مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 01:06 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-07-2010, 10:10 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)...

    بعث لي الصديق الكاتب المصري شوقي عقل بهذه السلسلة التي قام بنشرها
    بجريدة الراية القطرية، ممنياً النفس أن تعم فائدتها الجميع عبر منبر سودانيزأونلاين.

    الأستاذ شوقي يكن للسودان محبةً خالصة (ولهم بنا نسبٌ) وقد تابعتُ معه تفاصيل
    رحلته من الدوحة حيث سافر ومعه مجموعة من الرحّالة لإعادة إستكشاف
    كنوز التأريخ على أرض كوش...


    فجاءت هذه الحصيلة التي سأوردها تباعا...


    فترقبوا...
                  

10-07-2010, 10:12 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    مصري في ارض النوبة

    كنت في رحلة تعرف على أرض النوبة في السودان، أستغرقت ثلاثة أسابيع، وكانت إضافة مذهلة لما كنت أعرفه، وبالأحرى لما كنت أظن أني أعرفه عن النوبة، فجاءت الرحلة أضافة وتصحيحا لمعرفتي الناقصة والمغلوطة في معظمها، اذ كانت الصورة التي نقلت الي وعيي عن النوبة من خلال الاعلام ومن خلال معرفتي بالمثقفين النوبيين تتلخص في قضية مأساة شعب تم تهجيره طوعا في الغالب وكرها في الأقل، دون تعويض مناسب ودون مراعاة لما كان عليه حال الشعب المهجر، حيث تم توطينه في بيئة مخالفة طبيعيا واجتماعيا لما كانت عليه بيئته الأصلية منذ ألاف السنين، فسلب بالاضافة لوطنه تقاليده وأعرافه وعزوته فأصبح غريب المكان والمكانة بعد تمتعه بعز وأن كان قديما الا أنه ما زال يحفظه في وجدانه وتراثه الشعبي، فهو فخره بحضارته وتقاليده، وهي صورة وان كانت صحيحة إلا انها كانت غير كافية لمعرفة مأساة النوبة الحقيقية.

    كان أخر عهدنا بالصخب والمقاهي والمحلات والشوارع المزدحمة ودخان العوادم في أسوان حيث قضينا ليلة لننطلق في رحلتنا الى أرض "الواوات" على متن عبارة متهالكة تحمل اكثر من ضعفي حمولتها المقررة من الركاب، لتقطع في حوالي عشرين ساعة بحيرة ناصر التي تقبع تحتها عميقا بلاد النوبة الغارقة، تقوم العبارة برحلتها مرة واحدة في الأسبوع بين اسوان وحلفا، بحمولة مقررة 250 راكب، اي أقل من حمولة طائرة متوسطة الحمولة تقوم برحلات يومية بين القاهرة والدوحة أو جدة، تخدم هذه العبارة الحركة بين شعبين ارتبطا بحضارة مشتركة منذ فجر التاريخ. والطريق البري مازال تحت الإنشاء، وهو نفس الطريق الذي كان يستخدم منذ ألاف السنين، طريق الأربعين، سمي كذلك لأن قطعه يستغرق اربعين يوما او لأن به أربعين بئرا. قال لي رجل نوبي عجوز وهو يشير الى عشرات الركاب الممددين في ممرات العبارة: أيام الملك كانت العبارة تقوم برحلة يومية وكان لكل راكب سرير، لا ينام راكب أبدا في الممرات.
    بوصولنا الى حلفا البديلة، الظل الباهت البائس لحلفا الغارقة، التي ظل النوبيين يذكرون طويلا مشهد مأذنة مسجدها وهي تغرق يوما بعد يوم تحت مياه البحيرة، و تغرق معها ذكرياتهم في موطن الاجداد، بدأنا رحلتنا الى ارض النوبة السودانية. حلفا محطة للعابرين، لا تجد هناك إلا مباني من الطوب اللبن و(وكالات) للنوم تطلق على نفسها فنادق تؤجر الليلة بالسرير، وتنام المدينة ايام الأسبوع عدا يومي قدوم العبارة ومغادرتها، فتنشط حركة البيع والشراء، وتمتلىء المطاعم بالرواد. الكهرباء تأتي من (وابورين) يعملان طيلة النهار ويستريحان من منتصف الليل الى الفجر، كنا نصحو حين تتوقف مروحة السقف فتأخذ جحافل الناموس في مهاجمتنا بلا رحمة، حتى يعود (الوابوران) للعمل ثانية في الفجر فننام ساعة الى الصباح. كنا لا زلنا في بداية رحلتنا في ارض النوبة السودانية، وهي الامتداد التاريخي والجغرافي لأرض النوبة التي تبدأ من اسوان وتنتهي عند بلدة الدبة في السودان.

    كنا نبحث في ارض النوبة عن ظل الحضار ة العظيمة التي قرأت عنها كثيرا قبل أن أبدأ رحلتي، من هنا مرت الشعوب التي شكلت العالم القديم في أوروبا وشمال افريقيا، منذ ما يزيد عن المائة الف عام، ومن هنا ظهرت حضارة مروى ونبتة وكوش وكان ملوك النوبة هم ملوك الاسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر، الملك طهاركا وبعانخي وشباكا، ولكنه للأسف ظل ميت لم يبق منه سوى أطلال، لم اجد إلا أطلالا، أطلال آثار وأطلال بيوت، ظل باهت لعدة قوى مهيمنة على النوبة، الأرض المعبر، والموطن الأول للحضارة، سواء أكان ذلك بالوجود المادي المباشر كما في حالة الحكومة المركزية، أو بالغربة والبعد عن موطن الأجداد رغم الحنين والشوق، لأهل النوبة المهاجرين، وهم أكثر اهل النوبة، أو بالتأثير الغير مباشر لقوة اثرت دوما في النوبة وهي مصر ذلك (الحاضر الدائم) كما اشار الرحالة البرتغالي جينفوا في كتابه (رحلة الى السودان) لا يوجد ما يدل على وجود (الدولة) -بخلاف رجال الشرطة- الا (الزلط) بلغة النوبيين، وهو الطريق الأسفلت الذي يربط بين حلفا في أقصى شمال السودان بالخرطوم قاطعا مسافة تزيد قليلا عن التسعمائة كيلومتر، وهو طريق لم يمض على إنشاءه الإ عدة سنوات. قبله كان الطريق الترابي هو الوسيلة التي تربط الشمالية مع العاصمة، بالإضافة الى قطار العذاب الذي كان يقطع تلك المسافة في اربعة وعشرين ساعة رسميا، وعدة أيام قد تصل الى خمسة فعليا، دون حمامات أو فراش للنوم، تم إلغاء القطار واستبدل بعربات (بولمان) سريعة تقطع المسافة في أقل من يوم، كان أنشاء الطريق اساس الحملة الإنتخابية لحزب البشير في الإنتخابات الاخيرة، بينما أخذت المعارضة في تعديد عيوب الطريق وكيف انه أنشأ من مواد غير مطابقة للمواصفات الفنية، كان ذلك محل الهجوم على حزب الحكومة في السودان! سمعت ذلك في اجتماع إنتخابي في مدينة حلفا لحزب الترابي، كانت قوات الأمن الشبيهة بالأمن المركزي في المحروسة تحيط الإجتماع الهزيل بعدد يفوق عدد الحاضرين.

    كان من المدهش أن ارى في القرى التي زرتها الكثير جدا من البيوت والقليل جدا من السكان، يشير مرافقونا: هذا بيت الأستاذ فلان، بناه ولم يأت منذ عشرين سنة، أو هذا بيت الاستاذ كذا الذي ارسل النقود لأقاربه ليبنوه له ولم يراه حتى الأن فهو يعيش في كندا. بيوت بلا نوافذ أو أبواب، حوائط سميكة من الطوب اللبن لم تكسى بملاط فأضافت الى الأطلال القائمة القديمة أطلالا جديدة، في بعض الأحيان لم نكن نستطيع أن نميز بين البيوت والأطلال الأثرية. إنها ظلالا باهتة ميتة للتكنوقراط والانتليجسيا والعمال النوبيين الذين استوطنوا العالم وظلوا يحملون حبا لاشك فيه لوطن جميل دون ان يترجم هذا الحب الى وجود حقيقي.

    ظلت عبارة "انتم المصريون" تواجهني أينما حللت: أنتم المصريين أغرقتم أرض النوبة كي تتمتعوا بالكهرباء، أنتم المصريون لم تعطوا أهل النوبة التعويض المناسب حين طردتوهم من بيوتهم، كنت أحاول دوما أن اشرح: المصريون ليسوا الحكومة، المصريون شيء وحكومتهم شيء آخر، قصصت عليهم كيف تضع الحكومة المصرية سكان البيوت الآيلة للسقوط الذين تم اجبارهم على ترك بيوتهم في خيام، وتتركهم هناك، وأن ذلك يتم في قلب القاهرة! أن ما حدث للنوبيبن يحدث مثله للفقراء في مصر. ظللت أواجه بالعبارة المكررة في كل جلسة ضمتنا وأهل القرى في فركة أو مفركة أو سركمتوا أو باجة أو صاي، يقولون أنتم المصريون وأقول ليس المصريون كلا واحدا، حتى اكتشفت ان وراء اللوم عتابا يحمل حبا وأشفاقا على حال مصر وأنتظار، ويحمل ادراكا عميقا لعلاقة تربط مصر بأرض النوبة، علاقة تضرب جذورها لالاف السنين، إنهم يدركون أن قسوة ما يرونه وسوء الحال وانعدام الخدمات وما تشهده السودان من أطماع شرسة وتدمير منظم لم يكن ليحدث لو كانت الأم حاضرة، لو كان الحال غير الحال، ولكنه زمن مبارك، اصبحت بعدها كلما سمعت العتاب الحزين: أنتم المصريين! أصمت، وعلى الضوء الخافت لمصباح الكشاف كنت أرى وجوها طيبة معروقة حفر فيها الشقاء والكد خطوطه، وجوها رأيت مثلها في قنا وأسوان وسوهاج، كما رأيتها في ملامح وجه أخناتون. كانوا محقين في عتابهم، ينتظرون ان تقوم مصر من كبوتها التي طالت، أن تعود الأيام الجميلة.
    طالت رحلتي في أرض النوبة لما يقارب الثلاثة اسابيع، كان الناس يسألونني: أتبحث عن الذهب؟ يناديني رجل ملثم الوجه، يسألني بخفوت بلهجة غير نوبية: تشتري أثار؟؟ وحين عدت الى حلفا منتظرا العبارة كانت مباحث امن الدولة السودانية في انتظاري،أخذت بخشونة في عربة بوكس من المطعم الى (الفندق) حيث أمرت بأحضار اغراضي، ومنها الى مكتب أمن الدولة، ، حيث وجدت نفسي متهما بتهمة الاساءة الى الرئيس البشير، والرئيس حسني مبارك والدولة السودانية والمصرية، والاوراق تعد لتقديمي للمحاكمة بتلك التهمة، وهي تهمة كانت ستؤدي بي الى السجن مدة تتراوح بين الثلاث والسبع سنوات، كما أخبرت، وهو يعد حكما مخففا على كل الأحوال، فنحن ولله الحمد نعيش أزهى عصور الحرية في وادينا الجميل شماله وجنوبه، وكانت لرسالة قصيرة أرسلتها خفية من هاتفي المحمول الى أخي في دولة قطر من العربة التي كانت تندفع بي مسرعة في الشوارع الترابية لمدينة حلفا في طريقها الى مقر أمن الدولة، أخبره فيها أني في قبضة مباحث أمن الدولة السوداني حتى يعرف أين أنا حين تنقطع أخباري، كان لتلك الرسالة فعل السحر، اذ كان أخي وهو مستشار جالسا مع صديق له قطري يعمل في سلك القانون، يعرف لحسن حظي النائب العام السوداني معرفة شخصية وثيقة، فبادر بالاتصال به، وكانت النتيجة أن رأيت فجأة وأنا بين أيدي الضباط تغيرا في المعاملة، بعد ان كنت أرى نذر الشر في أعينهم، وتحولا في الحديث، وبدلا من السؤال المحرج عن رأيي في السيد الرئيس مبارك، وهو رأي لا يسر بطبيعة الحال، كان سينتهي بي حتما الى ما لا يحمد عقباه، أخذنا نتناقش في هل توجد لغة نوبية مكتوبة ام لا، فتعجبت من تغير الحال، ولم اكن اعلم بعد (بالفزعة) التي قام بها الصديق القطري، وسأعود الى تفاصيل احتجازي الذي تم ايضا على ايدي مباحث امن الدولة المصرية لدى خروجي ودخولي المحروسة والسودانية لدى مغادرتي السودان في مقال تال، وما رأيته في بلدنا الجميل، أرض النوبة.

    شوقي عقل
                  

10-07-2010, 10:15 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    الحلقة الثانية...


    مصري في أرض النوبة -2
    نشرت في جريدة الراية القطرية



    بقلم/ شوقي عقل - كاتب مصري

    كانت إقامتنا في أسوان في ضيافة الأستاذ حسن الباقر وابن أخيه الأستاذ صلاح، وضيافتهم إلى ما كانت عليه من كرم وترحاب، محملة بود وفرح حقيقي بوجودنا، وهم أخوال صديق عزيز هو الأستاذ صلاح زكي مراد، أوصاهما بنا، وعائلة الباقر ينتهي نسبها إلى الإمام جعفر الصادق، ولفرد من عائلة الباقر قصة، فاسمه علي بن زين العابدين وينتهي بلقب جعفر الصادق، ذهب صاحبنا إلى العراق قبل دماره، فإذا به يفاجأ في المطار بضابط الجوازات يصيح حين شاهد اسمه وينادي الآخرين فيقبلون عليه، ويقبلون يديه ويلمسون ثيابه تبركا، وصاحبنا مندهش مما يراه، وأوصلوه إلى حيث يريد معززا مكرما. سألت الأستاذ حسن: هل أنتم شيعة؟؟
    قال الرجل مبتسما: لا، بل نحن من يتشيع لنا! أرونا من أسوان ما لم نره فيها من قبل، في رحلة بقارب صغير إلى منطقة غرب السيل، شهدنا النهر صاخبا تفور مياهه، تعترض مجراه صخور جرانيتية سوداء، وجنادل كبيرة تمتد طويلا مشكلة جزرا تتدلى منها أشجار كثيفة تقطع مجرى النهر الغاضب، على إحداها وضعت لافتة: احترس من التماسيح! وعلى الجانب الغربي من النهر شهدنا قرى نوبية بيوتها ملونة زاهية، لم يكن ذلك حقيقيا، فالألوان الفاقعة المبالغ فيها، وضعت بهدف جذب السائحين، وتجسيد الصورة المحفورة في ذاكرتهم عما تفعله سيدات النوبة ببيوتهن، مما لم أشاهده بعدها في قرى النوبة، فلم يكن هناك سواح، ولم يكن هناك من يقوم بالتلوين، لعل السيدات لم يعدن راغبات في كسوة بيوت فارغة خالية من السكان ببهجة زائفة، فلن يراها أحد ، حين ذهبت لحجز مكان على العبّارة سألت الموظفة عن ميعاد قيامها، لم تعطني سوى إجابات غامضة مفتوحة تنتهي بالمشيئة، حتى عرفت في نهاية الحديث أن العبّارة محدد لها الساعة الثانية ظهرا لتتحرك، لم يسبق لها أن تحركت أبدا في ذلك الميعاد، أو في أي ميعاد آخر محدد، الأمر متروك للتساهيل لكمية البضاعة، وتموين الوقود وطقم الميكانيكية واكتمال حضور الركاب، والأولوية.. لأمن الدولة! كانت تتحرك في ساعة ما بعد صلاة المغرب، إذا لم يكن للأمن رأي آخر، فهناك دائما تأخير لأن الأمن يحقق مع أحدهم. كنت متشوقا لمعرفة هل ستتحرك عبّارتنا هذه المرة في ميعادها؟ ومَن مِن الركاب سيكون سببا في تأخير العبّارة هذه المرة عن موعدها، لم أكن أتخيل أن أكون أنا هذا الراكب، وهو ما حدث. ففي اليوم التالي وبعد أن أنهيت إجراءات تفتيش الحقائب، وسط فوضى عارمة ،وسطوة وغلظة رجال الشرطة، وصراخهم في المسافرين، ومصادرة ما يحلو في أعينهم من أغراض، مثل عصا من الأبنوس الأسود اللامع، أو سكين سوداني مقبضه من الخشب المشغول المكسو بالجلد المطرز، وذلك تحت دعاوى الأمن والحفاظ عليه. كنت أنتظر إعطائي جواز سفري لأصعد العبّارة مع الصاعدين، حينما جاءني صف ظابط يخبرني أن مكتب أمن الدولة يريدني. في مكتب أمن الدولة في ميناء السد العالي أجري معي تحقيق عائم ،لا أظن أن من أجراه معي يعرف الهدف منه أكثر مما أعرف، يريد أن يعرف لماذا أريد الذهاب للسودان؟ وهل سبق أن ذهبت؟ وكم من المرات ؟ ولما أجبته بالنفي، لم يبد مصدقا، ولم أكن أدري ما الجريمة في ذهابي للسودان المسمى في الإعلام بالشقيق، ولم يظن أني أخفي عليه (جريمتي) في دخول السودان من قبل؟

    كانت على الجدار صورة لمبارك لم أر مثلها من قبل، بابتسامة متفحصة قاسية، طلُب مني الانتظار قليلا بالخارج، طال الانتظار لثلاث ساعات تقريبا، فدخل زميلي بالرحلة إلى مدير مكتب أمن الدولة مطالبا إياه إما بمنعي من السفر أو أعطائى جواز سفري لنكمل طريقنا، وهو ما تم بالفعل بعد لحظات.

    تحركت العبّارة بعد صلاة المغرب، والساعة تقترب من السابعة، كانت ممراتها وسطحها مملوئتين بالمسافرين وبالحقائب والصناديق الكبيرة والصغيرة، وبضع ركاب أجانب مستلقين في أكياس نومهم على السطح مستمتعين بوجودهم في عالمنا البسيط، وكابينة الدرجة الأولى التي حجزنا فيها لا تشبه بحال حتى كبائن الدرجة الثالثة في العبّارات المثيلة في أي من دول العالم، كان الإهمال وضعف الاستثمار باديين بوضوح في المستوى المتدني للفرش، والحوائط والأرضيات المتسخة والكابينة الضيقة جدا، والحمامات التي لا يمكن استخدامها بحال! كان الممر الضيق المطل على بحيرة ناصر متنفسا جميلا حين يضيق الصدر، والمطعم حين لا يكون مزدحما، يصبح مكانا هادئا للاستماع إلى الحكايات. وصَف لي نوبي عجوز كيف كانت حلفا قبل الغرق، مدينة هادئة بشوارع واسعة نظيفة مسفلتة وبيوت من طابقين، قال: كانت هناك عبَّارة كل يوم وكانت شديدة النظافة، والبحارة و(السفرجية) يرتدون زيا موحدا نظيفا. وصف لي الأشجار والحقول الخضراء التي كان المسافر يراها طيلة الطريق من أسوان إلى حلفا، والقرى والبيوت النوبية الزاهية برسومات الحضارات العابرة، النوبية والفرعونية والمسيحية والإسلامية. حلّت التلال الرملية الجرداء العابسة الموحشة مكان الحقول الخضراء والبيوت وملاعب الأطفال. بعد مضي منتصف الليل، رأيت من بعيد هالة من الضوء تشع وسط ظلام الصحراء، كان الضوء بعيدا والعبّارة تقترب منه ببطء. سألت عنه فقالوا لي: معبد أبو سمبل. كان المشهد غريبا مثيرا، معبد يبعد مئات الكيلومترات عن أقرب حاضرة، لا يوجد حوله سوى الرمال، كيف بنى رمسيس الثاني معبدا على أرض النوبة لزوجته النوبية ،جميلة الجميلات، نفرتاري، إنه (تاج محل) مصر!
    البحيرة تتسع لتبلغ عدة كيلومترات مابين تلالها المكونة من الأحجار الرملية والأتربة، وتضيق أحيانا بحيث تبدو الشواطئ قريبة، والقمر يضيء المياه الداكنة المتلاطمة، حينما مررنا أمام المعبد الهائل المضاء وسط صحراء ممتدة لا نهاية لها، كان المشهد ساحرا مهيبا، وحوله لا يوجد سوى تلال من رمال وظلام وخيالات من ماضٍ بعيد، كيف يراها النوبي الذي عاش وقضى طفولته وشبابه في مرابعها؟ لماذا بنى رمسيس الثاني معبده هنا؟ أكانت أرض النوبة مليئة وقتها بالبشر المحتاجين إلى المعبد للعبادة؟ قرى ومدن، ورجال ونساء وأطفال، أم أنه الحب! .

    وصلنا ميناء الشهيد الزبير في حلفا بعد حوالي عشرين ساعة، أي أننا كنا نقطع حوالي عشرين لخمس وعشرين كيلومترا في الساعة، وهي سرعة بطيئة مرهقة، لبثنا منتظرين في العبارة حوالي الساعة ،كانت واقفة على بعد مائة متر من الرصيف، وجاء رجال أمن الدولة في قارب (رفاص) لفحص الجوازات والبحث عما لا أعرفه، وكانت قد تم ختمها على ظهر العبارة أثناء سيرها، ثم رست حيث تمت العديد من الإجراءات بما فيها توزيع أوراق ملونة علينا، والوقوف في طوابير لاستلامها ثم طوابير لتسليمها بعد ملئها ،ثم فحص الجوازات للمرة الثالثة، ثم ختمها أخيرا بخاتم الدخول ومعه عبارة صغيرة بضرورة مراجعة مكتب الجوازات المحلي خلال أسبوع من تاريخه وإلا!

    في الميناء وعلى المقاهي المنتشرة في ساحة الفنادق، شاهدت وجوها تحمل ملامح عرقية مختلفة، كنت أرى مجموعات من البشر تسير، وتجلس وتتحدث سويا ،متشابهي الملامح، شاهدت وجوها قوقازية، وملامح عربية، ووجوها نوبية أكثر حدة من الوجوه النوبية المعتادة من المحس، ووجوها تحمل ملامحا مختلطة نوبية وعربية كما الكنوز. وفد على النوبة عبر تاريخها بعد دخول الإسلام في مصر الكثير من القبائل العربية المهاجرة ،هربا من الظروف المعيشية القاسية في جزيرة العرب، كانت النوبة موطنا للمماليك الفارين من القاهرة، أو الطامعين، عاش بالنوبة أتراك وشركس وعرب ومجريين وهنود جاءوا قديما لتدريب الفيلة الإفريقية وخلفوا وراءهم الإله الفيل! ذلك بالإضافة إلى التعدد البشري النوبي، ما بين فاديجا وهم أهل نوبة الشمال (مصر) والسكوت ما بعد حلفا حتى أبو فاطمة، ثم المحس، لايعتبر الحلفاويون أنفسهم من السكوت ولا يعتبر الدناقلة أنفسهم من المحس ولا يعرفون الرطانة، في المسافة من حلفا حتى بلدة الدبة قابلت أعراقا مختلفة، كانوا تاريخا حيا لما مر بهذه المنطقة من غزوات وأطماع، منهم من جاء وظل محتفظا بأصوله لا يتزاوج مع النوبيين، كما البجا والعلايقة والشايجية، ومنهم من اختلط بالنوبيين وتزاوج معهم، فأصبح من الصعب تفريقه عنهم فاكتسب عاداتهم وتعلم لغتهم وإلى حد بعيد ملامحهم، كما الكنوز.

    كانت معنا توصية لرجل يقيم في حلفا ليساعدنا في تأجير سيارة، فاهتم وأحضر لنا سيارة بيك أب حديثة (بكابينتين) كان السعر مبالغا فيه، إذ طلب السائق ستة آلاف جنيه سوداني مقابل رحلتنا إلى الخرطوم، أدركنا أن واسطتنا مستفيد، واستطعنا أن نخفض السعر إلى ألفين وخمسمائة جنيه! وفي اليوم التالي لوصولنا إنطلقنا إلى أول محطة لنا وهي سركمتو، في الطريق مررنا على مدينة عكاشة، وهي مدينة صغيرة منعدمة الخدمات، تطل في جزئها الخلفي على منظر ساحر للنيل، ضفاف عالية رأسية الإنحدار تبدو منها جذور الأشجار ونهر صاخب سريع، تسود أشجار الدوم والنخيل والحنضل وأشجار صغيرة تحمل ثمار مستديرة ناعمة الملمس جميلة الشكل لا فائدة لها. وقفنا لنشرب شايا في مقهى في منطقة تدعي بئر أمبيكول، حيث وجدنا رجلا لدغه عقرب جبلي كبير، كان الرجل يرتعش، وجهه شاحب، والعرق يسيل منه، أعطوه بصلا وليمونا (ليقرقشها) كعلاج، لم يكن هناك مستشفى قريب، ولكني علمت وأنا في طريق العودة بعدها بثلاثة أسابيع أنه عاش، كانوا يحذروننا من أن نضع أرجلنا في الاحذية دون أن نفحصها. وصلنا سركمتو، وهي ككل القرى النوبية تمتد بحذاء النهر بشريط طويل من البيوت الواسعة ولا يتجاوز عرض القرية في الغالب بيتين أو ثلاثة، ثم شريط من الأرض الزراعية ،فالنهر في الغرب، الأرض تروى مباشرة من النهر فلا يوجد نظام للري خلافا لما هو حادث في مصر. إستقبلتنا شعارات مكتوبة على جدران البيوت، تقول: مأساة عبود لن تعود- لا بديل لأرض النوبة- القصاص لشهداء كاجبار، والمقصود رفض مشاريع الحكومة الساعية لأنشاء سدين على النيل عند دال وكاجبار، بالإضافة إلى السد الذي جرى إنشاؤه في مروى، ستغمر السدود المزمع إنشاؤها ما تبقى من أرض النوبة.

    في سركمتو نزلنا ضيوفا لدى السيد عماد أحمد عبدون حيث قابلنا الشاعر محمد مختار عبدون، وهو من الدعاة النوبيين الرافضين لعروبة أرض النوبة، دار بيننا حديث طويل وعلمنا منه أنه ذهب إلى الكونجرس الأمريكي بناءا على دعوة! وللحديث بقية.
                  

10-07-2010, 10:17 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    مصري في أرض النوبة - 3-

    كنا قد وصلنا قرية سركمتو، على حوائط البيوت الطينية كانت الشعارات الرافضة لبناء سدي كاجبار ودال تستقبل الداخل الى القرية مكتوبة بخط أسود عريض، رأيت شعارات مثيلة في بئر أمبيكول ضمن ملصقات المرشحين في الانتخابات السودانية، تحدثت إحداها عن ضحايا سقطوا في قرية كاجبار خلال صدام مع الأمن، كانوا يحتجون على قرار بناء السدود التي ستغمر ما تبقى من أرض النوبة، أطلق عليهم الدرك الرصاص فسقط أربع ضحايا، والعديد من الجرحى. نزلنا في ضيافة السيد عماد عبدون دون معرفة مسبقة وهو ما تكرر كثيرا فيما بعد في ظروف السفر، كان يدهمنا الليل ونحن في الطريق، أو لا نلحق (البنطون) أي العبارة التي ستنقلنا الى البر الغربي حيث الجزر المليئة بالآثار، فتفتح لنا البيوت مرحبة لنقضي ليلنا، وهناك قابلنا الشاعر محمد مختار عبدون، ودار بيننا حديث طويل ممتع، وهو رجل متحمس لنوبيته، واسع الإطلاع على الثقافة الشعبية النوبية، ويبدو أن صيته كشاعر شعبي نوبي، وكناشط في الدفاع عن حقوق أهل النوبة، كانا السبب في توجيه دعوة له لزيارة الكونجرس الأمريكي، وهو ما دهشنا له وأثار أستغرابنا، وحين سألناه كيف أتته الدعوة ونحن جالسين في مجاهل النوبة، مقطوعين الصلة بالعالم القريب، فما بالك بالكونجرس الأمريكي؟؟ لم يجب عن تساؤلنا، ولكني علمت فيما بعد أنه قضى وقتا طويلا مغتربا في المملكة السعودية ثم الولايات المتحدة، حيث عاد منها إلى النوبة، وطنه الذي أحبه وتغنى به في أشعاره، فمضينا في جلستنا وكان يشير بأستمرار الى كون أهل النوبة ليسوا عربا، وحين سألته عن موقفه من الغزو الأمريكي للعراق؟ وكنا جالسين وسط مجموعة من أهل القرية وهم كسائر أهل النوبة يحملون حسا وطنيا ودينيا عاليا، أجابني بأنه ضد الغزو، ومتضامن مع أهل العراق، ثم أضاف: أنسانيا! فنفى عن تضامنه شبهة العروبة، وهو على ما يبدو ما يحدث لبعض المثقفين النوبيين المتأسين لحال وطنهم، حين يجدون العون والدعم من العم سام بعد أن يأسوا أن يجدوه بين أبناء جلدتهم، فيسلكوا الطريق الأسهل المؤدي الى اللاشيء، سوى زيارات إلى الكونجرس، قد تنتهي بأفغانستان أو صومال أخرى على أرضنا. خرجنا من الحديث في السياسة و(الزيارة) إلى الحديث عن تاريخ النوبة، أكد لنا عبدون خلاله تجذر الثقافة النوبية في التاريخ الأسلامي، وأن بلال مؤذن الرسول ليس حبشيا بل هو نوبي، لأن أرض النوبة كان أسمها الحبشة قديما، وأن أسمه الحقيقي هو (بلّال) وأن أهل النوبة غنوا له قديما، ذاكرين أنه رجل يُعمل ذهنه وليس جسده، فقالوا:
    بلّال يا بلّال
    بلّال قال وسأل!
    وأن اسم مكة هو تحوير لكلمة نوبية قديمة هي بكا، حيث ال "كا " تعني المقر. كاسم بلدة كويكا، وأن المسجد كلمة نوبية أوهيروغليفية قديمة أصلها الميس بمعنى المكان المقدس، كما الميسلة أو المسلة.
    سألت الشاعر عبدون أن كانت المرأة النوبية ما زالت تحتفظ بمكانتها المميزة، التي كانت لها عبر تاريخها، فمن عادات أهل النوبة أن يورث أبن البنت دون الأبن، أو أبن الأخت، وهو ما أدركه بعض قبائل الغزاة، فصاهروا النوبيين، فأنتقلت بالمصاهرة ملكية الأرض اليهم، وما لبثوا هم أنفسهم، وقد ذابوا في مجتمع له جذوره وتقاليده العريقة أن أكتسبوا عادات النوبيين فأصبحوا يورثوا الأرض هم أيضا لأبن البنت! وكان الأبن يعرف بأسم الأم أضافة لأسم الأب تكريما لها ولمكانتها، فأجابني بأن ذلك مازال يحدث في قرى النوبة، وله شخصيا، وللأسف لم يتسع الوقت لنستمع لأشعاره باللغة النوبية وهي لغة عالية الأيقاع الموسيقى، وهو كما علمت شاعر كبير، فكان في الأغلب سيصلنا ذلك المزيج بأيقاع حسن جميل، رغم جهلنا باللغة.

    وكانت محطتنا التالية بلدة صغيرة تدعى فركة، وهي بلدة جميلة قابلنا فيها رجلا عجوزا يدعى سليمان بادر بأخذنا لمشاهدة الأثار، وكان سريع الخطو بما لايتناسب مع سنه، لعل هذا راجع للطبيعة الثرية ولهواء كان أثره واضحا علينا، إذ تضاعفت طاقتنا بفضله، وكان أثره واضحا على وجوهنا بعد أيام قلائل قضيناها هناك، فكأننا صغرنا بعد أول أسبوع قضيناه هناك عشر سنوات كاملة، نصعد التلال الصخرية ونظل طيلة النهار في حركة مستمرة عابرين النهر الصاخب، أو مستقلين (البيك اب) ...؟ بين القرى حتى الليل. في فركة شاهدت أجمل مشاهد أرض النوبة، بعد أن قطعنا حقول مزروعة باللوبيا الخضراء الحلوة والترمس الأخضر المر، وصعدنا تلة طينية جافة، أنبسط أمامنا خليج صغير من المياه ينتهي بالصخور الجرانيتية الملونة، كانت المياه العذبة تتخلل الصخور والأعشاب والأشجار القصيرة المزهرة المحملة بالثمار تنمو من الفجوات، كان الطرف الآخر من الخليج يتصل بالنهر العريض، عبرنا الخليج في جزءه الضحل قافزين من صخرة لأخرى حتى وصلنا إلى سفح تلة صخرية صعدناها متتبعين خطى عم سليمان الذي كان يقص علينا وهو يتسلق التلة عن زيارته لمصر وكيف كاد أن يتوه في ميدان التحرير، حتى وصلنا لرأس التل، وفي الأسفل أمتد النهر عريضا سريعا مليئا بالصخب والحياة، وعلى جانبيه شكلت الأشجار الكثيفة خطا أخضر قائما على جدارين رأسيين من الطين المترسب، وبعيدا كانت جزر طينية كثيفة الأشجار وأخرى رملية جرداء تقطع التيار المتدفق. كان النهر منخفضا عن شاطئيه بحوالي أربعة إلى خمسة أمتار، وفي موسم الفيضان تعلو المياه لتغمر الشواطيء وتذهب بعيدا في الأراضي المجاورة، لا ينجو منها إلا البيوت المبنية على الأراضي المرتفعة على الحدود الشرقية للقرى، وتتجدد خصوبة الأرض، وتغتسل من حملها لتعود عفية قادرة في دورتها الأبدية.

    في قرية مفركة قضينا ليلتنا بعد نهار شاق، في ضيافة خليل كله، وهو قريب لصديق أوصاه بنا، فكنا محل أكرامه، جاءنا بالعشاء الطازج فعلا، قال لنا: كل شيء من أنتاجنا، كان أجمل ما في الصينية الموضوعة أمامنا الخبز الساخن الخارج توا من الفرن، يدعى عيش جلاب، على الضوء الخافت للمصباح قص علينا خليل كله حكاية (الضل الميت).

    قال خليل كله: الظل الميت يحدث مرة كل سنة حين يمرض النيل وتأتي المياه البيضاء، تعرف الأرض أن المياه البيضاء تضرها، فلا تشربها ولا ترتوي منها، لأنها أن شربتها سيموت الشجر، ولايرمي الشجر ظله، انها أيام الظل الميت!

    خرجت إلى ساحة المنزل ومنها إلى الطريق وكانت الظلمة حالكة، والنجوم تنير الظلال المحيطة، ظلال الأطلال، وظلال التلال الصخرية التي تفصل مفركة عن الصحراء، وظلال الأشجار، وظل باهت يسير خلفي، كانت أرض النوبة الشاسعة تمتد أمامي وخلفي وإلي جانبي، كانت التلال وصحراء النوبة الشاسعة مليئة بالباحثين عن الذهب، وتأتي الأخبار: فلان وجد عرقا كبيرا، وفلان لم يجد ذهبا ولكنه وجد أثارا لا تقدر بمال، وعلى البعد تنتشر مزارع غريبة الشكل والهوية على ملايين الأفدنة، تروى بماء مجلوبة من النيل أو من المياه الجوفية، تمتد فوقها أذرع آلات ري عملاقة تدور وتدور لتروي نباتات غريبة لن يراها أو يتذوقها أحد، ستذهب إلى بلاد بعيدة، وحكايات عن حقول بترول لا تنضب، ذهب وبترول وسدود ومزارع عملاقة.
    كانت الظلال الميتة تحيط بي، وكل شيء حي مليئ بالعطاء والخصب، أرضا ونهرا وتاريخا وشعبا، ولم يكن هناك لكل هذا العطاء، إلا ظلالا ميتة.

    في الصباح ودعنا خليل كله وانطلقنا إلي جزيرة صاي، حيث قابلنا المرشح للأنتخابات التي كانت قريبة، وحيث اندفعت في حوار سجل علي وكان سببا في ما حدث لي من إيقاف وتحقيق في مكتب أمن الدولة في حلفا، وما تبعه، وللحديث بقية...
                  

10-07-2010, 10:18 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    مصري في أرض النوبة - ج4
    شوقي عقل


    جزيرة صاي، أرض الشعراء، ويسمونها أيضا جزيرة الشاعر خليل فرح صاحب القصيدة الشهيرة (عازة في هواك) التي يتغنى فيها بوطنه برقة المحب العاشق، يقول (عازة في الفؤاد سحرك حلال ونار هواك شفا وتيهك دلال) وهي قصيدة طويلة جميلة لا تعرف فيها أن كان الشاعر متيم غارق في عشق امرأة جميلة أم وطنا اسر قلبه، من صدق وتدفق وحرارة كلماته.

    وصاي ثاني أكبر جزيرة في السودان تبعد ما يزيد عن مائتي كيلومتر جنوبي وادي حلفا، وتتكون من أربعة قرى هي صيصاب قرية خليل فرح، وموركة وعدو وأرودين، قيل لي أن أسماء هذه القرى مناظرة لأسماء بنات أربعة: عدو (عدوية) موركة (مبروكة) أرودين (أروكة) صيصاب (صفية) أما من هي صفية أو مبروكة أو عدوية، لم يقل لي أحد، وذلك شأنه شأن كل شيء في النوبة، يحمل تاريخا متصلا ومعنى كامن، وخيالات تنسرب من ماض بعيد، لعل ذلك هو السبب في كثرة الشعراء وحفظة الشعر هناك.

    قضينا ليلتنا في منزل مالك القارب (الرفاص) الذي عبر بنا النهر إلى صاي، والرجل يستقبل السواح في جزء من منزله خصصه لهذا الغرض مقابل اجر، حيث قابلنا المرشح للانتخابات النيابية محمد الشوربجي، في جلسة حضرها العديد من أهل القرية، الذي إبتدرنا كعادة أهل النوبة بقوله: أنتم المصريون فعلتم كذا وكذا، وأنتم دفعتم تعويضا للنخلة أثنى عشر قرشا، بينما دفعت حكومة عبود للنوبي السوداني عشرة جنيهات كاملة في المقابل، ثم سألني عن موقف المثقفين المصريين من قضية النوبة؟ وحين أخبرته أني غير مطلع بما يكفي على موقفهم لأصدر حكما، قال أني لا أصارحهم وأتهرب من السؤال! كنت مندهشا من كون شخصا مثقفا مرشح لتمثيل الناس يردد نفس المقولة ويجمع بين المصريين نظاما وشعبا، فحاولت محاورته ولكني اكتشفت أن الرجل المرهق من جولاته الانتخابية، ومن إعادة الحديث في كل تجمع، لا يسمعني في الأغلب، حتى تحول الحديث إلي أوضاع أمتنا وحالها الذي فاق السوء بمراحل، فوجدت نفسي وأنا مملوء أسى على ما أراه حولي، أشير إلى حال السودان و مصر وأربط بين الحالين من دمار واستبداد وتخلف وفساد، وأرجعت ذلك إلى استيلاء الجيش على السلطة كما هو حادث في بعض البلاد العربية الأخرى ذات الأحوال المشابهة، والتي وصل فيها الجيش أيضا إلى السلطة، وانتهى الحال بها إلى دمار وفساد وحروب أهلية!

    لم أكن أعلم أن حديثي القصير ذاك سيكون سببا في توجيه تهما لي، تهما من نوع: الإساءة إلى.. أقوال من شأنها.. الحض على.. وهي على كل حال ما أصطلح على تسميته بقضايا رأي، السؤال هو، أين هو رأيك من الرأي السائد؟ وعلى حسب النتيجة يكون عقابك أو ثوابك.

    قضينا ليلة طيبة وسط أهل لنا، وفي الصباح ذهبنا لرؤية الآثار وهي مسماة بموقع كنيسة صاي الأثري، وهناك شاهدت بقايا مباني قلعة مراقبة حربية متقدمة للدولة المصرية الحديثة، جدران سميكة من الطوب النيئ، والمبنى على مرتفع من الأرض يطل على لوحة كاملة للنيل وجزره المتناثرة. وعلى مقربة أطلال كنيسة قديمة، وأطلال الكنائس كثيرة في أرض النوبة، لقدم عهد المسيحية فيها، وعلى مقربة قريبا من سطح الأرض كانت هناك بقايا هياكل عظمية بيضاء يمتد تاريخها إلى العصور الحجرية، تعمل في الكشف عنها بعثات أوروبية كما هي العادة.

    قبل سفري كنت قد قرأت بعض الكتب لرحالة أوروبيين، منها الكتاب الأشهر (رحلات في النوبة) لجون لويس بوركهارت، وهو رحالة سويسري قضى في رحلتيه لأرض النوبة ثمان سنوات، فاحصا مدققا ومدونا، فجاء كتابه سجلا لبلاد النوبة في تلك الحقبة (العقد الثاني من القرن التاسع عشر) وأحوال النوبيين والعبابدة والبشارية والتجار المصريين الذين يجوبون تلك المناطق بقصد التجارة، عبر بوركهارت الشلال الثالث الذي لم يعبره أحد من المستكشفين من قبله، متعرضا لمخاطر جمة، ومازال كتابه إلى الآن رغم مرور ما يقارب القرنين مرجعا لابد لمن يريد معرفة النوبة أن يقرأه، فالتاريخ هناك مازال حيا يرزق يسير على قدمين.

    ذكر بوركهارت أن مروي هي عاصمة الشايقية، وهم عرب ينتهي نسبهم إلى جدهم (شايق) ومن أبناءه الأربعة انحدرت فروعهم، ومازالت مروى إلى الآن، وهي مدينة جميلة، مدينتهم ومكان تجمعهم! ذكر أنهم قوم لهم منعة وذو سلطان، ومازالوا إلى الآن، فبعض رجالات السلطة الحالية الأقوياء منهم. ذكر أن النوبيين يضعون سعفتا نخيل وصخورا ملونة عند قبر الميت حديثا، وهو ما رأيته، ذكر أن البيوت مبنية من الطوب اللبن، وأن كثيرا منها مهجورة، وأن ميناء وادي حلفا يستقبل السفن القادمة من أسوان، وأن الزرع يروى مباشرة من النيل، وحب أهل النوبة زيارة أضرحة الأولياء، ومنها ضريح الشيخ إدريس، كل ما ذكره بوركهارت رأيته قائما لم يتغير رغم مرور مئات السنين، فالتاريخ في أرض النوبة المنسية، لم يمسسه أحد، والعلاقات الاجتماعية والتشكيلات القبلية والعشائرية، وعلاقات القوة القائمة على جذور تلك التشكيلات تمتد بعيدا ومازالت كما كانت.

    كان ذلك أخر عهدنا بمنطقة السكوت، وبداية دخولنا أرض المحس، التي تبدأ جنوبي قرية أبو فاطمة، أخذنا طريقنا إلى جزيرة صلب حيث يقع معبد صلب، أو سوليب كما ينطقه البعض، وتقع مقابل قرية (واوه) حيث قابلنا شيخ القرية وهو أيضا صاحب القارب الذي سيقلنا إلى جزيرة صلب، وهو رجل متجهم قليل الكلام معنا، ولكنه كان كثير الترحيب والاهتمام بسائحة ألمانية ومعها رفيقها شاب قوي البنية من جبال النوبة يدعى موسى، كان موسى لا يكف عن الضحك والحديث، والسيدة الألمانية الأربعينية تغطي شعرها بغطاء وفوقه (كاسكيت) للوقاية من الشمس، كان الهواء عاصفا باردا محملا بالأتربة، والقارب الحديدي يشق المياه المتلاطمة بصعوبة، بمحرك ضعيف لا تتجاوز قدرته 25 حصانا، كانت المرة الأولى التي الحظ فيها الفرق بين أهل السكوت وأهل المحس، وهو الفارق الذي يمكنك أن تدركه مابين أهل البادية وأهل الحضر أو ما بين أهل قبلي وبحري في مصر. أهل المحس مقاتلين أشداء، وللنوبيين شهرة في إرهاب أعداءهم، فقد كانوا شديدي الدقة في الرمي بالنبال، فأطلق عليهم العرب لقب رماة الأحداق، فلم يستطع الجيش العربي أن يهزمهم، فعقد معهم معاهدة تدعى معاهدة البقط، على ثلاثمائة وستون رأسا من الرقيق يقوم ملك النوبة بتوريدهم سنويا، حددت المعاهدة أوصافهم بدقة، على أن يحل السلام بين الفريقين، فكان النوبيون يجلبون الرقيق المطلوبين من دارفور، أو يشترونهم من القبائل العربية التي تغير على قاطني الغرب أو الجنوب .

    قال لي موسى أنه من جبال النوبة، ولكنه ليس نوبي، وكانت ملامحه تختلف عن باقي النوبيين، ولكنها إلى ملامح المحس أقرب، ومما قرأت أن أهل جبال النوبة في حقيقة الأمر نوبيين هاجروا في تاريخ قديم فرارا من الغزاة.

    أمام المعبد جرى حوار بين سائق سيارتنا وبين حارس المعبد، وهو حوار يتكرر في كل زيارة لموقع أثري، نجد الحارس متجهما معلنا رفضه لدخولنا لأننا لا نحمل تصريح من الآثار، ومن أين نحصل على التصريح؟ من حلفا! أي كان علينا أن نعود أدراجنا إلى حلفا لنحصل على تصريح يسمح لنا بزيارة الآثار، تصريح لكل موقع، وهو ما لم ينبهنا إليه أحد، فنقف على بعد بضعة أمتار عن الحارس المتجهم، ويأخذ سائق سيارتنا بوجه جاد في عمل جولة مفاوضات مكوكية بيننا وبينه، تنتهي في كل مرة بدخولنا الموقع دون العودة إلى حلفا مقابل ثلاثون أو أربعون جنيها، أدفع المطلوب ويبتسم السائق ويبتسم الحارس وندخل آمنين، وأخذ أنا في حساب كم موقع تبقى علينا زيارته وهل ستكفي النقود؟
    معبد صلب، أنشأ في عهد الدولة المصرية الحديثة، مبني من الحجر الرملي، وهو حجر ضعيف لا يصمد أمام الأمطار والهواء الشديد، ولولا مناخ النوبة الجاف لما بقي عبر هذا الزمن الطويل، شبيه بالمعابد المشيدة في الأقصر المقامة لعبادة الإله آمون، الإهمال الشديد يسود المكان، والقطع الأثرية ملقاة على الأرض، فيجلس السواح على تيجان الأعمدة المزخرفة أو المكتوب عليها نصوص باللغة الهيروغليفية، أو بها رسوم تصور الفرعون وهو يعاين أعداءه المكبلين أمامه. حين أشرت إلى أن اللغة المكتوب بها النصوص هي لغة تشبه الهيروغليفية، أنتفض أحد الجنود الواقفين غاضبا وقال: بل لغة نوبية قديمة أقدم من الهيروغليفية، وإنما الهيروغليفية تشابهها! وفي تاريخ النوبة كان التمازج والتشابه يصل إلى حد التماهي بين الحضارتين المصرية والنوبية، إلى الحد الذي يجعلك تتساءل عما إذا كان ملوك الأسرة الخامسة والعشرون النوبيين الذين حكموا مصر من الغزاة المحتلين أم أن جزءا من الحضارة المصرية كان في الصدارة، كما كان ملوك مصر العليا حكاما؟ فملوك مصر النوبيين عبدوا الإله آمون وشيدوا له المعابد، ومنها المعبد الأشهر في جبل البرقل، بل أن قصة الخلق الفرعونية التي تتحدث عن قيام الإله آتوم بخلق البشر بفعل جنسي أنما تمت طبقا للأساطير النوبية في جبل البرقل.

    كنت قبل بدء رحلتي وخلال الطريق كله أتطلع إلى لحظة الوصول إلى جبل البرقل، وهو الجبل المقدس لدى ملوك النوبة وطهاركا على رأسهم، قرأت عنه في كتاب للرحالة الأسباني بابلوا دي جيفنوا (رحلة إلى السودان) وهو في الحقيقة رحلة إلى النوبة، إذ لم يتجاوز الخرطوم كمحطة أخيرة، عاد منها بالقطار إلى حلفا، وكتب مصورا بعين يغلب عليها الخيال، والدماء المتوسطية الحارة، عن جبل البرقل وتركيبته الفريدة، التي شكلت تأكيدا أسطوريا حسيا لقصة الخلق الفرعونية، التي قام بها الإله آتوم، أقدم آلهة الفراعنة، إذ يشكل جزءا من الجبل، منفصل عن بقيته، شكل الذكر. وكيف رأى البشر، في بدايات بحثهم عن الخالق العظيم للكون الرحب، في تكوين صخري شكلته الرياح والصدف، تأكيدا لخيالاتهم، فأسبغوا عليه قداسة وجلال، وأنشئوا في رحابه أهراماتهم الشبيهة من بعض الوجوه بأهرامات الفراعنة، وأقاموا داخله معبدا للإله آمون. وللحديث بقية

    شوقي عقل
                  

10-07-2010, 10:20 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    مصري في أرض النوبة –ج 5

    مدينة دلقو حاضرة المحس ومركز عموديتها منذ العهد العثماني والحكم المصري للسودان، لا تختلف عن ما شاهدته من مدن صغيرة في الطريق، مثل عبري، منازل ومحلات مكونة من طابق واحد مبنية من الطوب اللبن، ملاط من نفس المادة، سوق بسيط يضم محلات بقالة وخردوات ومطاعم تبيع الفتة والفول والبيض والجبن الأبيض، لا توجد مقاهي، تحتكر سيدات قادمات من دارفور عمل الشاي والقهوة، تجلس الواحدة منهن على صندوق خشبي وأمامها صندوق اخر عليه عدة صنع الشاي، وبجانبها علب القرنفل والنعناع والكركديه والقرفة وفروع جافة من نبات عطري يدعى الخلنج، ودلو للماء لصنع المشروبات، وأخر لغسيل الأكواب! وأمامها بضع كراسي لجلوس الزبائن، رغم رقة الحال البادية عليهن، كن يعتنين اعتناءا بالغا بزينتهن، وبرسوم وألوان الحناء على ايديهن التي تتحرك برشاقة ونعومة بين أكواب الشاي السوداء والملاعق القديمة المعوجة، وتخطف بألوانها الساحرة الجميلة أعين الرجال الجالسين.

    على أحد تلك المقاهي (الناعمة) قابلنا رجلا عجوزا من أهل المحس، قال لنا أنه يذهب إلى مصر كل سنة، وإن أبنته وزوجها يعيشان هناك، حين تحول الحديث للسياسة قال بثقة (الأخوان لن يحكموا مصر ابدا) لماذا؟؟ قال بثقة (لأن المصريين شعب محب للفن!) كانت ذلك أطرف تحليل سياسي سمعته، ولكنه في النهاية، يحمل قدرا كبيرا من الحقيقة!

    النيل أمام دلقو عريض وسريع، جلسنا ننتظر المعدية التي ستقلنا إلى الغرب حيث تقع قريتا هندكى وسيسي التي يقع فيها جبل سيسي الذي كان يتوج فيه ملوك المحس، وعلى الشاطىء كان بعض الرجال يغتسلون في مياه النهر دون أن يتجاوز الماء كعوبهم، فعلى مقربة كانت ثلاثة تماسيح كبيرة تستلقي بأسترخاء على سطح جزيرة رملية صغيرة.

    جبل سيسي تلة صخرية تطل على قرية هندكي، في أعلاها وجدنا حصنا مهدما مكونا من حوائط سميكة من الطوب اللبن، أنبسط أمامنا إلى الغرب صفوف من البيوت الممتدة طوليا مشكلة قرية هندكي وسيسي، وإلى الشرق النيل عريضا متسعا، تليه مدينة دلقو وبعيدا بدت بقية قرى عمودية دلقو، سعدنكورتي شمالا، وأقترى بالجنوب، وأسفل التلة مباشرة أنشأت الحكومة بيتا على الطراز النوبي كما هو متخيل في ذهن كل سائح، تشكيلات من الزخارف الهنسية المثلثة والمستديرة، أبواب خشبية ملونة بالرسوم الشعبية، بينما صنعت الأسقف من الخرسانة المسلحة، والعادة أن تصنع أسقف البيوت مقوسة قليلا من عوارض من خشب شجر الدوم عليه حصير من سعف النخيل، تكسى بطبقة من الطين، فتعزل الحرارة عن الغرف المعتمة في هجير الصيف اللاهب.

    يسير النيل طويلا خطا مستقيما يقطع الصحارى، فلا تجد على جانبيه ألا اللون الأصفر الباهت لبحار الرمال، واحة خطية طرفاها يبعدان عن بعضهما ما يزيد عن ستة الاف كيلومتر، نشأت على جانبيه حياة بسيطة تستمد من الماء وجودها، عندما يلتف النيل ويستدير ثم يعود ثانية متجها إلى الشمال تنشأ الحضارات! حدث ذلك في قنا عندما نشأت حضارة نقادة في حضن ألتفاف النهر في العصر الحجري وحاضرتها مدينة أبوتشت، وحدث ذلك في دلتا مصر السفلى عندما أنشق النيل إلى فرعين حاضنين لحضارة الفراعنة، وحدث ذلك في منطقة مروى عندما ألتف النهر فنشأت مملكة كوش ونباتة والحضارة النوبية التي كانت مركزها وعاصمتها الكبيرة دنقلة، ومدنها مروى ونوري وكرمة.

    كنا على وشك الوصول إلى قلب حضارة النوبة، فما رأيناه من آثار من قبل كان معظمها من أنشاء فراعنة مصر، بينما كنا مقبلين على ماأنشأه ملوك أو فراعنة النوبة، ممالك نبتة وكوش في مروي والدفوفا والمصورات الصفراء والبجراوية وجبل البرقل، حيث الأهرامات والمعابد، والحصون القديمة. وبقايا اثار مملكة نوباديا وبقية الممالك المسيحية والأثار الأسلامية في منطقة القباب بدنقلة العجوز. قضينا ليلتنا في مدينة كرمة، سألنا عن فندق فدلونا على وكالة تؤجر السرير بالليلة ، والحال لا يسر ولا يريح، فأجرة السرير خمسة جنيهات أي ما يعادل ثمن طبق فول، ولك أن تتخيل بالتالي ماهو حال نظافة الأسرة والحمامات والغرف، كان علينا أن نمشي لنصل إلى دورة المياه، وأن نحمل المياه معنا، كنت تعبا مرهقا فنمت فورا رغم كل شيء. عذاب وأفتقاد الخدمات التي تعودنا عليها كسكان المدن لم يكن يعوض عنها إلا دفء أهل النوبة وحسن ضيافتهم. في مدينة كرمة وطيلة رحلتنا في بقية بلاد النوبة كنا نترك حقائبنا وبها النقود وأوراقنا الثبوتية والكاميرات والملابس في صندوق السيارة المكشوف أو في غرف (الفنادق) دون حراسة، نتركها ونتجول في الأسواق وبين الآثار لساعات ونعود لنجدها كما هي، فالسرقة فعل غير معروف هناك، وما أن غادرنا أرض النوبة ونحن في حالة الأمان ودخلنا أول مدينة كبيرة في طريقنا إلى الخرطوم حتى تم تنبيهنا أن أحترسوا لأغراضكم، فعدنا ثانية إلى ما ألفناه كسائر أهل المدن، فصرنا نحمل أغراضنا معنا أو ندسها داخل السيارة ونحكم أغلاقها.

    كنا في أرض مملكة قوش، في موقع الدفوفا شاهدنا جهدا مميزا لعالم آثار بريطاني، فقد قام الرجل بوضع شريط من الطوب اللبن أعلى حوائط البيوت المطمورة المهدمة، بحيث تشكل تماما الوضع التي كانت عليه هذه البيوت، فأصبح بأمكان الزائر وهو أعلى الجبل الذي تقع عليه الدفوفا أن يرى خطوطا من الطوب تمثل كيف كانت بيوت أهل النوبة منذ مئات السنين. والدفوفا، حسب ما ذكره الرحالى الأسباني (بابلوا دي جيفنوا)، تعني بلغة أهل النوبة "الأطلال من الآجر" وهو يعرفها بأنها مكعبات الآجر المجففة بحرارة الشمس، بينما رأيتها على الطبيعة مصنوعة من الطوب اللبن المحروق، شكل ذلك الأساس للحوائط الهائلة المكونة للمعبد، ويدل أيضا على المعرفة المبكرة بصنع الآجر المحروق، وهو ما يعني القدرة على أنشاء مباني أكثر أرتفاعا وسعة.

    في طريقنا إلى دنقلة العجوز كان علينا أن نعبر النيل بالسيارة، وأن نستقل العبارة (البنطون) ولكننا بسبب تعمد السائق السير ببطء تأخرنا كالعادة، فوصلنا لبلدة تدعى الباجة بعد الغروب، وكان البنطون قد تحرك، والليل قد حل وكنا بعيد عن أي مدينة ومرهقين كالعادة، كنا محتارين ماذا نفعل حين تقدم منا شاب من أهل البلدة داعيا أيانا للمبيت في منزله، ذهبنا معه وعلى باب المنزل أستقبلنا رجلا عجوزا قليل الكلام ومعه حفيده، علمت فيما بعد والد الشاب الداعي، ما أن وضع رفيقاي رأسيهما على (العنجريب) حتى أستغرقا في النوم، كنت أرقب الرجل العجوز الواقف على باب الغرفة ينظر الينا بثبات، كنت مستغربا متسائلا عما يريده ولماذا يرقبنا، ولولا معرفتي بطيبة وخلق أهل النوبة لساورني القلق مما يريده منا هذا العجوز المتربص، تظاهرت بعدم ملاحظته ولكني في النهاية نظرت تجاهه، وما أن فعلت حتى جاءني بخطى سريعة خفيفة حتى لا يزعج صاحبي سائلا ماذا أريد؟ هل أرغب في كوب من الماء؟ كوب من الحليب الدافىء؟ شاي؟ أذهب إلى الحمام؟ تلاحقت أسئلته وإهتمامه الحار بتلبية رغبة ضيفه سيء الظن.

    أحسست بالخجل، قلت له مداريا أن النوم جافاني، كان الرجل الفخور الفرح بأستضافتنا ينتظر أشارة ليلبي طلباتنا، جاء بالعشاء رغم أننا أكدنا له أننا شبعين، وأيقظ صاحبي ودار بيننا حديث، علمت أن أسمه عثمان الميرغني، قال لي أنه دنقلاوي، لم يكن يعرف لغة سائقنا الحلفاوي، فللنوبيين لغتان، لغة الكنوز والدنقلاوية ومنهم العم عثمان الميرغني وتعرف بالكنزية، والأخرى هي المحسية ويتحدث بها أهل المحس والسكوت والحلفاويين والفاديجا، وهي معلومة ذكرها لي أصدقاء نوبيون حين سأتهم عنها. وكنت أعتقد أن سائر أهل النوبة يتحدثون بلغة واحدة هي الرطانة ومعهم العبابدة والبشارية والبجا، وهو ماأتضح لي خطأه. حين سألت العم عثمان أن كان عربي، رد علي بأن عنده (أملاك) فهو ليس بعربي، أدركت من حديثه أن العربي عنده هم الرعاة الذين يسعون وراء الكلأ بأغنامهم أو ماعزهم، فهم لا يملكون أرضا ولا بيوتا ولا مقر لهم.

    في الصباح أستقلينا البنطون وهي كما أسلفت عبارة كبيرة نوعا تحمل سيارتين أو ثلاثة، ولكننا تركنا سيارتنا خلفنا كرغبة سائقنا، ونزلنا منها إلى منطقة أسمها العدّاد وأستأجرنا سيارة في طريقنا لدنقلة العجوز، لنزور مسجد عبدالله بن أبي السرح الذي كان كنيسة قديمة، ونزور أرض القباب حيث مدافن الأولياء في صحراء جافة غبراء لا نهاية لها، وحيث شاهدت قبور متناثرة في أرض جرداء أختار أصحابها أن يرقدوا فيها رقدتهم الأبدية رغم الوحشة لقربها من مسجد بن أبي السرح، وحيث أقام الباحثون الأوروبيون عن تاريخ المنطقة وآثارها مخيما لهم من البيوت السابقة التجهيز ومولدات الكهرباء وخزانات المياه والوقود والسيارات.

    وللحديث بقية..
                  

10-07-2010, 10:21 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    مصري في أرض النوبة -ج6

    شوقي علي عقل

    منطقة القباب، إحدى المناطق الأثرية الإسلامية القليلة في النوبة، وهي منطقة مترامية الأطراف، تقع في "دنقلة العجوز" مركزها مسجد الصحابي عبد الله بن أبي السرح، الذي عقد مع ملك النوبة معاهدة "البقط" والتي كان من شأنها أن تحفظ للنوبة استقلالها كمملكة مسيحية مجاورة لمصر التي فتحها العرب، وظلت كذلك حتى جلس على عرشها الأمير العربي المسلم كنز الدولة، وهو من ربيعة، في الثلث الأخير من القرن الحادي عشر، وكان رجلا محبوبا من أهل النوبة، فتحول بعدها النوبيون إلى الإسلام ببطء استغرق عدة قرون.

    والقباب المتناثرة حول المسجد الذي كان كنيسة قديمة، في دائرة تبلغ عدة كيلومترات، مباني مخروطية الشكل ترتفع حوالي ستة إلى سبعة أمتار عن سطح الأرض، وترتكز على حائط سميك مربع الشكل يرتفع حوالي المترين، أو تبدأ دائرة المخروط من الأرض مباشرة، بعضها له فتحة على شكل نصف دائرة متجهه صوب القبلة، وبعضها مغلق، ومدخلها ضيق منخفض، كان علي أن انحني لأدخله، والضوء الشحيح داخلها يأتي من فتحات صغيرة بالقبة، وسقفها مليء بمئات الخفافيش، وأرضها مغطاة بمخلفاتها، وداخلها قبور قديمة، فهذا هو الغرض الذي أنشأت من أجله، غادرت المكان الخانق المليء برائحة النشادر، محاذرا أن يكون مثوى لأفاعي برية باحثة عن طعام من الخفافيش. كان المسجد مغلقا لأعمال الصيانة، فلم نستطع دخوله، وهو أشبه بالحصن مبنى على مرتفع من الأرض، مربع الشكل جدرانه تميل قليلا إلى الداخل، ، ارتفاعه حوالي أربعة عشر مترا، وطول ضلعه مثلها، ولا مئذنة له.

    المنطقة غريبة الشكل وثقيلة الوطأة، أحسست وأنا أتجول فيها، أني خرجت من أرض النوبة، المجتمع النهري، إلى مجتمع آخر، امتزجت فيه قيم الصحراء وانعزالها وجفوتها، بثقافة النوبة الفرعونية، حيث تبنى للموتى البيوت، فشكلت لوحة فريدة الشكل، تتناثر فيها القباب بلا نهاية،على الرمال الصفراء الموحشة.

    في مقالي السابق، ذكرت أن "مروى" هي مدينة الشايقية، كما ذكر "بوركهارت" وهو ما لم يعد صحيحا الآن، فبلدة "كريمة" هي مكان تجمعهم، وهي من أعمال محلية (مروي) ، وهي مدينة نظيفة، شوارعها منتظمة، مسفلتة، ذكر لنا أحدهم أن الحكومة مهتمة بها، لأن منها بعض رجال الحكم. وبيوتها المنشأة في جزء منها على تلال صخرية قليلة الارتفاع، لا تشبه بيوت النوبيين، رغم أنها في مركز ومنبت الحضارة النوبية. ولأصل الشايقية روايتان، تقول الأولى أنهم عرب ينتهي نسبهم إلى حبر الأمة عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، فهم قريشين من سادة قريش ومن بني هاشم، والرواية الأخرى قال بها الرحالة الألماني "فيرن" الذي زار النوبة (1840- 1841 ) وهي أنهم من نسل الثوار المصريين الذين فروا من مصر في عهد الفرعون "أبسميتك" حسب رواية المؤرخ "بلينيوش" 70 ميلادية، يستدل "فيرن" بذلك على الطبيعة الاجتماعية لمعيشة الشايقيين المشابهة لمعيشة طبقة السادة المصريين، ونزعتهم العسكرية، ويذكر أن القبيلة العربية التي استمدوا اسمها منها "الشايقية"إنما خالطت هؤلاء المصريين القدماء وذابت في مجتمعهم.
    كانت "كريمة" محطتنا التالية، ففيها جبل البرقل، وهو مركز مدينة "نبتة" التي كانت العاصمة الدينية لمملكة "نبتة" 1000- 300 ق.م، وفيها بعض أهرامات النوبة، ومنها أنطلق ملوك النوبة العظام، "بعنخي" و"طهاركا" الذين استطاعوا حكم مصر مشكلين الأسرة الخامسة والعشرين، متشبعين بالمعتقدات الفرعونية، فأخت الملك بعنخي تخلت عن إسمها الكوشي وتلقبت بالاسم الملكي الفرعوني وهو "أماني ريديس" وترجمته (ما يخلقه أمون فهي تهبه) باعتبارها زوجة إلهية!

    لايختلف جبل البرقل (المقدس) عما شاهدته من كثير من الجبال خلال رحلتي، بل أني شاهدت جبالا أكثر رحابة وضخامة ومهابة منه قبله وبعده، ولكنها لم تكن تقع مثله في مركز الحضارة النوبية، ولم تكن مثله لها ذلك التكوين الصخري الفريد القائم بذاته، كجزء مستقل منه، ويسمونه الإبرة! درت حول الجبل حاملا آلة التصوير حتى استطعت أن أجد الزاوية التي رأى منها أسلافنا ما يؤكد نظرية الخلق لديهم، كانت ساعة غروب والشمس الآفلة ببطء تبعث عبر طيف من الألوان المتداخلة والظلام المتربص خيالات لا تنتهي، كم عبر من البشر هذا المكان؟ كم من البشر شاهد الشمس وهي تخبو وأثارت فيه المشاعر الأزلية لدى البشر في كل غروب: الاستغراق والشرود والحنين الغامض ورهافة المشاعر لحظتها، لحظة ميلاد الشعر والغزل، كنت واقفا أمام جبل البرقل أتساءل كما فعل أسلافنا عن الخلود وكم طوى الموت أحلاما وخيالات.
    على مقربة من الجبل تقف بضع أهرامات، أهرامات النوبة تقف منتصبة بزاوية ميل عالية، يرجع ذلك لصغر القاعدة مقارنة بارتفاعها، فلا يتجاوز طول ضلع القاعدة المربعة ثمانية أمتار بينما يرتفع الهرم ليبلغ ما يقارب الأنثى عشر مترا، ولكل هرم مدخل يفضي إلى غرفة أشبه بمحراب صغير، لعل الصلاة كانت تؤدي فيه، كانت مليئة بالمجوهرات والذهب الذي كان يدفن مع الموتى، لم يترك اللصوص وناهبو الآثار الأوروبيون منها شيئا.

    أسفل جبل البرقل أقامت الدولة متحفا يضم بعض التماثيل، منها تمثال لأله برأس أسد، ومنها تمثال للقردة الثلاثة التي لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم، لم أكن أعرف من قبل أننا أصحاب تلك الحكمة الخالدة، وهي الحكمة التي ضمنت لشعوبنا الخلود، وضمنت لحاكميهم البقاء آمنين دون حساب، والى أن يشاء المولى. ووجدت بالمتحف أيضا مومياء محنطة لرجل في وضع القرفصاء، كان طوله غير عادي. قضينا ليلتنا عند رجل يؤجر غرف منزله، وفي الصباح اتجهنا إلى منطقة الكرو.

    على بعد حوالي عشرون كيلومترا من "كريمة" تقع منطقة الكرو، على الضفة الشرقية للنيل، خلال تجوالي كنت أقطع أحيانا بضع عشرات من الكيلومترات في طرق ترابية غير معبدة لأجد في نهاية الطريق أطلالا لآثار غير واضحة المعالم لا تجد في نفسي تأثرا بها، فلست متخصصا في علم الآثار لأرى فيها بعين الخيال ما لم أره في الحقيقة، كنت أخشى،ونحن في طريقنا إلى الكرو، أن يتكرر المشهد، حين وصولنا هناك رأيت هرما مهدما كبيرا مقارنة ببقية أهرامات جبل البرقل، كان مثوى الملك العظيم، فخر تاريخ النوبة، الملك بعنخي. وفي دائرة واسعة محيطة بالتلة التي يقع هرم بعنخي أعلاها رأيت مباني مكونة من أسقف حجرية نصف دائرية تمتد كل منها لما يقرب الأربعين مترا، في أسفلها شاهدت أجمل آثار النوبة، تكوين مصغر لوادي الملوك العظيم في الأقصر، خمسة من ملوك وملكات مملكة "نبتة" يرقدون هنا. حين وصولنا إلى الموقع سألنا صبي عما إذا كنا نرغب في زيارة الآثار؟ حين رددنا بالإيجاب انطلق مسرعا لينادي العم سليمان ليفتح لنا الباب، فعلى كل مقبرة يوجد باب حديدي مغلق بقفل، بعد قليل جاء رجل عجوز يحمل في يده سلسلة مفاتيح وبطارية صغيرة مرحبا بنا، فتح لنا باب المقبرة الملكية وكانت للملكة كاليهاتا، نزلنا درجا حجريا طويلا حاد الانحدار مستعينين بضوء بطارية عم سليمان، في نهاية الدرج وجدنا غرفتين تفضي أحداهما إلى الأخرى وعلى الجدران رسوم ملونة تحكي خطوات الحساب للملكة المتوفاة أمام الإله الأكبر، والتي تنتهي بعد ثبوت براءتها وطهارة أفعالها إلى أن يأمر الإله إلها آخر أن يبعث في الملكة طاهرة الذيل "كاليهاتا" الحياة بجعلها تشم أكسيرا فتقوم من رقدتها لتعيش في العالم السماوي حياة أبدية، كل ذلك مرسوم بألوان زاهية ذكرتني بمقبرة الملكة نفرتاري التي اكتشفت حديثا في الأقصر ويتوافد عليها يوميا مئات السواح ليروا ألوانا لم تبل رغم مرور آلاف السنين، وفي الكرو شاهدت مقبرة جميلة ملونة يحمل مفاتيحها الرجل الطيب النائم في منزله المنتظر زيارة سائح عابر قد يكون سمع بالمقبرة أو ألقت به الصدفة.

    من المقابر الخمس لم يبقى سليما سوى مقبرتان، مقبرة الملكة "كاليهاتا" ومقبرة الملك "تانوت أمون" والثلاث مقابر الأخرى تم تدميرها تماما، فلم يبق منها سوى سرداب مظلم موحش لا يستطيع أحد المغامرة بالنزول فيه، تمت سرقة كل الحلي الذهبية والجعران والتمائم. دمر المقابر رجل إيطالي مستخدما المتفجرات ليصل إلى الكنوز الذهبية المدفونة. وهو ما حدث بالمثل في أهرامات جبل البرقل وبقية الأهرامات في البجراوية، لم يكن اللص يبالي، فلكي يصل إلى بعض الحلي الذهبية قام بتدمير تاريخ أمة. في اليونان قص علينا مسؤول سياحي قصة مثيلة، قام رجل بريطاني بربط التماثيل التي تزين واجهة مبنى الأكروبوليس بالحبال وسحبها إلى الأسفل، كان يأخذ ما يصل منها سليما إلى الأرض إلى بريطانيا، وفي سبيل بضع تماثيل دمر العشرات منها دون مبالاة! أنه تاريخ أوروبا.

    وللحديث بقية
                  

10-07-2010, 10:29 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    إنتهت الحلقات التي بعث بها الصديق عقل، وأعودُ بالتعليق
    على بعض الجزئيات لاحقا، سيما وأن الكاتب ليس مؤرخا أو عالماً للآثار.

    وسيكون الأستاذ عقل مستعدا للرد على إستفساراتكم وله
    من الرغبة ما يجعله يصحح أخطاءه، إن وجدت سيمالأسماء
    الأمكنة والقرى والشواهد الأثرية..


    فمرحبا بكم...

    (عدل بواسطة عبدالأله زمراوي on 10-07-2010, 12:38 PM)

                  

10-07-2010, 11:02 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    أستميح أستاذي عقل عذرا إذ رفدت سلسلته بهذا النص...


    أشواقي تُولَدُ في كَرْمَة

    في اليومِ العاشرِ من نيسانْ
    غمرتني الذِّكري.
    قذفتْني أشواقُ التأريخ
    على شطِّ خيالي!

    كنتُ على الشُّرفةِ وحدي
    أتأمَّلُ شهقةَ ليلِ
    الطَّبلِ على قيثاري
    قيثاري، أحزاني.
    أحزاني كانتْ
    كبُغاثِ الطيرِ
    على أشجاني!
    والقلبُ يفِرُّ
    من القلبِ إلى القلبِ
    إلى أوتارِ جناني!

    قَوْمي قذفوني بالأزهارِ
    وسامُوني بالعنبرْ!
    حُرَّاس الرَّبِّ
    على الرّدهاتِ،
    وعلى الرَّبوةِ
    أنغامي تتبخترْ !
    أُذني صارتْ تُبصِرْ..
    عينايَ كعينيْ نسْرٍ مُدبِرْ..
    وطفَقتُ أُحدِّقُ كالورقاءِ
    عيني تَرْمُقُني،
    لكني لا أُبصِرْ!
    جاءوني بالطَّبلِِ
    وبالدُّفِّ وبالمزهرْ.
    عمدني الرَّبُّ
    بوادي عبقرْ!
    روحي في
    الحضرةِ تزأرْ !
    أخذوني من
    أريكةِ النّسيانِ
    إلى قَبوِ المَرمرْ !

    سَبحتْ قدماي
    على مولاي.
    “آمون” إله الماءْ ..
    عليكَ توكَّأتُ.
    قُدَّاسُكَ يأسرُني.
    بعرشِ مياهِك
    أقسمتُ وصلَّيت
    بجلالِ النيلِ توشحتْ!!
    سجدتْ عينايَ لمولايْ
    “رع”، إله الشَّمسْ ..
    معشوقك مأخوذٌ بالنسيانْ!
    من أينَ أتيتُ
    فلا تنساني.
    وكيفَ رماةُ الحَدَقِ
    على الأفنانِ؟!
    وأين تخفيتُ
    فلا تلقاني.
    اخذتني
    العِزَّةُ بالغثيان!

    إهتزَّ فؤادي
    ما داريتْ..
    فجلستُ أُحدِّقُ
    في غَيمِ الشمسِ
    تواريتْ!

    هل ما زالَ الناسُ
    على الفطرةِ
    يرعونَ الخيلَ
    على تَـلِّ الزعترْ؟!
    فاضَ اللهُ
    على نهرِ فؤادي
    فتوضَّأَ قلبي،
    صليتُ…
    وصليتْ!

    أنا مَلكٌ كوشيٌّ
    تاهَ بشفقِ اللَّيلِ
    وجاسَ على الأعداءِ
    بصحراءٍ ذهبيَّـة!
    وضعتْني أُمِّي النوبيَّـة،
    بجذعِ نخيلٍ قدسيَّة.
    قذفتْني الأقدارُ
    على صهوةِ
    خيلٍ عربيَّة!

    قصري بحقولِ النَّعناعِ
    ومرْج عيوني!
    أشواقي تُولَدُ
    كلَّ صباحٍ في كَرْمَة!
    كَرْمَـة تعرفُها يا رَبُّ ؟
    كَرْمَـة ذاتُ الشامةِ
    والأشجانِ الكوشيَّة!!

    قصري يتَّكِيءُ
    على عرشِ
    مياهِكَ يا “آمون”!
    ينبوعٌ يأخذُني
    منكَ اليكْ !
    عمدني الرَّبُّ
    على نغمِ” الكنداكات”
    فغفوتُ على
    الأحلامِ الورديَّـة!!

    كانَ الليلُ ينامُ
    على الأغصانْ.
    والقلبُ يفيضُ
    على الأحزانْ.
    ألجمني يا ربُّ…
    ألجمني …!
    ما زالتْ خيلي قُزحيَّـة
    وسهامي عندَ
    الفجرِ خُلاسيَّـة!
    كان الكونُ
    يضج على الأغصانْ!
    والرَّبُّ يصافحني
    بأيادي اللهِ وبالقرآنْ !
    أشتعلَ التأريخُ
    على الأفنانْ !
    وما أبقيتُ من
    الدنيا الا النسيانْ !

    ما زالتْ أحزاني
    في الليلِ ظلاميَّة!
    أحجاري من
    قلبِ المرمرِ
    ونبيذي من
    تمرٍ مخفيَّة !

    “تَهراقا”…
    يا ملكَ الصحراءِ النوبيَّـة
    أعْلِفْ خيلَكَ ألجمْها
    فالخيلُ على
    “طِيبة” مسجيَّـة !

    “تهراقا”…
    يا ملكَ الصحراءِ النوبيَّـة
    خُذْني من بيْدَاءِ العمرِ
    إلى صهواتِ العزِّ الملكيَّـة!
    حَرِّرْ مَنْ كَانَ على قيدِ الظُّلْمِ.
    حرِّرْنا بالرُّمْحِ على أنغامِ
    دفوفِ نوبيَّـة !

    وبقلبِ اللَّيلِ
    وقفتُ على الرَّبوةِ
    كالسَّيفِ القُرَشيِّ:
    أنا ملكٌ كوشيٌّ تاهَ
    بشفقِ الليلِ
    وجاسَ على الأعداءِ
    بصحراءٍ ذهبيَّـة !
    لا أملكُ في الدُّنيَـا
    إلا أشواقَ التأريخِ
    وهذي المسبحةَ الصُّوفيَّـة!
    خيلي يقتاتُ على الطيرِ
    وليلي يرتاحُ
    على بلداتِ
    اللهِ المنسيَّـة!!
                  

10-07-2010, 11:25 AM

حمزاوي
<aحمزاوي
تاريخ التسجيل: 10-10-2002
مجموع المشاركات: 11622

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    يا ابن عمي شوية شوية علينا
    عشان نقدر نقرأ

    مشتاقين
                  

10-07-2010, 11:13 AM

بكري الصايغ

تاريخ التسجيل: 11-16-2005
مجموع المشاركات: 19331

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    الأخ الـحـبيـب الـحـبـوب،
    قريبـي عبدالأله زمراوي،
    تحياتي ومـودتي،
    ***- ودخلنا لتقديـم التحايا والسلام، والشكر علي ماقدمـت.

    ***- مانقاطعك. واصــل.

    ***- لك مودتي
                  

10-07-2010, 11:55 AM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22484

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: بكري الصايغ)

    تحياتي إبن العم

    كنا نبحث في ارض النوبة عن ظل الحضار ة العظيمة التي قرأت عنها كثيرا قبل أن أبدأ رحلتي، من هنا مرت الشعوب التي شكلت العالم القديم في أوروبا وشمال افريقيا، منذ ما يزيد عن المائة الف عام، ومن هنا ظهرت حضارة مروى ونبتة وكوش وكان ملوك النوبة هم ملوك الاسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر، الملك طهاركا وبعانخي وشباكا، ولكنه للأسف ظل ميت لم يبق منه سوى أطلال، لم اجد إلا أطلالا، أطلال آثار وأطلال بيوت،

    واصل
                  

10-07-2010, 05:03 PM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: ابو جهينة)

    شكرا عبدالاله ...شكرا لعقل لسرده العاقل المتزن ....
    كانت الاثار التي رايناها صغارا في فرص وبوهين وعبكة ومعظم المناطق النوبية التي اغرقتها مياه السد العالي اكثر حفاظا علي شكلها وقيمتها مما شاهده اخانا عقل .. راينا جبالا من القرنيت الصلد علي حوافي النهر تزخر بنقوش ورسوم مازالت في الذاكرة بعد خمس عقود ....
    كعاده اهل السودان ولبداوة في فكرناتجعلنا نري الاشياء في بعدين فقط فلقد استعنا بالخيال وما كتبه الغير عن تاريخ بعيد لنا لنري اشياؤنا مكملة بخيالنا لا كما هي الان ولذا فهيئة الاثار والمتاحف هي افتراضية ولم تصل حتي لبداوة فكرنا ذو البعديين الاثنيين .....تركت الاشياء كما هي تتلاشي اهمالا وبدون رعاية واكتفت بات تكتب او تحاضر او تقول فقط مشاركة في المؤتمرات ....
    نحن شعوب ما بيننا والتاريخ خيالات وحب كالحب العذري يتوهم ويتخيل فلا يري حقيقة محبوبته ويساهم في مساعدتها ....

    (عدل بواسطة abubakr on 10-07-2010, 05:05 PM)

                  

10-08-2010, 08:26 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: abubakr)

    إخوتي الكرام..

    أ. حمزاوي
    أ. أبوجهينة..
    دكتور الصائغ..
    باشمهندس بكري..

    آسف للتأخير...

    سأعود لاحقا..
                  

10-11-2010, 03:30 PM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مِصريٌ في أرض النوبة (سلسلة حلقات للكاتب شوقي عقل)... (Re: عبدالأله زمراوي)

    لمزيد من القراءة..
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de