|
الدولة الوهم // الدكتور سيد القمني
|
يورد بن عبد ربه في عقده الفريد ( ج 2 ص 84 ) نص رسالة نبي الإسلام إلى وائل بن حجر الحضرمي كبير أقيال حضرموت ، خاطبهم فيها بلغتهم الشديدة الخصوصية ، و التي لم تتأثر كثيراً بلغة قريش لبعدها المكاني و لتراثها القديم الخاص ، تقول الرسالة النبوية : " من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة ( أى أصحاب الممالك المستقرة ) ، و الأرواع ( أى حسان الوجوه ) المشابيب ( أى السادة ) من أهل حضرموت ، بإقامة الصلاة و إيتاه الزكاة ، في التيعة ( التيعة تشكل عدد 40 من الشياه ) ، لا مقورة الألياط و لا ضناك ( المقورة هي مسترضية الجلد ، و الألياط هي عيدان العظم ، أى لا يكون جلدها مسترخياً لاصقاً بعظمها / و المعنى كثير اللحم ) . و انطوا ( أعطوا ) التيجة ( أى الوسط ) و التيمة ( الداجنة ) ، لاخلاط و لا وراط و لا شغار ، و من أجبي فقد أربي ( أى أن بيع المحصول قبل نضوجه ربا ) ، و كل مسكر حرام " .
كانت هذه رسالة النبي لأهل حضرموت يدعوهم فيها إلى اعتناق دعوته و الاعتراف بسيادته بإرسال ضريبة المال إلى العاصمة يثرب . و شرحت أهم اهتمامات الدين الجديد فبدأت بالأهم ثم المهم ، بدأت بالصلاة ، ثم توقفت مع الزكاة طويلاً شارحة مفصلة المطلوب من ضريبة المال ، ثم بيان حرمة الربا و الخمر في جملتين لاغير .
الملحوظة الأهم أن الرسالة لم تطلب من أقيال حضرموت و اليمن الخضوع السياسي ، لأن النبي كان نبياً لا مقيماً لدول و حكومات ، الرسالة طلبت الخضوع الديني دون أن تتدخل في الشكل السياسي و الإداري القائم في بلادهم . بل مع اعتراف لتلك البلاد بالاستقلال السياسي و استمرار هذا الاستقرار باعتراف الرسالة لأقيالها العباهلة الأرواع المشايب ، و هو تكرار و ترداد لمعاني السيادة و البروزو القيادة مصحوبة باحترام واضح ، و لم يأخذ عليهم شيئاً في طريقة عيشهم و لا نظام حكمهم بل اعترف لهم به و كرمه بالمديح .
كتاب آخر ضمن رسائله إلى ملوك و حكام عالم زمانه يدعوهم فيها إلى الإسلام ، كان كتاب النبي إلى قيصر الروم ، و هو كما أورد نصه الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه ( محمد ) ص 308 ، يقول نصاً : " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم . سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، إسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين ( رعيته ) . يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ، ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا ، و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا : إشهدوا بأنا مسلمون " .
و الملاحظات هنا تقفو بعضها بعضا ، فالنبي خاطب هرقل معظماً له بوصفه ( عظيم الروم ) ، و لم يقل عن نفسه أنه عظيم العرب ، لأن النبي كان نبياً لا ملكاً ، هرقل رجل دولة و سياسة تجوز له مثل تلك الألقاب التفخيمية . و لأن النبي ما كان منشغلاً بالأمر كرجل سياسة مثل هرقل ، إنما كان منشغلاً بتبليغ ما أمره الله بتبليغه ليس أكثر و لا أقل و دونما تفريط أو إفراط ، فإن النبي لم يطلب من قيصر التبعية السياسية و لا تغيير أنظمة الحكم الرومانية السياسية أو الإقتصادية أو الإدارية إلى نظام حكم إسلامي ، لعدم وجود هذا النظام ، فلم تكن الدولة و أنظمة الحكم ضمن اهتمامات الإسلام و نبيه ، كل ما طلبه هو ما كلفه ربه به ، الدعوة إلى الإسلام . فقط !
لم يقل لهرقل ( القرآن دستورنا ) لأن الروم هم أعرف الناس بالدساتير ، و كان لهم دستورهم و قانونهم الديموقراطي قبل ظهور الإسلام بألف عام ، و لأنهم في هذه الحال كانوا سيطلبون الإطلاع على هذا الدستور الجديد ليقارنوه بدستورهم و يفيدوا منه إن تيسر ذلك ، كما سبق و أفادوا من اليونان بإرسال البعثات لدراسة التجربة اليونانية السياسية و القانونية لإتمام كتابة دستورهم . هذا بينما القرآن نفسه لم يكن قد اكتمل بعد عند إرسال تلك الرسائل ، و كان مفرقاً في صدور الصحابة و على العظم و اللخاف و العسيب و الرق و الأحجار.
لو كان الدين مرتبطاً بالدولة و سياستها ، لطلبت الرسالة من عظيم الروم تغيير دينه و تغيير نظامه السياسي و دولته . و هو ما لم تطلبه الرسالة النبوية و لا حتى نوهت عنه . الرسالة لم تقل لهم اكسروا الصليب و اقتلوا الخنزير ، طالبته بالإسلام فقط ، لأن النبي كان يعلم أن الدين شأن و الدولة و سياساتها شأن آخر ، و لم يعلن الإسلام للناس يوماً أنه دين و دولة ، لأنها لم تكن تكليفاً إسلامياً من السماء ، و لأنها لو كانت كذلك ما قصر نبينا في دعوته و لأعلنها واضحة صريحة صدعاً لأمر ربه .
لو كان شأن الدولة هو المطلوب إسلامياً ، ما رفض النبي صيغة الملك التي عرضتها عليه قريش ، بل أن الواضح في القرآن هو رفضه لصيغة الملك كشكل من أشكال السيادة على الدولة ، فقال : " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة " ، فالصيغة الملكية تطلب خضوع المواطنين الكامل ، و هو ما ترفضه و تأباه أنفة البدوي الحر في صحرائه ، لذلك لم ينضم بدو الجزيرة تحت حكم مركزي إلا زمن النبي وحده في شكل تجمع قبلي يمثل مرحلة انتقالية من القبيلة إلى الدولة ، و لم يستمر هذا الطور طويلاً فتفكك التجمع القبلي و النبي على فراش الموت في شكل نزعات استقلالية مرتدة . و طال هذا الطور القبلي حتى أقام ابن سعود بحلفه مع ابن عبد الوهاب شبه دولة ، ولازالت القبيلة فيها سيدة الموقف ، يحفظون إلى اليوم أنسابهم و ولاءهم القبلي دون بقية أمم العالم ، فلو سألت سعودياً عن قبليته لأجابك بسلسلة نسل و نسب طويلة ، و لو سألت ذات السؤال لأمريكي أو فرنسي لما فهم قصدك ، و لو فهم لاعتبرك مجنوناً .
و في القرآن الكريم نجده يحدثنا في سورة الكهف عن ذي القرنين / الإسكندر المقدوني بن فيليب ، و لا شك أن الله كان يعلم أن الإسكندر هو تربية الفيلسوف أرسطو تلميذ الفيلسوف أفلاطون ، و مع ذلك لم يندد بالفلسفة و لا بأرسطو و لا بالسياسة الأرسطية و لا بالجمهورية الأفلاطونية ، لأن شأن السياسة كان خارج اهتمامات الدعوة .
كان الجدير بالتنويه هنا هو لو كانت الدولة شأناً دينياً ، لكان واجباً أن يعقد القرآن المقارنات بين دولته و الدول العظمى في زمنه كما في مصر و روما و أثينا و فارس و غيرها ، كما قارن بين دينه و بقية الأديان الكبرى في زمنه ليبين فضله و تميزه عن بقية الأديان .
و في سورة سبأ يحكي القرآن كيف أرسل النبي سليمان سفيره ( الهدهد ) إلى مملكة سبأ التي كانت تتعبد للشمس من دون الله ، و حمّله للملكة رسالة تدعوها للإيمان ، و قد عرضت الرسالة على ملئها أى شيوخ قومها و وزرائها و أهل الخبرة و الدراية ، في دراسة ديموقراطية للموقف ، و مع ذلك لم يعب القرآن على سبأ نظامها الحاكم و لا ديموقراطتيها البدائية و لا طالبها بتفكيك ملئها ، كل ما طالبها به هو الإسلام .
كان محمد داعياً لدينه لا لدولة الإسلام ، و وفقاً لرغبات السماء ، التي لم يكن من بينها التسلط السياسي و ضم البلدان تحت سلطان العرب .
و إذا كانت الدولة هدفاً لدين الإسلام ، فإن ذلك يدفع إلى التساؤل : لقد كان النبي موجوداً و مدعوماً من السماء رباً و ملائكة و مع ذلك لم يتمكن من إقامة هذه الدولة . . . فلماذا ؟ ، لسبب شديد البساطة هو أن الدولة لم تكن ضمن جدول اهتمامات الإسلام ، و لو كانت كذلك لتحققت على يد نبيه كأعظم دولة خالدة على الأرض ، و لم تنتظر الإخوان المسلمين ليقيموها لنا ، و لا انتظرت دستورنا ليقرر أننا دولة إسلامية ، زيادة في دين الله ، و مزايدة عليه ، و على ربه ، و على نبيه .
|
|
|
|
|
|