|
متى يصالح الجرح السكين؟
|
أبيي... مدينة في الذاكرة
بعض المدن تستلقي في فضاء الذاكرة، نستدعيها من وقت لآخر فتتمدد في الحاضر باسطة عبقها وأريجها. أبيي مدينة من ضمن أمكنة ظل تأثيرها على ذاكرتي عميقاً. في ستينيات القرن الماضي كان خالي بكر علي حسن مفتشاً للحكومة المحلية بالمنطقة وكنت أصحبه في فترات العطلة الدراسية متأملاً مستغرقا في كل شئ. المجلد (غريقة) رجل الفولة، أبيي، كجيرة، لقاوة، كيلك، دميك، أبوجنوك، شلنقو، الكاشا، السنوط... أماكن لو مر بها سليمان لمر بترجمان. كجيرة وأسدها الذي نمر بجانبه وهو متمدد على جانب الطريق لا يأبه بنا.. يفتح عيناً نصف مغمضة ويتثآب فاغراً فاهه ليرينا أنيابه الطويلة الحادة ثم يلعق ظهر يده بلسانه. يتسلل صمت يبقى معنا ونحن ننظر خلفنا حتى نجتاز منطقة الخطر. في ترحالنا يسلمنا طريق إلى طريق، وخور إلى خور، ورهد إلى ميعة، ورجال يلحون علينا أن ننزل لنتغدى معهم يسلموننا إلى رجال يلحون علينا أن نتعشى معهم ونبيت وصباحات الله بخير... غير تلك الأزمنة وتلك الأمكنة لم يبق في الذاكرة شيئ نسترجعه بنستالجياحميمة. عندما تعينت مديراً لمتحف التاريخ الطبيعي في أوائل السبعينيات عدت لأرتاد تلك الأماكن لأسجل بيئاتها الإحيائية وكان التجوال ينقلني عبر التبون إلى الضعين في قلب بلد الرزيقات ثم إلى نيالا والردوم فأعبر بحر العرب لأنصب مخيمي في كفياكانجي التي أنطلق منها إلى كفن دبي وبوباية الشاويش مهدي والمناطق المجاورة.. لمدة شهرين ثلاثة.. لا يهم ومن يعبأ بزمن متوقف منذ عصر البلايستوسين وطالما إننا نصطاد حلوفاً نستبدله عند أهالي المنطقة من كريش بعسل نحل صاف غير مغشوش من يعبأ إن طال الزمن أم قصر أو إن هاجر السمبر شمالاً طالما يأتي الخريف واللواري (بتقيف) ؟. كفياكانجي وأبيي لهما نفس الملامح والشبه. هذه في جنوب دارفور وهذه في جنوب كردفان وكأنما الجنوب والشمال قطبان لا يلتقيان منذ أن خلق الله القبل الأربعة. كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية فيتنام الجنوبية وفيتنام الشمالية اليمن الجنوبية واليمن الشمالية جنوب السودان وشمال السودان أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية. دول الجنوب الفقيرة ودول الشمال الغنية. ورياح الخماسين التي تهب من الشمال لتموت في غياهب الجنوب. كل شئ من الشمال يصنع نقيضه في الجنوب و شمالي تاخدو الغيرة إذا جلست (جنوب). في الزمن القديم، عندما كانت الأضداد تحتفي ببعضها وأنا أستعير معلومة تاريخية دونتها (من وين مش عارف) تقول: (أول مجلس ريفي للمنطقة أنشئ في مطلع عام 1954، وافتتحه الحاكم العام، السير روبرت هاو في يوم 14/1/1954 قبل افتتاح المجلس توفي السلطان كوال اروب وتولى الحكم بعده ابنه دينق ماجوك اختار المسيرية السلطان دينق مجوك لمنصب رئيس مجلس (دار) المسيرية ، وقبل الناظر بابو نمر ، زعيم المسيرية الاكبر ، بروح طيبة منصب نائب الرئيس). في عام 1968 استقال احمد دينق ماجوك، ابن الناظر، من وظيفته كضابط مجلس ليترشح في الدائرة نائباً عن حزب الأمة... لاحظوا حزب الأمة وليس اى تنظيم سياسي جنوبي. نعم الأضداد كانت تحتفي ببعضها ولم تكن تحتاج للاهاي. وسأعود في (الدرت) بإذن الله إن عاد الدرت بما تشتهي أم جركم التي لا تأكل (درتين) لأقطف من المدينتين التبش والعنكوليب وأبونقوي والستيب والأركلة وكل خيرات المنطقة. وأقرأ أيضاً (من وين مش عارف) أوراق وجدتها ضمن أوراقي لم أكتبها: (تعايش المسيرية ودينكا نكوك في وئام وتعاون ابرز ملامحه آلية فض النزاعات الأهلية بين الطرفين حيث بُنيت آلية حل النزاعات التقليدية، التي ظلت تعمل بكفاءة حتى منتصف الستينيات، أي لحوالي ستين سنة، على المبادئ التالية: يجب على كلّ من القبيلتين احترام ميثاق الإخاء المبرم بين الناظر نمر علي الجُلّة والسلطان كوال اروب في 1905م. ويأمر الميثاق كلّ قبيلة بتبجيل أعيان القبيلة الأخرى والنزول عند رغباتهم. إن طبيعة العلاقة بين القبيلتين هي علاقة ضيافة، حيث استضاف المسيرية دينكا نقوك في دارهم. وبالتالي، وجب على كل قبيلة واجبات الضيف/المستضيف عن إرادة وكرم. (أكد سلاطين دينكا نقوك مؤخراً، في أواخر التسعينيات، هذه القاعدة الرفيعة للاحترام واللياقة في رسالة خطيّة إلى رئيس الجمهورية). هنالك مسارات معروفة للرُحَّل من القبيلتين ومقرات معروفة للمجتمعات المستقرة. ووقت الخروج والدخول محدد لمختلف العشائر الرعوية، وكذلك وقت الزراعة والحصاد للمجتمعات الزراعية.وفي حالة وقوع اعتداء من قبل أفراد من أيٍّ من الطرفين على أفراد من الطرف الآخر، يبادر الزعماء القبليون للمعتدين بالتحقيق والبحث عن مرتكبي الخطأ واعتقالهم إلى أن يتم الصلح في النهاية. وكذلك عليهم واجب حماية المعتدى عليهم ومرافقتهم حتى يبلغوا مأمنهم. هنالك مقادير خاصة محددة للتعويضات والضمانات والديّة. فعلى سبيل المثال، تبلغ الديّة بين المسيرية وأبناء عمومتهم الرزيقات 71 بقرة، وهي 31 بقرة بينهم ودينكا نقوك. يُحاكَم المخطئون من قبل عُمَدهم في إحدى المحاكم الأهلية العشر بدار المسيرية، واحدة منها لدينكا نقوك ويرأسها السلطان بنفسه، وتسع للمسيرية. كانت الأحكام قابلة للاستئناف لدى الناظر المعني الذي كانت قراراته أيضاً قابلة للاستئناف لدى ناظر عموم المسيرية، الناظر بابو نمر. المحاكم الأهلية تطبق العرف، لكن قراراتها تخضع للمراجعة من قبل القاضي المقيم الذي بمقدوره إحالة هذه القرارات إلى قاضي المديرية. وكانت قرارات محكمة دينكا نقوك تحال إلى مفتش المركز بدلاً من الناظر بابو نمر. وكان مجلس ريفي دار المسيرية مسؤولاً عن إدارة المحاكم واستلام الغرامات التي تفرضها. لقد ثبت أن الإرث الثقيل والعواقب الهائلة لاضطرابات 1965م كانت أكبر ممّا تتحمّله الآلية التقليدية. وفي الواقع، أُخضِعت بعض المفاهيم الأساسية للآلية إلى امتحان عسير من تلك المحنة. لذلك، تدخّلت الحكومة لاستكمال الآلية التقليدية وتعزيزها. عُقد مؤتمر أبيي الأول في عام 1965م ودُعيت له جميع القبائل المجاورة، من الشمال والجنوب. وقد خُصِّص المؤتمر بصورة رئيسية للصلح والعفو القبليين. في عام 1966م، عُقد مؤتمر أبيي الثاني لإبرام ميثاق جديد بين القبيلتين يستهدف إحياء الميثاق القديم وتقويته. فقد نصت ديباجة اتفاق 1966م على ما يلي: وفاءاً لميثاق الإخاء وللود الذي ساد بين المسيرية ودينكا ماريق (أي، نقوك) لأجيال وسنين،عُقد اجتماع قبلي مهيب في أبيي بتاريخ 20 و21 و22 مارس 1966م، اتفق فيه ممثلو دينكا ماريق والمسيرية، الموقعون أدناه، على ما يلي….:
(-يحق للمسيرية ارتياد جميع الرقبات والميعات وموارد الماء الأخرى والمراعي في المنطقة بأكملها. -أنه يحق لدينكا نقوك مساكنهم ومزارعهم في الرقبة الزرقا وأماكن أخرى. -دينكا الرِّيك ودينكا روينق وعشائر النوير يجوز السماح لهم بدخول المنطقة فقط من قبل السلطات الأمنية، بعد أن يقبل السلطان دينق مجوك المسؤولية عنهم. -أن يكون أمن وسلام المواطنين من مسؤولية الزعماء القبليين من كل جانب الذين يضمنون أمن الدينكا في دار المسيرية وأمن المسيرية في منطقة الدينكا. وبالتالي، لا يسمح للأفراد بحمل الأسلحة إلا تلك الضرورية للدفاع عن أنفسهم ...) وأقرأ وأقرأ ولكن ماذا يفيد؟ أنه من عينة الكلام الذي يرقد الآن في الورق... في زيارة لي لمدينة الأبيض علمت بما حدث من قتال بين الرعاة من المسيرية الزرق والنوبة من الكاشا والمندل راح ضحيته عدد كبير من الجانبين. ومثل تلك الإحتكاكات القبلية تحدث من وقت لآخر حتى بين المسيرية أنفسهم كذلك النزاع الذي حدث بين الغزاية وأولاد هيبان في السبعينيات أو الذي يحدث بين الرعاة في مناطق التماس مثل ذلك النزاع الذي حدث بين المعاليا والرزيقات في دونكي أب كارينكا. ولكنها كانت تلتئم ويمتص الناس جراحاتهم ... فقط من فضلكم أتركوا المسيرية والدينكا في حالهم.. فهم أقدر على حل مشاكلهم.. ولكن التدخلات من هنا وهناك والشحن المستمر جعلت من المستحيل أن يصالح الجرح السكين مع إنه كان يحدث كثيراً. محمد عبدالله الريًح
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: متى يصالح الجرح السكين؟ (Re: Rayah)
|
المسيرية حقها في رجليها .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم الأحد, 19 كانون1/ديسمبر 2010 20:16
1-القاضي الخصاونة وأبيي: كيمياء الرأي المخالف
وددت لو استصحبت صفوة الرأي تقرير القاضي عون الخصاونة، عضو محكمة العدل الدولية، الذي خرج فيه برأي مستقل عن قضاة تحكيم أبيي في يوليو 2009. ولم أرشحه للقراءة على أيام تأزم مسألة أبيي هذه لأنه تنبأ بأن قرار الأغلبية جزافي ظالم للمسيرية. ما دفعني لترشيحه أنه مكتوب بحرفية مما نريد لأهل القانون عندنا، بل والقاريء الشغوف، أن ينطبعوا بها. و أن نقف بذلك عن كثب على كيمياء الرأي المخالف لأنه ليس ممارسة فكرية في بيئتنا الطائفية "راكب". فالرأي المخالف مرذول نضرسه بناب ونطأه بمنسم. وقد اعجبني وقوف القاضي هنري رياض مخالفاً في قضية "اسماء محمود محمد طه ضد حكومة السودان" (1985) التي قضت فيها الأغلبية .ببطلان حكم قضاة نميري على الأستاذ محمود. وسنرى في قرار الخصاونة كيف أن للخلاف ثمنا. فقد نظر الرجل متوكلاً في كل مستند نظر فيه القضاة الأغلبية ليكشف عن فساد رأيهم. فالمخالف يركب الصعب تكتنفه الوحشة وسهر الليل ليكون الواحد الأغلبية. ورغبت لو أن دوائرنا القانونية في القضائية وكليات الحقوق ونقابة المحامين والمجتمع المدني بين المسيرية والدينكا النقوك خاصة تناصروا على نشر قرار المحكمة السائد والمخالف ورأي لجنة الخبراء لتنويرنا بمادة أوسع من خلاصة قرار المحكمة الذي نختصم جرائه ولا نعرف دقائقه وسياقاته. فقد غاب المثقف والأكاديمي السوداني، شمالاً وجنوباً، من حقول القرار حول أبيي غير من مرجع يسير للدكتور عبد الباسط سعيد. وكان استثمار دوائر القانون عندنا (بل وعلماء الاجتماع وشعبها) في العناية بمستخرج تحكيم لاهاي مما نتمسح به ب"تراب ميري القضية" بعد أن فاتتنا مشاهدها الأصل. ولست أعرض هنا لحجة الخصاونة بل لبيانه. فقد جاء إلى كتابة تقريره بخبرة كثيفة في العبارة. فالرجل تخرج بمادة التاريخ والقانون من جامعة أكسفورد ثم عمل بالدبلوماسية الأردنية ولايته الاتفاقيات الدولية. ثم صار لفترة وجيزة رئيساً للديوان الملكي لعلو كعب أسرته ونفوذها في الأردن. فانتخبته الجمعية العامة للأمم المتحدة قاضياً بالمحكمة العليا. ومن حصائد هذه الخبرات في التعبير كتب رأياً هو بوجه من الوجوه قطعة أدبية نادرة. تجده طَعّم رأيه بالمجاز فأمتع. فرأي المحكمة عنده قد بٌني على باطل. بل وصفه بأنه "صفعة بوجه علم الحدود". فلم تقصد به إحقاق الحق بل عقد صفقة سعيدة للأطراف جمعاء. واستدعى ذلك من القاضي الرجوع إلى حافظ الشيرازي (1320) ليقول بأن المحكمة تركت الحق وتعلقت بالأمل. ولكن: قوائم بيت الأمل على الرمال وجاء عن القرنون سوينبيرن بكلمة عجيبة. فقد وصف المحكمة بأنها ظلت تدور حول نفسها لتحدد منطقة أبيي تطلب ذلك الحل السعيد. وقال إنها ربما حسبت أن لفها حول حججها ودورانها سيبلغ بها السداد وإن طال السفر. ولكن لا بأس من المحاولة: فحتى أكثر الأنهار إعياء يبلغ البحار بسلام ومن مآخذه على المحكمة أنها تغاضت عن الحق في تصميمها لعقد حل وسط مما أوقعها في زلات اللسان الفرودية الفاضحة للغرض المبيت. فأكثرت من القول: "إنه أكثر نفعاً للمحكمة" في تمييز الوقائع التي بين يديها. فالنفع شيء والحق شيء. وختم الخصاونة كلمته بقوله إن المساومة من طبع البشر. والتفت إلى الشاعر البريطاني رايدارد كبلينغ الذي كتب "الفزي وزي" عن شعب البجا. وقال إنه ربما عرف شيئاًً أو آخر عن السودان. وهو القائل الإنسان دب في معظم علاقاته ودودة ومتوحش في غيرها الأنسان يعرض التفاوض على الطاولة ويقبل بالمساومة الناتجة وبدا لي أن الخصاونة كمن يقول: "ولكن الصدق منج دائماً. أما المساومة فلا".
2-أخرجت البادية اثقالها وقالت الصفوة مالها
كنت أخشى دائماً أن يصبح تبخسينا ل"العقل البدوي" (لذي تعتقد صفوة الرأي أنه من وراء خيباتنا الكبرى) سبباً لخرق حقوق الجماعات الرحالة بالنظر إلى أسلوب حياتهم. وقد سبق لي القول إن ما عقّد قضية المسيرية في أبيي، التي تقف الآن كعقبة كوؤد في طريق السلم السوداني، إلا ظننا أنهم شعب سيًّار "محل ما تمسى ترسى". فلا يتواشج المسيري مع الأرض معاشاً ووجداناً ومعاداً. فهو "هائم" ( roaming ) بأرض الله الواسعة. فحتى المؤتمر الوطني، الذي يظن الناس أنه الذي يحرض المسيرية على حق مزعوم بأبيي، باعهم بعد أن حصل من تحكيم لاهاي على بعض حقول النقط بينما خسر المسيرية الأرض. وقال الدرديري محمد أحمد، ممثل الحكومة بلاهاي، إنه يعتقد أن التحكيم جاء نصراً للحكومة. الاستخفاف بذوق البدوي للأرض وارتباطه بها وحيله لتأمينها فاش. فآخر ما انتهت إليه أحزاب المعارضة بشأن الحقوق في أبيي هو طلبها من أمريكا أن ترفع يدها عن المسألة وأن تترك للدينكا والمسيرية ترتيب تلك الحقوق بالسوية. وهذا هرب للأمام من المعارضة وتنصل عن دراسة تلك الحقوق بصورة مسوؤلة لتستقل برأي يعين المسيرية والدينكا معاً على التسوية. وددت مثلاً لو جاءت المعارضة برأي مدروس حول شرط "الإقامة" للتصويت في استفتاء أبيي. فالإمريكان، الذين طلبت المعارضة منهم ترك المسيرية والدينكا لحالهم، حاولوا مراراً وتكراراً تعريف تلك الإقامة بما يقرب من وجهات نظر أطراف النزاع. ويمكن بالطبع لجهات أخرى أن تدلو بدلوها في الموضوع وتلقى القبول و"ترفف" الأمريكان الذين "دنا إبعادهم". فالتصويت في الاستفتاء لن ينعقد بدون تحديد لشرط "الإقامة" مقبول للأطراف مهما طال السفر. من جهة أخرى يكشف رهن المعارضة حل مسألة أبيي بالأطراف "القبلية" المعروفة عن قصور كبير في بروزة الصراع حول أبيي في السياق القومي. وكشفت رسالة للماجستير كتبها عبد الوهاب عبد الرحمن (1982) عن كيف تواثقت الأطراف القبلية مع القوى القومية والحكومية منذ منتصف الستينات وتحالفتا مما يجعل حل النزاع القبلي بعيداً عن تلك القوى المركزية والإقليمية أمراً بعيد الاحتمال. فقد فرضت المسيرية مرتين على حكومة الخرطوم ألا تقبل بتقرير الخبراء ولا تحكيم لاهاي. ولعل أوضح صور التحامل على المسيرية من جهة أسلوب حياتهم اختصار مطلبهم في "حق الرعي" في الأرض دون حق التملك. فكانت مساومة الأمريكان للمسيرية في طور من الأطوار أن تجعل ذلك "الحق" جاذباً. بمعني أنها وعدتهم بتطوير المراعي والخدمات في دارهم بما ينسيهم أبيي "وسقطها". ولم يقبل المسيرية بهذه "الجذرة" الأمريكية. ويقصر منصور خالد أيضاً مطلب المسيرية على حق الرعي دون المواطنة. فهو يعيد علينا نص بروتكول أبيي (2004) الذي « يحتفظ المسيرية والأشخاص الآخرون (فيه) بحقهم التقليدي لرعي الماشية وتحرك الأفراد عبر إقليم أبيى». وقال إن الحركة الشعبية رعت هذا الحق في أوقات الحرب فكيف تصد عنه في وقت السلم. ومنطق منصور هنا كالعادة فاسد. فقوله إن الحركة رعت حق المسيرية في الرعي وقت الحرب فما بالك في وقت السلم بلاغي لا غير. فالمقارنة في وضعنا الراهن لا تكون بين وقت حرب ووقت سلم كما ذهب منصور بل بين وقت كان فيه السودان واحداً وقبل به المسيرية بخيره وشره ووقت سيتفرق فيه السودان. ومتى تفرق ربما صارت أبيي، التي للمسيرية حجة حسنة على تملكها، إقليماً في الجنوب. ولهذا يصر المسيرية على التصويت في الاستفتاء كمواطنين (لا مجرد مستخدمين للأرض) لترجيح بقاء أبيي في دولتهم. فليس بوسع منصور نفسه تأمين حقوق جماعة بادية في بلد آخر على علو كعبه في دولة الحركة الشعبية. ونواصل غداً عرض بقية منطق منصور ونعرج على رأي سقيم آخر لعمر القراي.
3-أبيي: مواطنون لا رعاة
تسفر الصفوة اليسارية أو المعارضة لنظام الإنقاذ عن خبيئتين متى ما عالجت حق شعب المسيرية في التصويت في استفتاء أبيي الموعود. بالخبيئة الأولى يسترجعون احتجاجهم القديم على ما يصفونه بضلوع المسيرية مع الإنقاذ (وحكومة السيد الصادق قبله) في حرب الحركة الشعبية. فيقول منصور خالد إن المسيرية هي من قبائل الشمال التي "وجدت نفسها في أتون حرب لم تشنها إبتداءًا، ولم تَجنِ فائدة منها في النهاية". ولا أعرف إن كان في عرف المواطنة والديمقراطية مصادرة حق التصويت من ذلك الذي يشن حرباً بالوكالة ولم يجن فائدة. فلو صح هذا العرف لطوينا وستمنستر في بريطانيا طي السجل لأن توني بلير حمل بريطانيا على شن حرب على العراق بالإيعاز ولم تجن فائدة. ويمت قول منصور عن استخدام المسيرية وفشلها إلى ما وصفته في حواري مع بلدو وعشاري مؤلفيّ كتاب "مذبحة الضعين" (1987) ب "تخليب" قبائل التداخل العربية في حدود الجنوب. فقد أخذت عليهم نظرهم لتلك القبائل كمجرد "مخلب قط" في حربها الحركة الشعبية. وهو مفهوم يٌفرغ القوام العربي في منطقة التمازج من كل هوية أو مطلب "أناني ذاتي" في المراعي ويجعله "جنجويداً" خالصاً للحكومة. وتستنكر الصفوة اليسارية والمعارضة إدخال الحكومة لتلك الجماعات في دورة حربها لجيش الحركة الشعبية ويغضون الطرف عن إدخال جيش التحرير للدينكا في دورة حربه للحكومة. وصحيح الأمر أنه لا المسيرية ولا الدينكا مجرد مخلب قط. إنهم حلفاء لا أجراء. وأوضح ما تكون خبيئة التخليب على المسيرية عند عمر القراي. فيتفق مع المٌخلبين بقوله إنه "ومع بداية انتصارات الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، بدأت حكومة الشمال بقيادة السيد الصادق المهدي، تسليح المسيرية، بغرض إستخدامهم، لوقف الجيش الشعبي لتحرير السودان من أن يزحف شمالاً." ولم يكتف بوصف المسيرية بالمخلب بل بالجبن. فقال إنه كانت مراحيل المسيرية تنتهز غياب شباب الدينكا في جبهات الحرب الأخرى لتهاجم كبار الدينكا وصغارهم ونسائهم وتتسراهم. هذا عن تخليب المسيرية. ولكنه من الجهة الأخرى يذكر بالزهو والامتنان كتيبة دينكا نقوك كأحدى أول الفصائل التي قادت حركة الثورة في بداية الحرب الأهلية الثانية (1983-2005م). وهذا هو السبب، بحسب القراي، لتميز ابناء النقوك في قيادة الحركة. ما الذي يجعل هذه قدماً وتلك كراعاً يا دكتور القراي؟ أما الخبئية الثانية فهي محض حزازة أولاد بندر لا يستمزجون مسألة البادية ويعتقدون أنها من خوالف التاريخ وعار الحداثة. والمسيرية والدينكا سواء في بؤس ظن الصفوة بهم لاشتراكهم في أسلوب للحياة خالف وبدائي. ولولا أن الدينكا نقوك "إتحاوا" في طرف الحركة الشعبية ما أعارتهم صفوة الحداثة نظرة. فحق المسيرية في أبيي عند الصفوة الحداثية المعارضة قاصر على رعي بهائمهم (أو تفسيحها في النكتة القديمة) فقط. وللتأكيد على كفالة حق الرعي للمسيرية عقد منصور مقارنة بين رعاة المسيرية والرعاة عابري الحدود في أفريقيا بعامة. وقد صار الأخيرون كما قال موضوعاً لاهتمام الاتحاد الأفريقي الذي ظل يعقد الندوات لتأمين حقوق هذه الجماعات البادية التي لا تلقي بالاً للحدود الوطنية. ولعل المثال الأقرب لهذه الجماعات هم الأمبرور. وهذه مقارنة عرجاء جداً. فقد نسي منصور أن المسيرية ليست بعابرة لحدود ليست هي طرفاً فيها بالمواطنة إبتداء. فهي ليست مجرد مستخدم عابر للأرض ممن تتبرع الحركة الشعبية أو الاتحاد الأفريقي له بضمان حقوقه في الرعي. فالمسيرية في الاستفتاء القادم في أبيي مواطنون . . لا رعاة. ونختم غداً بالتعليق على كلمة القراي الجاهلة.
4-المسيرية: حقها في رجليها
أسفر القراى في مقالاته عن أبيي عن كل عيوب الصفوة المعارضة للإنقاذ حيال مطلب المسيرية التصويت في استفتاء المنطقة القادم. فهو بندري "ود مدن" وكالة أو أصالة يستهجن حياة البادية السيارة. فلا يأتي بطلب المسيرية إلا ويسارع بالتذكير بأنهم " لا يقيمون في المنطقة، بل يتجولون فيها". فحق المسيرية إذاً "في رجليها". ولا يطرف لمثل القراي، ممن "فلقونا" بحقوق الإنسان، جفن وهو يفرق بين الناس بالنظر إلى أسلوب حياتهم. وحجبت حداثته عنه حقيقة أن "التجوال" لا يصادر حق "الجائلين". فالكبابيش التي زرتها في آخر الستينات جائلة حتى ناظر عمومها. ولها دار حدادي مدادي. ولكن تحكيم القاضي هيز في أوئل الخمسينات حمى دارها من دعاوى قبائل أخرى فيها. والقراي كذلك يقصر حق المسيرية التاريخي في منطقة أبيي على الرعي. ولذا فإن تحول ابيي إلى الجنوب، في قوله، لن يمنعها "أن تواصل حقها في الرعي، كما كانت تجوب المنطقة شمالاً وجنوباً." وفي نظر القراي أنه لم يحرم أحد المسيرية الرعي. فضمنه لها تحكيم لاهاي والحركة الشعبية. وزاد بأن ذلك "هو ما يمثل مصلحتهم الحقيقية ولكن المؤتمر الوطني، يريد ضم أبيي للشمال ليحوز كل البترول في المنطقة، وهو لو فعل، لن يعطي المسيرية منه شئ، كما لم يعط كل أهل السودان الذين ازدادوا فقراً بعد ان ظهر البترول". وغاب مطلب المسيرية بحق تاريخي في أبيي في غبار صراع الإنقاذ ومعارضها. والقراى مثله مثل عتاة معارضي الإنقاذ بالسليقة "يٌخَلِب" المسيرية ويعاقبهم على ذلك. ف"التخليب" هو اعتقاد رائج بين أولئك المعارضين مفاده أن المسيرية في نزاعها مع الدينكا والحركة الشعبية كانت مجرد مخلب قط لحكومات الشمال. فسلحتهم باسلحة متقدمة للإغارة على قرى الدينكا المشتبه في ولائها للحركة الشعبية لتحصد الغنيمة من الرقيق والبقر. وأعاد على مسامعنا كل تقرير لحقوق الإنسان جرَّم المسيرية لعدوانها على الدينكا. والتخليب معناه أن المسيرية لم تكن لها مصلحة خاصة في خصومة اقتحمت صحن دارها. وهذا شطط. فأبيي منذ الستينات صارت عظمة نزاع لاصطفاف جديد تحالفت فيه الدينكا مع الحركات القومية الجنوبية المسلحة واقترنت المسيرية بالدولة المركزية بما شرحته في كتابي "الثقافة والديمقراطية" (1996. بل رأينا القراي أمس ينوه ب "كتيبة دينكا نقوك" التي كانت من طلائع جند الحركة الشعبية. وعاد القراي إلى التخليب بسؤال المؤتمر الوطني إن كان يريد أن يزج بالمسيرية هذه الأيام" في حرب ليس لهم مصلحة في خوضها، مادام حقهم في الرعي محفوظ، ولم يقل أحد بحرمانهم منه؟" كل ما تقدم من عيوب القراي من فساد الرأي وعتو الغرض. وهو مستنكر من عالم مثل القراي حسن التدريب بالضرورة. وهي سقطات مقدور عليها. أما أن يخوض العالم في ما لاعلم له به فهو عوار وجلافة. فلا أعرف كتاب القراي المنير الذي دله على أن الدينكا نقوكك "مزارعون ورعاة مستقرون" في منطقة أبيي بينما المسيرية رحل جوابون فيها. ومن أين عرف أن المسيرية "لم يكونوا ابداً مستقرين كقبائل الدينكا"؟ ومهما كان الرأي في زعم المسيرية بحقهم في أبيي إلا أن الدينكا نقوك سيارة مثل المسيرية. ومؤسف أن يحمل القراي إصراً على بداوة المسيرية يذهله عن هذه الحقيقة البسيطة من حقائق سبل كسب العيش في السودان. فلولا هذا الغل لتحوط كما ينبغي لحامل دكتوراة مثله من التفريط في لسانه بجهالة ولتحقق من المعلومة في مرجع مناسب. العلم نور. وهو شفاء لا تشفياً كما قلت قبل نحو 25 عاماً لدي صدور "مذبحة الضعين" لبلدو وعشاري.
[email protected]
| |
|
|
|
|
|
|
Re: متى يصالح الجرح السكين؟ (Re: munswor almophtah)
|
الدكتور محمد عبدالله الريًح لك التحية و نشكرك على هذا اولا الكلام البديع الذى جدت به لنا او جادت به ذاكرتك , فلا تبخل علينا من طيب و حلو كلامك ايها النحرير . كلامك يعيدنا الى سماحة و جمال سوداننا و الى طيبة و كرم الطيبيين من أهل كردفان الذين لم يفرقوا انفسهم بسبب لون او عرق او مال فعاشوا سمحين و ظلوا الى مئات السنين الى ان قدم الى سوداننا الاوباش فعاثوا فيه فسادا و خرابا ففرقوا بين افراد الاسرة الواحدة و اثاروا النعرات و اشعلوا نيرات الفتة القبيلة و الطائفية لعنهم الله و انزل عليهم سخطه. اسمح لنا أيها الدكتور الفاضل ان نستلف هذه القطعة الجميلة المعبرة عن واقع لا ينكره الا حاسد او حقير او ######## . و اخيرا نشكرك لك البوست و نتمى ان نقرأ المزيد من تحفك البديعة , و اخيرا اسم لنا ان نضيف الى هذه المساحة بوستنا ادنا.
قبيلة المسيرية ..... !!!!! قبيلة المسيرية ..... !!!!!
| |
|
|
|
|
|
|
|