسامح والحرية. إن الحركة بتبنى هذه المبادرة لا تسهم فقط فى إستعادة تاريخنا المُجَرَّب فى الوحدة والإخاء بل سوف تجبر الآخرين (بما فيهم المؤتمر الوطنى) أن يحذو حذوها وأن يبدأوا بإكتشاف مكنونات الذات السودانية التى استصغروها وغرَّبوها وجرموها وكفروها وذلك بإستخدامهم وإنغلاقهم داخل أُطر الإستبداد والمحل المعرفى المستوردة والغريبة على مجتمعاتنا.
    محمود الزين
    جامعة السلام
    سيوداد كولون‘ كَوستاريكا
    30/7/2006
                  

08-02-2006, 03:39 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: محمود الزين- كَوستاريكا)

    فى هذه الورقة إستخدمنا عن قصد "القاف" (كما ينطقها السودانيون) بدلاً عن "الجيم" فى الكلمات مثل "ديموجرافي" و"إنجليزى" لأن ذلك يجعل نطقها أقرب لما ينطق به أهلها فى لغتها الأصل وكما ينطقها الآخرون حين يكتبونها "ج"" أو "غ"..

    Spaulding, J. (199 “Early Kordofan”, in E. Stiansen and M. Kevane (eds) Kordofan Invaded: Peripheral Incorporation and Social Transformation in Islamic Africa, Leiden: Brill. P. 47.
    Pierce, R.H. (2001) “Past and Present in the Eastern Desert” in K. Krzywinski and R.H. Pierce (2001) (eds) Deserting the Desert: A Threatened Cultural Landscape between the Nile and the Sea, Bergen: Alvheim & Eide. P. 159.
    Spaulding, J. (199 “Early Kordofan”, P. 47.
    سبق أن سيطرت مملكة الفور على أجزاء من مملكة الفونج امتدت عبر النيل وحتى نهر عطبرة ولكننا لا نملك دليلاً قاطعاً أن ذلك تم بإستخدام حملة عسكرية ضخمة أم نسبةً لتبدٌّل ولاء المجموعات السكانية هناك. أنظر فى هذا السياق


    M.H. Awad (1987) “The Evolution of Landownership in the Sudan”, in E. Shaaeldin (ed.) The Evolution of Agrarian relations in the Sudan,The Hague: Intitute of Social Studies, and Khartoum: Development Studies and Research Centre/University of Khartoum.
    شرف الدين بانقا، النازحون وفرص السلام، مركز البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، 2001 ص 34.
    M. Godlewski (2004) “Islam in Nubia”, avaliable online at: http://www.numibia.net/nubia/islam.htm
    M.H. Awad, “The Evolution of Landownership in the Sudan”, 1987.


    راجع حسن مكى محمد احمد " مقدمه" لكتاب شرف الدين بانقا، النازحون وفرص السلام 2001.


    راجع العجب احمد الطريفي ، الإدارة الأهلية ، مجلة الخرطوم، عدد مايو 1967م ص22
    مختار الأصم ، اللامركزية في السودان ،منشورات وزارة الأعلام ،الخرطوم ، بدون تاريخ ص5.


    A.S. Karrar, The Sufi Brotherhoods in the Sudan, (London, C. Hurst),1992
    يوسف فضل حسن (تحقيق) كتاب الطبقات لمحمد النور بن ضيف الله، الطبعة الثالثة، الخرطوم 1985 ص 3-4.
    يوسف فضل حسن (تحقيق) كتاب الطبقات ص 11.
    محمد سعيد القدال ،الإمام المهدي:لوحة لثائر سوداني، الخرطوم 1985ص3
    يوسف فضل حسن (تحقيق) كتاب الطبقات ص7.
    - المصدر السابق ص11.
    يوسف فضل حسن (تحقيق) كتاب الطبقات ص 13.
    راجع محمد سعيد القدال ،السياسة الاقتصادية للدولة المهدية ،الخرطوم 1986 ص 23-25.




                  

08-02-2006, 03:44 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: بكرى ابوبكر)

    See Goldsmith, P., Lydia A. Abura and Jason Switzer (2002) “Oil and Water in Sudan,” in Jeremy Lind and Kathryn Sturman (eds.) Scarcity and Surfeit: the ecology of Africa’s conflicts, Pretoria: Institute for Security Studies/South Africa; available at http://www.iss.co.za/PUBS/BOOKS/Scarcity+Surfeit/Main.html
    يسود الساحة السياسية هذه الأيام إستخدام مغلوط لمفهوم "الجلابة" ينطوى على إحالات عرقية وثقافية. هذا الإستخدام يخالف كل ما كتبon scientific عن "الجلابة" بإعتبار أن كلمة "الجلابة" فى الأصل هى صفة للتجار الذين "يجلبون" البضائع وقد ضم هؤلاء التجار أعراق عديدة. فى هذه الورقة نستخدم هذا المفهوم المتعارف عليه والذى لا ينطوى على إحالات عرقية محددة.
    محمد سعيد القدال ، السياسة الاقتصادية ،ص40.


    - A.S. Karrar ,the Sufi Brotherhoods in the Sudan , (London, C. Hurst),1992, P. 125, 75-6
    Awad-Alsid AlKarsani, "Mohammed Al-Hafiz Al-Tigani and the Sudan", in Mahasin Hag Al-Safi (ed.) “the Nationalist Movement in the Sudan, (Khartoum, Institute of African and Asian studies, University of Khartoum), 1989; Pp. 239-42.
    See Spaulding, J. (199 “Early Kordofan”..
    لمزيد من التفاصيل أنظر محمد عبد الخالق بكرى، سيرة الإعدام السياسى (1821-189، الشركة العالمية للنشر، القاهرة، 1998.
    محمد سعيد القدال ،الإمام المهدي ،ص9-10.


    راجع سيد نصر، جهود مصر الكشفية فى إفريقيا فى القرن التاسع عشر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1979.
    Pierce, R.H. (2001) “Past and Present in the Eastern Desert”, 2001.
    H.A. Ibrahim, and B.A. Ogot “The Sudan in the nineteenth century,” in Ade J.F. Ajayi (ed.) General History of Africa, Vol. VI: The Nineteenth Century until 1880, Heineman: UNESCO, 1990.
    سيد نصر، جهود مصر 1979.
    راجع محمد عبد الخالق بكرى، سيرة الإعدام،1998.



    For further details see H.A. Ibrahim and B.A. Ogot, “The Sudan in the nineteenth century,” 1990.
    For more details see Spaulding, J. (199 “Early Kordofan”.



    محمد سعيد القدال،الإمام المهدي،ص7.
    Mahmoud El Zain, “Politics of Native Administration in the Sudan”, Unpublished B.Sc. Dissertation, Dept. of Political Science, University of Khartoum ,1987, P. 34.
    A.S. Karrar, the Sufi Brotherhoods in the Sudan, (London, C. Hurst),1992, p.162.
    A.S. Karrar, the Sufi Brotherhoods in the Sudan, (London, C. Hurst),1992, p.4.
    محمد سعيد القدال ،الإمام المهدي ،ص20.
    محمد سعيد القدال ،الإمام المهدي ، ص 19.
    مصطفي عبد الحميد كاب الرقيق، المهدية والمجتمع المهدوي في السودان، المؤتمر العالمي للمهدية ، الخرطوم،1981م،ص 4.



    لمزيدٍ من التفاصيل راجع محمد سعيد القدال ،الإمام المهدي.
    Sayyid Hamid Hurreiz,'tradition as a Basis for National Resistance’ in Mahasin Hag Al Safi, the Nationalist Movement in the Sudan, (Khartoum, Institute of African and Asian studies, University of Khartoum), 1989, p.11
    راجع عبد الله علي إبراهيم ،المهدية والكبابيش: نحو مشروعية للمعارضة ،المؤتمر العالمي للمهدية ، الخرطوم 1981.
    محمد سعيد القد أل ، السياسة الاقتصادية ، ص 159.
    محمد إبراهيم أبو سليم -الحركة الفكرية في المهدية ، الخرطوم 1989م، الطبعة الثالثة ص43-49.
    Tim Niblock, Class and Power in Sudan, (London, Macmillan), 1987; Pp. 13-19.



    بموجب قانون المناطق المقفولة هنالك مناطق مقفولة تماماً يحرم على السودانيين الشماليين وغير السودانيين من دخولها وهنالك نوع اخر من المناطق يسمح بدخولها تحت شروط معينة.
    See Muddathir Abdel Rahim, op.cit, p, 70-82.
    For further details see Sherif Harir (1993) “Marginalization of conflict, displacement and the legitimacy of the state: a case from Dar Fur, Western Sudan,” in T. Tvedt (ed.) Conflict in the Horn of Africa: human and ecological consequences of warfare, Uppsala: EPOS - Uppsala University.
    Kamal Osman Salih, “the British colonial policy and the Accentuation of Inter-Ethnic Divisions: Acase of the Nuba Mountains Region of the Sudan”, in S.H.Hurreiz & Elfatih Abdel-Salam, op.cit, p.255.
    G.M.A.Bakheit,British Administration and Sudanese Nationalism 1919-1939, Ph.D. Thesis, Cambridge,1965; P. 7
    For more details see G.M.A. Bakheit, British Administration and Sudanese Nationalism 1919-1939, 1965; p. 7.
    G.M.A. Bakheit, British Administration and Sudanese Nationalism 1919-1939, 1965; p. 34.
    Awad Al-Sid Al-Karsani , "Mohammed Al-Hafiz Al-Tigani and the Sudan", 1989; Pp. 209- 210.



    Awad Al-Sid Al-Karsani , “Mohammed Al-Hafiz Al-Tigani and the Sudan”, 1989; Pp.214-15.
    Mahmoud El Zain, op.cit. Pp. 17-23.
    G.N.Sanderson,”Indirect Rule in the Northern Sudan as an Anti –Nationalist Strategy 1920-1939” in Mahasin Hag Al-Safi,op,cit ,p.67.
    G.N. Sanderson, “Indirect Rule in the Northern Sudan as an Anti –Nationalist Strategy 1920-1939”, in Mahasin Hag Al-Safi, op. cit ,p. 90.
    Peter Woodward "constitutional Development and Independence in the Sudan, in Mahasin Hag Al- Safi, op. P. 120.
    For more details see Jay O’Brien, with assistance from S.E. Shazali (1979) The Political Economy of Development and Underdevelopment: An Introduction, Khartoum: Development Studies and Research Centre/University of Khartoum.
    For further details see S.H.Hurreiz, in S.H.Hurreiz and Alfatih A.Abdel-Salam op.cit, p, 89.
    الأجاويد هم الأعيان والحكماء كبار السن في القبيلة فى دور فض النزاعات داخل القبيلة أو بين القبائل.
    Mahmoud El Zain, “Politics of Native Administration, 1987; P. .35.
    G.M.A. Bakheit, British Administration and Sudanese Nationalism 1919-1939; 1965; pp. 16-19.
    G.M.A. Bakheit, British Administration and Sudanese Nationalism 1919-1939, 1965; pp.24-5.
    Yoshiko Kurita “the concept of Nationalism in the white flag league movement”, in the Mahasin hag Al-Safi, Mahasin Hag Al Safi the Nationalist Movement in the Sudan, (Khartoum, Institute of African and Asian studies, University of Khartoum), 1989; P. 50
                  

08-02-2006, 03:48 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: بكرى ابوبكر)

    Yoshiko Kurita “the concept of Nationalism P. 32.
    For further details see Yoshiko Kurita “the concept of Nationalism P. 27.
    Yoshiko Kurita “the concept of Nationalism P. 32.
    Elfatih A.Abdel-Salem, “Ethnic Politics in the Sudan”, in Sayyid Hamid Hurreiz and Elfatih A.AbdelSalam, ed., Ethnicity, conflict and National Integration in the Sudan, (Khartoum, Institute of African and Asian studies –University of Khartoum), 1989,p.42.
    R.O.Collins ,'Sudanese Nationalism ,Southern Policy and the Unification of the Sudan : 1939-1949,’ in Mahasin Hag Al Safi the Nationalist Movement in the Sudan, (Khartoum, Institute of African and Asian studies, Uiiversity of Khartoum); p.223
    For more details see Al-Karsani, A.A. (2000) “The Nuba and the identity Crisis”, Dirasat Ifriqiyya (24 Dec. (2000):29-54.
    R.O.Collins ,'Sudanese Nationalism ,P.228
    R.O. Collins ,'Sudanese Nationalism , p. 241.
    For details see R.O. Collins ,'Sudanese Nationalism ,pp. 246-50.
    Angelo Lobale Lokoro Loiria, the Juba Conference: Acritical Appraisal, in Mahasin Hag Al-Safi, pp.272-284.
    Muddather Abadel-Rhim, Op.cit, p.9



    لمزيد من التفاصيل راجع عبد الله على إبراهيم‘ الثقافة والديمقراطية فى السودان‘ دار الأمين للنشر‘ الخرطوم‘ ص33



    ICG (2003) “Sudan Endgame” (ICG Africa Report No. 65, Nairobi/Brussels 7 July 2003); available online at: http://www.crisisgroup.org/home/index.cfm?id=1624&l=1
    CBS (Central Bureau of Statistics)/Ministry of Finance and Economy, Republic of Sudan (2000), Statistical Yearbook, Khartoum.



    Al-Assam, A.A. and M.M. Khogali (1991) “Transport in Greater Khartoum” in H.R.J Davies and M-E. Abu Sin (eds.), The Future of Sudan’s Capital Region: A Study in Change and Development, Khartoum: Khartoum University Press. P. 206.
    Davies, H.R.J. and M.E. Abu Sin (1991) “The Heart of the Sudan”, in H.R.J Davies and M-E. Abu Sin (eds.), The Future of Sudan’s Capital Region: A Study in Change and Development, Khartoum: Khartoum University Press.
    Short, J.R. (2002) “Black Holes and Loose Connections in the Global Urban Network”, Globalization and World Cities Study Group and Network, Research Bulletin No. 76 (A). http://www.mi.vt.edu/Research/WorldCities/Analyses/Mega.pdf
    Lahmeyer, J. (2002a) “Sudan: historical demographical data of the administrative division”; available in “Populstat” at: http://www.library.uu.nl/wesp/populstat/Africa/sudanp.htm (last modified on 2002.06.20 by Jan Lahmeyer).
    CBS (Central Bureau of Statistics)/Ministry of Finance and Economy, Republic of Sudan (2000), Statistical Yearbook, Khartoum.




    Davies, H.R.J. and M.E. Abu Sin (1991) “The Heart of the Sudan”, in H.R.J Davies and M-E. Abu Sin (eds.), The Future of Sudan’s Capital Region: A Study in Change and Development, Khartoum: Khartoum University Press.
    A.A. Al-Assam and M.M. Khogali “Transport in Greater Khartoum”, 1991; P. 207.
    Herbert, D.T. and A. Ibrahim (1991) “Labour Migration and Informal Sector of the Greater Khartoum Economy”, in H.R.J Davies and M-E. Abu Sin (eds.), The Future of Sudan’s Capital Region: A Study in Change and Development, Khartoum: Khartoum University Press.
    عبد العظيم المهل وأمين حسن عمر، الهروب إلى الهامش: قضايا النزوح والنازحين فى السودان، مركز البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، 1992.
    El-Bushra, S. and N.B. Hijazi (1991) “The Impact of Greater Khartoum on the Rest of the Sudan”, in H.R.J Davies and M-E. Abu Sin (eds.), The Future of Sudan’s Capital Region: A Study in Change and Development, Khartoum: Khartoum University Press.
    Markakis, J. (199 Resource Conflict in the Horn of Africa, London.Thousands Oaks.New Delhi: Sage Publications.
    راجع شرف الدين بانقا، النازحون وفرص السلام2001.
    Ahmed, A.G.M. (1993) “The human and ecological impact of the civil war in the Sudan,” in Tvedt, T. (1993) (ed.), Conflict in the Horn of Africa: human and ecological consequences of warfare, Uppsala: EPOS - Uppsala University.
    H.E. Ibrahim. (2002) In Search of the Lost Wisdom: an Attempt towards Understanding Tribal Relationships and Dynamics of War and Peace in the Nuba Mountains, Khartoum: n.p. (This reference is in Arabic, I did not succeed to




    recall its exact title’s Arabic words)
    Abdel Rahman, B.A. (1991) “The Urban Primacy of Greater Khartoum”, in H.R.J Davies and M-E. Abu Sin (eds.), The Future of Sudan’s Capital Region: A Study in Change and Development, Khartoum: Khartoum University Press.
    راجع مقدمته لكتاب شرف الدين بانقا، النازحون وفرص السلام 2001.



    M.A. Mohamed Salih, “Tribal Militias, SPLA/SPLM and the Sudanese State: New Wine in Old Bottles” in Ahmed, A.G.M. and G.M. Sørbø (eds.) Management of the Crisis in the Sudan, Bergen: Centre for Development Studies/University of Bergen, 1989; P. 73-4.
                  

08-02-2006, 03:45 AM

حاتم الياس
<aحاتم الياس
تاريخ التسجيل: 08-25-2004
مجموع المشاركات: 1981

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: بكرى ابوبكر)

    والله ألف مرحب بصديقنا العزيز الدكتور محمود الزين


    ونتمنى أن يترجم ايضاً أطروحته حول موضوع الحدود الموروثه عن الأستعمار وباقى أوراقه الهامة

    ساعود لقراءة الورقة بتأمل عميق وخايف...حسب نصائح الطيب يسن
                  

08-02-2006, 03:52 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: حاتم الياس)

                  

08-02-2006, 03:57 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: بكرى ابوبكر)

                  

08-02-2006, 02:31 PM

Tragie Mustafa
<aTragie Mustafa
تاريخ التسجيل: 03-29-2005
مجموع المشاركات: 49964

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: بكرى ابوبكر)

    العزيز محمود الزين

    كيفك ووين اراضيك

    وسألنا عليك طوب الارض....

    سمعت من الفاضل محمد عثمان دريج انه لقى اخبارك انك في كوستاريكا

    ولكن لم نستدل لك على عنوان

    ارجوك قدم لعضوية هذا المنبر...

    نحتاج اصوات مثلك..هنا.....

    اتمنى ان تكون بخير في كوستاريكا

    والجماعه الاسبان ديل طبعا ظراف ..وبسطاء....

    تلفوني في البروفايل

    ونفسي اعرف خبارك اكثر....

    تراجي.
                  

08-02-2006, 02:33 PM

Tragie Mustafa
<aTragie Mustafa
تاريخ التسجيل: 03-29-2005
مجموع المشاركات: 49964

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: Tragie Mustafa)



    معذره لم اقرأ ورقتك بعد

    فرحة باسمك بدرجة لم اجد زمنا للقرأه...ساعود للتعليق.

    تراجي.
                  

08-14-2006, 03:41 PM

Tragie Mustafa
<aTragie Mustafa
تاريخ التسجيل: 03-29-2005
مجموع المشاركات: 49964

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: Tragie Mustafa)

    up
                  

08-14-2006, 07:51 PM

shahto
<ashahto
تاريخ التسجيل: 02-17-2006
مجموع المشاركات: 4394

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: Tragie Mustafa)

    up
                  

08-14-2006, 10:46 PM

Tragie Mustafa
<aTragie Mustafa
تاريخ التسجيل: 03-29-2005
مجموع المشاركات: 49964

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّاً ؟دراسة جديرة بالقراءة (Re: shahto)


    شفتا يا كوماندور شحتو

    اهو محمود الزين هذا من افضل ابناء كردفان

    حقوا تسأل بكري ابوبكر من ايميله وتتصل بيه لانه مكسب لKAD

    واصدق التحايا لتجمع كردفان.

    تراجي.
                  

09-28-2011, 11:29 PM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: محمود الزين- كَوستاريكا)

    up
                  

09-29-2011, 04:55 AM

Tragie Mustafa
<aTragie Mustafa
تاريخ التسجيل: 03-29-2005
مجموع المشاركات: 49964

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: بكرى ابوبكر)

    اللهم ارحم حبيبنا واخونا محمود الزين.

    اللهم صبر اهله واصدقائه واحبته.
                  

09-29-2011, 08:34 AM

HAIDER ALZAIN
<aHAIDER ALZAIN
تاريخ التسجيل: 12-27-2007
مجموع المشاركات: 22434

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: بكرى ابوبكر)

    UP
                  

09-29-2011, 09:24 AM

tayseer alnworani
<atayseer alnworani
تاريخ التسجيل: 07-30-2007
مجموع المشاركات: 1500

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: HAIDER ALZAIN)

    فوق
                  

09-29-2011, 10:18 AM

الصادق الزين
<aالصادق الزين
تاريخ التسجيل: 09-18-2009
مجموع المشاركات: 2690

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: HAIDER ALZAIN)

    اللهم ارحم محمود الزين بقدر ما اعطى لهذه الامة من قيم
    واضاف اليها من موروثات, فقد منحنى الله صبرا مكننى من قراءة
    كل ورقة دكتور محمود الزين الاسطورة وفيه اقول راى صراحة ان هذه الورقة
    تصلح ان تكون مادة تثقيفية لطلاب المرحلة الثانوية فى السودان
    وذلك لما تحتويه من اراء و افكار و معلومات تعيد فهم التركيبة
    السودانية على نسق جديد, فهى دعوة ان لم تتحق و لن تتحق فى ظل
    هذه الدولة الاستقطابية, لكن ارجو من الاخ بكرى ان يجعل هذه الورقة
    احدى العناويين البارزة و الثابته فى الصفحة الاولى حتى يطلع عليها
    اكبر قدر من مثقفى بلادى مدى الدهور.
    محمود الزين لم يمت اصدقائى فان من ترك مثل هذا السفر قد حفر اسمه
    من نور فى تاريخ الذاكرة السودانية! رحمة الله عليك و رضاه العالم
    الجليل سابق اوانه محمود الزين.
                  

09-29-2011, 11:24 AM

Aymen Tabir
<aAymen Tabir
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 2612

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: الصادق الزين)

    يا للحزن ..
    فقد ما ساهل .. له الرحمه وصبر الله اهله ومعارفه
    وعوضنا فقده بمن ياخذ بخيوط واطراف علمه وبحوثه ويكمل المسير .. وهذا افضل ما يمكن تقديمه لسيره عطره وعلم ووعي يشابه وعي وعلم الدكتور محمود الزين
    له الرحمه ولشعبنا الصبر على ما يفقد كل يوم
    اتفق مع الزميل الصادق يا بكري

    Quote: ارجو من الاخ بكرى ان يجعل هذه الورقة
    احدى العناويين البارزة و الثابته فى الصفحة الاولى

    واضيف ان تبادر سودانيز اونلاين بطباعة كتاب يضم اهم مساهمات الفقيد ودراساته وينشر كتجربة كتاب الخاتم
    تابر
                  

09-29-2011, 12:45 PM

saif basheer
<asaif basheer
تاريخ التسجيل: 11-29-2004
مجموع المشاركات: 1426

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: Aymen Tabir)

    فوق، ريثما تعود المقدرة للحديث والكتابة عنك يا صديق
                  

09-29-2011, 01:03 PM

احمد محمد بشير
<aاحمد محمد بشير
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 14987

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: saif basheer)

    كتاباته تدل على ذكائه ووعية , الفقيد محمود الزين عالم من العلماء .
    الله يرحمه ويحسن إليه
                  

09-29-2011, 04:22 PM

معتز الجيلي

تاريخ التسجيل: 02-08-2008
مجموع المشاركات: 252

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: احمد محمد بشير)

    .
    اللهم ارحمه واغفر له وتجاوز عن سيئاته ، اللهم اجعله في نعيم مقيم واسكنه الفردوس الأعلي يا كريم.

    خالص التعازي لأسرته وأحبابه.
    .
                  

09-30-2011, 04:43 PM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: معتز الجيلي)

     ،،لقد اختطف الموت احد انبل من عرفتهم كان ود الزين نبيلا وفرحا بانتمائه وانحيازه للانسان والانسانية حتى سقوف قيمها الفاضلة لذا امضى العزيز ود ا لزين اكثر من نصف عمره في البحث عن مسسببات تعاسة انسان العالم الثالث وكيفية ايجاد سبل لاستدامة التنمية للمجتمعات ذات الحوجة وكيفية استدامة موارد المجتمعات الريفية وربط كل ذلك بالسلام ،، ود الزين كان مستودع القيم النبيلة يحب الناس كل الناس ،،، فقط كان يحلم بوطن جميل ات ،،، لقد احتضنته المنافي القصية ومسحت بعض احزانه لكن اخمن ان حزنه العصي كان حلمه ان يسع وطنه الجميع ويكون قادرا للعودة لمواصلة رسالته ويقدم خلاصة فكره الاكاديمي لطلاب محبوبته جامعة الخرطوم ،، هل لا زال الوطن يأبى ان يكون واحة تتسع لجميع ابنائه البررة امثال د. ود الزين وكثيرون في المنافي القصية وهل يتسع الوطن فقط كمثوى اخير لنعش هذا النبيل .. وداعا صديقي ود الزين وتشملك رحمة المولي عز وجل وانا لله وانا اليه راجعون

    محمد الحافظ اشو قانون الخرطوم فى 80
                  

09-30-2011, 05:19 PM

tayseer alnworani
<atayseer alnworani
تاريخ التسجيل: 07-30-2007
مجموع المشاركات: 1500

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: بكرى ابوبكر)

    Quote: ود الزين كان مستودع القيم النبيلة يحب الناس كل الناس ،،، فقط كان يحلم بوطن جميل ات ،،، لقد احتضنته المنافي القصية ومسحت بعض احزانه لكن اخمن ان حزنه العصي كان حلمه
                  

10-01-2011, 03:57 PM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: saif basheer)

     ،،لقد اختطف الموت احد انبل من عرفتهم كان ود الزين نبيلا وفرحا بانتمائه وانحيازه للانسان والانسانية حتى سقوف قيمها الفاضلة لذا امضى العزيز ود ا لزين اكثر من نصف عمره في البحث عن مسسببات تعاسة انسان العالم الثالث وكيفية ايجاد سبل لاستدامة التنمية للمجتمعات ذات الحوجة وكيفية استدامة موارد المجتمعات الريفية وربط كل ذلك بالسلام ،، ود الزين كان مستودع القيم النبيلة يحب الناس كل الناس ،،، فقط كان يحلم بوطن جميل ات ،،، لقد احتضنته المنافي القصية ومسحت بعض احزانه لكن اخمن ان حزنه العصي كان حلمه ان يسع وطنه الجميع ويكون قادرا للعودة لمواصلة رسالته ويقدم خلاصة فكره الاكاديمي لطلاب محبوبته جامعة الخرطوم ،، هل لا زال الوطن يأبى ان يكون واحة تتسع لجميع ابنائه البررة امثال د. ود الزين وكثيرون في المنافي القصية وهل يتسع الوطن فقط كمثوى اخير لنعش هذا النبيل .. وداعا صديقي ود الزين وتشملك رحمة المولي عز وجل وانا لله وانا اليه راجعون

    محمد الحافظ اشو قانون الخرطوم
                  

10-01-2011, 04:04 PM

Abuelgassim Gor
<aAbuelgassim Gor
تاريخ التسجيل: 10-28-2006
مجموع المشاركات: 4630

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: بكرى ابوبكر)

    موت عالم موت أمّة
                  

10-02-2011, 07:42 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرحبا بالصديق محمود الزين ...هل تَحَقّق السودان الجديد ديموقرافيّا (Re: Abuelgassim Gor)

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de