المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 11:49 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-07-2010, 10:51 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد

    clip_image13.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  

10-07-2010, 10:55 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    دار النشر:مركز عبادي للدراسات والنشر-صنعاء-الجمهورية اليمنية
    لوحة الغلاف:التشكيلي السوداني احمد عمر
                  

10-07-2010, 10:58 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا لنا ذكر وذكرى
    من فعال وخلق
    ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الآخرين
    وولاء حينما يكذب أهليه الأمين


    صلاح أحمد ابراهيم

                  

10-07-2010, 10:59 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    ماتوا سمبلة

    قرأت في زمان مضى كلمة للأستاذ صلاح أحمد إبراهيم رحمه الله في إحدى المجلات أو في كتيب (لا اذكر على وجه التحديد بعنوان ماتوا سمبلة) أحسبها كانت مقالة كقصة أو قصة صغيرة كمقالة, وصف فيها جنوبياً (لم يحدد قبليته ولكن يغلب على الظن أنه من الاستوائية), بيده أداة موسيقية يترنم بها ويغني بين حين وحين (ماتوا سمبلة)..
    و(سمبلة) هذه تحريف للكلمة الانجليزية Simple.. وكأن الأصل جملة انجليزية they simply died صاغها الجنوبي المترنم أو توهمها أو سمعها أو صيغت له, أي ذلك كان, ولبست في غنائه وترنمه معنى (ماتوا همله) كما نقول في اللسان العامي او بلا سبب أو دافع, وكأن القاتل قتلهم بلا (غبينة).. ماتوا سمبلة كما يموت النمل يقتله الولد الصغير بإصبعه, أو كما يقتل الذباب, ماتوا سمبلة..

    الأستاذ الدكتور / عبد الله الطيب
    كلمة عن شعر الشاعر صلاح أحمد إبراهيم
    تقديم لديوان: نحن والرَّدى
                  

10-07-2010, 11:01 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    ذاكرة النسيان





    حملَّني صديقي (أبو الدفاع) أمانة كتابة حكاية المستضعفين الذين صنعوا التاريخ.. فالتاريخ لا يكتبه الأقوياء والمستكبرون دوما, وإنما للبسطاء دور كبير في صناعته من خلال تضحياتهم.. ومن خلال حضورهم الذي يتطاول متجاوزاً النسيان!!
    من أين تبدأ الحكاية؟!
    بدأت أتصفح مشاهداتي في هذا الواقع.. جعلت منه كتاباً مفتوحاً عشته بكل كياني وأعصابي.. إنها في جملتها مشاهد حية فوارة, ذات آثار غائرة في الذات.. تختلف عمقاً وجوهراً عن أية كلمات مهما كنت, تجدها في أسطر أو صفحات كتب التاريخ والفكر والقصص.. فتلك كلمات باردة محنطة بلا حياة ولا دماء ولا حرارة ولا إثارة.. وقد تمر دون ان تخَّلَف أثراً يذكر..
    كتبت هذا الواقع كما عشته.. ولعل فيه ما هو أغرب من الخيال..

    فــ...................
    فجاء هذا التدوين من عمق ذاكرة النسيان متحدياً لجبروته, ولسطوة التغييب فيه!!
    ومن هنا بدأت الحكاية!!
                  

10-07-2010, 11:04 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    كوبــــر


    كأنما كنت في كابوس مهيب يرعبه الناس!!.. وكأن الفجر جاء بعد ليل طويل, ما ظننا أننا سننجو منه..
    صحوت يا رفيقي وصديقي منه, كمن يعود إلى الحياة مرة أخرى.. وقد ظننا معاً كل الظن, أننا لسنا بمفازة نجاة منه..
    هكذا كنت تردد, أننا في غيهب جُب, مصيرنا فيه العدم.. كأنك يا رفيقي وصديقي تحدس مصيرك المحتوم.. وقد صدق حدسك, فبكت عليك السماء, وعلى شبابك الفتي المتوثب.. فاستجابت لها الأرض في مناحة, تبكي وترثي مع صلاح أحمد إبراهيم على لسان جنوني بسيط, وبآلته الموسيقية الأكثر بساطة (ماتوا سمبلة)..
    كوبر..
    كابوس حقيقي يُلوَّح به للإرعاب والاستكانة والخنوع.. ومن أثاره دوماً, أنه لا يفارق ذاكرة من استضيف في داخله, إذ يظل لتلك الذاكرة, وميض من الذكرى حتى الممات..يرسخ محفوراً في الأعماق كشلوخ جدتي التي ظلت كما هي, رغم ما أحدثه الزمن عليها من تغيَّر في كِل مَعْلم من معالم وجهها.. لكن شلوخها بقيت فتية تتحدى الزمن..
    خرجت منك يا كوبر, وأنا لا أصدق بأنني عدت للحياة مرة أخرى.. فقد كان الموت يمر بي يمنة ويسرة, ومن علٍ ومن أسفل.. وحينما مات مساعد الفتى الشاب, رفيقي وصديقي أنا الكهل المتهدم, أيقنت أن الموت في كوبر يمارس علينا لعبة عبثية, لا تقل استهزاءً عن الأسباب التي رمت بنا في هذا المكان..
    خرجتُ من كوبر مع بعض القلة من القوم, ممن غفل عنهم الرَّدى, وفي لحظة صَدَقَ فيها الزمان معنا.. لحظة تجاوز فيها معنا ومن أجلنا النسيان, فالتفت عنا زاهداً, كأنما يعتذر لبؤساء عايشوا الحزن, حتى أمسوا لا يُعرفون إلا به..بيد أنها خطوة جاءت متأخرة.. فقد أدركنا اليأس وتساوت عندنا الحياة والموت..
    لقد أمسى كابوسي الأزلي.. وبعد خروجي, ظل كوبر يزورني معايشة في منامي وصحوي..أجتر وميض ذكرياته.. فقد تصحرت حياتي به.. فما بت أعرف شيئاً يعيد الفرح في خريف العمر..
    عند حجزي وحبسي, كنت أشاهد بين كل لحظة وأخرى مجموعة جديدة, تفد إلى كوبر!! منهم من أعرف ولي علاقة به.. ومنهم من أعرف من خلال الحياة العامة, ولكن بلا علاقة شخصية.. وفئات أخرى ممن لا أعرفهم, وإن سمعت بصيتهم.. والجزء الباقي مجهول مثلي, لا أعرف ولم اسمع بذكرهم..
    هذه الجموع المتزاحمة فيك يا كوبر قهراً, هم ضحايا لعنة من سطا عليك بليل, يريد أن يلغى من سواه, حتى ظننت أن البلد لم يبق فيها أحد خارجك.... أيعقل؟!
    بعد فترة وجيزة نشأت بيننا علاقات الألفة التي لا تخلو من حميمية.. ولاحظت, ويا للعجب, أن زملاء كوبر. يعاملونني باحترام زائد لا استحقه!! حاولت مخلصاً, عشرات المرات, التوضيح لهم, بأنني عكس ما يظنون,, ولكن دون جدوى.. فأنا لا أحب أن يراني الناس, دون حقيقتي!! هذه طبيعتي التي جبلت عليها, بيد أن محاولاتي ذهبت كما جاءت من عدم إلى عدم.. وأذكر في مرة من المرات, تحدثت إلى حشد كبير منهم, كانوا قد تجمعوا لحضور ندوة من ندوات السجن التي كانت تعقد على فترات منتظمة, للتثقيف, وقتل الوقت, والاستمتاع بدفء الجموع, فقلت: أنني لا أعرف لماذا أنا هنا!! وليتني أعرف لأستريح!! على الأقل لأستخلص منه موقفاً أبرر به وجودي في هذا المكان, ولكني عجزت.. يبدو أن أغلبكم صاحب نشاط سياسي معروف, ومنكم من أصدقائي ممن أعرفهم حق المعرفة بنشاطهم السياسي الذي لا يهادن في معتقده.. وبما أنني كذلك, فربما في هذه الجموع من هو مثلي جاءوا به بالظن والشبهة, وربما للتخويف.. ولكن لماذا؟!
    وقف من بين السجناء من اعترض حديثي قائلاً:
    - ألا تعرف يا أستاذ لماذا؟؟ هذا أمر هين لا يحتاج لذكاء.. وقد أجبت أنت في معرض حديثك على السؤال, وقلت: (ربما للتخويف).. هو كذلك.. إي ورب العزة هو للتخويف, بل لأبعد من هذه النتيجة!!.. هو لقتل الكرامة في الأهلين الذين أضحوا مخدرين ومغيَّبين.. فحينما تهين الإنسان, وتحاربه في رزقه, فأنت تغتال كرامته.. وعند موت الكرامة, يموت كل شيء.. كل واحد منا في هذا السجن العتيق قال (لا) بطريقة ما, وبأسلوب جعل هذه الـ (لا) ذات دوي, حتى وان جاءت صامتة!! وأنت قبلتها أيضاً, حتى وإن لم تعنها.. لكنك قلتها.. ومهما كانت سلبيتك, فأنت الآن, وبموجب كوبر, قد أصبحت من خريجي هذه المؤسسة.. شئت أم لم تشأ.. فمن دخل في باطنها ليس كمن هو خارجها... فقد تعمَّد!!.
    اقشعر بدني, ووقف شعر رأسي لحديث هذا الفتى!!. أفعلاً يعني ما يقول؟ وهل أنا حقيقة ً كذلك؟! وهل كل من يدخل كوبر يناله قدّاس التعميد، ليضحى راهباً في محراب التضحية؟ وكيف تأتى له ذلك؟ ثم إنني مُعِلم, أقوم بأمانة التعليم والتربية, كما تلقيتها من الخواجة الانجليزي في بخت الرضا.. وكنت أباشر عملي حينما جاءوا وقذفوا بي في هذا المكان. وهل مادة التاريخ خطيرة إلى هذا الحد الذي يجعل منها كأنها مقولات في التجديف والزندقة؟ وهل زملاء السجن, يعرفون أن للتاريخ قيمة رفيعة, أبعد من تلقين الوقائع, إلى ماهو أسمى وأرفع؟؟ ألهذا أسبغوا عليَّ احترامهم الذي فاجأني بهذا الأسلوب الجليل؟؟
    هذه مبالغة, أنا على عكس ما يظنون.. أنا إنسان يحبُ نفسه.. يحبُ الحياة.. بعد أن يؤدي واجبه المهني الذي تشَّربه منذ أيامه الأولى في بخت الرضا, يتحول إلى شخص آخر, يحبُ ذاته ولحظته, ويريدُ أن يعيشها, فليكن بعدها الطوفان.. هذا جانب لا يعرفه هؤلاء القوم.. هل اكشفه لهم, لأكون صادقاً معهم, ومع نفسي؟! وهل هذا السجن نوع من التطهر, لأتخلص من هذه الأنانية التي أشعر بها, تتنامى وتتعاظم في زنزانات كوبر العتيق؟!

    كوبر نفسه يشمخ كالتاريخ.. بناه الانجليز منذ أيامهم الأولى بعد سقوط أم درمان, وقتل الخليفة عبد الله.. أخذ اسم مفتشه الأول (الخواجة كوبر) ليكون قلعة للتعميد والرهبنة في محراب التضحية..
    الآن كوبر كالتاريخ, يعلمنا أشياء كثيرة لم تدر بخلدنا مطلقاً.. هؤلاء القوم بحكم المكان الزمان, أصبحوا معي أصحاب قَدَر واحد.. فقد صار كل واحد منهم رواية لوحده, وراوية للتاريخ.. لتاريخه الخاص وتاريخ زملائه, الذي يشكل في كلياته مصير بلدٍ أخذت أطرافه تتهاوى كمريض الجُذام..
    والشيء بالشيء يذكر.. (فالخواجة كوبر) ذكَّرني بالخواجة (طومسون) في بخت الرضا.. وأذكر أن إدارة المعهد, في الأيام الغابرة, أدخلت ماسورة ماء, بدلاً عن الطريقة السابقه البدائية.. ولكن الحمامات لم تتطور, إذ ظلت على حالها.. وقد حلمنا بحمامات بمواسير ماء وأدشاش للاستحمام.. وفي تلك الأثناء أتذكر أننا حررنا رسالة للخواجة (طومسون) صببنا فيها كل قدراتنا على الإقناع, وطالبنا بإدخال مواسير وأدشاش للحمامات.. وانتظرنا.. والأمل يداعب دواخلنا في حياة مريحة في تلك القرية البعيدة.. وحينما استلم الخواجة (طومسون) الرسالة جلس ثلاثة أيام, ثم جمع طلبة المعهد كلهم في اجتماع لمناقشة المذكرة.. وشرع يعطي كل طالب فرصته ليقول وجهة نظره.. ومنطقه في إدخال مواسير وأدشاش في الحمامات.. وكان الكل في حالة حماس منقطع النظير, وذهب البعض إلى ان المواسير والأدشاش في الحمامات أمر جوهري وحتمي, لتوفير المناخ الهادئ والمريح للطالب, لمزيد من التحصيل.. وبعد أن سمعنا جميعاًَ, صمت برهة, وهو يحرك سبابة يده اليمنى في ملامسات منتظمة على شفتى فمه المطبق, بعد أن ضم يديه في قبضة واحدة تشابكت فيها الأصابع, وأسند كوعيه على التربيزة ليسند حنكه على قبضة يديه, بمساعدة الإبهامين.. لحظة من التوتر, حفرت أخدودها في وجداني, لم تقدر على محوه, كرور الأيام المترادفة الطويلة الغائرة في الأزمنة..
    قال:
    (نحن نريدكم معلمين لكل السودان, في قراه ووديانه وصحاريه وغاباته, في حضره وريفه ومراعيه, في قبائله المستقرة والُرحَّل.. وهذه هي المساحات الشاسعة والكبيرة التي ستأخذ نسبة 97% منكم, أما المدن كالعاصمة وعطبرة ومدني وبورسودان والأبيض وشندى وغيرها, فلن تحتاج في الوقت الراهن لأكثر من 30% من مجموع هذه الدفعة والدفعات القادمة.. فإن ادخلنا مواسير المياه والأدشاش في الحمامات, ووجد المعلم هنا, الحياة السهلة المريحة, واعتاد عليها, وأصبحت جزءاً من ثقافته وطريقة سلوكه وحياته ومعايشه, فمن أين لنا ان نجد المعلم المفيد الصابر المعتاد على الحياة الشاقة, ليعمل في تلك الأصقاع البعيدة القاسية, وهي تشكل السواد الأعظم من بيئة أهلكم في هذا البلد القارة؟!. بلد يبتلع انكلترا وفرنسا وجزءاً كبيراً من أوروبا..)
    كان منطقاً هادئاً وعملياً ومقنعاً لنا جميعاً.. فتفرقنا في صمت, وكل منا أكثر قبولاً لحمامات بالجرادل البدائية, وأكثر استعداداً لمواجهة بيئات شاقة بلا ماء بالجرادل.. وشعرنا أننا في نعمة ونحن على ضفاف النيل الأبيض.. مات طموحنا، ليتحول إلى طموحات في مناخات أخرى.. وانهمكنا فيما هو جوهري, لنعدَّ أجيالاً.. البعض منها ضمن هؤلاء البشر, يشاركون أجيال الكهول في كوبر.. كوبر التاريخ الذي أضحى مع أزمنة الاستقلال المتعاقبة, معهداً أخر, يُعلم الصبر والحكمة..
    لأول مرة, وأنا داخل كوبر, أحس به كأنني أراه لأول مرة.. مع أنني ولفترة طويلة من عمري كنتُ كثيراً ما مررتُ بذلك الشارع الذي يتمدد كوبر على جانبه الجنوبي, طويلاً كأصلة خرافية تحرس جوهرة بقاء واستمرارية النظام.. ورغم وجوده المادي المكثف, لم أشعر به وأنا خارجه.. ما كان يعنيني في شيء ما دمت في أمان.. بل ربما لم أشعر به مطلقاً,رغم مروري به أيام الجمع قادماً من الحِلة الجديدة بالخرطوم عن طريق كوبري بُري, قاصداً بعض أهلي في حلفاية الملوك ببحري.. ومع ذلك يكاد يغيب عن وعي تماماً..
    أما الآن وأنا داخله, فقد أصبح يعني عندي شيئاً أخر, مختلفاً عن وضعي وأنا خارجه.. وغريب هذا الإنسان, كأني به, يعي ما حوله, من خلال ما يرتبط بوجوده, في الخير والشر معاً.. ومع أنني أستاذ للتاريخ, وقد قمتُ بتدريس الحركة الوطنية المعاصرة ابتداء من عام 1820م, مروراً بما سُمىَّ (السودان المصري الإنجليزي) بعد معركة كرري, على بعد سبعة أميال شمال أم درمان, وهزيمة جيش الخليفة عبد الله محمد التعايشي, في 2 سبتمبر 1898م, ثم توقيع اتفاقية الحكم الثنائي في عام 1899م, وحتى الاستقلال في عام 1956م, ومن ثم الحكم الوطني, أقول: لم تنل هذه المؤسسة كوبر سطراً واحداً في كتاباتي, رغم أنها كانت حاضرة في جميع المراحل ابتداء من فترة الحكم الانجليزي المصري وحتى كتابة هذه الحكاية.. وستظل قائمة لزمن طويل قادم كما أعتقد يقيناً.
                  

10-08-2010, 05:57 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الطاووس



    في كوبر تنامت داخلي إرادة خرافية تطال مواجهة الرَّدى, رغم سلبيتي التي لا أنكرها ولا أتجرَّح منها.. ويبدو أن ذلك ينطبق على الجميع بلا استثناء.. لا غرابة في ذلك بالنسبة لشخص مثل صلاح أو هلال أو هاشم أو نور الدائم.. فهؤلاء معروفون للجميع بمواقفهم السياسية المصادمة, واستضافاتهم في أغلب سجون السودان, في كل نظام تشرق شمسه علينا ذات صباح بمارشاته المألوفة, وحتى في زمن الديمقراطية, فأن حالهم لا يتغير.. كأنما السجن هو قاعدة حياتهم العادية المألوفة, والاستثناء, وجودهم خارجه!! أما غير هؤلاء, فلا أعرف - حسب معلوماتي المتواضعة عنهم - أن كان لهم تجارب وخبرات تماثل تجاربهم وخبراتهم, وطريقة التعامل في مثل تلك الأحوال.. أو أن لهم أسلوباً في التصدي المتحدي لمواجهة عنته, حتى لا تقهر الذات, وتفقد قدرتها على التحمل, وتغيب نعمة الصبر على كل مكروه..
    ربما إحساسي الطاغي, بأنني ضحية وشاية خبيثة, هو ما فجرَّ في ََّطاقة التمرد والمواجهة.. فقد حدث ذات مرة, أن انفعلت في وجه ضابط السجن, لرداءة الأكل.. ولا ادري ما هو السبب الحقيقي من وراء ذلك الانفجار المفاجئ.. أنا نفسي استغربت من نفسي التي هاجت كالإعصار في يوم قائظ, ثم همد.. فالأكل لا يشكل عندي أهمية, ولم يحدث في حياتي أن رفضت طعاماً قدم لي: لنوعه أو قيمته أو مستواه.. ولكن في ذلك اليوم اعترضتُ على فقر الطعام المقدم ورداءته, كأنما كنت ابحث عن ذريعة لإعلان المواجهة والعصيان.. وانتهى الأمر بحبسي في زنزانة انفرادية لثلاثة أيام, زادتني صرامة ورفضاًً.. واندهشت!! ففي كثير من الحالات رميتُ نفسي بالخنوع.. والآن أعود في كهولتي,لما كان يجب أن يحدث في شبابي..
    حينما جئتُ من الحبس الانفرادي إلى زملائي ثانية, اُستقبلت بحرارة وعواطف مليئة بالمودة.. وأشعروني بأنني قد تحولتُ في نظرهم إلى بطل.. في حين أنني في قرارة نفسي, أجدني هايفاً, أحمق, كدون كيشوت لثيرفانتس, يحارب عدواً وهمياً.. ربما يكون ضابط السجن بلا ذنب, ومن المؤكد أنه لا دخل له من قريب أو بعيد, في زجي وقذفي, في هذا الكوبر اللعين!! ربما هو من حيث أنه شخص, لا دخل له فيما أعانيه, ويكابده هؤلاء القوم, من معاناة تفوق التصور.. لكن بدلته الميري, واليونيفورم يقود إلى حالة من الرعب والاستفزاز, تشي بنرجسية وجبروت,عندما يتحدث ويأمر.. وهذا له صلة أكيدة, فيما نحن فيه, ونعانيه.. فأنا إذن لم أبعد كثيراً عن الحقيقة, ولكني في دائرتها على أي حال. إنه يمثل قهري.. وعليَْ أن أواجهه, ولو من باب إعادة الكرامة الغائبة.. يبدو أنني في أخر عمري سأفقد عقلي..
    ما هذا التحول الجذري في حياتي؟! ما كنتُ كذلك!! وتذكرتُ إتحاد المعلمين.. أيامها كنتُ أمارس الهروب الأكبر.. فقد حدث أن حضرتُ اجتماعاً ضخماً, أمَّه جميع مناديب الاتحاد من مختلف مدن السودان.. وثار جدل مطْول حول أهمية تغيير المكتب السياسي النقابي للاتحاد, واختيار لجنة تنفيذية جادة, قادرة على العبور بالاتحاد إلى بر الأمان, في تلك الظروف البالغة الصعوبة.. أذكر أن الاختيار وقع عليَّ ضمن مجموعة عُوَّل عليها كثيراً.. بيد أِنني وقفتُ معتذراً, بشتى الأعذار والحجج.. فيها الصادق وفيها ما دون ذلك..إنه التحايل لأهرب من الالتزام.. وبي رغبة طاغية في أَّلا أواجه بأمر, مهما كان, يحد من حركتي, وحرية مزاجي المتقلب.. مثلي لا يصلح لمثل تلك المهام, لأسباب كثيرة, أهمها حب الذات, وعشق الحياة, والخنوع للبعد عن المشاكل..أنها أنانية تنعدم فيها الرغبة في التضحية.. أنانية ترى تحقيق النجاحات في مجالات بعيدة عن أي مواجهة أو التزام مهما كان قدره..
    هذا أنا بكل صدق.. رجل كلام وسفسطة وجدل.. ولكن الفعل, خارج إطار اهتماماتي ومُكناتي.. ومن يراني أجادل وأناقش, يأتيه وهم بأنني من صناع الحياة..
    عندما أتذكر تلك الأيام, وأعيد شريط حياتي, أجد أن سجني كان عقاباً إلهياً على سلبيتي.. وأراد القدر أن يكشف لي, أن السلامة يجب أن تكون للجميع, وإلا فلا سلامة لأحد.. فالمسألة كلها مسألة وقت.. بل إن مصيبتك أعظم!! لأن سجيناً كصلاح أو هلال أو هاشم أو نور الدائم يعرف السبب الحقيقي الذي جاء به إلى كوبر.. وهو مطمئن على صحة موقفه, وعدالة قضيته!! أما أنت, فإنك هنا لمجرد الظن والاشتباه!! ألعلم التاريخ صلة بالوشاية القائمة على الظن والاشتباه؟ كوبر العتيق عراني أمام نفسي.. وأشعرني بأنني ربما أموت نسياً منسياً, دون أن يكون لدى موقف ما, حتى وإن كان موقفاً انتهازياً.. المهم موقف والسلام.. لهذا ربما كان ردة فعلي مبالغاً في تمردها.. التمرد على أي شيء.. ومهما كان..إذا لم تدركني حكمة الكهول فإني هالك في آخر العمر, بلا ذكر وذكرى..
    وبينما كنتُ غارقاً في ظنوني وهواجسي, جاءني مساعد, وجلس إلى جانبي ضاحكاً, مندهشاً من غضبي المفاجئ.. ومساعد شاب في عقده الرابع, ربما في أوله, يفيض حيوية وفتوة وجسارة.. هيئة بشرته الكحلية ذات التقاطيع المريحة, تكشف عن منابع الخير والقوة في هذا البلد.. وهو الذي من دون الآخرين, قد تصدى لي, عندما بدأتُ حديثي في الندوة التثقيفية, وابتدرته بالسؤال, لماذا أنا هنا؟!
    جاءني كما قلت, ضاحكاً, دهشاً, وقال:
    - مالك يا أستاذ؟ ما هذه الثورة؟ الأكل هذه المرة كان جيداً, إذا ما قيس بالمرات السابقة, على الأقل من صنفين, وفيه لحمة.. لأول مرة بعد فترة طويلة, أعطونا لحمة يا أستاذ!! هذه رفاهية!!
    وانفجر ضاحكاً, كأنما يقول لي من خلال ضحكاته: ظلمت الضابط يا أستاذ!!
    شعرتُ بالخزي, وبحماقة الموقف.. شطح فنطح!! كان الأجدر بي أن يكون غضبي بحقه.. وله ما يبرره.. بدا لي المشهد هزلياً, فانفجرتُ ضاحكاً, ساخراً من نفسي.. بعدها أخذتُ أحاور الصمت, منفصلاً تماماً عن الجلبة والضجيج من حولي.. ما كان عليَّ أن أبدو منفعلاً بتلك الصورة الكاريكاتورية,كأنما استجدي المناسبة لأثبت لذاتي شيئاً مغايراً..
    قطع علي َّ مساعد مناجاتي, وقال لي هامساً:
    - حدثني هلال, بأنه عرف من ضابط الوردية أن الرئيس سيزور السجن في زيارة هي الأولى من نوعها.. وتحليل هلال وبقية الزملاء, أن هذه الزيارة زيارة مستفزة, ويريد منها إذلال السجناء والحط من كرامتهم.. وواضح أنه يتوعد بشيء رهيب ما.. وعليه قرر الأخوان: هلال وصلاح ونور الدائم وهاشم, هم من يجيب على أسئلته, والتعرض لما يبدر منه, إن كان الأمر يحتاج لأي تعرض في حدود اللياقة والأدب, لأنه يعرفهم معرفة شخصية, وربما كانت هناك علاقة ما, قبل هذه الأيام التي أصبحت تمثل زمنه!! ويطلبون من الجميع الصمت..
    صمت قليلاً ثم واصل حديثه:
    - وأخبرني أيضاً أنهم كلفوه مع مجموعة من الشباب, بشرح هذا الأمر لجميع ضيوف كوبر, وان يعمل الكل, بما طُلب منهم..
    فاجأني كلام مساعد.. وما تخيلتُ أننا سنكون في يوم من الأيام وجهاً لوجه, أمام المقام السامي للسيد الرئيس.. لقد رأيته بالطبع في التلفزيون والصحف والمجلات, ولكني, لم أشاهده مرة واحدة بلحمه وشحمه, مباشرة وبرؤية العين من غير وسيط.. غداً يوم مشهود!! يا تُرى, ما هي الحكمة من وراء هذه الزيارة؟ ما هي الحقيقة الدافعة لذلك؟! لم أسمع من قبل أن رئيس الدولة جاء إلى السجن, ليقابل مساجين!!ما هي أهميتهم بعد حبسهم وشل حركتهم؟! رئيسنا فنان.. يأتي بغرائب الأشياء.. لا يُسأل عما يفعل, كأنه رب العالمين, ويُسأل غيره عمَّا يفعلون.. هل تظن خيراً ما من هذه الزيارة أم هي شر مستطير؟؟.. ننتظر فإن كوبر العنوان..
    قطعتُ حبل توتراتي وسألتُ مساعد:
    - هل فخامة الرئيس يجد وقتاً ما, ليضيعه معنا نحن الهلافيت المارقين؟!
    - نحن هاجس الدولة الأكبر.. فالخير والشر يأتي من كوبر!!
    - وهل معنى ذلك, أن لي قيمة, يحسب لها حساب؟!
    - طبعاً يا أستاذ!!
    قلتُ معلقاً, وبصدق:
    - لا بالجد, كلمني, هل أنا ضمن مجموعتكم المسوَّرة هذه, أشكل أهمية حقيقية؟ أشك في ذلك!! إنني ورغم التاريخ, ضمن كم مهمل ومنسي!!
    عقب علىَّ مساعد معترضا ً:
    - لماذا تقول هذا الحديث الخايب الخانع؟ أنت...نحن جميعاً.... قيمة حقيقية ولأننا كذلك, جاء هو إلينا, ولم نحمل نحن إليه مشحونين في عربة كومر, أو مجروس.. إننا لسنا في الهوامش، وإنما في قلب المتون.. وهذا له دلالته التي نراها غيباً بالبصيرة... وهي وهج ووميض, تذكار وذكرى, لا تتأتى إلا للصابرين!!
    صغير أنت، يا صديق السجن، ولكن لك حكمة الكهول، وفطنة العقلاء.. لعل القدر ساقك، لتأخذ بيد شيبة، عاد إليه في خريف عمره، ماتاه وضل عنه في ربيعه.. وها أنت ذا يا كوير، تعلمني خلاصات خواليد الزمان، وصفاء عطاءاته، من الإيمان واليقين, وبارقات السوانح, وإضاءات الكلمات, وظلل الآمال الحبلى بالفجر الواعد.. إنه شبابك يا صديقي الذي يضيء عمري الآفل..
    وجاء اليوم الموعود!!
    تجمعنا، أو جمعونا على الأصح, كما هو مطلوب.. و أستقر الرأي لدى الجميع على الصمت من الكل، بخلاف الأربعة.. فهم الوفد الذي سيتحدث باسم الجميع، وينوب عن الكل، بل ويفدي القوم عند المقتضى...
    كانت لحظة فارقة بين زمنين!! بين مرحلتين!! امتلأت أحشاء الكوبر بأصوات الصفير المعهودة، ومحراكات العربات، وضجيجها، وعلت سماء الساحة الغبرة.. وسكن الكون في تلك اللحظات، كأنما يتهيأ لميلاد زمن جديد!!
    كان فخامته يركب سيارة جيب صغيرة مكشوفة جاء إلينا بحشده وجبروته.. لم يترجل من باب عربة الجيش الجيب الصغيرة، و إنما قفز من فوقها بحركة أكروباتيه, عُرف بها.. دخل مكتب مأمور السجن لبعض الوقت, ثم جاء إلى تجمعنا بقضه وقضيضه.. وقبل أن يصل إلى المكان المخصص له في مواجهتنا، سبقه ضابط يهرول، بشق الأنفس، وتسبقه كَرِش متكورة مترهلة، تهتز أمامه كأنها تستجدي الرحمة بها، وصرخ في وجهنا:
    - السيد رئيس الجمهورية..
    لسنا في حاجة لكل ذلك!! ولا يحتاج الأمر لانتباهه معينة.. فنحن نعرف قدومه الميمون, وشعرنا به من وهلته الأولى.. وكلنا أذان صاغية لما سيقول!!
    صمت مطبق لبرهة, كأنها الدهر!! وجاء صوته المعروف والمألوف.. وكما تخيل الجميع.. طفح فيه, كيل التهديد والوعيد, قال:
    - أعرف كلكم خونة.. ومنكم من يعمل جاسوساً لصالح أسياده.. نحن نعرف هؤلاء!! وسيأتي دورهم في الوقت المناسب, الذي نختاره نحن!! ولن نسمح بالتلاعب بأمن البلد وسلامته!! وأي واحد حزبي لن يرى النور مطلقاً, ولن يخرج من هذا المكان.. ونشاط كل فرد منكم عندي, مدون في تقارير على مكتبي!! وكلها تفصَّل, وتوضح جريمة كل واحد فيكم, والحزب الذي ينتمي إليه!!
    وفجأة غير مجرى حديثه, وسأل بأسلوب مستفز:
    - كل واحد حزبي, أو ينتمي إلى حزب, أو يتعاطف معه, يتقدم خطوة إلى الأمام!!
    تناسى هؤلاء القوم ما اتفقوا عليه.. وأصبح خطاب التحدي كما لو أنه موجه لكل واحد منهم..
    وفي لحظة ارتج فيها كوبر, والنيل الأزرق من بعده, من هول الاستجابة المتحدية, وجاءت الصدمة المميتة.. تجاسر كل فرد من نزلاء كوبر المحتشد, وتقدم خطوة للأمام.. تحرُك آلي, بلا تخطيط.. ويبدو أن كل واحد, شعر بأن الإهانة قد لحقته.. إيه يا زمن البطولات والتضحيات والموت مع القامة الواقفة!!
    خيم الصمت والذهول, ولاح في الأفق الشر المستطير.. ومن يومها تحول كوبر إلى ساحات معايشات جديدة, للدرجة التي أخذ فيها يتندر الجميع على غضبي وثورتي المفتعلة على الضابط, معترضاً على الوجبة المقدمة.. إنه بطر الرفاهية التي كنا نرفل فيها, بالمقارنة لما هو بعد اليوم المشهود...

    ...........................
                  

10-09-2010, 12:30 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    المـــأمـــــور


    يُقال أن الرئيس ترك تجمع السجناء هائجاً, يبرطم ويتوعد.. وهذا معناه أن نار جهنم الحمراء, قد فُتحت من أبواب السجن.. وأن كوبر لن ينام من بعد الآن!! يا تُرى ماذا تخفي الأيام لهؤلاء التعساء؟! هكذا همس المأمور في نفسه خُفية, وهو يلاحق السيد الرئيس هرولة إلى مكتبه الأنيق.. لعل القادمات من الليالي والأيام, حبلى بمعايشات جديدة, لم تعرفها لوائح كوبر من قبل.. من المؤكد أن (الخواجة كوبر) قد مات وشبع موتاً, لكن مؤسسته التي خلدت اسمه ظلت باقية على أرض السودان, وهي أكثر رسوخاً من أي شيء أخر.. لقد أصبح (الخواجة كوبر) خالداً في ذاكرة السودانيين, ببركة هذا المبنى العتيق, الذي فيما يبدو يزداد مع الأيام قوة وحضوراً.. وغابت عن الذاكرة, وتلاشت ذكرى غردون وكتشنر, بزاول تمثاليهما من بدايات العهد الوطني.. فأي مفارقة تلك؟!
    في مكتب المأمور جلس السيد الرئيس, وهو يزمجر كأسد جريح.. فقد لحقته إهانة التحدي, من فئةٍ مغلوب على أمرها, فزلزلت كيانه.. يبدو أنه توقع خنوعاً أو اعتذارات أو سلوكاً سلبياً على الأقل, لكن الذي وقع تجاوز حدود توقعاته, إذ لم يدر بخلده مطلقاً هذا المروق المعتدَّ..
    ردود فعله دائماً في حدودها القصوى.. باترة, ولها دوي وضجيج!! توجس المأمور خيفة, فمن يعرفه مثله؟! وهذا المكان شاهد على ما يقول!! توترت أعماقه, واضطربت, وتبلبلت أفكاره, وفقد القدرة على التركيز.. ربما يكون في لحظة الهيجان هذه أول الضحايا, لأنه, في تقدير السيد الرئيس, فشل في ترويع وتطويع هؤلاء القوم المارقين.. وعجز عن إخضاعهم لسطان إدارة السجن.. لكن, هذا غير صحيح, ويحتاج الأمر إلى تعقل ما.. فالأمور لا توزن بهذه السذاجة.. ثم ما ذنبه هو؟ ماذا كان عليه أن يفعل, فتقاعس؟ هؤلاء أُناس شتى, وأمزجة مبعثرة, وثقافات متنوعة, وبيئات متداخلة, وشجون متراكمة, وطموحات مترادفة, وآمال منحورة, ورجاءات مقتولة.. فأي مرفأ هذا الذي يسع كل هذه الأحزان.. وأي سجان مقتدر, في مُكنته التأديب وجلب الطاعة؟!..
    لم يخب ظنه في توتره وتوجسه.. فالمصيبة ستحل لا محالة.. ويقيناً أنه على رأس القائمة.. يا رب سترك ورحمتك, ولا تجعله من المنسيين من لطفك, في هذا الطوفان الماحق.. جاءت القارعة, وفاتحتها موجات الإهانات والإذلال وضياع الهيبة.. هيبته التي أخذ يجمع حباتها, سنة من بعد سنة!! والآن يطأها الفيل مرة واحدة.. فأي رجاء يمكن أن يُرجى ياعاق الوالدين؟!
    حملتُ قدري, وجئتك يا كوبر, لأتربع على قمتك, فأنزلتني الأقدار من هامة عليائك, وقذفتني في قاعك السحيق.. فأي مصير أنتظره, يا علام الغيوب؟!
    تبعثر المأمور في وقفته,وهو يرى الشرر, يقذف حممه من عيون الرئيس.. فقد اكتمل المشهد, فأصبح هائجاً, متوعداً ومنذراً.. ثم أنفجر البركان يتقيأ أحشاءه المنصهرة!!
    - قال الرئيس بصوت كالرعد:
    - أنا أٌهان في هذه الخرابة!! وممَّن؟؟ من هؤلاء الخونة والعملاء!! يتحدوني بكل هذه الصفاقة, في الوقت الذي أنا فيها القادر على سحلهم!!
    ثم ألتفت إلى مجموعة من ضباط كوبر وقال:
    - أين أنتم يا غجر؟؟ وأين إدارتكم وعملكم؟؟ أين الضبط والربط؟؟ صبراً!! سأعرف كيف أعيد لهذا المكان هيبته واحترامه!!
    طاقة من جهنم فتحت سعيرها! فأين المفر؟! إنه يتحكم بمصائر الكل بلا استثناء.. كل من فيك يا كوبر, السجين والسجان, على حد سواء أصبحا حزمة واحدة.. لكن القوم الذين يقصدهم, لأنهم أصل هذا المشكل, هم أكثر زهدا!! فأي خير قد يأتي منه؟؟ بل هو لن يأتي أصلاً. أما المأمور, فإن أمره إلى الله.. فإن حدث أن فقد عقله, وفتنه جبروته, وطرده من وظيفته, انتهى عمره.. فقد تعلق المأمور بهذه الوظيفة, حتى أضحت هي وجوده وحياته.. لقد شب وعرف أن (الميري) أمان ومستقبل مضمون, أما في هذه الأيام من هذا الزمان الوغد, فقد أضحت في كف عفريت.. يريد النظام, ولا يريد النظام.. والنظام نفسه أنكمش, وتحجم وتمركز في شخص الرئيس.. كل الخيوط في يده كلاعب الأرجوز.. أرض المليون ميل مربع تنتظر كلمته..
    توقف الزمن برهة, كأنه خارج التاريخ, حين جاء الحديث إليه مباشرة:
    - وأنت!!
    جاء الخطاب مع عصا المارشالية, التي اتجهت مباشرة وبقوة إلى بطن المأمور, فوخزته وخزة مؤلمة, كأنها سيف يغوص في أحشائه.. فكتم ألمه بصبر السنين المتراكم.. بدأ الطوفان يلامسه.. فالواقعة واقعة لا محالة, وستحل بالكل..
    هجم الرئيس الذي فقد صبره وقال:
    - حامل كَرشك الكبيرة دي, قاعد تعمل شنو؟! نايم طول وقتك!! خبرك عندي!! أنت كيف قاعد حتى الآن وما طردوك؟! أمثالك يجب أن يطردوا إلى الشارع!! واضح أننا نعتمد على حيطان مايلة!!
    بدأ الموج يعلو شيئاً فشيئاً, ولابد أن المأمور هالك.. هذا المجنون لن يرعوي!! ولماذا يرعوي؟؟ أي معيار يضبطه؟ وأي قاعدة تحكمه؟ إنه استكبر واستخف رعيته, فأطاعوه.. سيفعلها, كأنما ملك الجميع.. أنظر! كيف يتصرف!! أليس هذا السلوك يستعيد في ذاكرتك,ذكريات (غول) في عطبره, فتوة الحفلات والاحتفالات والأعراس, وبلطجي الأسواق.. أي فرق بين هذا وذاك؟! ربما (غول) كان أشرف, لأنه كان لا ينال من الغلابة والمسحوقين, بل كان يناصرهم!! الحمد لله الذي جعل سِرَّ الإنسان من الغيب, لا يعلمه إلا هو.. وإلا لمحق به الأرض, لجرأته, بما جرى ودار في خاطره..
    رأيتُ المأمور حزيناً يائساً.. هل يستحق العطف؟ ربما!! ولكنهم طغاة!!
    هذا الثور الهائج, من ينقذه من حلبته.. وكان نسياً منسياً, لولا هؤلاء القوم.. من أين جاءوا في دفعات تتابعت؟! هم ضحايا ألا تعلم؟! وما دخلي في هذا كله؟!
    ألتفت الرئيس إلى وزير الداخلية الذي كان يرافقه, وما زال غضبه يرمي بالحمم, فقال:
    - من الآن يتغير النظام في كوبر, ويكون أكثر صرامة وحزماً.. يجب إنزال العقاب على الجميع دون استثناء.. وأريد تقارير يومية منتظمة..
    قال هذه الأوامر, وخرج مسرعاً, كمن كره المكان ومن فيه.. أراد الهروب منه, كأنما لحظة التحدي لعنة ستحيق به.. وفي لمح البصر قفز بحركة اكروباتيه, إلى داخل العربة الجيب. كجرم وقع من السماء.. ربما استعراض صبياني.. وقف السائق مدهوشاً, لأنه كان مستعداً وفتح باب العربة الجيب لمعاليه.. لكنه تجاهله, كأنما يلعنه هو الأخر مع الملعونين.. وكتم في أحشائه ردود فعله الشيطانية: عجيب أمرك يا سيدي!! وهل نملك من أمر أنفسنا شيئاً؟!..
    تحرك الموكب كما نُظم له.. وسكن المكان من بعده.. وهنا أخذ المأمور نفساً عميقاً طويلاً,فقد جاء الفرج من عند الله, إذ جعل على قلبه غِشاوة, فأنساه إياه في فورة غضبه.. يا رب.... ولكن....ولكن بالقلب وجيفاً غائراً يتمدد في الزوايا البعيدة.. ربما هناك جولة أخرى.. فمن يدري على أي شيء عقد العزم؟؟ وماذا تخفيه الأيام؟ فليْكن هؤلاء السجناء, ضالتي, ومتنفسي.. بل هم مخرجي, إن أحسنت صنعاً, وأعدتُ البسمة للرئيس..
    ومن ذلك اليوم المشهود دخل كوبر مدخلاً جديداً, فأضحت تلك البرهة التي توقف عندها الزمن لحظة, نقطة تاريخية, تفرق بين زمنين.. وصارت جزءاًَ أصيلا في أزمنة كوبر, يُشار إليها, باعتبارها الواقعة المفصلية المهمة بين مرحلة مضت, وأخرى قادمة..
    ومن يومها تحول المأمور إلى مخلوق أخر, ما عرفوه من قبل, كأنما بذرته فيهم خيالات عقل خرافي, لهيمنة الرعب والخوف..
    لم يعد المشهد كما كان في السابق.. فالدنيا صارت غير الدنيا, والمكان غير المكان, إذ ساد ما لم يعرفه القوم من قبل, وفيهم من أعتاد على كوبر في مختلف الأزمنة التي خلت.. وتسربت الأخبار خارج أسواره معلنة عن أوضاع غير مألوفة, جاءت من بيئات أُخر, فهُدمت صوامع الأمان القديم, وحلت محلها خوازيق عذابات ماحقة, ما أنزلتها هذه السماء, وما أنبتتها هذه الأرض..
    وبدأ المأمور المشهد, بالاغتيالات المدنية والمعنوية.. في أي زاوية من هذا الجسد الضخم المترهل, كان يرقد كل هذا الحقد التراكمي؟! كثيرة تلك الحالات التي تخفي فيها الملامح والقسمات, حقيقة الإنسان, وطبيعته التي تنافي مظهره الخارجي الكاذب.. همس احدهم قائلاً:
    - لأول مرة في حياتي أرى ابتسامة تقطر سماً!!
    فرد عليه الأخر, وهو يشعر أن تعاسة الدنيا كلها تركزت في تلك اللحظة, لتأكل عمره:
    - نحن نقبل على زمن, لن يبقى فيه أحد منا!! فاستعد!!
    بدايات الإعصار المدمر, حرمان القوم من المناشط الرياضية والثقافية والترفيهية.. والمثير المفجع هو تلك الشعارات المعلقة في أركان ومواقع مختلفة من كوبر.. (السجن إصلاح وتهذيب).. يا سبحان الله.. داخلك يا كوبر, تجسيد أمين, لما هو خارجك.. التناقض بين الأقوال والأفعال.. والعجيب في الأمر أن هذه الشعارات, ملأت كوبر بليل, والقوم نُوَّم.. كأنها إعلان ناعم لعصر جديد..
    شعرت أنا شخصياً, بأن الحرمان من مباريات كرة القدم, في ميدان كوبر المعتاد, قد أمات الضحكة والفرحة في قلوب محرومة ومغلوب على أمرها.. كانت الأيام قبل مرحلة التحول, محتملة, ومقدوراً عليها, نتيجة السلوان الذي تبثه هذه اللعبة الساحرة فينا.. فنتجاوز ما نحن فيه بعض الوقت.. وفي هذا نعمة كبيرة, لا يدركها إلا من كابد لحظات اغتيال إنسانيته فيه.. أقول هذا لأن الزمن توقف عند العذاب المستمر.. فقد كان الميدان ساحة للتندر, لما يجود به المتبارون من حركات بهلوانية خارج إطار اللعبة أو تقلبات أرجوزية مثيرة, لا علاقة لها بهذه الساحرة المحببة, وفنيات أبطالها, ومهاراتهم, ومُكاناتهم ذات التميَّز.. فقد أصبحت هذه الساحرة من الذكريات..
    أما المساءات, فقد تحولت إلى جحيم لا يطاق, من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر, الذي كان غالباً ما تعلن خيوطه الفضية, أنَّ روحاًَ من القوم قد طلعت..
    فأمسى طلوع الفجر, وطلوع الروح, مترادفين لمعنى واحد.. يختلط ويتداخل فيه, المجاز والمباشر.. فيتشكل هنالك, طابع حياة توحدت بؤساً وحزناً, في كوبر!!
    كانت هذه المساءات, قبل يوم الانفجار الكبير, واحات للأدب والفكر والتاريخ والفن والطرب.. يتجلى فيها صفوة القوم, عطاءً يتحدى البأساء والضراء والحزن القديم.. ولكن بعد الانفجار الكبير,تحولت الواحات إلى صحارى العقم,والليل البهيم.. وبات الإنسان فيها ذاتاًَ تفتت إلى ذرات متناثرة, تموت في تلك الليالي القاسية.. مع ذلك تظل إرادة البقاء فيهم, جذوة متقدة, لتًبعث الحياة من جديد كطائر الفينيق..
    ونسى القوم كوبر العتيق, ليحل محله المأمور ويتجسد..
                  

10-10-2010, 12:03 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)




    السُخــرة


    يبدو أن المأمور وازن بين المواقف, فانتهى به التحليل, بأن بقاءه في وظيفته ومركزه, مرهون بإهانة هؤلاء البؤساء وإذلالهم.. فالرئيس من خلال غضبه,وفقده لأعصابه, أرسل إشارات حاسمة, لإحداث نتائج ملموسة, حتى لا ترتفع هامة من بعدها.. والسبيل إلى ذلك, عند المأمور معروفة.. ومن ساعتها عقد العزم, على أن تكون أيام هؤلاء المارقين عن الملة المستقيمة، جحيماً لا يطاق.. فقد شهدت له الأيام جبروتاً, في فنون الرقابة والإدارة, ما عرفه كوبر من قبل.. ورغم الإبداع في البطش,إلا أنه فيما بدا له أن نزلاء كوبر, ممَّن هم على شاكلة من عنيهم الرئيس, يحتاجون لبدع جديدة, تصادر الأصوات والإرادات.. وهو لها إذن!! فمن غيره؟؟ ومن لحظتها بدأنا نرى العجب!!
    أُخذنا جميعاً إلى ساحة قريبة, تجاور سور كوبر الجنوبي الشرقي, على الأرض الزراعية الممتدة على شاطئ النيل الأزرق.. كان ذلك قبل الفجر بقليل.. هناك أجبرنا على الوقوف في أربعة صفوف طويلة, في شكل طابور عسكري.. وأُجبرنا أيضاً, أن نقف في حالةٍ (انتباه).. وهذا معناه أن نقف كالأصنام, بلا حركة, حتى وإن رأيت أسداً هائجاً يريد ان يفترسك.. هكذا قال لنا عسكري السجن..
    وحينما انزاحت العُتمة قليلاً بضوء الفجر الخافت, بدت لنا تلال من الحجارة والطوب والرمل, وصفائح الزنكي والأخشاب, وكمر الحديد.. اعتلتنا الحيرة وقتلنا الفضول.. وتنادت تساؤلاتنا الصامتة, كأنما تستغيث ببعضها من مجهول يتجهمها.. ما علاقتنا نحن بهذه التلال؟!
    طال الانتظار وطال وضع وقوف (الانتباه).. أكتمل بزوغ الشمس, فاكتسى الموقع الفسيح المفتوح, بأشعة مرَّكزة اللهيب.. وسال العرق على الوجوه والأجساد.. وامتلأت النفوس, قيظاً وغيظاً.. وحينما ضاقت بهم الساحة بما رحبت, أخذ الوهن يدب في النفوس بطيئاً,غائراً في العظام.. فتحاورت الأرواح في ملكوت أخر, خارج إطار الزمان والمكان, وانتهى بها الحال إلى صوت موَّحد يبوح؟ ألاَّ يضْعفن منكم أحد..
    في التاسعة صباحاً, ظهر المأمور, سميناً مترهلاً, تطفح أثار النعمة من كل مسام وخلجة من جسمه.. ونحن على نفس حالنا لما قبل الفجر.. عذاب منقطع النظير, وقد بلغ منا التعب والإرهاق مبلغه.. وتساقط بعضنا من حرارة الشمس التي أخذت تشتد, وإدارة كوبر على يقين بهذه النتيجة, وهو أمر معروف سلفاً.. ولكنها الاستهانة بالناس, إذ من المعروف بأن شمس الخرطوم تصرع أعتى فيل في إفريقيا والهند..فما بال أهل كوبر؟!
    واضح مما تم بعد ذلك, أن الخطة كانت مُعَّدة سلفاً.. وأن الأمور جميعها مرتبة على أكمل وجه.. قال احد الضباط: هذا عمل المأمور وحده, جاء به إلينا للتنفيذ.. ونحن في مثل هذه الحالات نعرف حدودنا, ولا نتجاوزها.. للمأمور علامات, نستشعرها بقرون استشعارنا, دون أن يفصح هو عنها للتنفيذ, بلا مناقشة..نُفَّرق غيباً بين ما هو آجل, وبين تلك المصنفات التي لا يرغب في مناقشتها وأخذ رأي بشأنها.. فهي من العاجلات في التنفيذ الفوري.. وعلى هذا الأساس جاء الحرص, والتلبية التي لا تتحمل التلكؤ..
    حضر المأمور شخصياً, ليشهد نمو جنينه بنفسه, وهو يتطور من مرحلة إلى أخرى, عذابات متصلة,حتى النهايات.. ولا شيء يهم!! حتى الموت!!
    بدأ الضابط ينادي أسماء كل مجموعة على حدة.. وعندما يكتمل عدد المجموعة, على ضوء ما هو مخطط له, يُرفع اسم العسكري السجان المختار, لتكون المجموعة تحت إشرافه وإدارته..
    ومن غرائب عمل هذا المأمور المعتوه, أنه اختار لكل مجموعة من المجموعات أسماً يفوق خيال عفاريت الجن.. فكانت تلك الأسماء هي: عقرب, بعوضة, عنبر 7, أفلسه.. مسميات شيطانية, لا ندري من أي خيال استقاها؟!!
    كنتُ أنا ضمن المجموعة التي سُميت بعوضة.. يقودها ويشرف عليها ويديرها السجان رجب.. عرفنا اسمه من وهلة تكوين المجموعة, وغيرها من المجموعات الأخرى.. إنه رجل طويل القامة, نحيف الجسم, غائر العينين, كأنما ينفذان من جحرين, في وجه ناتئ العظام, كثيف الحُلْكة.. له صوت متضخم لا يتناسب البتة مع شكله الممصوص الناحل.. ورغم هيئته التي تنم عن القسوة, وفظاظة القلب, إلا أنه كان رقيقاً في الحالات التي لا يجد نفسه في كماشة الرقابة وعيون المأمور.. فلكوبر بعض الومضات والاشراقات التي تغافل الزمان!! فلْنشعر أن هناك بقايا إنسانية..
    من ضمن مجموعة بعوضة, كان الفتى مساعد.. ولا ادري لعل القدر لعب لعبته هذه, لأكون قريباً منه, ويكون قريباً مني.. وتزداد الألفة الحميمة بيننا.. ويحدث نوع من التوازن بين كهل له هدوء المحيط, وحكمة الأيام وتجاربها,وبين فتى له تيار نهر منحدر من علٍ بشلالاته ودواماته, مع صغر عمر, يعوزه أيمان العجائز, وحنكة وبصيرة المسنين..
    فقد كنت في أوقات كثيرة, أقف حائلاً بينه وبين التهور المؤدي إلى الهلكة, بضبط غضبه وهيجانه, وتحديه لقرارات المأمور..
    كُلفت مجموعة بعوضة بحفر حفرة, سعة ثلاثة أمتار في ثلاثة, مع عمق ياردة.. هكذا تصدر الأوامر فجأة, وتقع علينا, كقدر أعمى, فلا نملك له مرداً.. ولا حيلة لنا, غير الدعاء الصامت في ضراعة إلى القوي العزيز.. بخلافنا كلنا في المجموعة, كان الفتى مساعد لا يخفي تبرمه واعتراضه على تلك الأوامر من المأمور.. وكان يجاهر بأن المأمور, قصد الإهانة والإذلال.. وإذا لم نقف في وجهه, فإنه سيتمادى, ويأمرنا بما هو أنكى وأفظع.. وفي إحدى مرات غضبه الهائج, شتم المأمور قائلا ً:
    - إنه إبن زانية!!
    وحينما رُفعت إليه من عيونه المبثوثة بين القوم, والمزروعة فيهم, جاء عقاب الفتى مساعد فوق أي احتمال.. جردوه من ملابسه ما عدا خرقة بالية تستر عورته... ربطوه إلى جذع شجرة دوم, وجاءوا بأحد عساكر السجن, قصير القامة, قوي البنية, كأنه مصارع, وفي يده سوط, يحركه في الفراغ, فيحدث أصواتاً كفحيح الأفاعي.. ودون رحمة مزق الجسد جداول تتفصَّد في الجسم العاري, عند كل سوط هاوٍ وناقم..
    وقف القوم يشهدون العذاب, وقد تقطعت بهم سبل إغاثة رفيقهم, ولسان حالهم يردد مخنوقاً: هي رسالة لنا جميعاً..
    تألمتُ من أجل الفتى, دون أن أملك حيلة أنجده بها..وفي هذه الواقعة أعترف بأنني أهملتُ في كبت ثورة بركانه.. وكان يمكن ذلك بطرق شتى, لولا أنني انشغلتُ في حديث مع العسكري رجب..فقد علمت منه بأن الأوامر قد صدرت ببناء مبان جديدة ذات مواصفات خاصة, في الساحة قرب كوبر, وفي نفس المكان الذي كُلفنا فيه بحفر تلك الحفرة.. وهو سجن جديد بزنازن للحبس الانفرادي, مع بعض العنابر الضيقة.. وقال: كثير من هذه الزنازن لا يدخلها الضوء..والقصد عزل السجين عن العالم الخارجي..
    وقد حدث بالفعل..جاء المأمور بمقاول للتنفيذ دون عمال.. فالقوم الذين وزعوا إلى مجموعات, وبمسميات, عقرب, عنبر7, أفلسه, بقيادة عساكر السجن, كما هو حالنا في مجموعة بعوضة مع العسكري رجب, هم العمال والفعلة للمقاول لتنفيذ السجن الجديد..
    ظل الفتى مساعد طريح الفراش, يعالجه طبيب السجن من الجروح الغائرة في كل ظهره وحتى عنقه.. ورفض المأمور, إرساله إلى مستشفى الخرطوم بحرى, على الرغم من طلبات الطبيب الملحة, لأن عيادة كوبر بلا إمكانات.. وجروح المصاب خطيرة.. زجره المأمور, وقال متحدياً في فجور:
    - أنا عايزه كده يتعذب, ويموت ببطء, لصفاقته..
    انزوى الطبيب, وأثر السلامة, وإلا فإنه من غير المستبعد أن يضحى واحداً من القوم.. فلن يعجز المأمور حيلة لحبسه..
    كنت أنا الوحيد الذي كان يسأل الطبيب عن حالة الفتى مساعد.. وفي حالات كثيرة كنت أدخل معه في حوار؟
    - الحالة خطيرة..
    - نعم....
    - لماذا لا تعترض؟
    - اعترضت!!
    - وماذا تم؟
    - المأمور رفض!!
    - لماذا لا ترفع الأمر لمن هو أعلى منه؟.. فأنت دكتور!!
    - المأمور الكل في الكل..
    - هل أنت خائف؟!
    - نعم
    - مِمَ؟
    - من التهور!
    - أي تهور!!
    - المعارضة تهور!!
    - أنت دكتور!!
    - يا سيدي!!
    - يعني أيه؟
    - يعني الحكمة!!
    - يا دكتور!!
    - أبعد مما ذكرت من اعتراض, يعني أن أكون مثلك هنا!! ولا أظنك تقبل لي ذلك..
    مؤكد لا أقبل له أن يكون واحداً منا, لأن هذا لا يمثل غاية نرجوها.. ولا مصلحة لنا في أن يزداد عدد المعذبين.. وما يحدث أمام عيني يُظهر لي أننا نقبل على أيام حالكات..
    ومع السخرة اليومية, والاستغلال البشع لعافية أي فرد منا, انتهى حفر الحفرة وتم تبليط أرضيتها وجوانبها الأربعة.. وبعد أن جفت أعمال التبليط والخرسانة, كُلفنا, بنقل الماء في صفائح من النيل, لنملأ هذه الحفرة, فصارت بركة من الماء, تحول بعد مدة قصيرة إلى ماء أسن.. وسرعان ما نمت فيه الطحالب.. وتوالد فيه البعوض,بل أصبحت الحفرة مزرعة للبعوض, في وقت لا يحتاج فيه السودان لمزيد من هذه المزارع.. فالبعوض في السودان فريد زمانه.. إنه يخرج من الحجر!!
    أما السجن الجديد بعنابره وزنازنه, فقد شمخ في وقت خرافي غير مألوف.. وصار شكله, غريباً, يثير التندر والسخرية من ظرفاء القوم.. فأسموه (بيت الجن).. فلا هو في شكل المباني القديمة التي ألفها النظر, ولا هو بالمبنى الحديث من العمارة العصرية.. وفوق هذا, فقد أضحى منبعاً للتشاؤم.. فخلال مسيرة البناء سقط العديد من القوم.. منهم من قتلتهم الشمس بضرباتها القاصمة كما المقصلة.. ومنهم من سحقه الإرهاق والضنى والهزال, نتيجة لسوء التغذية, والشعور باليأس الطاحن..
    أما الفتى مساعد, فإن فترة عجزه وضعفه قد طالت, فتقوس ظهره, ثم تلاه العجز عن الحركة, مع توقف الكليتين, لأن السياط نالتهما وعطلت نشاطهما.. فارق دنيانا, وهو يلعنها..
    بكيناهم في حُرقة لم نألفها من قبل.. فالحزن كان عميقاً وقاتماً.. والرعب كان عارياً من ذرة إحساس بأي أمان.. فالفناء مفتوح بلا حدود.. ومن شدة هذا الإحساس الطاغي بالهلاك, تحرك الجماد, وانفعل,فأخذت أسوار كوبر وحواجزه وموانعه ومشانقه, تردد بؤسنا الأزلي, وحزننا المقيم, في وجيف ووجع.. يتجاوب معها الكون معلناً في صرخة:
    ماتوا هملة.... ماتوا سمبلة!!

    ......................
                  

10-13-2010, 12:07 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    أموت وأعرف السبب

    خرجتُ من كوبر, في لحظة توقف فيها الزمن.. وحينما وجدتُ نفسي خارجه, وفي الشارع, في الهواء الطلق, أمنتُ بحقيقة البعث من مرقدنا.. فسبحان الذي يحي العظام وهي رميم..
    تذكرتُ الفتى مساعد, ولحظاته الأخيرة.. عندما لفظ أنفاسه التي تبقت في جوفه, كان في حجري وبين ذراعييَّ..فرت من عينه دمعة فيها الغُلب كله.. ولخصت العجز حيال ضعف الإنسان, وسوء قدره.. ضغط على كفي بشده, كأنما يشعرني بأخر إرادة لقوة الاحتمال.. أخر إرادة لاستمرار الحياة.. ترك فيَّ شعوراً كأنه يوصيني بذلك..
    دفع الله صديقي القديم, هو أول من خطر ببالي.. لعله خاطر متفائل, ليؤكد لي أنني مازلتُ على قيد الحياة.. فالموت في كوبر وملحقه من بيت الجن كان بالجملة.. ربما لأُنَّفذ وصية الفتى مساعد الصامتة, بأن إرادة الحياة باقية فينا..
    شعوري بأنني مثل أهل الكهف, كان طاغياً.. فاعتراني خوف ورغب من بطش الناس.. فأنا بالنسبة لهم قادم من كوكب أخر.. الدنيا أمامي خارج كوبر, فعلاً تغيرت.. فالشوارع لم تعد هي الشوارع.. والناس لم يعد هم الناس.. والمرأة لم تكن تلك التي ألفتها قبل كوبر.. أين جمال الشارع السوداني, والهيئة السودانية, والثوب السوداني, الذي كان يوحي بالجمال والجلال..
    شعرتُ كأنني غير أنا!! وأن هناك شخصاً غيري يحكي عني ويقول:
    ذهب فوراً إلى منزله في الحلة الجديدة, على مقربة من صك العملة.. وجد أغراباً لا يعرفهم.. سأل عن دفع الله, قالوا هنا, يسكن معنا في هذا المنزل, ولكنه الآن غير موجود.. ولا نعرف مكانه. يجيء بعد غيبته ويبقى لفترة قصيرة ثم يختفي فجأة لأيام وشهور.. يظهر عرضاً ثم يغيب.. قد يحضر الآن, في هذا الوقت.. وقد لا يحضر.. أنت وحظك يا أبن العم..
    غريب أمري كأني خارج نفسي!! ثم عادت لي!! توهان ماحق!!
    قطع احدهم حيرتي سائلاً:
    - لكن الأستاذ من أين, يبدو أنك قادم من مكان بعيد؟!
    سؤال أعاد توازني, وأخرجني من حالتي المتناثرة.. قلت:
    - نعم.. جئت من مكان بعيد..
    - هل كنت في سفر؟!
    وهل هناك سفر طويل وشاق أكثر من كوبر!! قلت:
    - نعم كنت في غربة طويلة ومرهقة!!
    قال آخر:
    - الأخ قادم من أي بلد؟!
    ابتسمت في أسى.. قلت:
    - أنا قادم من هذا البلد!! فيه إغتربت, ومنه عدت!!
    أندهش الأخر من إجابتي التي بدت له غريبة وغامضة.. نظر إلىَّ في استغراب, وحول بصره إلى زميليه, بطريقة أشعرتني كأنه يتهمني في سلامة عقلي..
    قال:
    - لا أفهم.. من أنت؟
    قلتُ وأنا أستجدي وميض الذكريات, الذي يأتيني شحيحاً, من مكان سحيق:
    - أنا صديق دفع الله.. وجئت من مكان بعيد أقصده..
    قال الثالث:
    - هل لك أهل هنا؟
    ضحكتُ في مرارة.. قلت:
    - في يوم من الأيام كان لي.. وكانوا يسدون عين الشمس.. تغيرت الدنيا.. ولا أدري هل هم موجودون أم رحلوا!!
    قال الأول:
    - هل دفع الله يعرف أهلك؟ ولو حضر الآن هل يمكن أن يدلك عليهم؟!
    تمهلتُ في ردي عليه برهة, ثم قلت:
    - قطعاً كان يعرفهم.. لكن الآن, فأنا غير متأكد من حقيقة إمكانية الاهتداء إليهم!! فقد طال عهدي بهم جميعاً.. وتغيرت الأحوال..
    قال الآخر:
    - يا أخي أمرك غريب!! لماذا هذا الغموض؟!
    هو أكثرهم حدة معي.. لعله يشك في أمري.. فمظهري أقرب إلى شخص متسوَّل منه إلى شخص محترم.. ابتسمت!! صمتُ وأنا أنظر إليه..
    قال:
    - هل كنت تعمل عملاً ما هنا, فدفع الله لم يفارق الخرطوم؟!
    قلتُ وابتسامتي لا تزال في مكانها:
    - نعم.. كنتُ معلماً للتاريخ في إحدى المدارس الثانوية..
    - وأين رحلت واغتربت؟؟
    ــ رحلتُ واغتربتُ في كوبر منذ عشرين عاماً.. دخلتُه في سن الرسالة وخرجتُ منه كهلاً كما ترى..
    بهت ثلاثتهم من كلامي.. كوبر يعني السجن والجريمة.. تجمد الحديث في الأفواه.. أيقنتُ أنني بعد الذي قلت, تحولتُ إلى شخص غير مرغوب فيه.. ومن يقبل مرتاد كوبر؟! في داخلي حسمت أمري, استعدادا للرحيل.. إلى أية جهة لا أدري.. ومن الغرائب أن تغيب عني ساعتئذٍ حلفاية الملوك!!
    قال الآخر في نبرة ودودة لا يخطئها الإحساس:
    - كيف نشأت صداقتك بدفع الله, وأنتم أصحاب مهنة مختلفة؟؟ نحن أهله!!
    زغردت دواخلي, وتمدد في َّ فرح الأزمنة الجميلة, التي تركتها وراء ظهري, منذ أمد بعيد.. قلتُ ضاحكاً, كأني أدخل من أبواب عدة, فتحت لي أقفالها:
    - وهل الصداقات لا تتم إلا لدى أصحاب المهنة الواحدة؟!
    عقب ضاحكاً بقليل من الحرج:
    - لا طبعاً.. لكن لا أدري لماذا سيطر عليَّ أنكم أصدقاء وزملاء مهنة؟؟
    قلت:
    - لا عليك.. لكن الحياة بمختلف روافدها وهذا المنزل, وحب الناس, كلها أشياء جمعت بيننا..
    قالوا ثلاثتهم وبعبارات مختلفة:
    - هل سكنت هنا؟
    قلتُ بسعادة:
    - نعم.. قبل كوبر سكنتُ هنا,,وتلك الغرفة الجنوبية غرفتي..
    ضحكوا ثلاثتهم, فقال الأول:
    - هي مغلقة حتى الآن, ولم يدخلها أحد منا غير دفع الله.. في أيام وجوده معنا, يقضي أغلب وقته داخلها.. وعندما يخرج منها يحرص على إغلاقها.. ولم يسأله أحد منا..
    ما كنتُ أظن أن الأيام ستجمعني بشيء قديم حميم..شيء تركته قهراً, في لحظة نحس عقور.. وها أنا أعود ثانية لهذه الغرفة الأثرية:
    (وقد يجمع الله الشتيتين, بعدما

    يظنا كل الظن ألاَّ تلاقيا)

    قال ثلاثتهم بعبارات مختلفة تحمل هذا المضمون:
    - إذن هنا مكانك الطبيعي.. فهذا بيتك..
    عدتُ إليك ثانية, بعد هذا الزمن الطويل, الذي ضاع فيه كل منا عن الأخر.. سأعود إليك يا حِلتي الجديدة, ولكن هذه المرة بخلاف دفع الله.. ربنا أعلم كيف ستكون أيامي في هذا المنزل, من بعده.. فقد تركتُهُ إلى غيبتي التي أزمنت واستطالت, وكان جزءاً من راحتي في البيت.. الآن كيف سيصبح حالي من بعده؟! يقولون أنه سيأتي, وقد لا يأتي.. كلام غامض ومربك. والحنين إليه سيستفحل ويتضخم.. لعل أيام كوبر لا تزال قائمة.. فهذه حرية وهمية خالية من الحياة, إن جاء دور غيبته..
    قطع شرودي أحدهم قائلاً:
    - إذا كان وجودنا معك يضايقك, فإننا سنرحل, وبلا حرج..
    اندهشتُ لهذا التحول الغريب والسريع, الذي أصبحتُ فيه صاحب حق, في الوقت الذي كنتُ فيه قبل فترة وجيزة, أنا المتطفل الذي يجب أن يغادر.. قلت:
    - معاذ الله.. أنتم أهل الدار وليس أنا.. وقد حمَّلكم دفع الله أمانة الحفاظ عليه.. أنا الذي يجب أن يشكركم على كرمكم.. على الأقل وجدتُ المأوى بعد كوبر..
    زادت مكانتي في نظرهم.. فأسبغوا عليَّ مودة أزالت الحواجز بيننا.. ونمت مشاعر الألفة الودودة في هذا الزمن الوجيز.. وكان من الطبيعي أن يكون مركز الحديث, هو دفع الله..فلا يوجد في تلك اللحظات المتلاحقة, ما يكشف عن شيء مشترك بيننا بخلافه..
    قلت:
    - دفع الله كيف أحواله؟
    رد علىَّ ذلك الأخر, بعد تنهيدة عميقة قائلاً:
    - ماذا نقول لك؟
    بداية لا تُطمئن.. لعلها تعلن عن مصائب تكاثرت.. قلت:
    - يا ساتر.. فاتحة مخيفة!!
    وأخذ بصري يتنقل فيما بينهم الثلاثة, يستجدي خبراً مريحاً.. ومع صمت الاثنين, وزرع بصرهما في الأرض,أستمر الأخر في حديثه كمن يناجي نفسه.. بل جاءني إحساس, كأنه مريض ملاريا, طارت شدة حمتها في رأسه, فأصبح يهذي, وهو فاقد للوعي.. وجاء صوته عميقاً بعيداً, كأنما يأتي من عمق بئر سحيق.. أخذ يحدثني:
    (بقى في مكانه وبلده, ولكنه هاجر بعيداً في نفسه.. فقد الإحساس بالزمان والمكان.. أصبحت لديه عبارة واحدة يرددها.. ظن الناس أنه جُنَّ.. هو في نظر نفسه, أنه الأكثر عقلاً واتزانا.. كل ما يطلب, هو التسبيب للحالة التي وجد نفسه فيها, دون مبرر معقول.. فهل في مثل هذا الطلب البسيط غرابة أو جنون؟!!
    (كان في بداية محنته التي حصدته كالصاخة, قوياً قادراً على إمتصاصها.. لكن مع الزمن, وبقاء آثارها حية تتفاقم, وهنت مُكناته واضمحلت.. وتركز الأمر برمته في تلك العبارة, التي حلت محل أشياء كثيرة.. أموت وأعرف السبب!!
    (دفع الله, اسم تحوَّل نتيجة حب أصدقائه وزملائه, وكل من ارتبط به, إلى (أبو الدفاع) تكريماً وتعظيماً وحباً له.. فلم يعد يُعرف باسم دفع الله إلا في الأوراق الرسمية.. للدرجة التي اختفى فيها.. فصار القوم لا يعرفون إلا اسم (أبو الدفاع).. هذا الإنسان تحول في نظرهم إلى ذكرى بعيدة. رغم إنه يطالعهم صباحاً ومساءً بشحمه ولحمه..
    (بدأت الحكاية, عندما جاءه شاب لم يكمل الأربعين بعد, وطلب منه مغادرة المكتب فوراً وفي صمت!! وعندما سأله لماذا؟! رد عليه بكل عجرفة الدنيا, وصلف من ظنَّ أنه ملك هذه العاجلة, قائلاً: لا تسأل!! سلم عملك في صمت!! مُرتبك سيصلك كاملاً, وآنت جالس في بيتكم!! هل هناك أفضل من هذا؟؟ أي رد على هذا التكَّبر, أو هذه الإهانة, لن تحمد عقباه.. نظر إليه مبهوتاً وصامتاً.. ومن مفاجآت هذا الزمن المبكيات أن مرتبه لم يصل إليه إطلاقاً..
    (في الآونة الأخيرة بدأت أشياء غريبة, لا علاقة لها بما تواضع عليه الناس من قوانين وقواعد ومُثل وتقاليد.. أشياء تحدث هكذا, بقوة متخفية غير ظاهرة.. تجعل الإنسان كالمسحور.. لا يملك لها مرداً..
    (نظر (أبو الدفاع) إلى محدثه كالغريق.. فقد صادرت المفاجأة منه كل قدرة على التفكير والاتزان.. ماذا حدث في هذه الدنيا؟!.. بعد هذا الزمن, وهذه التجربة العمرية, ينتهي به الحال إلى ما يشبه الطرد, بهذا الأسلوب الذي يفتقد السلوك الإنساني, ناهيك عن عدم مراعاة الإجراءات الملزمة..
    (أبو الدفاع, فني المختبرات, كان قد تخرج ذات يوم, في كلية علوم الصحة بالخرطوم, التي سماها الإنجليز (SCHOOL OF HYGIENE).. إنه أحد تلك الدفعات التي تخرجت فيها, حينما كان التعليم في السودان تعليماً نوعياً, يلقى الاحترام من كل دول العالم, وبالذات من بلد كبريطانيا, لأنها هي التي أسست له, ووضعت قواعده.. فليس كل ما جاء به الاستعمار شراً!!
    (بُعث (أبو الدفاع) إلى جامعة ليدز ببريطانيا, وتخصص في مهنته, وعاد من هناك, كأفضل ما يكون عاِلم المختبرات.. فأحب عمله وبرز فيه, ليكون فريداً ومحبوباً.. يرجع ذلك لطبيعته ونشأته.. فقد جُبل على حب الناس, ومساعدتهم, وتآخيهم..
    (عمل في كل مناطق السودان شماله وجنوبه.. شرقه وغربه.. ثم استقر أخيراً في الخرطوم.. سكن في هذا البيت. مع صديق له يعمل معلماً للتاريخ.. قيل لنا أن علاقتهما نشأت وتوطدت في ليدز بالمملكة المتحدة..
    (وقيل لنا أيضا, أن صديقه أستاذ التاريخ اختفى ذات يوم, فجأة في ظروف غامضة.. بحث عنه (أبو الدفاع), ولم يترك حجراً في العاصمة المثلثة, إلا حاول قلبه, والبحث تحته, ولكن بلا طائل.. ومع إلحاحه وسعيه المضني, ضاقت به السلطات الأمنية, وضاق هو ذرعاً بها, وتمرد عليها, وتطاول في حديثه, واعتراضه.. فَحَّذروه, وتوعَّدوا!!
    (عندما جاءه النذير, الذي لم يكمل الأربعين, أصبح ذلك اليوم محفوراً في الذاكرة, كمنعطف تاريخي في حياته..آثر أن يجعل منه مناسبة حزينة, يحيى ذكراها كل عام.. فالواقعة قلبت دنياه الهادئة المستقرة, إلى فاقة, ما خطرت له على بال.. وبسبب هذا الوضع الجديد, قرر ألاَّ يدركها النسيان.. هكذا كان يقول لنا.. لا يريد لعذابه أن يُنسى.. أنه يبحث عن ذاكرة النسيان!!
    (من العبارات الكثيرة, التي قيلت له, وهي تتراوح بين الشدة والنعومة, عبارة أخيرة حاسمة: (هذا الكرسي الدوَّار لم يعد لك بعد اليوم).
    (ماذا حدث لك يا دنيا؟! هي النوازل التي ألمت بكل شيء: الحجر والشجر والإنسان!! لا يهمه الكرسي الدوار, ولم يحفل به يوماً.. ما كان من طموحاته.. الصدمة, المفاجأة الماحقة.. أخذ يتصرف كالأعمى, يتخبط هنا وهناك.. لملم أشياءه البسيطة, وغادر كالمغشي عليه..
    (جاء للمرفق سادته الجدد.. وأدركه العطب بعد حين.. وتسيَّدت الملاريا.. لا يهم, يموت من يموت, ويعيش من يعيش. إستخف السادة الجدد الناس, فأطاعوهم!! ما هكذا كنا..
    (نشأت في بادئ الأمر حالات إرباك وتوتر.. وغابت الحقيقة.. أو بالأحرى لم يجاهر أحد بقولها.. بعض البسطاء الذين افتقدوا (أبو الدفاع) فسر الظاهرة, بأنها حالة انتقام من السماء, لأن (أبو الدفاع) مرفوع عنه الحجاب.. كيف لا, وهو مركز هذا الحب من بسطاء الناس؟! ثم لماذا لا يكون كذلك, وقد ظهر هذا الغضب الإلهي بعد طرده مباشرة؟! البعض الأخر من الناس, أرجع الحالة إلى رغبة السادة الجدد في تنفيذ مخطط, لم تظهر معالمه الحقيقية بعد..
    (كانت أخبار (أبو الدفاع) تأتي إلينا متقطعة.. وكلها كانت لا تسُّر.. بعضهم قال لنا, أنه أصبح كالصوفي الزاهد.. وبعضهم رأى تحولاً في سلوكه, لم يألفه فيه من قبل, واتهمه بعلاقة مع جماعة سرية, تخطط لقلب النظام.. والبعض الأخر, خالف الجميع, ليرميه بالجنون..
    (كل هذا الذي قيل, كان مدعاة لحضورنا من المناطق التي كنا فيها.. كل واحد منا, جاء من وجهته.. من الشرق ومن الغرب, ومن الجنوب.. لم نتفق ولم نرتب هذا الحضور.. وإنما جاء صدفة, والتقينا ها هنا.. في هذا البيت..
    (وجدنا (أبو الدفاع) شخصاً أخر, دائم الصمت, وغير ميال لأي حديث.. أجرى الزمن خطوطه الأزلية على صفحة وجهه, وهيكل قامته.. إن تحدث, لا يريد أن يخوض فيه, إلا عن صديقه أستاذ التاريخ الذي اختفى وغاب, وتركه وحده لعوادي الزمن.. وحتى في هذا لا يطيل الوقوف عنده, وإنما يعبره سريعاً في إشارات تلغرافية موحية, ثم يثب إلى جملة استفهامية, لا يمَّل من ترديدها, أموت وأعرف السبب؟! وغالباًَ ما ينتهي به الحال بعدها, ليفتح غرفة صديقه المختفي والغائب, ويجلس فيها الساعات الطوال..
    (كنا في أيامنا الأولى نعرض عليه أن يذهب مع أي منا, والرزق على الله.. بل إنني عرضت عليه عرضاً مجزياً, للعمل في تنزانيا مع منظمة دولية, في العاصمة دار السلام, ولكنه رفض كل العروض التي قُدمت إليه.. وقال (لمن اترك هذا البلد).. استفزتني عبارته, فثرت فيه.. هل أنت أحسن من سودانيي الشتات, في مشارق الأرض ومغاربها؟.. رد عليَّ ببرود وقال (لا) بكل بساطة.. ولكني أعرف أن القضية لا تعالج هكذا!! ولم يزد..
    (صبرنا عليه, وآثرنا البقاء, لأننا كالآخرين لم نره طبيعياً.. لا يمكن ان تقول عنه, أنه جُنَّ, ولكن غير مقبول أن تقول أنه من العقلاء!! ولا يجوز أن تصفه بالتصَّوف والزهد, لأنه في المرات القليلة التي يحدثك فيها, تلمس أن له قضية دنيوية عميقة!! هل يعمل في منظمة سرية؟! هذا ما لا نقطع به, لأننا لم نلمس من الشواهد الأخرى, ما يعزز هذا الظن..
    (كنا في حيرة من أمرنا, ماذا نفعل؟؟ هو بلا شك أحس بحيرتنا, فأخذ يتغيب عن البيت.. في البداية كانت الغيبة لفترات قصيرة, ثم أخذت تطول شيئاً فشيئاً, كأنما كان يقول لنا, بطريق غير مباشر, عودوا من حيث أتيتم.. بل قالها لنا يوماً صراحة!! وفي الآونة الأخيرة إمتد الزمن بغيبته, بما يجعله غياباً غير مألوف, ويصعب السكوت عليه.. لكن ما العمل.. لايزال الأمل يحدونا, بأن يظهر فجأة, وقد حدث من قبل.. بعد عودتك, أشعر أن الأمل في مجيئه قد تضاعف.. فإن عرف أنك ظهرت, فهذا سيحدث فيه تحولاً كبيراً.. وقد يعود إلى سيرته الأولى.. من يدري؟ ربما!!)
    وصمت محدثي, كأنما تيار كلامه قد انقطع.. نظر إلىَّ مستجدياً.. ما العمل؟! لم يقلها, وإنما قرأتها في عينيه.. أدرت بصري بينهم, ثم قلت:
    - هذا زمن الضياع!! سنصبح يوماً, ولن نجد السودان على خارطة الدنيا!!

    .............................

                  

10-14-2010, 09:45 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الكُراســـة (1)

    واقع الأمر أنا خارج كوبر, إذن أنا موجود.. عدتُ للحياة من جديد.. إنه المنفى الذي لا يرحم, ومع ذلك صبرنا على العذاب وتحملناه.. كيف لا أدري؟ فقد عُزلنا عن العالم تماماً.. لا علم لنا بما يجري في السودان وخارجه.. تكرم المأمور, وفرض علينا حصاراً من كل المنافذ, لنكون بعيدين عن الصحف والتلفزيون والراديو, وآي وسيلة اتصال أخرى.. يبدو ان سعادة وفرح الرئيس في عذابنا!!
    ونتيجة لتلك العزلة فإن ما سمعته عن (أبو الدفاع) كان يتوافق معها.. غابت عني الدنيا وما يعتمل فيها من تصاريف الدهر وتقلباته. انتابني شعور أن من هو خارج كوبر لا يختلف كثيراً عن من هم داخله..
    نمت بيني وبين أقارب (أبو الدفاع) الثلاثة, علاقة ألفة سريعة تجذرت من فورها, كأنها من سنوات خلت.. لقد أدرك ثلاثتهم مدى ارتباطي بـ (أبو الدفاع), من خلال حديثه عني, ومن واقع مجيئي إلى هنا مباشرة من كوبر.. لفت انتباههم بلا شك عمق إصغائي لما كنت أسمع.. ويبدو أن تقلصات وجهي, واتجاهات نظري, وحركات يديَّ كانت جميعها تبعث بإشارات, ذات دلالة من هول ما يُقال..
    (أبو الدفاع) الرجل الهادئ المتزن المثقف العاقل, يحدث له كل ذلك, بلا جريرة إجترحها.. إنه أمر يورث غبينة الانتقام.. ما حدث له, يشابه إلى حد بعيد ما حدث لي, مع فارق في درجة العقاب.. ولكنه يتناسب مع العلاقة التي تربطنا, ليصبح مصيرنا معاً مصيراً واحداً.. معناه الكبير, التشريد!!..
    جلستُ صامتاً, فترة من الوقت.. لم يكن لديَّ ما أقوله.. شعرتُ كأنني رجعتُ لكوبر مرة أخرى.. فالدنيا خارج الحبس, بلا (أبو الدفاع) حبس أخر, أشد مرارة من حبس الجدران.. تمنيتُ أن أقفل راجعاً إلى معتقلي, ولا أخرج منه, كي لا أقابل زمناً أخر بلا صديق عمري.. كان هذا البيت هو ما شكل أحلام مناماتي ويقظاتي, على مدى تلك السنوات الطوال.. والآن يظل العذاب مستمراً.. هي اللعنة إذن!!
    عندما طال صمتي وحيرتي, قدم لي (الآخر) من أقارب (أبو الدفاع) نفسه قائلاً:
    - أنا اسمي عيسى..
    ثم أشار إلى الشخص الذي قابلني أول مرة وقال:
    - هذا محمود..
    ونقل بصره إلى الثالث وعَّرفه قائلاً:
    - وهذا عمر
    وختم حديثه مؤكداً:
    - كلنا أقارب (أبو الدفاع) التقينا هنا, في بيتكم هذا, بعد أن فرَّقت بيننا سبل الحياة, وظروف المعايش, وحال بلدنا, لسنوات طويلة مضت..
    نظرتُ إليهم كأنني أبحث عن (أبو الدفاع) في عيونهم.. وفي لمح البصر عقدتُ مقارنات سريعة, لأصل إلى درجة الشبه بين كل منهم و(أبو الدفاع),فقلت:
    - أهلاً.. أنا سعيد بكم وبمعرفتكم, و..
    وقبل أن أواصل عبارتي التالية في الحديث, قال عمر:
    - يا أستاذ!! نرجو مساعدتنا, ليترك صديقك هذه المدينة, ويذهب معنا.. لهذا جاء كل واحد منا.. ولا هدف له إلا هذا!!
    فاجأني هذا الكلام, فقلت:
    - لماذا؟! في المدينة العشرات مثله.. وأنا نفسي كمثال, ومع ذلك, علينا أن نعالج أمورنا دون هروب.. ومن المؤكد سنجد طريقاً ما.. ولن نموت إلا بقامة منصوبة كنخلة..
    تململ عيسى في جلسته قليلاً.. فهو فيما يبدو لي, لا يريد أن يسمع أي حديث يعيق مغادرة قريبهم لهذه المدينة, وبأي شكل.. فقال:
    - صديقك, كما رأيناه, وعشنا معه بعض الوقت, في وضع حرج,نخاف أن يتطور لما هو أسوأ.. نراه شارد الذهن دائماً, كأنما يعيش في عالم أخر غير عالمنا.. لا يشعرنا بأنه بيننا.. مؤكد هذه علة مرضية.. لماذا لا يحترم حضورنا إليه؟
    لم يشأ عيسى أن يفصح, عن ماهية هذا الوضع المحرج بأزيد من تلك الكلمات الغامضات.. لم يشأ الإفصاح بما هو أوضح ليشركني معه في التفكير, وتقييم الوضع.. فآثر أن يكون كلامه عاماً, غامضاً بعض الشيء.. إنهم لا يعرفون أنه يمثل الجانب الآخر من حياتي التي عادت ليَ.. و(أبو الدفاع) نفسه حينما يراني ويجدني في هذا البيت, سيصبح شخصاً أخر, بخلاف ما رأوه, إن كان الذي قيل صحيحاً..
    قلت وأنا أنهي هذا الحوار برقة ومودة:
    - ربنا يجيبو بالسلامة.. وبعدها كل شيء سهل..
    وصلت الرسالة الرقيقة إليهم فقال محمود:
    - أنت منهك بلا شك, وتحتاج لقسط من الراحة.. وعلينا ان نهيئ لك ذلك..
    افتقدتُ غرفتي الأليفة, دون جدال.. كم أنا في شوق إليها لو تعلمون.. لو فتحتم قلبي لوجدتموها هناك.. أتذكر أخر لحظة خرجتُ منها ولم أعد إليها بعدها.. (أبو الدفاع) قطعاً أنهكه غيابي المفاجئ. لا يعرف عني شيئاً.. ولا أنا نفسي أعرف, لماذا حدث لي ذلك.. زمن الغموض المريع.. والقسوة التي لا تشبه سلوكنا وخُلقنا.. هبط علينا خفاش ناقم, لا ندري من أين جاء؟!
    واصل محمود حديثه..
    - غرفتك جاهزة.. لكن أين المفتاح؟؟ هل معك؟؟ مفتاحها هو المفتاح الوحيد الذي أعتاد صديقك أن يأخذه معه, دون المفاتيح الأخرى!!
    أشعر أنني في حاجة إلى نوم عميق.. هذا ما أعرفه الآن.. آما المفتاح فلا أعرف عنه شيئاً.. فقدتُ ما أملك من الساعة التي فتح فيها كوبر أبوابه لي لأكون في أحشائه.. ربما المفتاح ضاع مع أشياء كثيرة ضاعت.. لقد ضاع عمري, فما قيمة ما يضيع من بعد ذلك؟!
    نظرتُ إلى محمود مبتسماً, وقلت:
    - الحمد لله أن الغرفة ظلت في مكانها موجودة, ولم تختف, كما اختفت أشياء كثيرة!! نكسر الباب..
    في هذه الأثناء جاءني عمر بظرف مغلق عليه عبارة (تسلم للأستاذ حين عودته), وقال:
    - (أبو الدفاع) قبل فترة إعطاني هذا الظرف, وطلب مني أن أسلمه لك لو عدت.. أخذتُ منه الظرف, دون أن أعلق..فقد بدا لي سلوكه غريباً.. ولكني لم أسأله, لماذا لا يسلمه هو إليك, وأنا الغريب الذي لا يعرفك, ووجودي هنا وجود عرضي؟! قد أكون اليوم موجوداً, وغداً بالقطع غير موجود.. ولكني الآن أجده على صواب.. أنا الموجود الساعة, كأنما فيه شيء لله.. فقد صدق توقعه.. قال لي أيضاً, إذا جاء ميعاد رحيلك, لأي سبب كان, ولم يحضر الأستاذ, فخذ الظرف وأحفظه معك, ولم يزد عن هذا الكلام..
    أخذتُ منه الظرف شاكراً, واتجهتُ إلى غرفتي التي قام محمود بكسر بابها المتهالك.. دخلتها.. ياإلهي!! هي نفسها التي تركتها بالأمس قبل كوبر في ذلك الصباح الذي أنهى كل شيء.. يقدح وميض الذاكرة إلى وهج مكتمل النور والإضاءة, كأني لم أغب عنها بالأمس البعيد.. رائحتها هي ذاتها, رائحة الأرض المرشوشة بالماء.. والرطوبة الطرية, هي ذاتها الرطوبة التي تخفف من نهارات الخرطوم القائظة.. والترتيب هو الترتيب الذي تركته, بفوضويته التي تتبعثر فيها الأشياء هنا وهناك..
    قيل أن (أبو الدفاع) كان يدخلها, ويجلس فيها الساعات الطوال.. يبدو أنه كان يجلس في مكان واحد لا يغيره.. ربما على تلك الطاولة التي تزدحم بكتب التاريخ.. ترك كل شيء كما هو, دون أن يحركه من مكانه, أو يعدل من ترتيبه,أو يعيد تنظيمه, كأنما كان يريد أن يستحضر وجودي, من خلال ذلك الوضع الذي تركتُ فيه هذا المكان..
    انعكس الحال الآن, فأنا أستلهم وجوده في ذات الغرفة, من خلال الوضع الذي تركه هو عليها.. إنه الوجود المتعاظم بالفقد.. الوجود الذي تتجسد فيه الذكريات مريرة وقاسية, لأيام خلت, ولن تعود.. إحساسي بالعمر الذي ينزوي ويتناقص, يخلف في أعماقي حالات من اليأس, لم أعرفها من قبل.. وكيف أعرفها وأنا المحب للدنيا؟.. الفرح الذي اعتلاني عندما غادرت كوبر, تلاشى الآن.. يبدو أن الأحزان ستظل مرافقة لنا كجلودنا التي لا نملك مُكنه الانسلاخ منها..
    آثر أقرباء (أبو الدفاع) تركي وحيداً, لأخذ قسطاً من الراحة.. كنتُ فعلاً في حاجة لأن أخلو إلى نفسي, وأفكر في مصيري القادم.. كيف سأواجه مقبلات الأيام, في ظل ظروفي الجديدة؟
    تمددتُ على ذات السرير, الذي كنت قد اعتدتُ عليه.. حتى عاداتنا البسيطة التلقائية, أضحت الآن تشكل منابع عميقة للذكريات.. كل شيء قديم حتى وان كان ########اً أصبح عندنا من الزمن الجميل.. تخيل, مجرد الإسترخاء على سرير كنتُ قد ألفته, يزحم وجدانك بدفقات متلاحقة من الحنين.. ويملأك بممارسات كنت تعتبرها عرضية, ومن الهوامش, فاذا بها تتدافع مرة واحدة, مؤكدة أنها كانت أصيلة ولها جذور فيك.. بل هي جزء من جوهر وجودك!!
    أخذتُ أعيد شريط حياتي التي مضت في كوبر.. ثورتي على وجبة من الوجبات.. حبسي الإنفرادي, مباريات كرة القدم, ومساءات الندوات والغناء والمرح.. ثم الزيارة المشهورة, والمأمور, وتبدل الحال, والحرمان من أبسط ما يحفظ للإنسان أدميته.. الحفرة التي تحولت إلى مستنقع.. مباني السجن الجديد.. مجموعة بعوضه.. طلوع الروح الذي يتزامن مع طلوع الفجر.. رحيل الفتى مساعد, وموت الآخرين, الذي لم يحرك ساكناً, في بلد حسبت أن الصيحة قد أدركته..
    بحثتُ عن النوم, فلم أجده, رغم أنه كان يداعبني منذ لحظات.. عندما تهيأتُ له, تلاشى وضاع, كما ضاعت أشياء جميلة من النفس والروح.. تذكرتُ الظرف, فأصبحت يقظاً, كامل النشاط والقوة..
    فتحتُه.. وجدتُ داخله كراسة ذات غلاف أحمر.. اعتدلتُ في جلستي.. فتحتُها..جاءتني صفحتها الأولى تتصدر شعراً لصلاح أحمد إبراهيم..
    يا ذكيَّ العود بالمطرقة الصماء والفأس تشظى
    وبنيران لها ألف لسان تتلظى
    ضع على ضوئك في الناس اصطباراً ومآثر
    مثلما ضوَّع في الأهوال صبراً آل ياسر
    فلئن كنت كما أنت عبق, فاحترق!!
    ....
    يا منايا حوَّمي حول الحمى واستعرضينا وأصطفي
    كل سمح النفس, بسام العشياتِ الوفي
    الحليم, العف, كالأنسام روحاً وعطايا
    فإذا لاقاكِ بالباب بشوشاً وحفي
    بضمير ككتاب الله طاهر
    أنشبي الأظفار في أك########ِ واختطفي
    وأمان الله منا يا منايا
    كلما اشتقتِ لميمون المُحيا ذي البشائر
    شرفي
    تجدينا مثلاً في الناس سائر
    نقهر الموت حياةً ومصائرْ
    شدني الشعر الجميل.. وأنا أعلم حب (أبو الدفاع) لصلاح, وهيامه بشعره ونثره, ومعاركه السياسية, وجسارته في أن يقف فرداً في الساحة شامخاً.. كان أمة وحده!!..
    وفي الصفحة التالية وجدتُه يناجيني في حزن عميق.. شعرتُ كأنما يرثيني.. أخذ يتمثل روحي, ويدير حواراً بيننا, هو أشبه بدنياه الداخلية بكل ما يعتمل فيها, دون تحفظ.. كتب:
    اختفيت يا صديقي فجأة, وبلا مقدمات تستدعي ذلك.. ودون أسباب.. سألت عنك طوب الأرض, لأعرف مكانك, ولكن كانت كل محاولاتي تنتهي إلى شيء غامض, ثم أكثر غموضاً..صرتُ كمن هو في رمال متحركة.. كل محاولة وحركة للخروج والنجاة, تعيدني جذباً إلى أسفل.. تمردتُ وثرتُ ولعنتُ, فاتهمت في إخلاصي ووطنيتي, وانتهى بي الأمر إلى الشارع.. وجدتُ الشارع يكتظ بالكُثر مثلي.. هناك أمر خطأ!! شيء غير طبيعي هبط علينا كدخان بركاني كثيف, فحجب عنا الرؤيا.. تناولني اليأس, كما تناول الملايين.. ورغم ذلك ظلْتُ على يقين بعودتك يوماً, لتدخل هذه الغرفة, وتجلس في هذا المكان..
    بدأ الفراغ مع الفاقة والإهمال, يقودني, لأغوص في ذكرياتي متأملاً وناقماً.. تذكرتُ قريبك فرحات.. ذلك الرجل المُبهج العاشق للتاريخ وقصصه.. إنه يملأ عليَّ الآن هذه الغرفة.. أكاد ألمسه, وأراه رؤية العين, في ذلك الركن الذي اعتاد أن يأخذ موقعه فيه, جاذباً كرسي الخيزران بحركة سريعة, وهو لا يكف عن الحديث, حتى يجلس عليه.. ويصيح بعدها وقد أنهى حديثه بسؤال أطلقه في الهواء..
    أتذكر ذلك يا صديقي؟ أظنك لا تنسى تلك المشاهد.. وقريبك فرحات شخصية لا تنسى.. يتمتع بشباب دائم, رغم سنواته المدبرة التي تركت أثرها على سحنته.. رجل حكاء ممتع.. أتذْكُر؟! لقد قلتُ لك يوماً, أن فرحات هذا كان مشروع قاصّ متمكن من أدواته, لو فطن إلى موهبته التي نسيها, فنسيته..
    في غمرة تداعي أحزاني, سطع فرحات يحكي لنا مغامرات شبابه عندما بُعث إلى الإتحاد السوفيتي.. له ملكة مؤثرة في التشويق, ونسج الحكاية, واختيار الكلمات التي لا تبرحك, حتى تترك أثرها فيك, وتفعل في أحاسيسك الأفاعيل التي رمى إليها.. يومها تركنا شواغلنا وجلسنا نستمع.. لعلك الآن تذكرت فتاة قطار محطة موسكو..أخالك ترد علىَّ: وهل هي تنسى؟!.. فرحات ذهب من الخرطوم إلى هناك.. فقير من كل شيء إلا من فحولته, وشيء من الدريهمات الأمريكية.. وبعد أن جاس خلال الديار, وعرف مظانها, تنفس في داخله قريبه مصطفى سعيد.. ولكنه على خلافه, جاء غازياً بحُب.. لا حقد يضمره لهذه الديار, إذ لم تورثه ضغينة, ليحقد وينتقم.. هذا البياض الثلجي, حرك فيه نوازع جده عمر بن أبي ربيعه, فأخذ ينشد:
    سلام عليها إن أرادت سلامنا

    وإن، لم ترد فالسلام على أخرى

    جاء إلى محطة القطار, قاصداً أصدقاءه في مدينة تبعد عن موسكو مسافة تستغرق إثنتى عشرة ساعة.. صحب معه حقيبة محمَّلة بأنواع خمور شتى.. وجد قمرته, ووضع أشياءه, ثم ترجل ثانية من القطار, ووقف على الرصيف, يرقب تصرفات الناس, وتحركاتهم.. له فهم خاص في دراسة البشر.. إنه يعتقد أن محطات القطارات, من الأماكن التي تتيح لك معرفة شعب معين, والإلمام بثقافته..
    رغم زحمة المحطة, وكثرة روادها, إلا أن بصره وقع عليها هي وحدها.. وركز عليها بعين صقر.. قامة متمددة, وصدر طافح كالمياه العميقة, ووجه كالبدر المكتمل, سبحان المبدع.. وشعر بني غامق قليلاً, تركته مضفوراً في خصلة واحدة, ملفوفة عدة لفات حول الرأس كالتاج.. يسير إلى جانبها ضابط مهيب جميل المُحيا, يحمل حقيبة.. الرصيف طويل, وهو يتابعهما منذ أن دخلا المحطة, وحركة سيرهما تتجه إليه.. قال في نفسه, هل تبتسم أيامي يوماً, ويكون لي مثل هذا الفرس الجموح؟! مجرد إحساس داعبه لهنيهة ثم توارى..
    أمام عربته وقفا.. دار بينهما حديث لبعض الوقت, ثم ودعها بقبلة سريعة وقفل راجعاً من حيث أتى.. فأخذت هي الحقيبة, ودخلت العربة تبحث عن مكانها.. وعينا الصقر يتابعان, بحرص وحذر.. وقفت أمام قمرته, تراجع تذكرتها, ويا للمفاجأة, حين فتحت الباب ودخلت!! خفق قلبه سريعاً, حتى كاد يقفز من صدره.. أي قدر تخبئه هذه الليلة.. فالقمرة مخصصة لشخصين فقط..
    تحرك القطار في الثامنة مساءً. في مواعيده المحددة.. ركب عند تحركه, وظل مراقباً من النافذة, ليتأكد أن الضابط لن يركب القطار, ليتمتع بوهمه الذي حركه خياله المبدع.. ظل شاخصاً في مكان مراقبته, حتى إختفى الرصيف تماماً, واعتدل القطار في سرعته.. بعدها أخذ نفساً عميقاً, ودخل القمرة في إطمئنان.. وبلغة روسية متقنة سلم وجلس..
    في هذه الأثناء, دخلت المرأة المفتش, لتراجع الركاب وتذاكرهم.. وبعد أن إطمأنت على صحة الوضع. وضحت بعض التعليمات والإرشادات, والطريقة التي تتم بها الطلبات من البوفيه..
    كانت المفتشة امرأة في الخمسين تقريباً, ممتلئة, ذات وجه صبوح ضاحك, بعيدة عن أية صرامة معهودة في من هم في مهنتها.. استقبلها فرحات بمرحه المعهود, ثم ألهمه خياله إلى كرمه الشرقي, فأوقفها وفتح حقيبته المشحونة بالوسكي والكنياك والجن والفودكا والبولص.. وقصد أن يكون هذا الاستعراض أمام رفيقته التي شكَّلها إلى حورية في وهمه وخياله.. فأعطى المفتشة قنينة شيفاز تلهب الرغبات..
    شاهدت الحورية الاستعراض, ثم تحركت للحمام الملحق بالقمرة لبعض شؤونها.. وحينما أصبح لوحده مع المفتشة, همست له بخبث ضاحكه (هذه ليلة فريدة فلا تفلت منك) إنها من أهلها وتدعونني إلى مائدة شهية, كأنما تقف على جوع من يأتون من خط الاستواء أمثالي.. وإنني في مثل هذه الموائد لقوي جوَّال.. هكذا حدثته نفسه.. وانتظر قدومها, بعد أن أصبحا لوحدهما في القمرة, والليل يقبل عليهما بأجنحة الستر والخصوصية..
    جاءت الحورية ترتدي قميصاً واسعاً بعض الشيء.. آه!! لقد استبدلت ملابسها التي كانت عليها, إستعداداً لليل القطار الذي يطول.. طفق فرحات يتابعها بعيني صقر, ولكن, بطريقة يتظاهر فيها, بأنه مشغول ببعض أموره.. بيد أني أظن, إنها بإحساس المرأة الغريزي قد كشفته.. فهو غير مستور الحال مع النساء..
    من خلال متابعاته المتلصصة, تأكد أنها ذات جسم ممتلئ باتزان, يعجب ذوقه العربي الإفريقي.. فكانت حركاتها العفوية, تبرز تلك المفاتن المختبئة, عند ملامستها لقميصها الوردي..
    أسعفه خياله في أن يبدو كريماً.. فلِمَ لا؟! فقد رأته يعطي المفتشة قارورة شيفاز, لها مدلولها لدى هؤلاء القوم.. قال:
    - آنستي, أريد أن أطلب عشاءً, فهل تأذني بأن أطلب لك معي؟؟
    لعله مدخل موفق!! قالت ووجه البدر تكسوه إبتسامة, هطلت مطراً في أعماقه الإستوائية:
    - أولاً أنا سيدة.. وثانياً, لدينا عشاء, فلا داعي للطلب..
    بدأ الحوار يفتح منافذ الأسباب, فأناخ بعيره وتوكل.. قال:
    - معنى ذلك اطلب عشاءً لنفسي فقط..
    قالت, وابتسامتها لا تزال مرسومة على الثغر الذي يقطرُ شهداً:
    - لا... عشاؤك معي!!
    يا إلهي.. ما هذه المصادفات الطيبات؟؟ إنها إقامة ستطول.. قال:
    - وأنا سأقدم ما عندي..
    سحب حقيبته.. فتحها من الحد للحد, فظهرت الأحشاء الغنية بكل نوع ولون.. انتشت أوهامه وربت, فأنشد بصوت مسموع, بيتاً من شعر المتنبئ عاكساً كلمة قافيته:
    (إذا أردت كُميت اللون صافية

    وجدتها وحبيب النفس موجود)

    إندهشت لهذه اللغة التي لا تعرفها, ولم تسمعها من قبل.. ربما من وهلتها الأولى التي رأته فيها, اعتبرته زنجياً أمريكياً.. أما وقد جاء بلغة جديدة عليها, فإن هذا ما يثير الفضول.. فمن أي بلد هو؟!
    أخرج قارورة (البولص) وقدمها إليها.. فقد عرَّفته الأيام في موسكو أن هذا النوع, له سحره عند الفتيات.. ومفعوله عظيم الرجاء.. إتسعت إبتسامتها وبدت عليها سعادة حملتها إلى أودية أندلسية.. أما هو فقد أخرج زجاجة (نابليون) وقال لها ضاحكاً:
    - إني أفضل هذا النوع..
    ثم شرح لها أسباب تفضيله لهذا (الكُنياك).. إنه يماثل إلى حد كبير عرقي البلح, الذي كان يحرص على جلْبه من قريته في الشمالية.. وأفاض بأنه يفتح الشهية ولا يورث الخمول في اليوم التالي..
    سألته بعد أن حسـت كأسها الأولى:
    - من أي بلد أنت؟
    لايهم يا سيدتي من أي بلاد الدنيا أنا.. فالمهم عندي أن يكون (البولص) عظيماً في هذه الليلة, كما عهدته في ليالٍ خلت.. أجابها بعد أن حسا كأسين متتابعين:
    - أنا يا سيدتي من بلد اسمه السودان.. هل سمعتِ به؟
    أجابت ضاحكة:
    - لا.. في أي مكان.. في أي قارة؟
    كما هو الغالب المرجح.. بلد مجهول, وأناس مجهولون.. لا يهم!! ولكنها ستعرفني إن صدقت أوهامي.. قال:
    - بلد في قارة أفريقيا, وجزء من العالم العربي في هذه القارة..
    قالت جادة:
    - سمعت بأسماء قادة مثل عبد الناصر ونكروما ونايريري ولوممبا.. إنني آسفة على ضحالة معلوماتي, وثقافتي المتواضعة..
    لا يهم عندي.. والمهم أن يطول الحوار, وأنال المراد.. ويكفيني فخراً أنني كنت الفارس الذي عرَّفك بأن في الدنيا بلداً اسمه السودان.. قالت في رقة ظاهرة:
    - اسمي أولجا..
    - اسمي فرحات..
    - لكن ألاحظ أنك تتكلم لغتنا بطلاقة..
    السبب للبارقات البيض, في لون ثلج سيبريا.. والتواقات لشمس استوائية متلهفة.. قال:
    - درست لغتكم في الجامعة, وجوَّدتها عندما قدمت إلى بلدكم.. أنها لغة تلستوى ودستوفسكي والشاعر العظيم فلاديمير مايكوفسكي.. إن اللغة الروسية لغة جميلة لمن ينفذ إلى روحها..
    حرصتُ في هذه اللحظة أن أبيع ثقافتي إليها, فأنشدت:
    ومحدثو النعمة والتجار
    يغيرَّون طابع المدينة
    بأوجه عابسة مهددة
    وفي الشفاه
    ينحل جسم الكلمات الميته
    لم تبق إلا كلمتان تسمنان
    إحداهما (الآوغاد)!
    وأختها الأخرى أظنها (الحساء)
    صاحت من الفرح:
    - هذا مايكوفسكي العظيم.. أنها قصيدته الرباعية (غيمة ترتدي بنطلوناً) أنت جميل!!
    أعجبها قولي وإنشادي فانتشت.. لعلي كنتُ موفقاً في (البولص) وشعر مايكوفسكي.. فأخذتُ أحدثها عن هذا الشاعر العملاق, حينما ظهر لي عشقها له.. فاستدعيت حديث صديقي (عبد الرحيم أبو ذكرى)عنه فقلت:
    - أنه مثقف غير هياب, شجاع وصادق وصاحب مبادئ وقيمَّ.. هاجم النخبة وهاجم الحُب السلعة.. هاجم الطواغيت والفن القديم.. وتحدى متطاولاً على جوته وتلستوي وبوشكين..
    تألق وجهها البدري, لحديث هذا الزنجي الذي هب عليها بريحه الاستوائية الدافئة.. وكانا قد قطعا شوطاً في إحتساء كُميت اللون.. وبفضلها إنطلق لسانها وازدادت ألفة به.. وفجأة انتبهت من بين حديثها إلى صمته وعينيه المغلقتين.. فحسبته نائماً فقالت:
    - هل نمت؟!
    رد من فوره:
    - لا!!
    ثم ضاحكاً:
    - وكيف أنام؟!
    قالت:
    - لماذا إذن أغلقت عينيك, وسرحت مع أحلامك؟!
    قال:
    - أإذا صدقتك القول ألا تغضبين؟
    قالت:
    - نعم... ولِمَ أغضب؟!
    قال:
    - كانت ظلمة عينيَّ مضيئة ومبهرة.. فقد جردك خيالي الشقي من ثيابك تماماً, ورآك كما يشتهي!!
    ابتسمت في دلال ظاهر.. فقد أدى (البولص) دوره المنتظر, وشاركه (نابليون) في هذا الاحتفال الذي ظهرت طلائعه..
    قامت الفارعة الشامخة, كشجرة مليئة الثمار, بعد أن أفرغت كأسها في رشفة متآنية متمهلة, وغابت في الحمام الملحق بالقمرة بعض الوقت, ثم طلَّت!!
    سبحان الذي أبدع كل شيء خلقه.. إنه واقع أكثر كثافة وحضوراً, من خيال فرحات الجامح في المستحيلات.. أيعقل ما يرى بعيني رأسه, أم هي رؤى مستحيلة إبتدعها (نابليون) بسحره الجميل؟!
    جاءته كما فعل خياله الشقي.. البياض الثلجي, كما فطره أحسن الخالقين.. أزاحت تاج ضفيرة الشعر الكثيف, التي كانت ملفوفة حول الرأس, وجعلتها تنسدل نازلة في خصلتين كبيرتين من الأمام ومن الخلف, فستر الشعر البني المحروق, سر الأسرار!!
    قالت في وهج يضيء كونه:
    - أهكذا يراني خيالك؟!
    ألجمته المفاجأة..فأخذ يتملى في هذه التحفة الإلهية!! فقال:
    - أنت أعظم من خيالي الشقي.. فقد كان عاجزاً عن أن يصل إلى هذا الثراء الأكثر عمقاً.. لأول مرة في حياتي أقف على واقع تفوق الحقيقة فيه الخيال.. ولو سمعت لأنكرت!! ولكني أشهد بما رأيت!!
    فأخذ ينشد:
    الثلج في السهوب
    الوقت ليل والسكون يمسك الخطى
    ويخلب الألباب
    وفي دخيلتى شيء يقول:
    لا تمش! قف بلا حراك!
    أقبلت عليه, وكل خلجة من جسدها تهتز.. فقبلته قبلة طويلة, ثم قالت وهي تتعلق بكتفيه:
    - إنك يا صُدفتي الجميلة, تنشد مطلع قصيدة (في الساعة الخامسة والعشرين) لشاعرنا (ايجور إيسايف), ما أعظمك!!
    إنك أنت الكاملة عقلاً وروحاً وجسداً.. أنت صُدفتي النادرة.. فأي حظ هذا الذي وهبتني له السماء, في هذه الليلة؟ ومن يصدقني؟ سيرمونني بالكذب واللعنة.. ومهما أقسمت, فلن أكون في نظر قومي إلا مخادعاً مخاتلاً.. لا يهم, فأنا من الشرق الذي يعيش على الخيال, والقص الخرافي.. وهذه ليلة من ألف ليلة وليلة.. أعيشها حتى الثُمالة.. فقد أتينا معاً في هذه الليلة من ليالي السحر الشرقي, على زجاجتي (بولص) و (نابليون), فازددنا ألقاً.. وانصهرت ثلوج سبيريا البيضاء بالشموس الإستوائية, فسالت أودية راببة.. وابتهج معنا الكرى, فكان كريماً في وداعه حتى لا يثقل علينا, فاحترمناه.. وتضرَّعنا للشمس ألاَّ تعود.. وللقطار ألاَّ يصل.. تجسد الزمن كله في هذه الأمسية السحرية, فنسينا العالم إلا أن نكون معاً, كتله من اللذاذات, وسر الوجود..
    حين وصل القطار إلى محطة ليننقراد, وهي محطتها النهائية, كانت الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي, ولا يزال العناق مستمراً, لكن آن له أن يكف.. توادعا على آمل اللقاء.. وعلى الرصيف قابل المفتشة, فابتسما لبعضهما ابتسامة ذات معنى.. ومن بعد تلك الليلة الليلاء ظل فرحات يبحث عن أولجا, حتى جاء إلى الخرطوم.. ولكن هيهات!!
    هذا يا صديقي قريبك فرحات, وحكاية من حكاياته. أتذْكُر؟ لقد ظل يحكيها لنا مراراً ودون أن نمل, وبسرد يتلوَّن, وطرق تتداخل, ولكنها في كل مره تظل جديدة وممتعة.. إنه شيق الحديث, ممتع الكلم, وفير الخيال, متعدد المنابع.. واسع الثقافة.. ومع ذلك فإن الحياة عنده ضحكة كبيرة, أكذوبة يسخر منها كما هي تسخر منه.. ومهما كان, فإن الفرح لا يفارقه.. ألا يسمى فرحات؟!
    ولا أدري يا صديقي لماذا أخترتُ هذه الحكاية لأدونها في هذه الكراسة دون حكاياه الأخرى ومغامراته؟ أهي جاءت هكذا, عفو الخاطر؟ أم أن منطقاً قدرياً ساقني, ليكون التدوين مقارنة بين خطاياه, وفسوق من هبط علينا كدخان بركاني ثقيل الضباب؟
    تشاء الأقدار أيضاً, أن يكون فرحات هو جسم التجربة التي تبرز حجم الفجور عند المقارنة..
    ففي يوم من أيام غيبتك الغامضة, جاءني فرحات محمولاً, محطم الجسد والروح.. هدته السنون, كأنما تضاعف عمره فجأة, وفي غفلة منا جميعاً.. وضح لي أن المرض نال منه وتمكن.. يغيب لحظات في غيبوبة متقطعة, ثم يفيق.. أجريتُ له الفحوصات اللازمة, وأخذته سريعاً إلى الطبيب.. قال إنه في مرحلة أخيرة من قرحة انفجرت, فسممت الجسم, وأحدثت هذا التورم في البطن, وبقية الأعضاء..
    حدثني فرحات عندما جاءني, وبصوت واهن, بأنه قد فُرض عليهم في الوزارة, هو وأمثاله من كبار السن, الدخول في تجمعات تدريب عسكرية قاسية.. لأن أهالي هذا البلد في نظرهم قد اعتادوا على الراحة والدعة, والروتين اليومي الممل, دون أدنى إحساس بالمسؤولية.. ومن ثم فلا بد من التربية من جديد.. قال بأنهم كانوا يصحون من النجمة, ويقفون في طوابير, تعقبها تدريبات حركية بالغة المشقة, وتحت شمس لا ترحم.. لقد سقط مرات عدة, وسقط غيره كثيرون, ولكن الرحمة غابت وتوارت، فلم يشاهدها في هذه المعسكرات المجنونة.. غابت عن الصغير والكبير.. كانت الحشود من جهات شتى, وألوان مختلفة من البشر, وأعمار متباينة. مراكز إدارية, قيادية ووسيطة وقاعدية.. إنه الإذلال بعينه.. وكسْر النفس.. والمحاربة في الأرزاق.. من ماتت كرامته فليظْل, ومن نبضت في جوفه فلْيذهب.. صحته لم تمهله فرصة ليعيد تقييم ما يحدث,فسقط مبكراً, كما تهدم وأنهار كثيرون.. تركوه أياماً على مرضه.. وعندما قرر أن يأتي إلى َّ, ظن أنه هرب منهم, ولكن واقع الحال, هم عرفوا بأنه يتسلل, فتركوه.. لقد أخذوا منه ما تبقى من عافيته وتركوه حطاماً.. من أي بقعة فيك يا سودان الأجداد, جاءوا؟!!
    دخل فرحات في غيبوبة طويلة لم يفق منها, فذهب.. من هذا البيت حُمل نعشه.. كان الموكب الصامت الحزين, تضج أعماقه بشيء مجهول غامض.. وابتلعت الأنفس الهمسات..ولكن صدى الأفق جاء يضرب أعماقنا ويصيح:
    مات هملة..............مات سمبلة..............
    شعرت أنهم أكرموني حين طردوني.. من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته.. غيابك يا صديقي ضاعف حزني على فرحات, وضخم من هوان نفسي.. لعلنا كنا نتقوى ببعضنا البعض.. أصبحت دمعتي قريبة جداً.. تسيل لأي ذكرى في أغنية أو حديث, أو فلم أو قصيدة أو كتاب أعدتُ قراءته.. غرفتك هذه ظلت عندي وستظل منبع الذاكرة لأزمنة خلت.. أعيش فيها الرجاء والوهم واسترجاع العمر المستحيل.. لا بد أن يكون لي رفيق أتوكأ عليه.. فأضحت غرفتك رفيقي الذي أتوهمه, وأستند عليه..
    تفاقمت غبينتي بعد موت فرحات.. إشتد إحساسي بالظلم.. أبناء عمومتي: محمود وعيسى وعمر, جاءوا عندما علموا بحالي.. حاولوا بكل الطرق ترحالي من هذه المدينة, ولكنهم فشلوا. صبروا عليًَّ, ولا يزالون.. إنني أشفق عليهم, وأقدر سعيهم.. مُريح أن يجد الإنسان, في هذا الزمن من يهتم بأمره.. طلبتهم أن يعودوا من حيث أتوا, ولكنهم أصروا, بأن عودتهم لن تتم إلا وأنا معهم.. هذا هو المستحيل عينه. إنني أتعذب.. لا أريد أن يعاني شخص بسببي..
    قابلني يوماً أحد الأشخاص, وعرَّفني بنفسه.. وقال إنه صديق لفرحات.. صداقة توطَّدت أيام بعثته في الإتحاد السوفيتي.. إنه شارك في جنازته التي خرجت من بيتنا. وقال بأنه يعرفك أيضاً.. وأنك في الحبس الانفرادي وهذا ما ترجحه مصادرهم.. طلب مني أمراً زلزل كياني.. يريدني أن أنضم لمنظمة سرية.. لعله وجد فيَّ صيداً سميناً!! عرض أن أكون واحداً من خليتهم.. قال: (لن تُكلف بأعمال ثورية قتالية.. ولكنك ستكون ضمن مجموعة طبية تقدم المساعدات والخدمات المطلوبة لمرضى ومصابي المنظمة السرية, وللناس أيضاً.. وسيكون عمل المجموعة في النور والعلن.. وكن على ثقة, إنك في مأمن من كل مكروه..) واضح من حديث هذا الشخص الذي قال لي اسمه, ولم يعلق بذهني, أنهم يدرسون الشخصية من خلال مراقبة دقيقة تستمر زمناً.. فالاختيار في غاية الدقة والحرفية.. وواضح أيضاً, إنني كنتُ صيداً سميناً بالفعل.. دار في داخلي حوار باطني سريع, إنتهى في ختامه بالقبول.. ربما بهذا أجد نفسي التي ضاعت.. لم أغير من سلوكي.. ولم أخبر أحداً من بني عمومتي الذين قطعوا الفيافي من أجلي, ولا أياً من أصدقائي.. آثرتُ أن يبقى أمري سراً.. وحتى الخدمة المطلوبة مني في العلن, لم أشأ أن تكون علنية, ولكن في سترمستور.. فأضحت في الخفاء, لم أعلنها صراحة إلا في هذه الكراسة لك.. إنها تجربة جديدة.. ربما لها سحر ما.. من يدري؟! ولعلي أعي بما يدور حولي!!
    لم يكن قبولي سهلاً, رغم أن ذلك الشخص قد أخذ موافقتي المبدئية, لكن طلبت منه أن يمهلني وقتاً, وقد كان.. استعرضتُ حياتي: غيابك والاختفاء المفاجئ, وتشريدي المهين, وعذاب فرحات ومرضه ثم موته.. ومحاربتي بعد طردي.. أشياء لا أجد فيها أي منطق.. من نحن؟ وكيف صرنا؟ وإلى أين نسير؟ الدخان البركاني الضبابي ملأ ساحة وجودي.. وساحة من هم أمثالي وغيرنا.. تركنا الفعل في الحياة. وأصبحنا نتفرج عليها.. آثرنا أن تلعب بنا في أمواجها العالية.. إننا هالكون لا محالة, إن فقدنا القدرة على الحركة والفعل.. هل الدخان ترك لنا خياراً, ام حصرنا في سرداب مظلم؟..
    جادلتُ نفسي.. فقبلت...
    .............................

                  

10-16-2010, 02:56 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الكراســــة (2)

    كان أول ما فعلتُه بعد قبولي المبدئي, هو إقبالي على كتابة مذكرة طويلة, قيمَّـتُ فيها الوضع, وطرحتُ الأسئلة, وقلتُ وجهة نظري فيما يجري..وأول ما فعلتُه بعد قبولي المبدئي, ذهابي لدكتور النعيم أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسة السابق.. فهذا الرجل تربطني به علاقة صداقة خاصة لا علاقة لها بالسياسة.. لكني أعرف أنه رجل سياسة من الدرجة الأولى.. بدأت صداقتي معه ذات يوم بعيد, حينما جاءني لإجراء بعض الفحوص الطبية.. اهتممتُ به بالطبع, ولعل هذا الاهتمام كان مدخلاً للود بيننا..
    هو أول من أخبرتُه برغبتي, وقبولي المبدئي للانضمام للتنظيم.. علا وجهه البشر, وتهلل فرحاً.. بارك رغبتي, وعلمت منه أنه ينتمي إليه أيضاً.. ربما كانت صدفة مباركة, هكذا قلتُ في نفسي دون أن أعلنها.. سألت:
    - أترى في ذلك مخرجاً؟!
    قال, وقد أخذت ملامحه المستبشرة تأخذ مظهراً جاداً:
    - هي محاولة للعمل الجماعي الجاد..
    قلت:
    - ألا تعتبر الأحزاب عملاً جماعياً جاداً له تجربته؟
    أجاب:
    - هذه الأحزاب شاخت الآن, وأثرها كما ترى يكاد يكون منعدماً..
    قلت:
    - هل معنى ذلك تُترك, ام من الأفضل العمل على تجديد الدماء فيها؟!
    قال:
    - لو تم ذلك, لكان أمراً مثالياً!! لكن كيف الوصول إليه؟
    قلت:
    - الديمقراطية فيها هو السبيل!! فالأحزاب الغربية أحزاب قديمة لكن الديمقراطية فيها أصيلة.. وهي التي تجدد دماءها البشرية..
    قال:
    - نظرياً صحيح!! لكن عملياً غير ممكن, لسيطرة القيادات القديمة عليها!!
    قلت:
    - إذن فاقد الشيء لا يعطيه.. فالديمقراطية هي المنبع, ومع ذلك مفقودة
    ابتسم ثم قال:
    - صحيح!!
    قلت:
    - ما هي وسائلكم في التنظيم؟!
    - متعددة..
    - بمعنى؟!
    - إننا نتلمس الطريق, وكل الخيارات مفتوحة أمامنا!!
    - أخاف من العنف والتخريب..
    - أنا معك..
    - أكره التحريض على تدمير المنشآت..
    - وأنا كذلك..
    وبعد حديث طويل متشعب مع الدكتور, ودعتُه وخرجت.. ظللتُ لفترة أفكر في هذا اللقاء.. أنطبع الحوار بيننا في ذهني.. وترك أثره فيَّ بعد ذلك.. عدتُ إلى مذكرتي وأعدتُ قراءتها, وعدلتُ فيها, بما استخلصته من نتائج..
    أول ما حذرتُ منه, طريق العنف, واللجوء اليه.. وهذا الأسلوب له نتيجتان, إما الانتحار الماحق, أو النجاح الذي يقود إلى طغاة جدد, والبعد عن قلوب الناس وعقولهم ووجدانهم.. وهذه مصيبة لا تقل خطورة من الانتحار.. كيف نقيم الحُب الغاضب؟! هذه هي المعضلة التي نحتاج إلى فك طلاسمها, ومعرفة مفاتيحها.. هذا هو المدخل الناجح لأي حركة نضال سلمية.. فالحُب الحقيقي يتجرد من الأنانية وحُب الذات, ويجنح إلى التضحية.. ونحن نحتاج إلى هذا السلوك الأخلاقي..
    وركزتُ في مذكرتي على الإعداد الجيد, ليكون البداية الموفقة.. وتذكرتك وأنا في غمرة هذا البحر اللُجَّي, الذي اخترتُه مغامراً.. أنت والتاريخ شيء واحد.. فلا بد أن نختارك.. أن نجعل التاريخ جزءاً أساسيا وهاماً في الإعداد الجيد, ليكون البداية العقل.. ففي إرثنا حُب يضارع المحيطات إتساعاً وعمقاًُ..
    يبدو أن هذه المذكرة رفعت قدري.. لعلهم وجدوا فيَّ خامة طيبة يمكن توظيفها والاستفادة منها في قمة الهرم العليا, إضافة إلى مجال الخدمات الطبية..
    كانت غرفتك هذه, صومعتي التي أعانتني لأخرج بشئ رأيته مفيداً.. ظهر لي جهلي ً بقدر نفسي, كما كنت جاهلاً في أشياء كثيرة.. كنتُ كمحضر الأرواح, استدعي روحك لتكون سندي فيما أنا مقبل عليه, فلم تخذلني مطلقاً..انتابني الإحساس بأنني قد نجحت في ضمك لهذه المنظمة.. فكنتُ أراك وأنا داخل هذه الغرفة, وفي الاجتماعات, ومن خلال قراءة التقارير, بل حتى في مباشرتي لمهنتي, وأنا أسهم في التخفيف عن آلام الناس.. اكتشفتُ أن الوجود الروحي يغني في حالات كثيرة عن الوجود المادي, إذا كان القلب عامراً بالحُب والإيمان.. ربما كان هذا هو المنبع الذي يرتوي منه أهل الصوفية والتوكل..
    ذات يوم استدعيتُ لحضور اجتماع المكتب التنفيذي للمنظمة.. لاحظتُ من وهلتي الأولى, أنه يحاط بكثير من الحذر والسرية.. قلتُ في نفسي هذا أمر طبيعي في ظل الظروف التي نعيشها. فنحن تجمع محظور.. والنجاح المطلوب إذن, ونحن في مثل هذا الحال, هو البعد عن عيون الرقيب..
    كانت هي مرَّتي الأولى, التي أُستدعى فيها لمثل هذا الاجتماع القيادي.. قدرتُ بأن الأمر قد يتعلق بمناقشة مذكرتي.. وبخلاف ذلك, لا يوجد منطقياً, أي سبب يتطلب حضور شخص مثلي, إلتحق حديثاً بهذه الجماعة.. فأنا إنسان على الهامش..
    كان الاجتماع في ساعة مزعجة.. اندهشت من هذا التوقيت.. الساعة الثالثة بعد الظهيرة وشمس الخرطوم لا تزال بجبروت فتوتها الذي يشوي الأبدان.. استهجنتُ هذا الميقات.. كيف نتحمل أنفسنا, ناهيك عن جدل يناقش أصعب الأمور وأخطرها؟؟ بمرور الوقت أدركتُ سذاجتي وقلة خبرتي في مثل هذا العمل الذي يجري في ظل ظروف بالغة التعقيد والخطورة.. فمتطلبات الحذر والسرية تقضي باختيار أوقات تكون فيها عيون الأمن في وادٍ آخر, مثل الساعة الثالثة في نهار يوم قائظ, أو وقت مسلسل, أو مباريات الهلال والمريخ أو أي وقت أخر يتم اختياره بعناية.. فالناس في بلادنا لم تعد لهم تسلية يروحوَّن بها بخلاف المسلسلات, ومباريات كرة القدم.. كما أن قلة تجربتي, لم تتح بعد لمفهوم التضحية, أن يتجذر في وجداني, ويتأصل..
    في ذلك الاجتماع, كان الترحيب بي حاراً.. وتعرفتُ على شخصيات لها وزنها العلمي والثقافي.. عادت بي الذاكرة إلى أيام أكتوبر 1964م.. الفارق الوحيد, أن تلك الشخصيات كانت تعمل وتتحرك وتؤثر في العلن.. أما الآن,فان الدنيا تقهقرت بهم ليكون بذلهم تحت الأرض.. ما رأيت بلداً ينحط إلى أسفل مثلك يا سودان الخليل!!
    قال لي رئيس الاجتماع:
    - تمت مناقشة مذكرتك بما تستحقه من اهتمام, وقرر الجميع اعتمادها وأخذها في الاعتبار.. كما تقرر ضمك إلى المكتب التنفيذي..
    أثلج صدري هذا التقدير, بلا شك.. فهذه رفعة لم تخطر لي على بال.. هل الإحساس بالظلم هو الذي فجر فيّ كل هذه الطاقات, لأقدم عملاً, جعله هؤلاء الأخيار نافعاًَ؟ سرحتُ بعيداً!! فربما هذه هي محنة هذا البلد.. تحولت القوة الدافعة والمؤثرة فيه إلى بؤر سلبية, لا ترى أبعد من مواطئ أقدامها, فدجنتها السلطة أو أرهبتها.. وتحول الجزء الكبير من هذه البؤر, إلى مجموعات انتهازية تم شراؤها وتحقيرها.. والجزء الباقي, آثر السلامة, أو هكذا يبدو, لأن زمن التضحيات قد ولى..
    لعل ذلك الاجتماع كان نقطة تحول في حياتي, لأعمل مع هذه المنظمة بإخلاص, ما استطعت.. لم يكن هذا شعوري, عندما قررتُ الانضمام إليها.. صحيح أنني استعرضتُ الظلامات التي حاقت بي وكارثة اختفائك, وطردي من الخدمة, وموت فرحات, لكن كل تلك كانت دوافع ذاتية.. ربما لفعل شيء أثور به لكرامتي و(أفش) غبينتي.. أما الآن, وبعد مرور مساحة من الوقت, والصبر على المكاره, مع التأمل فيما يحيط بنا من جوانب شتى,فإن السلبية والفردية عندي, أصبحتا هما المهلكة عينها..
    لقد كنت تصحبني في كل إجتماعات المكتب التنفيذي, فاستلهم ذهنك المرتب الواعي بالتاريخ.. وقد ساعدني هذا الإصطحاب في تبيان الرؤيا وتفسير الأحداث..
    ما يهمني من ذلك كله, هو توظيف هذه الكراسة, لتكون شاهدة على كمية المعلومات التي وقفت عليها, من خلال هذه المنظمة.. وإتاحة الفرصة أمامي للإحاطة قدر إستطاعتي بما يجري في بلدنا.. وإيجاد تفسير للظاهرة التي أخذ الواقع يثبتها باستمرار, بأن أمسنا أفضل من يومنا.. وأن مستقبلنا غامض مجهول, لغياب العمل الجماهيري المؤسسي.. فإن غاب عني التفسير في بعض الحالات, فلا يجب أن أقف عاجزاً عن طرح الأسئلة وإثارتها على أقل تقدير..
    كانت لهم عيون, ولنا عيون.. وشتان بين عيونهم وعيوننا.. العمل من خلال مؤسسات, مدرسة تُعلم الكثير, وتُثرى الخبرة والتجربة.. ومن خلال العمل الفني المدروس, تعلمتُ حقيقة أزلية.. كيف يكون مكر البشر!!
    كان صديقي دكتور النعيم, الأستاذ السابق للاقتصاد والعلوم السياسية, يركز على ما أسماه (الإثراء بلا سبب تحت مظلة الشرعية).. وتحت هذا العنوان كتب مجموعة من المقالات, ضمَّنها معلومات موثقة بالمستندات والأرقام.. ورفع عدداً من التقارير للمكتب التنفيذي..
    (الإثراء بلا سبب تحت مظلة الشرعية) مصطلح جديد ومهذب لمفهوم الفساد.. فالثراء الحرام كما نعرفه يُرتكب من فرد أو إثنين أو عدد منهم.. أما أن يأتي بهذا الأسلوب الذي طرحه, فذلك ما لم يكن في سنة الأولين!! لأول مرة أعي الأسلوب الجهنمي الذي أُتبع بشأن القطاعات العامة لتصفيتها أو تهميشها لتضمحل وتتلاشى ببطء كقطعة الثلج.. المؤسسات والهيئات العامة التي ورثها العهد الوطني من الاستعمار شامخة وفاعلة, توارت وراء الحُجب المضللة من إدعاءات أخلاقية, ما ألفناها من قبل.. وبغياب تلك الأهرامات, توارت مدن كنا نعدها من ساطعات الشموس.. وتشرد وافتقر من كان (هاملاً) وما أكثرهم.. وبرزت فئات أثرياء جدد على سماء السودان مباشرة، نتيجة الزواج غير الشرعي بين السلطة والمال!!
    شرح دكتور النعيم, الأسلوب الذي اتبع لتصفية وبيع موجودات تلك المؤسسات والهيئات, العقارية منها والمنقولة, لشخصيات عربية وأجنبية, وبشراكة أهل حظوة سودانية.. كله تحت عنوان كبير وباهر, اسمه الاستثمار..
    وتحت هذا العنوان الكبير منحت الامتيازات والاعفاءات, وقبل ذلك وفوقه, كانت الصفقة بثمن بخس.. ولكن الذي باع لم يكن من الزاهدين, إذ أعيد البيع لمُلاك جدد بأثمان باهظة, تحققت من ورائها أرباح طائلة بملايين الدولارات..وحصل من أصدر القرار أو باع, على نصيبه, وكله بالقانون!!
    أما أراضي العاصمة المثلثة, فإن فيها العجب.. كانت كالتبر, فاغتنى منها شرْذمة قليلة, عرفهم الناس يوماًَ بالفاقة والعَوَز..
    تريفَّت الخرطوم, فانزوى أهلها.. وحل محلهم ريفيون صبغوها بصبغتهم القروية المتخلفة, وبعاداتهم القبلية الجلفة, وبسلوكياتهم المحدودة الأفق، والتملك القائم على وضع اليد عنوة.. وفي غفلة من أهل المدينة امتلكوها, فغابت فيك يا خرطوم كل قيمة حضارية إنسانية.. وسادت القشور في كل ما هو سوداني, بلا مضامين تعيد البعث..
    لم يهتم دكتور النعيم بالجانب الإقتصادي وتحليله فقط, وإنما جاء بفكرة جديدة وجريئة, ركز فيها على الجانب الجنائي.. فحدد الجرائم وفق قانون العقوبات.. وكانت رؤياه في هذا الخصوص, قوية البيان, دامغة الحجة..
    استفزنا ما سمعنا, فثرنا لحظتئذٍ في تعليقات غاضبة.. وتناثرت الآراء في عدة اتجاهات.. بعضها أقترح تحريك الشارع والجامعة, وبعضها ركز على توزيع المناشير, وجزء فضل أهمية الرأي في الصحافة العالمية, أما الباقي فكان صارخاً في ردة فعله, وقال ما زلزل الأعماق.. إقترح العمل الفدائي, تفجير أماكن مؤثرة في العاصمة.. فالعالم من حولنا يتفجر, فلماذا لا نكون مثل الآخرين؟! ولكن هدوء الدكتور, وقوة منطقه, وثبات حكمته, ووضوح رؤياه جميعها كانت كافية لتعيد إلينا فضيلة السكينة..
    وحين سكت عنا الغضب, قال: (علينا أن نعود لمذكرة دفع الله التي جعلناها جزءاً من إستراتيجية عملنا.. لهذا يجب ان تكون تصرفاتنا قائمة على الأسلوب المدني المتحضر..بعيدة عن أي عنف)..
    صمت الجميع وتراجع, وأنا زهوت بحضوري الساطع. رأى دكتور النعيم, أن تكون الطريق جديدة, لم نألفها من قبل.. صحيح أن التظاهر السلمي في الشارع والجامعة, وتوزيع المناشير, وتوظيف صحافة الرأي, كلها وسائل إعتراض سلمية ومتحضرة, ولكنها تقليدية.. علينا أن نأتي بشيء جديد لم يألفه الناس,إلى جانب تلك الطرائق, وبعيداً عن أي عنف مهما كان.. لأن الضحايا هم الأبرياء دائماً..
    وما رآه, هو, رفع الدعاوي المدنية والجنائية, ضد أي مسؤول مهما كان قدره وحجمه, يكون قد تلوث بأفعاله..ربما يبدو هذا الأسلوب غريباً في نظر كثير من الناس.. وهذا طبيعي في مجتمع, لا يزال القانون بعيداً عن وعيه واهتماماته, كأسلوب حياة.. لكن هذا لا يجعل منظمتنا تسقطه من حسابها, لتجريبه وتوظيفه..
    سرح ذهني بعيداً, فيما ذكره الدكتور.. هل ما سنقوم به لم يألفه أهلنا من قبل؟ برق في الذاكرة الدعوى الدستورية التي رفعها الحزب الشيوعي أمام المحكمة العليا, بعدم شرعية حله, ذات يوم, وبعد عِقد ونَيّف من الزمان منذ الاستقلال. كان سلوكاً متحضراً وجديداً في العالمين العربي والأفريقي.. ولعلك يا أستاذ التاريخ تفتي في هذا الأمر وتؤصله.. لكني كما أقدر, وحسب معلوماتي, لم يسبق السودان بلد عربي أو أفريقي في هذه السابقة التاريخية.. وكان القضاء السوداني وقتئذٍ قوياً وجريئاً.. فحدثت الأزمة الدستورية بين السلطات الثلاث ورأس الدولة.. وانتظم الشارع السوداني نشاط سياسي وقانوني مُلتهب.. وازداد وعي الناس بحقوقهم.. ولعلي هنا أتذكر استدعاء الدكتور فؤاد العطار، أستاذ القانون الدستوري من جامعة عين شمس، وحُمى الحوار الذي دار بشأن رأيه في الأزمة.. كانت أياماً لها صدى وذكرى!! فهل من مُدَّكر؟.
    إذن ما ستقوم به منظمتنا, قد ألفه أهلنا بطريقة ما.. وسيخلده التاريخ كما خلد تلك السابقة الدستورية, وإن طمرها النسيان, كما هي عادتنا..
    تحدثت في الإجتماع معززاً رأي الدكتور, وأعدتُ للذاكرة, السابقة الدستورية وتحمست لأهمية أن نضع تقليداً يؤسس لسابقة جديدة أخرى.. ونرسي تجربة سلمية مدنية وعصرية, حتى وان طغى علينا الإحساس, بأن الظلم الذي يظلل سماءنا لن يهدأ له بال, إلا باغتيال التجربة, والحؤول دون أن تترك بصماتها, وتؤتى ثمارها.. لكن هذا لن يتم,ولن يظل الظلم أبديا, لأنه ضد حركة التاريخ.. فالمسألة مسألة زمن.. فالوعي قدر حتمي,وإن تأخر أو تراجع..
    أحيل الأمر لمجموعة من المحامين, الذين شكلوا فريق عمل, كخلية نحل.. رفعت بلاغات جنائية للنائب العام ضد وزير المواصلات, ووزير الحكومات المحلية, وأخرى ضد وزير الدولة لشؤون الرئاسة, ومدير الأراضي, ووكيل الخدمة المدنية.. وأسست البلاغات باتهامات موثقة بالفساد, واستغلال النفوذ, وتبديد المال العام.. كما رفعت دعاوى مدنية وإدارية بالمطالبة بالتعويض واستحقاقات أخرى, وإعادة المفصولين..
    ما شدني في هذا الأمر, هو حماس هذه المجموعة من المحامين.. اجتهادهم لنجاح التجربة, التي تعد مدخلاً جديداً من أساليب المقاومة السلمية الرفيعة.. وتعزيز تجربة الدعوى الدستورية, التي ربما علاها الصدأ في الذاكرة الجمعية..
    ما تخيل أحد من منظمتنا, أن هذا السلوك الذي إبتدعه دكتور النعيم, سيكون له هذا الأثر الكبير في الشارع, وبين العامة.. بل إمتدت ردود الفعل إلى الخارج.. فتناولته وكالات الأنباء, والصحف والمجلات ومحطات التلفزة والراديو.. وتناقله الناس في أسفارهم.. وبه أصبح السودان مشهوراً, له ذكر يُعرف به..
    وفي هذه الجزئية الخالدة, تذكرت الفتاة الروسية (أولجا), فتاة القطار, وتجربتها المثيرة مع فرحات.. لعل الدعاوى القضائية قد أصبحت الآن من الأخبار العالمية المتناقلة.. وقد تعيد إليها ذكرى فرحات, ولحظاتها المثيرة معه.. أكيد أن السودان أصبح جزءاً من رصيدها الثقافي.. فهل يا تُرى بما سمعت من النشرات العالمية التي أصبح للسودان حضور فيها, أن أعادت لها ذكريات تلك اللحظات مع فرحات الباذخ؟؟
    أهتز أقطاب الدولة, وبدأت مراكز القوى في التحرك المضاد, دون أن تجروء سلطات الأمن على اعتقال أحد من منظمتنا أو المحامين.. فالقضية أصبحت الآن على العلن,فقد كُشف المستور.. ربما هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة..
    في اجتماع لاحق, ذكر دكتور النعيم, أن صدى تلك البلاغات والدعاوي, جاء مدوياً, وبأكثر مما كان متوقعاً.. وفي تقديره أن السلطات لن تدع هذا الأمر يمر دون أن تحدث فيه أمراً.. فقد نال منها أكثر من المظاهرات وحوادث الشغب والعنف.. وعادة ما يكون رد الفعل عنيفاً, خوفاً من تكرار ما حدث في الماضي.. فهذا الشعب غير مأمون الجانب.. ولا يعرف أحد متى يتحرك..
    حذر بضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة.. والاستعداد على أي حال لأي مكروه.. أما التجربة, فقد أحدثت أثرها الجماهيري المطلوب, رغم ان البلاغات والدعاوي قد نامت نومة أهل الكهف, في الزوايا المنسية من ديوان النائب العام والمحاكم.. بل ربما سُحلت وهي جنين قبل أن يأخذ دورة إكتماله في أحشاء, ذات ضمير حي..
    وحتى لا يسُحل التاريخ النابض لمنظمتنا, فقد حرصتُ يا صديقي أن تتضمن هذه الكراسة مرفقات من تلك البلاغات والدعاوى, وأدلتها, ووثائق إثباتها, لعل الأجيال القادمة تعرف, أن هناك من أهلهم, من رفضوا الضَيْم وناهضوه..
    وعادت بي الذاكرة يا صديقي إلى السابقة الدستورية.. ومحنتنا أننا, كما تردد أنت دائما, أننا لا نعيد قراءة التاريخ, ولا نسعى لاستلهام عبره وحِكمه.. ومن لا يدرك هذه الحقيقة الأزلية, تصبح تجربته هشة قابلة للإضمحلال والزوال..
    تؤكد الأيام الآن, أن الأحزاب التي تنكرت لمفهوم الديمقراطية وجوهرها الخالد, تدفع ثمن تآمرها غالياً الآن.. وانتهى بها الحال إلى هذا الوضع المتهالك, فضاع سلطانها الذي لم تعرف كيف تحافظ عليه.. نسيت أو تناست أن نجاحها وقوتها كانا نتاج سلوك ديمقراطي.. وبدلاً من المحافظة على هذا الأصل الذي يقوم عليه أساس وجودها, نبذته وراء ظهرها, فكانت النتيجة هي زوال مُلك فقد مقومات بقائه.. وتحقق المثل السائد في الناس: أكلت يوم أكُل الثور الأبيض.. وعجبي فيك يا سودان!!
    تنبؤات دكتور النعيم, في ملاحقة الناس, نتيجة لهذا الحراك المعارض, قد أمست حقيقة.. والفعل الباطش أصبح لا يفرق بين هذا وذاك.. فالأفعال تساوت, والنتائج توحدت, والأنفس تماثلت, لأن الباطش بلا خيار ثالث, إما أن يكون أو لا يكون.. هكذا كانت تقديراتنا..
    صرنا في كل يوم نفقد واحداً منا.. لا يُعرف أين هو؟ وكيف تم التغييب؟ وإلى أي مكان أُخذ؟ كأن الذي نحسه ونشعر به, ولا نراه, لا علاقة له بعالم الإنس, وإنما من شياطين الجن!!
    سيطر علىَّ خوف مفاجئ, ما شعرته من قبل.. رعب غائر في جوفي, يفوق بمراحل الخوف من الموت.. وهذا هو الشيء الجديد في الردع..
    قرر التنظيم أن يعمل المكتب التنفيذي من تحت الأرض.. وهذه حياة جديدة علىَّ ما ألفتها من قبل.. لي صداقات مع بعض أحزاب اليسار الذين كانوا يعملون تحت الأرض.. وكان الخبر يمر علىَّ عادياً, وبشكل تلقائي, دون أن أحس بغرابته وخطورته, ولكنني الآن أعيش الحدث.. وتحيط بي خطورته من كل جانب.. دخلت هذا التنظيم لأجد ذاتي.. بيد أني الآن مُقبل على فقدها, زوالها إلى الأبد,
                  

10-17-2010, 12:04 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الاخـتـفـــــاء

    إن الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها, كما قال رب العزة, أراها تتجسد أمامي الآن، إصْراً لا قبل لي به, فمن قال لك أني أهل لها؟! لماذا ترهقني بها يا صديقي الحميم؟! لقد أودعتني بما لا أطيق في هذا الظرف الفارق من حياتنا.. أي عبء هذا الذي جعلتني من فرط حبك, قادراً عليه؟! ومن أين يا رفيق عمري, استنطق الحكمة في هذه الأيام المشؤومات؟!
    نظرتُ إلى كتب التاريخ وغيرها, التي أمامي.. والى كراسة (أبو الدفاع) الحمراء التي أخذت وضعها من الطاولة.. واستعرضتُ أيامي معه, هنا في هذه العاصمة, وفي ليدز بالمملكة المتحدة, ورحلات جوبا وواو وأديس ونروبي ولوساكا.. واجازاتنا المنتظمة للقاهرة وبيروت ومأموريته الرسمية في عمله إلى عطبرة, وحب والدي له, واللهاج باسمه ثناءً عندما يذكرني.. وذكريات حلفاية الملوك وخالي علي وأمي وبنت خالي هدى.. واستحضار أيام عمري الماضيات, وذكريات كوبر, ومن ضمهم في جوفه من أهل الرأي, وحتى المجرمين الظرفاء, ومن قادهم شقاؤهم إلى مخالب هذا المكان العتيق.. المأمور وكرشه الأسطورية.. الفتى مساعد, وإرادة الحياة التي إغتالوها فيه خُفية.. أهل الإحتراف السياسي: صلاح وهلال وهاشم ونور الدائم. قريبي فرحات وحكاياته المتعددة المتلونة.. وفتاة القطار التي اشعرتنا أننا لم نعش في ترحالنا المتعدد إلا على الهامش والأطراف..ونهايته العبثية التي لا تتناسب وعمق تعامله مع الحياة, وحبه لجمال الدنيا وأفراحها..
    هذا الكم الهائل مما تحمله الذاكرة, وهذه الكتب المكدسة, وما يحمله أناس مجهولون, لم أتعرَّف عليهم بعد.. هذه الكراسة الحمراء, وما بها من عهد أُلزمت به.. هل كل ذلك يصلح ليكون سندي ومرجعي في كتابة ذاكرة المستضعفين في هذا البلد؟! وهل أقرباء (أبو الدفاع) الثلاثة, الذين هم خارج هذه الغرفة الآن, لديهم ومضات تضيء بعض جوانب تلك الذاكرة.. أوه!! تذكرتهم.. لعلي أحمل لهم أمراً جللاً!!
    خرجت...
    يبدو أن قسمات وجهي كانت تحمل إشارات أزعجتهم فقال عمر:
    - ما بك؟ هل هناك شيء؟
    قلتُ وأنا أحاول أن أبدو طبيعياً:
    - أبداً..يظهر أنني أحتاج لزمن لأعتاد على السرير والمرتبة مرة أخرى!!
    ضحكوا من تعليقي الساخر, فقال محمود:
    - الإنسان عادة!!
    - كنتُ اشعر بالنوم.. ولكنه فجأة هرب مني..
    واصل محمود متسائلاً:
    - لماذا؟ لا بد هناك شيء..
    فأردف عيسى:
    - خاصة وأنت مرهق ومجهد
    ثم ضاحكاً:
    - المفروض أن يجد النوم بيئة طيبة..
    قلتُ وقد جلست إلى جانبهم:
    - يبدو أنني سأحتاج إلى زمن لأتعود على هذا المكان مرة أخرى:
    قام عمر من مكانه وقال:
    - سأعمل شاياً لنا جميعاً..
    ثم إلتفت إلىَّ متسائلاً:
    - لكنك يا أستاذ جلست في الداخل فترة طويلة تكفي لإستدعاء النوم مهما كان عنيداً..
    وجدت المدخل, فقلت:
    - كراسة (أبو الدفاع) لم تدعني حتى إنتهيت منها..
    سأل عيسى:
    - أية كراسة؟
    قلت:
    - كراسة وضعها في ظرف مغلق, وسلمها لعمر ليسلمها لي..
    قال عمر:
    - لا بد أنها تحمل أموراً مهمة.. فقد أوصاني بالمحافظة عليها..
    انتهزتُ الفرصة فقلت:
    - نعم... في غاية الأهمية.. (أبو الدفاع) قرر أن يختفي..
    وقع كلامي كالصاعقة عليهم, فتسمروا في أماكنهم, كالمغشي عليهم, لبرهة لم تطل.. وطفح الذعر في الوجوه.. لاحظت أن عيسى أكثرهم رعباً وقلقاً, ربما لقربه في السن من (أبو الدفاع).. فالسن قد تخلق علاقات خاصة, وحياة مشتركة أكثر حميمية وخصوصية, فأخذ عيسى يحاورني:
    - لماذا يختفي؟
    - لأنه شعر بالخطر!
    - أي خطر؟
    - خطر على حياته!
    - ممَّن؟
    - من الأمن؟
    - أله نشاط سياسي؟
    - قال إنه ينتمي لمنظمة سرية!
    هذا ما كانوا يخشوه..فقد ذكروه لي في حديثهم عنه, رغم أنهم استبعدوا المنظمة السرية, لأنهم لم يجدوا أي سبب أو دليل يقود إلى ترجيح هذا الظن.. وهذا الأمر يعقد مشكلتهم أكثر, ويقود إلى إطالة إقامتهم لمعرفة مصير قريبهم, ومحاولة نجدته..
    واصل عيسى حواره قائلاً:
    - كيف نهتدي إلى مكانه؟
    ركزتُ في الإجابة على هذا السؤال, على تبيان الحقيقة التي أعلمها في مثل هذه الظروف.. أنها ظروف فرضت نفسها على (أبو الدفاع) لاختيار منفاه وسجنه الذاتي.. لعله رأى في ذلك السلامة, دون أن يكون مفروضاً عليه من سلطة ما.. فقلت:
    - في مثل هذه الظروف التي يختفي فيها الهارب من القبض عليه, يكون مكانه عادة غير معروف, إلا لأناس يختارهم, ويحس عندهم بالأمان.. وهؤلاء الأشخاص من عامة الناس في الغالب, وغير معروفين للأمن.. وفي مثل حالة (ابو الدفاع) هذه, يكون كل أهله وأصدقائه المعروفين للأمن, مراقبين, وتحت نظر العيون.. وهذا البيت ربما يكون مراقباً.. وانتم ربما تكونوا كذلك.. وعلينا جميعاً إتخاذ الحذر..
    الواقع أنا نفسي إترعبت مما قلت.. فقد بدا لي حديثي منطقياً, وقد يحدث بالفعل.. وربما أُعيد إعتقالي مرة أخرى, وهذا أمر مرجح.. الشيء الوحيد المؤمل في هذه الورطة, التي قادني تحليلي إليها, هو أن يبقى (أبو الدفاع) مجهولاً في نظر الأمن.. فأمر فصله عن الخدمة, لا علاقة له بأي نشاط سياسي. وانما مثله مثل العشرات بل المئات لأسباب جاءت بها الأدبيات السياسية الجديدة..
    ساد الصمت لبعض الوقت.. فحالة (أبو الدفاع) بالنسبة لهم صارت أكثر تعقيداً وصعوبة.. فإن أصبح ناشطاً سياسياً, فهذا يعني أنه لن يستطيع مغادرة السودان بأي حال من الأحوال.. وهذا يتعارض مع أهداف مجيئهم لانتشاله من الحيف الذي لحق به..
    قال عمر موجهاً حديثه للجميع:
    - ما العمل؟ أصبح حضورنا بلا معنى!!
    وجدتُها فرصة للتحدث إليهم حديث العقل الذي يوازن بين الأمور,.. قلت:
    - كان مقصدكم جميعاً هو ضرورة مغادرة (أبو الدفاع) لهذه المدينة.. لأن مصلحته في نظركم تستدعي ذلك.. وهذا قد يبدو معقولاً, رغم أنني عارضته في أول حديث لكم معي بشأنه.. الآن الوضع اختلف..أصبحت سلامة (أبو الدفاع) في الهجرة.. لكن هذه الهجرة أصبحت الآن شبه مستحيلة,إلا في حالة واحدة, وهي أن يظل شخصاً مجهولاً.. وهذا غير متصور.. أرى الحكمة في مغادرتكم!!
    بعد حديثي, شعرت أن هذه النفوس التي أمامي, قد تهالكت وتهدمت من طولها وشموخها.. فلم يدر هذا الحال بخلدهم على الإطلاق.. كان إحساسهم أن حالة (أبو الدفاع) حالة نفسية عرضية, يمكن أن تزول بقليل من الصبر, والحوارات التي تركز على مصلحته, وإزالة أسباب القهر التي يشعر بها, وتخفيف إحساسه الطاغي بالهوان.. لكن الآن تعَّقد الوضع, وضاع منهم (أبو الدفاع) إلى الأبد..
    ما شعرت بأقرباء من قبل, يكنون حباً لقريبهم بهذا الولع, كما ألمسه الآن من هؤلاء المخلصين.. وهذا ما يميز (أبو الدفاع) في جميع علاقاته.. إنسان حباه الله بحب الناس, وحبه للناس.. لكن ظروفنا الجديدة تفسد أي حب عاش من قبل.. حتى وإن كان متجذراً في عمق الآرض.. فالحاقة الدخانية, قد إقتلعت كل جذور الخير الضاربة في عمقها, كأنما كنا قوماً من المنكرين.. وسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء.. ماذا عندي لأقدمه لأهل عزيز لدىَّ.. عُمْر طال في الفراق والغياب, ولكن رغم هذا الزمن الطويل الذي باعد بيني وبين (أبو الدفاع) إلا أن إرتباطي به إزداد وهجاً ورسوخاً..
    قال عيسى:
    - يستحيل.. هذا أمر سابق لأوانه..كيف نغادر في ظل هذه الظروف الغامضة؟ فلو عرفنا أنه مات لكان سفرنا منطقياً, فهذه نهاية تحسم الأمور..أما والوضع بذلك الغموض, ونتركه ونسافر, فأي خير فينا؟!
    حديث قاطع, ينهي أي جدل في السفر والمغادرة, قبل معرفة مصير (أبو الدفاع) أهو في المنفى الإختياري؟ أم في المعتقل؟ ام مات ضمن العشرات الذين يموتون كالنمل..
    هزني تعليق عيسى.. لربما كان سفرهم منطقياً قبل أن أخطرهم بما جاء في الكراسة.. أما الآن فالوضع إختلف..وغموض الحال أدعى لمعرفة حقيقته.. وطلبي منهم السفر, بمثابة المصادرة لكل جهودهم ومساعيهم..
    في نظرهم أن قريبهم سلك طريقاً, في ظل هذه الظروف, لا نجاة فيها..إنها سكة الهلاك.. ولو عرفوا حياة كوبر, وممارسات المأمور في إبتكار وإبداع التعذيب, لتأكدت لهم وجهة نظرهم, ولاعتلاهم يقين راسخ, أن الهلاك واقع لا محالة.. وعليهم من الآن أن يقيموا مأتم العزاء, بل مآتم العزاء, لأن الموت في كوبر ليس نهاية واحدة, وإنما نهايات تتجدد في كل يوم يهل فيه فجره الحزين..
    قال محمود غاضباً:
    - علينا أن نعرف مكانه.. ونطمع في مساعدتك لنا.. أنت مستودع أسراره.. وتعرف كل علاقاته.. ولا نتصور أن يختفي عند شخص لا يعرفه. لا بد أن يكون لديك بعض الخيوط, لعلنا نهتدي إليه..
    يبدو أن هؤلاء الأقرباء سيعتمدون عليَّ, لأنهم أصبحوا غرباء عن هذه المدينة, فقد تركوها زمناً.. ونسيوا في غمرة ظرفهم الشاق التعيس, أنني مثلهم أصبحت غريباً عنها أيضاً, حتى وإن كنت داخل مؤسسة في قلبها.. فالنتيجة واحدة.. لعل الذاكرة قد أصابها العطب أثر البقاء في جدران مسورة.. ثم أنا نفسي في توق لمعرفة مكانه أكثر منهم.. بل أنا أكثر حاجة إليه منهم.. فهم يريدون سلامته, وكل منهم يذهب لحال سبيله.. أما أنا فأريد سلامته لأعيش معه, وأعيد سيرة حياة فقدناها.. وهنا فارق كبير..
    قلت:
    ـ أنا نفسي أريد أن أعرف أين هو؟! وهذا من المسلمات!!
    توقفت عن الحديث قليلاً.. فلدي حقيقة يجب أن تُعرف.. أخبرتهم بما يعتمل في دواخلي من هواجس.. قلت:
    - لدي شعور بأنهم أخطأوا في الإفراج عني في هذه الظروف المضطربة.. فكراسة (أبو الدفاع) جاءت بكثير من الحقائق التي كانت غائبة عني وأنا في كوبر.. لذلك أتوقع إعتقالي في إي لحظة.. هم يعرفون مكاني.. فهذا البيت أصبح معروفاً الآن بلا شك, وإلا لصار أفضل مكان للإختفاء..
    ران علينا صمت حزين ثقيل.. فالدنيا, فيما يبدو, قد إسودت من الجهات الأربع, ولم يُترك فيها منفذ ضوء.. ولكن علينا أن نجد المخارج, فالحياة يجب أن تُعاش مهما كان.. لابد أن يكون في العُتمة بصيص نجاة ما.. فالأمر يحتاج للصبر والعزم والتوكل..
    واصلت حديثي:
    - أنتم لا شيء ضدكم.. ولا أظن أن أحدكم هدف لجهة ما.. ولا أعتقد أن إعلان قرابتكم بـ (أبو الدفاع) ستمثل جناية إلا اذا جُنَّ صاحب القرار أما أنا فوضعي يختلف..وعلىَّ مغادرة هذا المنزل فوراً..
    عقب عيسى منزعجاً:
    - لا يا أستاذ.. هذه أوهام, دعنا نتفاءل ونحسن الظن.. إنني استبعد إعادة اعتقالك..
    يبدو الكلام معقولاً.. فالعقل قد يقود إلى هذه النتيجة, لكن عيسى لا يعرف هؤلاء.. ولم يقابل في حياته شخصاً مريضاً كالمأمور.. إنه كالثور الهائج عند التحدي.. لا أريد أن يتكرر لي ما حدث في كوبر.. فقد أخذ ثلث عمري.. ولست (كمنديلا), ولست مؤهلاً لأكون (جيفارا) السودان.. ولو استطعت في باقي عمري, تأدية الأمانة التي حملَّني إياها (أبو الدفاع) لعملُتُ شيئاً مجيداً.. فلْتكن هذه الأمانة, هي رسالة ما تبقى من العمر..
    تذكرتُ بعض أهلي في الحلفاية, في البيت الكبير, وذلك المبنى المتهالك على أرض زراعيه بقرب النيل.. هم مخرجي, اذا لم تلحقني لعنة المأمور قبل ان اختفي مثل صديقي.. يبدو أن أقدارنا تماثلت في كل شيء..
    قال عمر:
    - نعم يا أستاذ كنْ معنا.. فأنت أيضاً مثلنا تبحث عن دفع الله وتريده.. وجودنا معاً ربما يسهل المهمة أو يجعلها محتملة..
    إن طلبكم يشقيني.. يعذبني.. ولكن السبيل إليه أضحى مستحيلاً, على الأقل من وجهة نظري, التي أرى فيها, أن الشر, يحيط بي في كل قِبلةٍ أنحوها.. أجده محدقاً, كأنما يتجاسر على إطمئناني, ويسلب مني أي أمان.. وجودي معكم آخذ في التباعد..
    قلت:
    - حوارنا به كل الإحتمالات.. قد يكون الشر فيما قلتم بعيداً بعض الشيء.. وقد يكون قريباً فيما ذكرته لكم.. وما دام الأحتمال قائماً, ومهما كانت نسبته, فهو خطر علىَّ.. وقد يكون خطراً على (أبو الدفاع).. من يدري, فالأيام لم تعودنا على التفاؤل, وحسن الظن.. أرجو أن تجدوا لي الأعذار.. فقد قررت فراقكم وأنا حزين النفس..
    إن تسارع أوضاع الذات,وتقلب حالاتها, دلالة على عدم الأستقرار.. كنتُ قبل بضع ساعات اجد الأمان معهم, وفي غرفتي تلك التي إعادتني على عجل إلى أيامها السابقة قبل كوبر.. والآن تتجسد معطيات جديدة, تُقلب حالات نفسي, وتذبحني من الوريد إلى الوريد.. الصبر عليها يعني الانتحار.. الهروب إذن.. اكرر ما فعله صديق عمر ي.. يا سبحان الله.. نتماثل معاً في الموقف من منزل الحِلة الجديدة هذا الذي ضمنا يوماً بأمنه وأمانه.. بيت الحلفاية الكبير حيث العِزَّ وجاه جدي.. ورغم العزَّ والجاه تظل البناية المتهالكة على أرض النيل الزراعية هي ملاذي الأفضل..
    قال محمود في رجاء يائس:
    - يعني خلاص, لا أمل في البقاء معنا؟
    نظرتُ إليه بأسى, وأجبت:
    - نعم مع الأسف.. يجب أن أغادر الآن وفوراً.. توقعوا القبض عليَّ في أي لحظة.. ان سلمت ستعرفوا.. سأكون على اتصال بكم بأي وسيلة.. وان لم يتم ذلك فأعلموا أن مكروهاً ما، ألم بي..
    سلام!!
    عناق ووداع طويل كأنما كنت أودع رفقاء العمر إلى المجهول.. بسرعة البرق نما الود بيننا في هذا الزمن العرضي المكثف.. أما هم فكانوا كمن يفقد عزيزاً وجدوه بعد طول فراق.. كنت بالنسبة لهم أحمل الكثير من (أبو الدفاع), وأذكرْ به في كل ما يصدر عني.. ولكنني قررت الرحيل.. الآن!! لحظات قاسيات.. فالدهر لا يزال كعهده, في إدباره ونفوره..
    ..................................

                  

10-19-2010, 10:53 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    حلفاية الملـــوك







    خروجي من الحِلة الجديدة كان آمناً.. لم يعترض سبيلي أحد, ولم ألمس مراقبة ما, من جهات الترصد والقبض والانقضاض.. أخذت أشيائي وبعض كتبي والكراسة الحمراء.. إتجهت شمالاً, صوب بحري إلى حلفاية الملوك..
    حلفاية الملوك.. أسم له مدلول.. لأول مرة في عمري المديد, أفكر فيه.. أتأمله.. إن لي جذوراً حقيقية في هذا المكان, الذي أخذ يمتد ويتسع, على امتداد المدى.. شمالاً على حدود الكدرو, جنوباً تماهت المسافات مع شمبات, شرقاً عبرت شارع المعونة إلى شريط السكة الحديد, وتخطته شرقاً على امتداد الأفق, وغرباً حدها النيل, وكادت تخترقه إلى سهول أم درمان..
    حلفاية الملوك.. جاء أهلي من تلك الأصقاع الشمالية البعيدة, عند (منحنى النيل) كما يقول الطيب صالح, وسكنوا هذا المكان, وأسموه (حلفاية الملوك) مدعين أنهم سلالة ملوك النيل.. حملوا سماتهم وطابعهم الخاص المميَّز, شكلاً وخُلقاً وسلوكاً.. والمُلك في هذا البلد, بسيط كأهله, له بساطة فطرتهم, ورقة حالهم.. هكذا على سليقته وبداهته, بلا صولجانات وبهارج وزخرف سلطة الحكم.. يتماهى فيه الحاكم والمحكوم.. فلا تكاد تعرف من شدة التماثل والذوبان في عجينة واحدة, من هو الحاكم؟ ومن هم المحكومون؟! أصبح الكل في واحد.. لهم كبرياء وعزة نفس وشموخ.. لا ينحنوا ولا يركعوا ولا يسجدوا إلا للواحد الأحد الديان.. الكل نتاج مجتمع زراعي مستقر, لا يوجد بينهم عاطل بالوراثة.. وإنما الجميع ينتهي بهم المطاف في الأرض (ترابلة) يزرعون الأرض ويسقون الحرث, فعلة وأصحاب مِلك.. ورغم فاقة العامة منهم وشدة البؤس, يظل الواحد منهم معتَّداًً بعزة أصل دونها النجوم.. فهم أحفاد محاربين أشداء, أصحاب بأس وعزم.. ففي حمى هؤلاء أريد أن احتمي وأجد الأمن والأمان..
    حينما جاءوا إلى هذا المكان منذ تاريخ بعيد, كان تلالاً من الرمال تعلوها نبات الحلفاء.. هذه (القيزان) الرملية تشابه بيئتهم الجغرافية التي هجروها, فأناخوا رواحلهم عندها وعمروها, وأسموها حلفاية الملوك..
    ياإلهي!! ما هذا, كأني أقرأ في كتاب مفتوح.. وكأني أجد هذا الكتاب أمامي لأول مرة, فأتملى فيه كوجه صبوح, وأتمعَّن في محتواه ومعانيه.. ربما الحاجة للأمن والأمان, هي التي تجعل الإنسان ينظر في أدق دقائق الحياة ومنعرجاتها.. ظلت الحلفاية تتمدد في نظري وفي وجودي, دون أن أشعر بها, أو حتى أفكر فيها للحظة.. آما الآن فإنني أفكر في هذا المكان بكل هذا العمق, كأنني أستلهم تاريخاً أجد فيه أماناً ضائعاً.
    حينما دخلتُ بعد هذا العمر الطويل من الغيبة, رأيتُ المكان الذي عرفته قبل عقدين من الزمان, قد تكرَّش وتمدد وترهل جنوباً وشمالاً وشرقاً مع زحام وجوه لم آلفها, ولم أعرفها من قبل.. يبدو من مشاهدتي أن السودان كله قد تمركز في العاصمة الكبرى.. تُركت كل بقاع المليون ميل مربع, وتمحور الوجود كله, في هذه الرقعة عند ملتقى النيلين..
    كانت الحلفاية بعد أن عمرَّها أجدادي النازحون, تشابه إلى حد كبير حاضرة أم درمان.. فضمت بين ضلوعها كما يقول الشاعر عبد المنعم عبد الحي, إبن الجنوب وإبن الشمال.. فنحن جميعاً بنوك يا سودان, لا تفرق هذا الحاضرة بين أحد منهم.. فإن كانت أم درمان تتخذ من ضفة النيل الغربية موقعاً, فإن الحلفاية تقابلها من ضفته الشرقية, وكأنما صارت حياً من أحيائها المتسعة المترامية, لا يفصلهما إلا مجرى هذا النهر العظيم..
    تماثلت عندي في تلك اللحظات العصيبة, حلفاية الملوك مع كوبر.. فكلاهما أصبح أمامي سجن كبير, أفقد فيه أعظم قيمة في الوجود.. ولم أفكر فيها إلا عندما فقدتُ وأنا داخل سجن كل منهما حريتي!! وبدأتُ أتأمل الحلفاية, كما تأملتُ كوبر من قبل.. فأنا أدخلها وحالي غير حالي السابق.. فتمثلت أمامي قصة سيدنا موسى عليه السلام وهو يتوجه تلقاء مدْين, فأخذت أعماقي تردد الآية الكريمة وهو يناجي ربه (رب إني لِمَا أنزلتَ إلىَّ من خيرِ فقير)..
    في ذلك البيت القديم الصامد كالقلعة في الحلفاية, توقفت, وأنا اتوجس خيفة.. يا تُرى من فيك بعد هذه الغيبة.. إنه بيت خؤولتي.. وجدتك كما تركتك منذ ذلك الزمن الذي أخذ ثلث عمري.. فتح الباب خالي صديق عمري, ورصيف سني.. قالوا إن ميلادنا كان في شهر واحد من ذات العام.. لكن من جاء فينا قبل الآخر, فذلك آمر مختلف عليه..فجدتي تقول إنني ولدت قبله.. وأمي تحلف باليمين المغلظة أن خالي رأى الشمس قبلي.. تشابكنا في عناق طويل أمتد على مدى عمق ذلك الحرمان الضارب في السنين.. إنه لا يصدق وجودي وأنا بين ذراعيه.. لكن دنيا هذا الزمان تأتي بغرائب الأشياء.. علي!! خالي وأخي في الرضاعة في أن.. كل منا رضع من ثدي أم الأخر.. فإي صلة في الدم أقرب من هذا؟! وصداقة عمر تجذرت في وجدان كل منا, رغم ظروف الحياة التي باعدت بيننا..
    تحول البيت كله إلى حركة مثابرة.. ونسي أهل البيت للحظة حزنهم على خالي عبد الواحد المحبوس.. فسارعت خائفاً إلى تحجيم فرحهم الذي فاجأهم كهبة من السماء.. ولاحقت إنفعالاتهم محذراً بأنني مطارد.. وجئتهم لأتخبى وأطلب الحماية والأمن.. أسقط في يدهم.. فالفرح مات في مهده.. وخيم الحزن والصمت من جديد على البيت القديم.. وأعدتُ للمرة الثانية قص حكايتي.. وذكريات كوبر, وحادثة إعتقالي في حصة التاريخ.. وغيابي الطويل الذي أزمن من غير محاكمة..
    قالوا:
    - فقدناك, ولكن ما ظننا أنك معتقل لأي سبب.. فما عرفنا عنك أي اهتمام بالسياسة!!
    تدخل علي قائلاً:
    - أنت غريب الأطوار.. تظل مدة من الزمن تواظب على زيارة الأهل ومعاودتهم, ثم فجأة تنقطع عنهم زمناً, فلا يعرف أحد أين مكانك.. فيقال لنا انك نقلت إلى بلد آخر..فلا نسمع عنك شيئاً إلا بحضورك الذي تطل به علينا فجأة.. ومرات تظل في الخرطوم, تعيش حياتك الخاصة كأنك في عزلة, وأصير أنا مصدر الأخبار عنك.. وهذه المرة طال الغياب وأنا شخصياً أعتبرتك هاجرت.. وقلنا: No news good news.. ولأول مرة يكذب هذا القول!!
    ثم أنفجر كعادته ضاحكاً.. وقال:
    - دخلت التاريخ.. وكوبر لا يدخله إلا صناع الحياة.. لكن يبدو أنك دخلته خطأ.. سلطة (غبيانة).. جعلت منك شيئاً!!
    وعاود ضحكه من جديد..
    لازلت يا علي كما أنت, مرحاً ساخراً من كل شيء.. وأجمل ما فيك سخريتك مني.. كم افتقدتُها يا صديقي وخالي العزيز.. فيك الكثير من الفنان الكوميدي عبد المنعم مدبولي.. حتى في الشكل, رغم سمرتك الغامقة.. لا ينفك ثغرك البسام, يأتي بمليح الحديث وأظرفه, حتى في أكثر الأوقات قتامة وما أوفرها.. خالي عبد الواحد في السجن!! غريب إمرك يا بلد!! ماذا جرى لك في غيبتي؟ الدنيا كلها أصبحت في السجن بسجنه!! ماذا فعل؟ هل شارك في الانقلابات الحقيقية أم الوهمية؟! كثيرة أضحت الأسباب التي تقود إلى السجن!! وكثيرة هي الأسباب المعدومة التي تقود إلى السجن ايضاً.. أمسى الذهاب إلى المعتقل مماثلاً للذهاب إلى السوق!! لا تندهش, فالكل مرعوب.. إنه زمن الرعب بإمتياز.. السلطة مرعوبة والرعية مرعوبة.. فلا امان في بلد خُلقت أرضه, لتكون مهبطاً للآمن والأمان, وتعايش الأعراق والأعراف والثقافات والمعتقدات.. العقل يقود إلى وجود خطأ ما!! العلي القدير خلق هذا الكون وفق نواميس ثابتة سرمدية لا تتبدل ولا تتغيَّر, لكن الذي يتبدل ويتغيَّر هو الإنسان, إنه كان ظلوماً جهولاً.. فالأكيد فيك يا بلد, هو ذلك الخطأ الكبير الذي أخذ يظلل سماءك!! إنه منطق الأشياء..
    ماذا فعل خالي عبد الواحد ليودع الحبس؟! ما أعرفه عنه أنه رجل حزب وسطي معتدل.. أجد إخلاصه لحزبه من خلال تبرعاته السخية, وأنفاقه عليه, إنفاق من لا يخشى الفقر.. ولا يتعدى نشاطه الحزبي الآخر المناقشات والحوارات الشبيه بالمساجلات والتعليقات في كرة القدم..فيها ملاحة القول, وذكاء التعليق, ######رية الرد, وظُرف رد الرد.. وللخلاف مظلة من الحُب, ما فارقت غيماته الودودات النفوس.. ما عدا ذلك, فإنه مشغول بتجارته في المحاصيل كواحد من أعلامها..
    ماذا فعل خالي عبد الواحد ليظل في المعتقل؟! تذكرت جدي لإمي, رحمه الله.. كان من رجالات الإدارة الأهلية.. ذلك النظام الذي إتبعه الإنجليز في المستعمرات البريطانية, هو نظام الحكم الغير مباشر, الذي إنتهجه اللورد (لوجاردن) وطوره وأسسه عندما كان مندوباَ سامياً في نيجيريا عام 1900.. جاء الإنجليز به إلى السودان ليحكموا به الشعب السوداني عن طريق رؤساء وزعماء القبائل والمشايخ والنظار والعُمد.. فأضحى الإنجليزي بهذا الأسلوب الجهنمي بعيداً عن الناس, وتُرك أمر حكمهم لأهلهم من رؤساءه وزعماء وشيوخ ونظار وعُمد.. وكان جدي واحداً منهم, صاحب كلمة مسموعة, ورأي راجح, وقرار نافذ, تصدى للطلبة وللمزارعين, وواجه الإنجليزي دون أن يمس سياستهم أو يعارض حكمهم.. ولكن كانت له طريقته الخاصة في معالجة الأمور, دون أن يعَّرض حياة الناس إلى الموت أو الأذى أو التشريد أو السجن.. كل ذلك, بحكمة شيخ وقور استقاها من نوائب الأيام التي تعلم الحجر.. وكانت له كلمة مسموعة عند الإنجليز.. بل كانت له حظوة رفيعة, عند السير دوجلاس نيوبولد السكرتير الإداري الأشهر.. ولا أنسى ضحكات ذلك الخواجة العاليات في مساءات الحلفاية, التي كانت تطول وهو يستمع لجدي في حديث لا أعي منه شيئاً إلا ضحكات الخواجة الصاخبات, وقد حُفرت في وجداني.. كان بيت جدي هذا في الحلفاية, مزاره الذي لا ينقطع.. وكنت أندهش كيف كان جدي قادراً على إسعاد هذا الخواجة الذي ملأ الدنيا وشغل أهل السودان.. وعندما كبرت. وأصبحت قادرا على فهم الأمور وأستيعابها, أدركت أن جدي كان يتحلى بسماحة أهله وطيبتهم وبساطتهم, وحباه الله بروح دعابة, غطت على صرامته التي كانت تطل برأسها عند كل إستشعار بخطر..
    حينما قُتل ابنه الأكبر في مظاهرة الجمعية التشريعيه في النادي الأهلي بعطبره, تحولت حلفاية الملوك من أقصاها إلى أقصاها إلى مأتم كبير.. ومن يومها تغير جدي إلى أسد جريح, تطول أحزانه ولا تنقطع, كأنما كان يعيش لهذا الإبن.. ورغم كثرة أولاده وأحفاده إلا أن موت إبنه قُرشى ترك في جوفه حزناً أبدياً عجزت الأزمنة عن مداواته حتى فارق دنيانا.. وحين مات كانت على صفحة وجهه أحزانه الصامتة الباكية..
    ومن يوم مقتل قُرشى تحول الجميع عن السياسة المصادمة المتطرفة.. بل الكثير من أفراد الأسرة آثر البعد عنها, كأنما اخذ جدي عليهم موثقاً.. ومن هنا جاءت شرعية إستفهامي: ماذا فعل خالي عبد الواحد ليودع الحبس؟! من خلال كوبر علمت الكثير من الأشياء التي يشيب لها الولدان.. وأخاف أن يكون خالي عبد الواحد ضمن أولئك الضحايا نتيجة الوشايات الانتقامية المغرضة.. والسعيد السعيد من أضحى منسياً..
    قال علي حينما رأى نظراتي التي يكاد يقتلها الفضول مع حيرتي الطافحة:
    - أعتقل خالك عند صلاة الفجر قبل شهرين أو يزيد.. جاء أربعة أشخاص بلباس مدني, وأخذوه من الجامع, وذهبوا به إلى جهة مجهولة.. أين هذه الجهة لا نعرف!! لم نترك مسؤولاً نعرفه أو يعرفه أحد من أهلنا أو معارفنا, ليدلنا عليه, ولنفهم ما هي تهمته؟ ولكن كل المحاولات باءت بالفشل.. بعد عشرة أيام من إعتقاله تقريباً, جاءنا الخبر بأنه قد رحل إلى سجن أم درمان, وبعده إلى كوبرالذي لايزال فيه حتى الآن..
    هزني سماع اسم كوبر.. فقد نشأت بينني وبين هذا المكان علاقة رعب لها جذور وأصول.. إنه المكان الوحيد الذي قبعت فيه خلال عمري المديد زمناً متواصلاً من السنين الطوال, منزوياً في كل ركن فيه.. أعرف نزلاءه بالاسم أو بالملامح والشكل, حتى عتاة المجرمين منهم.. وهذا الوقت الذي يقول به علي بأن أخاة قد رُحل من سجن أم درمان إلى كوبر, يفترض أن أكون قد قابلته فيه.. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث..
    قلت:
    - هذا الوقت الذي تقول أنه قد رُحَّل فيه إلى كوبر, كنت أنا هناك.. والمفروض مقابلته.. فالأخبار في كوبرتتناقل كالبرق, فنعرف من خلال العساكر والضباط من دخل ومن خرج..
    رد علي مؤكداً:
    - لا, هو نقل إلى كوبر فعلاً.. وسمح لنا بمقابلته هناك..
    ثم قال لي شيئاً غريباً, ما عهدته في كوبر, وهو أنه كان محجوزاً لوحده في أحد المكاتب, ولم يسمح له بمخالطة أحد من نزلائه على الإطلاق.. وكان التحقيق يجري معه كل ثلاثة أيام تقريباً, ومن ضباط مختلفين, بملابس مدنية.. لم يسأله ضابط أو عسكري بملابس رسمية.. كما أن النيابة العامة لم تحقق معه.. كانت الزيارات له مسموحة في أوقات معينة, ثم فُتحت, فأصبحت ممكنة في كل وقت حتى التاسعة مساءً.. وقد سمح له بمخالطة المسجونين!!
    وُجه له إتهامان: الأول, أنه لم يبلغ السلطات عن المواد الغذائية المخزونة لديه.. فقد فُتح بلاغ ضده في مدينة الأبيض بأنه يملك مخزناً من الدقيق, ولم يبلغ الحكومة عنه خلال المدة القانونية المسموح بها.. وهذا إتهام في غاية الخطورة قد يقود إلى الإعدام أو السجن المؤبد.. والثاني, أنه يهرب العملة الأجنبية إلى الخارج.. وهذا إتهام أكثر خطورة من الأول وعقوبته الإعدام لا محالة عند ثبوته..
    أرعبني حديث علي.. فقد أصبح خالي عبد الواحد قريباً جداً من حبل المشنقة.. إن السلطة ستجعل منه كبش فداء, لإيهام الناس أنها تحمي حقوق المسحوقين.. وسيلوث تاريخ جدي الذي نعتز به.. البيت الكبير الذي لم تُطفأ ناره لسابلة الليل والنهار, أضحى الآن شُبهة ومسبة حين إختلطت المعايير.. وغابت الفواصل بين ما هو إقتصادي وما هو سياسي.. واتهمت الرأسمالية الوطنية في شرفها وأمانتها وصدق سعيها المكلل بالعمل والعرق والصبر على الرزق الحلال..
    قلت منزعجاً:
    - يا علي, هذه جرائم إقتصادية عقوبتها الإعدام والمؤبد.. وخالي سيصبح كبش الفداء!! ما هي ردوده على تلك الاتهامات؟!
    لاحظتُ بروداً على وجه علي, فغاظني ذلك منه.. هل ما ذكره صحيحاً بأنه محبوس في أحد المكاتب, ومسموح له بالزيارة في كل وقت؟! أمر غريب!! وإن صدق الإتهام فالمفروض أن يكون خالي عبد الواحد في زنزانة, البعد بينها وبين الشمس مئة سنة ضوئية.. كيف ذلك؟!
    رد عليَّ علي بإبتسامته المعهودة قائلاً:
    - كانت ردود عبد الواحد واحدة ومتماسكة في كل مرة, وعند كل إستجواب, وأمام كل محقق.. هي نفسها لا تتغير ولا تتبدل..
    سألت متوتراً:
    - ما هي؟؟
    قال:
    - بالنسبة للتهمة الأولى المتعلقة بمخزن الدقيق في مدينة الأبيض, وضح بأن هذا المخزن وبكل ما فيه من دقيق كان موضوع نزاع قضائي بينه وبين شريك له استمر لمدة سنوات حتى المحكمة العليا.. وانتهت القضية لصالحه.. ولكن مادة الدقيق فسدت, وأصبح غير صالح للاستعمال الآدمي, بل قد نسيه تماماً.. وقد طلب محاميه الكشف عن الدقيق معملياً لمعرفة مدى صلاحيته للاستعمال البشري من عدمه.. وقد أثبت الفحص فساد مادة الدقيق, ومن ثم إنتفى القصد المعنوي الأجرامي في الفعل المنسوب إليه.. ويبدو أن البلاغ جاء من خصمه.. للإضرار به, والنيل منه.. أما التهمة الثانية المتعلقة بتهريب العملة..فقد اثبت بالمستندات الصادرة من بنك السودان وبنك الخرطوم بأنه تاجر محاصيل يصدرها لخارج السودان عن طريق إعتمادات التصدير المستندية التي يوافق عليها بنك السودان, ويكلف بها بنك الخرطوم بإعتباره البنك الذي يتعامل معه عبد الواحد.. ويدفع عنها رسوم التصدير المطلوبة.. وهو بهذا العمل المشروع المرخص به من قبل جهة رسمية وهي بنك السودان, يُدخِل إلى البلد عملة صعبة, عن طريق القنوات الرسمية.. وهو بعمله هذا لا يضر البلد, وانما يجلب لها منفعة بحرفية تاجر مقتدر, يعرف كيف يسوَّق للمنتوجات الزراعية السودانية.. ولم يثبت للجهات المحققة, أنه شارك في تهريب الصمغ أو السمسم, أو الذرة وغيرها كما أُشيع ظلماً..
    ثم أستمر ضاحكاً:
    - يبدو يا ابن أختي ان خالك, بل هذا أكيد, كان شامخاً أمام مستجوبية, فلم يترك لهم جنباً يتكئون عليه.. وجدوه صاحب صفحة بيضاء.. لا ادري, ربما أخذتهم العزة بالإثم, فبدلاً من أن يخلوا سبيله, حجزوه بتلك الطريقة المبتدعة في كوبر..
    ارتاحت أعماقي, وزغرد الفرح الحزين فيها لأول مرة..إيه يا كوبر, أيها المارد الجبار, عندما ينطقك رب العزة يوم الموقف العظيم, ستحكي أحشاؤك العجب من ظلامات الدنيا, وظلمات الآخرة.. ويومها سيقول جبابرة الظلم والظلمات يا رب أرجعونِ!!
    قلت منطلق الآسارير:
    - يا تُرى متى سيفرج عنه؟ ألكم علم؟!
    أجاب علي:
    - لا علم لنا, لكن يبدو أن علاقته بالحزب سيكون لها نصيب!!
    سألت من فوري:
    - هل له نشاط ظاهر؟! أعرف أنه شخص معتدل!!
    - هو كذلك.. شخص معقول في كل شيء.. ولا أعرف له نشاطاً معادياً..
    في هذه الأثناء دخلت علينا هدى بالشاي..
    ........................
                  

10-20-2010, 11:17 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    مائدة الســـماء






    بعيد ذلك الزمن الذي رأيت فيه هدى لأخر مرة قبل كوبر.. كانت فتاة كالنجفة.. أجمل فتيات الأسرة بلا منازع.. قالت لي أمي رحمها الله أنها خطبتها لي من خالي عبد الواحد.. صمت!! لكني لم أبد قبولاً أو أعتراضاً.. أنا نفسي وقتئذِ لم أكن أعرف ماذا أريد بالضبط.. حالة من الإبهام والإلتباس.. لم يكن الزواج كفكرة في ذهني, في ذلك الزمن البعيد..آثرتُ تلك السلبية التي كنتُ فيها.. وتركتُ الأمور على عواهنها رهينة الصدفة العشوائية.. إلحاح والدتي على الزواج كان يقلقني وينغَّص عليَّ حياتي.. وهروبي الدائم من مواجهتها والإجابة على أسئلتها وحديثها الصريح والمباشر, كان يحزنها, ويجعلها تبتلع مراراته بصبر أم, لا تملك غير الصبر على عقوق إبنها.. سفري الكثير كان مخرجي من الورطة التي وجدتُ نفسي فيها.. لن أكون كاذباً, فقد لفتت هدى نظري بوجهها القمحي الصبوح الاستطالة قليلاً, وعينيها الكحيلتين كعيني فهدة مطمئنة في غابة الدندر.. أما خصل شعرها السبيبي الوفير, الحالك السواد، والمنسدل على صدغيها في لامبالاة, فهو الجمال الفطري بعينه.. ولا أنكر حلاوة حديثها, وذكاء حواراتها وتعليقاتها, وصفاء نطقها لمخارج الكلمات وبيان القول.. كانت ذات تعليم وثقافة.. فتاة كاملة.. ولا أدعي!! ربما كنت الأقرب إليها من شباب الأسرة.. ولكنَّ فيَّ شيئاً ما, يجعل بيني وبينها سداً!! لعله سلبيتي, وعدم استقراري, وإنعدام رغبتي في تحمل أية مسؤولية.. لم أخف عليكم أنانيتي من أول حديثي هذا الذي أرويه عليكم.. فربما كان كوبر عقاباً إلهياً, وإنتقاماً لكل من لحقه أذى مني.. ولعل هدى أول المعنيين!! شعرتُ بها تميل نحوي.. وتتلهف لرؤيتي, ولا تتحرَّج من إشارات كانت ترسلها لي بذكاء خارق لعل (جبل البركل يتحرك).. ولكنه جبل, أصله صخرة صماء.. ومن أنانيتي كنت اسعد كثيراً بذلك الميل, لعلي كنتُ أتباهى مزهواً بيني وبين نفسي.. جميل أن يرى الإنسان نفسه محبوباً.. ولكنه الجحود المر, أن يبقى المرء قابضاً في شح, فلا يروي عطش وليفته مما جبلنا الله عليه.. ومع ذلك يطلب المزيد..
    ماتت والدتي, دون أن ترى حلم عمرها يتحقق.. ولكن سار في الأسرة, أنني لهدى, وهدى لي.. قرار أسري مؤجل, بأن عُينت زوجاً لهدى.. وصارت هدى زوجاً لي مع وقف التنفيذ.. وهكذا سارت بنا الأيام..
    أيها القدر مهلاً!! لقد كان الثمن الذي دفعته فادحاً.. ما شعرتُ بهذا إلا في هذه اللحظة التي دخلت فيها هدى علينا بالشاي.. نجفتي الساحرة.. لم يتركها الزمن, كما لم تتركني أقداري.. خطوط العمر لا يُخفى أثرها على صفحة الوجه القمحي الناصع.. ومع ذلك ظل القوام كما هو, مشدوداً باهراً يتثنى في حركته كأنما يتحدى الأيام وأقدارها..
    عانقتني أمام علي بصدق سنين الحرمان التي إستطالت حتى باخت.. بكتْ وبكيتُ كأنما كل منا يرثي نفسه التي ضاعت.. لأول مرة أحس بالزمن قد أكل عمري بصدق!! أين أنا من تلك الأيام؟! وأين أنت يا ست الحبايب لترين إبنك كيف إستحال كهلاً وتهدم؟! واضح أمامي, ومن وجودها في البيت الكبير, أنها لم تتزوج.. وهو أمر لا يخفى حتى عن غافل..
    جلستْ.. واخذت تصب الشاي لنا.. قلت :
    - ربنا يفك سجن خالي عبد الواحد. علي حكى لي القصة وطمأنني عليه. لا يوجد جرم يؤخذ عليه.. كلها أيام ويخرج بإذن الله..
    قالت من خلال زفرة, كأنها تشكو لي سوء أيامها:
    - ماذا فعلنا في دنيانا؟! لماذا نحن في عذاب مستمر؟! أنا صاحبة أيام نحسة منذ أن وعيتُ على الدنيا, والآن كملت باعتقال أبي..
    شدني قولها وأحزنني.. وشعرتُ أنني أتحمل جزءاً كبيراً من مآساتها.. لكن ماذا أفعل معك يا (كوبر ال######) وقد أكلت وشربت من عمري ما شاء الله لك ذلك؟!
    توتر علي من حديثها. إنه يكره الحزن والمناحة, فقال وهو يضغط على أعصابه:
    - مالك يا هدى!! نحن ناقصيين!! ابوك بخير, وسيخرج..
    قالت في تحدِ:
    - من يدخل كوبر لا يخرج منه هذه الأيام إلا ميت أو تهدم عمره!! أنظر إلى هذا الذي أمامك, هل هو ابن عمتي الاستاذ زينة الشباب؟!
    لك الله يا زهرة فتيات الخرطوم قاطبة.. أين فتوة عمري الذي أضاعك, وقد كان فيك من الزاهدين.. لقد كُنت الدُرَّ في كفي, فنسيت.. وهل بعد النسيان (هملة) وإهمال؟! مازال قلبك يحمل شيئاً لي رغم عوادي الزمن الخؤون.. ولا زالت إشاراتك تأتيني بتلك الومضات التي ألفتها, ولم ينجح الدهر القاسي, والمقدر المكتوب الأشد قسوة, في محوه..
    رد عليها علي قائلا ً:
    - إبن عمتك أهبل.. والحكومة (غبيانة) إعتبرته من أهل السياسة, وهو لا هنا ولا هناك!! أما ابوك فلا علاقة له بكل ذلك.. شكت الحكومة في تجارتة وما وجدت عنده أي شئ يستحق الحبس والعقاب.. وسيخرج!!
    قالت:
    - إذا كانت الحكومة (غبيانة) كما تقول, معنى ذلك أنها لا تفرق بين الحق والباطل.. وهنا المصيبة!!
    تلك هي فعلاً المصيبة.. فقد إختلط الحق بالباطل, في هذا الزمن الآتي من أزمنة القرون المظلمة... مع أن الحلال بَينَّ والحرام بَينَّ!! وماذا نقول عن أيام استفحل فيها الصمت من شدة الرعب, وذعر المحاربة في الرزق.. وتلك أمور تُغتال فيها النخوة, وتشنق المروءة, ويسود الذهول!!
    قلت:
    - ربنا يكذب الشينة.. ويحفظ خالي من شرهم..
    قالت:
    - أهذا زمن الغيبوبة الذي بشر به الدرويش, جدي؟!!
    ناجيتها باطناً.. وجاء همسي الصامت يردد, ربما!! فمن رجال الله الذين باعوا الدنيا, من يرى في حُجب الغيب وحياً ببصيرة, مالا نرى, وما لا ندرك!! وذلك الدرويش يا حملي الثقيل أذكره.. إنه أجمل صوت سمعته يقرأ علينا سورة (المُلك).. فكم كان جدي يحبه ويحترمه، ويهرول إليه عند سماع صوته.. هي الغيبوبة لا محالة, أصابتنا من لحن القول الذي سمعناه, فاشتريناه, ثم سكتنا عليه.. إنها مصيبة الدنيا التي أصابتنا, فأصبحنا بعدها من القانطين!!
    قلتُ محزوناً:
    - إذا كان خالي بكل الخير الذي يحمله, وبما نعلمه فيه صدقاً بلا تضليل أو إدعاء, قد أصبح من المسجونين, فهذا دليل على وجود خلل ما!!
    قالت:
    - وهل هذا الخلل ندفع ثمنه نحن؟!
    عادت لي مناجاتي الباطنية, كأنني لم أعرف التأمل الذاتي, وقراءة الأشياء, إلا في هذه اللحظات المشحونة بحزن يكفي أرض المليون ميل مربع.. أيامي في كوبر جعلتني أقف على ألوان وأصناف شتى, من وجود ذلك الخلل الذي قلت به.. فلسنا وحدنا على أي حال من الأحوال.. فالثمن الغالي مدفوع من السواد الأعظم إلا من رحم ربي.. فأي بيت تحت سمائك يا أرض البطولات, يكاد ألاَّ يخلو من دفع ثمن باهظ ما, قد يتفاوت كماً وكيفاً!! فتستصرخ الأرض.. أجيروني يارعاكم الله من هجرة أبنائي, ولكن كيف لذلك أن يأتي وعلى القلب غِشاوة؟!
    قلتُ وقد فاض الدمع رغماً عني:
    - لا.. الكثير دفع مثلنا وأفدح منا!!
    أخذ علي يجاري حوارنا في صمت.. تتنقل عيناه بيني وبين هدى, كأن الأمر يحتاج إلى الصوم عن الكلام.. له قدرة أسطورية في أن ينأى بنفسه عن المواقف المأساوية والأحزان المتأصلة.. ويفضل أن يعيش حزنه ومأساته وحيداً لا يشرك معه أحداً.. وكأن الآخر في نظره, ما خلق إلا ليعيد هو إليه توازنه ويبعد عنه أحزانه.. لهذا تراه هاشاً باشاً, قادراً على جلب البسمة والضحكة للغير..
    وقبل أن يتدخل ليقف حائلاً بيني وبين هدى, جاءت إبنته سكينة التي سماها على اسم امي, ونادت هدى, فاصبحنا لوحدنا في ذلك الديوان العتيق (الحدادي مدادي) الذي شهد تاريخ جدي ومواقفه وذكرياته, فقال:
    - جددت أحزانها الخاصة بمجيئك, إلى جانب حزنها على والدها!!
    قلت وأنا اتصنع الاندهاش:
    - كيف؟!
    قال صارماً:
    - أتتغابى؟! يمكنك.. ولكن ليس عليَّ!
    قلتُ وأنا أريده أن يكون صريحاً ومباشراً:
    - لا أفهم ماذا تقصد!!
    قال وصرامته التي رسمها على صفحة وجهه لا تتناسب مع طبيعته:
    - ضيعت عمرها بهروبك وترحالك وهجرتك كانما نسيت الجميع.. ضيعت عمرها في إنتظار السراب.. ولم ينفع معها أي نصح أو حديث.. وحينما ضاقت بنا ذرعاً, تزوجت على مضض.. ولم يدم زواجها لأكثر من عام ثم عادت إلى بيت أبيها امرأة مطلقة..
    حديث كالرصاص يخترق جسدي.. وكنتُ أتجنب سماعه.. ولكن بلاهتي أجبرت علياً على مواجهتي بهذه القسوة التي حملَّني فيها ضياع عمرها.. فحملتُ وزر عمرها على وزر ضياع عمري.. ولكن أنىَّ للإنسان ان يهرب من قدره؟! علمتُ أنها تزوجت ثم طلقت.. وكان يمكن إصلاح ما أفسدته, ولكن كوبر حال دون ذلك.. أصبح كوبر مأساتي وخطيئتي الكبرى, وعقبتي الكاداء التي تطفو على السطح كلما حاولت نسيانها.. ومن تصاريف الدهر الخؤون حرمانها من طفل يؤانس وحدتها, فأضحت وحيدة رغم كبر حجم الأسرة وكثرة أفرادها, وقوة ترابطها..
    قلتُ حزيناً منهاراً:
    - قسوت عليَّ يا علي.. فأنا نفسي ضحية ظروف لا قبل لي بها!!
    تراجعت صرامته, وعاد إلى قلبه الحاني وقال:
    - ما قصدتُ ما ذهبتُ إليه.. ولكن حديثها معك أعاد إليَّ ذكرى أيام قاسيات عانتها, وعانيناها جميعاً معها في إنتظار (جودو) الذي ملَّ سمعي منه بحديثك المكرور عنه, وأنت تذيع عليَّ ثقافتك.. وشعرتُ وقتها أنني المسؤول عن تصرفاتك بحكم صلتي البالغة الخصوصية معك.. والغريب في الآمر أنني اندفعتُ للدفاع عنك, رغم أني لا أعلم عنك شيئاً.. كانت تصرفاتك غريبة حين تهجرنا, فلا نعرف عنك شيئاً.. وهذه التصرفات البالغة الشذوذ قادت إلى حبسك في كوبركل تلك السنوات الطوال كأنك مقطوع من شجرة, مع أن لك أهلاً يسدون عين الشمس.. ماتت أمك وأنت في هجرانك!! وأنا الوحيد الذي كان يبحث لك عن الذرائع..
    ثم ضاحكاً:
    - ما أنت قدري.. كيف أهرب منه!!
    قلت:
    - وخالي عبد الواحد!!
    - مالو؟!
    - ما رأيه فيَّ؟
    - حُب خالك عبد الواحد لأمك, كان فريداً ومميزَّاً.. له طعم خاص يختلف عنا نحن الأخوة رجالاً ونساءً.. لا ادري سببه.. ومن حسن حظك أنتقل حُب خالك عبد الواحد لأمك, إليك.. ربما من باب الشفقة, أو لعلاقة رحم مليئة بالأسرار، لا يعلمها إلا الله.. فرغم مأساة إبنته التي كان الجميع يرون أنك انت السبب فيها, بما في ذلك أمك رحمها الله, إلا أنه لم يحقد عليك.. ولم يقل فيك أي كلام يجرح..
    - أصحيح ما تقول؟!
    - نعم..
    ثم مواصلاً:
    - تجرع حالة ابنته وصبر عليها.. وحين خرجت هدى للعمل الاجتماعي, حمد الله, ورأى في ذلك مخرجاً لإبنته التي حرص على تعليمها, وتسليحها بالحكمة.. كان رجلاً دهرياً كأبيه..
    قلتُ مندهشاً:
    - هل هدى تعمل في الحياة العامة؟!
    رد عليَّ علي سريعاً كأنما فُتح أمامه باب يحب ولوجه فقال:
    - نعم يا ابن أختي.. هو ذاكِ.. لقد فتحت هنا في حلفاية الملوك ثلاثة دور لرياض الأطفال, وزعتها توزيعاً مدروساً, بحيث تغطي المنطقة قدر المستطاع.. وأشرفت عليها إشرافاً دقيقاً, بالتنظيم مع وزارة الشؤون الاجتماعية.. واسست جمعية نسائية لمحو الأمية.. وعندما إنتظم العمل هنا بالحفاية, رمت بكل ثقلها في دار رعاية اللقطاء بالمايقوما, وساهمت بمالها وبما جمعته من تبرعات سخية لزيادة موارد الدار وتغطية عجزها المالي.. بل بحكم علمها وثقافتها إستطاعت الإتصال بمؤسسات المجتمع المدني الدولية وجلب (الدونيشنز) لهذه الدار.. وشهد لها الجميع بالنجاح في هذا النشاط الاجتماعي الإنساني.. فعادت إليها روحها القديمة الحلوة بعض الشيء.. وعلت والدها علامات الإرتياح, كأنما إستعاد إبنته من مغارة كآبة مسوْدة, نهايتها المحتومة معروفة.. ولكن بحكم قربي منها ومنك آرى في المظهر الخارجي حزناً نبيلاً عميقاً غائراً في دهاليز النفس, يصعب تجاوزه.. وما لمسته أنت الآن هو شيء من ذلك, زاد عليه حزنها على والدها المعتقل لفترة نراها طالت..
    قلت:
    - يا علي, أراك تحملَّني مسؤولية ما لحق بهدى.. فذيول كلماتك, وما هو خلفها أيضاً يعني خطايا يصعب التطهر منها.. وما أبرئ نفسي, ولكن في بعض الحالات كان الظرف أكبر مني ومن قدرتي على تخطيه.. فهل الآن بقي من العمر, ما يمكن أن أصلح به شأناً قديماً..
    ضحك علي بمرارة هي أقرب للسخرية مني, وقال:
    - أتظن؟! قد أرى ما لا ترى.. ولكن دع الآمر للأيام, وأتركها لظروفها ومن يدري لعل الله يحدث أمراً!!
    حتى فيما طرحته, أجد علياً قاسياً وحاسماً معي.. ربما هي الحقيقة التي قالها.. فهو يرى ما لا أراه.. ثم ماذا عن ظرفي الحالي.. هل نسيته في غمرة حزن البيت الكبير, ومأساة هدى التي صَّورها لي علي كمأساة تورث العجز, رغم الاندماج في العمل الطوعي الاجتماعي, والبذل فيه بكل ذرة إنسانية خيرة طيبة فيها.. هل نسيت أنني جئت إلى هنا لأختفي من عيون السلطة التي توهمتُ أنها تلاحقني بعد اختفاء صديقي (أبو الدفاع).. كيف أنسى هذا المأزق الخاص, وأعيد الزمن إلى الخلف قسراً لعلي أعيد بريق فتى الأحلام القديم.. لم تكن السلطة وحدها (غبيانة) يا علي. أنا نفسي (غبيان) مثلها.. أريد أن أنسى قِدمي, رغم التجاويف الغائرة الأخاديد في الوجه.. واضمحلال الجسد ووهنه.. كن نفسك يا أستاذ التاريخ, فإنه مهنتك بل طبيعتك.. بل أكثر من ذلك إنه أنت!!
    قلتُ لعلي:
    - إنني تعبت! سأذهب إلى البيت المتهدم في المزرعة, به غرفة صالون لا تزال صالحة للاستعمال, وسأجعلها مكان إقامتي.. فهي لا تبعد عنكم ولا عن البيت الكبير.. وسأجعلها مكمني السري حتى يحكم الله بيني وبين من حولي..
    ثم ضاحكاً:
    - إنها من الآن (كوخ العم طوم) ولن أبرحه.. كل منا شبيه بالآخر!!
    شاركني علي الضحك, وتحركنا معاً إليه.. وهناك بدأتُ حياتي الجديدة.. وتوالت الأيام متماثلة, فاترة, حزينة.. فلا يزال خالي عبد الواحد في كوبر.. أعدتُ ترتيب أشيائي, وانغمستُ في قراءات عدة.. فالواقع ظننته مات عندي أو كاد.. تذكرت (أنيس) في (ثرثرة فوق النيل) وقد رشف آخر حسوة من فنجان القهوة السادة الممزوجة بالسحر.. ولعق لسانه بقايا الرواسب المتقطعة في قعر الفنجان هنا وهناك.. وواصلت الجوزة دورانها المرسوم بعناية, وغاب العقل في فضاءات الأنغام الذاتية الخاصة, التي ضاعت فيها الحدود.. وانعدام المستحيل.. وأضحت الأنا سيدة الكون وحدها.. فامتثلتُ لهذا الإحساس الطاغي المريح.. وجعلتُ من (كوخ العم طوم) عوامتي الخاصة.. أخلد فيها لوهج الخدر المتوهم أللذيذ, وسحره الممزوج بفرح الاقتدار وطاقات الممكن, والتوهم المسحور القاتل للقلق ومنابعه.. ففرحت.. لعلي وجدت نفسي في هذا (الأنيس) السوداني.. إنه ليس بعيداً عن النيل, وأن لم يكن فوقه.. ولكن (كوخه) قادر على إتيان السحر المضمخ بطيب اللذاذات التي تضخم الأنا في وجودها المتوحد والمتفرد, فلْيذهب الآخرون إلى الجحيم!!..
    وفي (كوخ العم طوم) تركتُ للحيتي العنان, فطالت كثيفة متجعدة, يتداخل فيها الشعر الأبيض مع الأسود في تلاحم حميمي غريب, فتحولت لوحته العامة إلى لون رمادي جميل.. تماثل هذا الغموض المبهم في اللون مع عالم (أنيس) السوداني الساحر, فاكتمل المثال المطلوب, في وحدة لا يعرفها عالم الوعي الذي نبذتُه متوهماً.. وهذه اللحية التي أجد لها مثالاً معاصراً في (كاسترو),, تتوافق مع موضة هاته الأيام.. فالكل ينافق ليزَّيف حقيقته, حباً في الحياة.. أما أهل الزهد فيها طمعاً في الآخرة, فهذا استثناء, والاستثناء كما يقول أهل القانون, لا يجوز القياس عليه, أو التوسع فيه.. وأنا بلا شك من الفئة الأولى, لأني أزيف حقيقة شكلي الذي عُرفت به.. ومجاراة للموضة تركتُ البنطلون وركلتُه, ولبستُ (الجلابية), وتوجتُ رأسي المسحور بعمامة كبيرة, فأضحى شكلي العام كجدي.. ولأول مرة أعي أنني أشبه ذلك الشيخ الوقور, الذي نهرع إلى ظل شجرته الخالدة, كلما جارت علينا الأيام.. وتذكري لجدي أعاد إلى ذاكرتي التي أضحت مسحورة شفافة لماحة, تلك الأيام من نوادي الخريجين في أغلب مدن السودان الكبرى تقريباً, والندوات الأدبية والنشاطات الثقافية, التي تحولت بذكاء خارق إلى حراك سياسي زاد من وعي الناس وكَّثفه.. فنظرتُ ذات يوم إلى لحيتي الرمادية الكثيفة المجعدة, فأخذتُ من وهلتي أنشد بيتين من الشعر الوطني الساخر الهجاء إبان الحركة الوطنية الناشئة ضد الانجليز:
    ألا ليت هنداً قولي فأوجزي** رجال الشرع أصبحـوا كالمعيزِ
    ألا ليت اللحى كانت حشيشـاً** فـتـعـلفها خيول الإنجليـز
    في هذا الكوخ كانت هدى دائمة المزار لي.. لم يعجبها (توهان) السحر المضمخ بهذيان اللاوعي اللذيذ, ولم تقبل بهذه اللحية التي رمتها بالعبثية.. واعترضت على وجودي في (كوخ العم طوم), وفي البيت الكبير متسع لما يحقق لي الاحترام اللازم..
    قلت:
    - هذا كله من دواعي التخفي.. فأنا مطارد من السلطة!!
    قالت:
    - أنت مطارد من نفسك!!
    اعترضت.. وحاولتُ الرجوع إلى العقل الذي نسيته.. ولكن وقفتُ عند الاعتراض فقط, دون التعليل والتسبيب.. بدوت مغالطاً..
    قالت:
    - لا توجد سلطة تحس بك!!
    - من قال ذلك؟!
    - الواقع يبرهنه..
    - وكوبر؟! والسجن عمراً؟!
    - خطأ تاريخي.. لكنك لا تشكل خطورة على السلطة!
    - أنت تتحدثين كعمك علي.. في حين أنا دفعتُ ثمناً باهظاً من عمري.. من يرجَّعه لي, ثم ماذا يفيدني الاعتراف بالخطأ التاريخي؟
    ووجدتُ في تعليقي هذا فرصة لأفتح أمراً قديماً بدأ ينمو مع (التوهان) اللذيذ في (كوخ العم طوم) وهذيان (أنيس) السوداني على مقربة من النيل, فقلت:
    - وأنت من يعيد إليك عمراً كان كوبر سبباً في ضياعه؟!
    تورد وجهها القمحي كثمرة المانجو الناضجة..فرأيتُها جميلة جمالاً ما وعيتُه من قبل, وأنا جوَّاب الآفاق, ورحالة المدن, وجوال نسائها.. أين كانت غائبة عني. هذه الفاكهة الدانية القطوف.. منال يديَّ الأكيد.. لفحني حنين كاسح لاحتضانها.. فالهذيان لا يعرف المستحيل, ولا يعترف بالحدود.. وليفتي مع وقف التنفيذ.. قيل أنَ للتاريخ عقلاً!! فأين كان عقلي كل هذا العمر المديد؟!
    شعرتْ بتوهجي, وتوثبي الذي تفجر فجأة.. فاضطربتْ كبتول خجول.. ولكنها استعادت قوتها وثباتها.. فشمخ العقل الذي آثرتُ نسيانه, حائلاً بيننا..
    قالت:
    - كفاك وهماً.. ما هي التهمة التي دخلت بها كوبر؟ قلْ لي نشاطك الذي تعتبره السلطة خطراً عليها؟
    لأول مرة أواجه من احد بهذه الأسئلة الصريحة.. ورغم أنني أعرف نفسي تماماً, بأن دخولي كوبر كان سلوك طغيان بلا أسانيد, ورجحت فيه الوشاية التي أضحت في هذا الزمن سبباً كافياً للاعتقال سنين عددا, إلا أن أسئلة هدى كانت كمن يهزني من غفلتي لأول مرة.. فأعيد التفكير والتقييم في كل ما يجري.. ورغم هذا كله, فإن التفكير فيها لم يفارقني كأنما فاجأني لتملأ هي حياتي كلها.. ثم تسارعت الأحاسيس وتداخلت, فأخذتُ أفكر في أكثر من موضوع دفعة واحدة: هي وعمري وضياعي و كوبر والسلطة!!
    أجبتها قائلاً:
    - لا أعرف.. ولستُ صاحب نشاط خطر, لكن لماذا خالي عبد الواحد معتقل... أليس الحال متقارباً؟ إنه الهلع على كل حال!!
    - لا!! خالك عبد الواحد له تهم محددة.. وتم استجوابه فيها.. أما أنت فلم يسألك أحد كما تقول.. دخلت كوبر وأغلق عليك بابه.. ثم فتح هذا الباب وخرجت!! هكذا بكل بساطة, ولا مبالاة!!
    - لستُ وحدي فمثلي كثير.. وفينا من مات كنملة!!
    - لا يهم!! الحقيقة أنت وأمثالك بلا خطر على السلطة!!
    - ماذا تقصدين؟!
    - أقصد أن تبعد عنك وهم ملاحقة السلطة لك, وتعيش حياة عادية كالآخرين, وتحلق هذه الحلفاء التي ملأت بها وجهك!!
    - إنك تلغين نضالي!! السجن جعلني بطلاً في نظر الكثيرين!!
    - هل البطولة تُقصد أم تأتي بالصدفة؟!
    - لا يهم! المهم أني لم أزايد عليها, ولم أنافق, ولم اسرق جهد إنسان.. ولو سُئلت وأُستجوبت لوجدوا عندي قضية ما, وهذا هو الجوهر..
    - تعال وناضل معي في العمل الاجتماعي.. فهذا أنفع..
    - والتاريخ!!
    - ما شأن التاريخ فيما نناقشه؟!
    - حملت أمانة ما بشأنه, فكيف أتخلى عنه لقضية أخرى؟!
    - أترك هذه الخرابة وتعال عش في البيت الكبير!!
    - دعك من كل هذا.. فأنا أفكر فيك!!
    - بمعنى؟!
    - بمعنى بناء حياتنا معاً التي تأجلت ربع قرن!!
    نظرت إليَّ مستغربة وأطالت النظر والصمت, كأنما تسترجع سنوات عمر طال عليها العهد.. ثم قالت بالانجليزية والاستغراب يملؤها تماماً:
    - Now ?!! …
    قلتُ وأنا أجاريها بنفس اللغة؟
    - Yes !!..
    أطالت الصمت, ونظرها لم يتحوَّل عني, فقالت:
    - It is too late!!
    قلتُ في إصرار طفل عنيد:
    - لا.. لم يسبق السيف العذل بعد!! إننا قادرون على العطاء!!
    انفجرت ضاحكة وقالت:
    - هل أنت جاد؟! لا بد أنك تهذي!!
    وقبل أن أرد عليها, سمعنا زعاريد كثيفة ممتدة, وطبولاً وصياح فرح يملأ الآفاق.. فهرعنا معاً تجاه البيت الكبير.. وجدناه عاجاً بخلق كثير يملأون المكان, ورأينا آخرين يتسابقون تجاه هذه الحشود.. فقد خرج خالي عبد الواحد من كوبر.. قبْضٌ وإعتقال مفاجئ, ثم إفراج أكثر مباغتة وبلا مقدمات.. لا يهم!!! فالدنيا في لحظة فارقة تحولت إلى فرحة كبرى..
    ارتمت هدى على والدها الذي أخذها في عناق طويل... وبعد أن إرتوى منها أخذ ينظر في وجه هذا الرجل المعشوشب, وقد فعل فيه الزمن ما فعل.. وحين ناديته خالي, كان جسمه الطويل الممتلئ باتزان, وصدره العريض الحاني, وذراعاه القويتان، مع ابتسامة استجلبها من ماضٍ سحيق، كل ذلك استدعاه وجنده ليطوقني كلية, فاختفيت تماماً أو أكاد في هذا الجسد المتسق العاتي.. شعرتُ به يبثني في هذا الاحتضان كل مابه من حنان ودفء السنين المتجمع..
    كان يوماً حافلاً, كأنه المولد النبوي الشريف.. لم أر خلقاً كأولئك أبداً إلا ليلة المولد الشريف, والوداع الأخير لإسماعيل الأزهري.. هل خالي عبد الواحد بهذا الحجم الكبير من الأهمية؟! وهذا القدر العظيم من الاحترام؟! ما جال ذلك بخاطري يوماً..
    استمر هذا الاحتفاء أياماً.. كأنما الناس تبحث عن مناسبة للتعبير عما يجول بخواطرها.. فالذبائح تأتي من كل حَدَب وصوْب.. منها من يُعرف مصدره, وأكثرها لا يُعرف من أين جاء.. هل أهل السودان لا يزالون يحملون هذه السجايا؟! ظننتها ماتت واندثرت! أهو تعبير عن موقف؟ من يدري؟! لا يزال فينا شيء من زمن الخصال التكافلية!!
    ظل خالي عبد الواحد يحكي قصة إعتقاله وحبسه وإستجوابه, عشرات بل مئات المرات, وبأساليب ممتعة ومشوِّقة, وبكلمات متلونة ومختلفة ولكنها ذات معنى ومضمون واحد..
    وحين خفَّت أرجل المزار الى البيت الكبير, إنفردت الأسرة به في إحدى الأمسيات, لعلنا نعيد الذي إنقطع.. لم يكن خالي سعيداً كما توهمنا وهو بين الحشود المحتفية به.. بل كان ذلك الوجه الذي عرفت وألفت يكتسي بحزن جليل, ماعهده أهله عليه, حتى في حالات الموت لمن يعزهم ويحبهم.. سألتُه ملتاعاً:
    - ما بك؟!
    نظر إليَّ مليئاً بحزنه الجليل, وعلى صفحة وجهه نصف إبتسامة تجاهد في الظهور.. كان يتفحصني, كأنما يبحث في وجهي الذي امتلأ شعراً رمادياً, عن والده, ثم يطيل النظر في عينيَّ, كأنما يبحث فيهما عن أمي.. سكن الكون من حولنا لبرهة, أظنها تجاوزت المعهود, فقال:
    - بل كيف أنت؟! عرفتُ بعض أخبارك في كوبر من علي وهدى وبعض الأولاد, الذين كانوا يأتون بالأكل..فهمت منهم انك كنت هناك زمناً.. غريبة هذه الدنيا.. وغريب ذلك المكان الذي يجمعنا معاً, ولكن على انفراد!!
    قلت وأنا أنظر إلى الأرض:
    - الحمد لله يا خالي على كل حال.. وأشكر الله أني رأيتكم ثانية.. كنت أظن نهايتي هناك في كوبر لما رأيته!!
    ظل يتفحصني بعناية شديدة, كأنما يحاول إرجاع شبابي الذي ولى مدبراً بلا رجعة.. وقال:
    - فعلاً, لقد رأيت في ذلك المكان ما لا يخطر على بال.. رأيت الشخص يخرج من عندنا سليماً معافى, ثم يعود إلينا شخصاً آخر, محطم الجسم والنفس.. بعضهم يحكي قصصاً, ما ظننتها يوماً تحدث في هذا البلد.. وبعضهم يظل صامتاً مذهولاً كأنما فقد النطق والقدرة على الكلام..
    انزعجت هدى مما سمعت, وقالت:
    - هل عذبوك يا أبي؟
    قال:
    - لم يعذبني أحد, بخلاف الاستجوابات الطويلة المتكررة, والاستفزازات من خلال الأسئلة, وجبروت بعض غرته الوظيفة والسلطة!!
    قلت:
    - ماذا عن المأمور؟
    - هذا شخص تجسدت فيه الوضاعة.. يعمل على إذلال النزلاء بلا مبرر.. إني مندهش من سلوك هذا الرجل!!
    ضحكتُ وأنا أعيد ذكرى مضت وقلت:
    - لا تستغرب.. فقد رأيت بأم عيني تحقير الرئيس له.. وظن بعدها, أن إعادة كرامته في إذلال أولئك التعساء!!
    قال علي كأنما يريد أن يحوَّل هذا الغمَّ إلى ضحكة ساخرة:
    - والله زمن عجيب, هذا الذي جعل منك شاهداً عليه!!
    قالت هدى كأنها تريد حمايتي منه:
    - ما لك يا عمي!! هل هذا وقت ضحك؟!
    قال وهو لا يزال مستمراً في نغمته المستهجنة الرافضة:
    - ما رأيك هو وأبوك كل (منهم) دخل كوبر بالخطأ؟!
    نظرتُ إليه, وقد شعرتُ في حديثه صدقا إلى حد بعيد... قلت:
    - ربما, لكن من نسأل؟
    قال ضاحكاً:
    - أسأل العنبة الرامية في بيتنا!!
    تعليق مليح, جاء في مكانه من السخرية فأضحك الجميع.. وبعدها قال خالي عبد الواحد:
    - حقيقة يا أولاد أنا رأيت في كوبر شباباً هم زينة أهلهم, وزينة هذا البلد, ولكنه بلد تعيس, وأهل أكثر تعاسة!! ولعل هذه حسنة أحفظها لكوبر.. إن تحسرت على إهاناتي, وزمني الذي ضاع, فإن الله لطف بي بمعرفة أولئك الرجال..
    ثم موجهاً حديثه لي:
    - قابلت هناك صديقاً لك اسمه دفع الله وينادونه (أبو الدفاع).. عرفني حين دخلت عليهم في كوبر.. جاءني وعرَّفني بنفسه, وقال إنه يعرفني ويعرفكم جميعاً.. جاء الينا هنا في هذا البيت كثيراً, لكني لا اذكره.. ومن يومها أصبح صديقاً وحفياً بي.. سألني عنك, قلت له, لا أعرف عنك شيئاً.. إنك في هجرة دائمة..
    وعندها ضحك خالي, وقبل أن أدعه يواصل حديثه سألته, وقد أشرق فيَّ كل شيء ثم إغْتمّ:
    - بالله.. قابلت (أبو الدفاع) كيف هو؟ ومتى دخل كوبر؟ وكيف صحته ومعنوياته؟ إنه صديق عمري منذ بريطانيا.. تحدث.. تحدث يا خالي...
    قال:
    - نعم, أخبرني بأنه صديقك الحميم.. وسأل عن علي وهدى وكل من في البيت الكبير.. شعرتُ من حديثه كأنه واحد منا.. ولكنه كان من أولئك النفر الذين كانوا يأخذونهم ليلاً فلا نجدهم في الصباح ثم يغيب فترة ويعود مرة أخرى إلينا مهدود القوى.. كان غير مبال للحديث عن نفسه وعمَّا يحدث له.. كان يهرب مني بحديثه عن الأكل الذي كان يأتيني من البيت.. فقد وجهت علي وهدى وبقية الأولاد بأن يكون الأكل كثيراً ومتنوعاً وجيداً به كثير من اللحم والفاكهة.. وكانت هذه حسنة من حسناتهم المعدومة.. وبالذات المأمور.. ولكن الفضل في ذلك يرجع لبعض ضباط السجن والعساكر البسطاء الذين كان ينالهم من الحظ جانب.. ربما إن أحسنا الظن أنهم شعروا بعقدة الذنب نحوي, فأصبحت مميزاً في المعاملة دون بقية النزلاء.. كان (أبو الدفاع) يقول لي ضاحكاً, لا شيء يهمني فيما يفعلوه بيَ إلا فقداني لمائدة السماء التي كانت تهبط علينا من البيت الكبير, فنحن حواريوك, وينفجر ضاحكاً بشكل أتيقنه, كأنما يُذهبْ عنه الحزن, وكل العذابات التي مضت..
    آخر الأيام, كان عرضة لمرض الملاريا المستمر.. واذكر أخر مرة حينما أخذوه كما هي العادة بضعة أيام, كان معلولاً..وحتى خروجي لم يحضر إلينا مرة أخرى..
    قال علي:
    - هل يكون قد أدخلوه مستشفى بحري؟
    قلت مسرعاً:
    - لا.. وهذا مؤكد.. لأن المأمور لا يفعلها.. وعنده مرض نفسي في أن يرى المريض يعذب بالمرض أمام عينه.. أنا اعرفه.. له العديد من الضحايا..
    قالت هدى:
    - هذا بلا انسانية
    قلت:
    - هذا فاقد لأي قيمة بشرية, ولا يهمه إلا إرضاء الرئيس!!
    قال خالي:
    - ربنا يستر ويتولاه ويتولانا جميعاً بأمره.. فقد انتهى زمن الأمان!!
    ظللتُ مشغولاً مهموماً بحالة (أبو الدفاع) وبحياته.. وبعد حديث وجدل لم أشارك فيه, وأنا في سهوي المستغرق في صديقي, نبهنا خالي عبد الواحد, وقد حسم أمره وتوكل, فقال:
    - شوفوا يا أولاد, أنا بعد المهانة التي لحقت بي, لم تعد عندي طاقة للبقاء في هذا البلد.. وبعد كوبر شعرت خارجه بكوبر آخر ومن نوع جديد لم يعد فيَّ عمر لمنازلته.. لقد قررت منذ أول يوم في اعتقالي الرحيل إلى مكان آخر.. وانتهى اختياري بالقاهرة.. سأترك بعض أعمالي التجارية لابني عمار وسأنقل الجزء الكبير منها إلى القاهرة ولندن.. ورتبت كل شيء وأنا في المعتقل.. اشتريتُ فلَّلا بمساحة خمسمائة متر مربع في شارع مصدق بالدقي.. وسأرحل مع الحاجة بتول إلى هناك.. وانتم جميعاً رجالاً ونساءً لكم حياتكم الخاصة المستقرة بحمد الله..
    وقبل ان يواصل قاطعته هدى منزعجة معترضة..
    - كيف ذلك؟! وأنا!! كيف نكون من دونك.. مستحيل!! مستحيل!!
    حديث خالي, واعتراض هدى المذعورة, دعياني لأن أخرج من استغراقي الذاتي في (أبو الدفاع), فانتبهت دون ان أشارك..
    قال علي جاداً كما هي حالته في مثل هذه الأمور:
    - هل المهانة لحقت بك أنت وحدك؟! كلنا لحقت بنا.. بل أي بيت لحقته المهانة بطريقة أو أخرى.. وهل معنى ذلك كلنا نهاجر؟! كل بيت من بيوت السودان يهاجر؟!
    ابتسم خالي عبدالواحد, ثم نظر بإشفاق إلى هدى وقال لها:
    - أنت حرة يا هدى.. لك أعمالك ومشاغلك هنا.. وأنا مطمئن عليك إلى أبعد الحدود.. ومع ذلك اذا رأيت الهجرة معي ومع أمك, فإن القاهرة أو لندن مكان يناسبك.. أما الخرطوم.. فلم تعد تسعني, ولا أجدها مرحبة بوجودي.. فأرض الله واسعة.. وأنا الحمد لله قادر على الحركة التي أجد فيها احتراماً لي ولأسرتي!!
    قال علي غاضباً:
    - لا أحد يملك هذا البلد.. السودان لنا جميعاً..فلماذا نتركه؟
    رد عليه خالي عبد الواحد هادئاً:
    - أنا لم أبشر بالهجرة, ولم اطلب من أحد ان يهاجر.. وانتم جميعاً مع السودان كله اجلسوا في هذه الأرض.. وهذا يسرني.. أنا أتحدث عن نفسي.. فقط أنا اطلب أن تتركوا لي الحاجة بتول.. لأنني أعلم أنها لن تستطيع العيش بدوني.. وهدى حرة.. وكلكم لكم أسركم واستغلالكم..
    ثم إلتفت اليَّ موجهاً حديثه لي, كأنما قصد أن يكون بلاغاً لجميع الحضور فقال:
    - وابن إختي إن أراد ان يرحل معي فأهلاً وسهلاً!!
    ابتسمت ولم أعلق.. فكل الذي يدور لا يعنيني..
    وغابت ذاتي في حوار صامت مع صديق عمري.. أين أنت الآن؟!
    ..........................
                  

10-21-2010, 08:37 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الرحيـــل





    من بعد ذلك التجمع الأسري, الذي قرر فيه خالي عبد الواحد الهجرة إلى القاهرة, تفرقنا وكل منا يحمل في نفسه ما يحمل.. كنتُ أنا الوحيد بينهم الذي كان محايداً من هجرة خالي إلى مصر, وترك السودان.. يستوي عندي بقاؤه أو رحيله.. لم أعلن ذلك, وإنما آثرتُ الصمت.. وأسعدني إنشغال الكل بذلك الخبر الصاعق,وعدم طلب أحدهم مني أن أقول رأيي..
    تسللتُ إلى (كوخ العم طوم) منتجعي أو (عوامتي) التي أترك فيها ذاتي على سجيتها, وأعيش حياتي الخاصة, متخفياً.. كنتُ أنوي تسجيل بعض الملاحظات لما دار, وأحدد التاريخ الذي قرر فيه خالي الهجرة إلى مصر.. لكن.....!!
    دهمني نعاس مفاجئ.. تمددتُ على السرير الوحيد في مخبأي, فذهبتُ في نوم عميق.. حلمتُ بأنني في كامل وعي, أجلس إلى جانب (أبو الدفاع) على السرير الوحيد المألوف, ولكن رأيتُ سريراً آخر في نفس المخبأ, لا أدري من أين جاء, تجلس عليه هدى, وإلى جانبها خالي علي,, دار بيننا حديث طويل..أشارك في ذلك الحديث, ولكن في نفس الوقت أفكر وأسأل من اين جاء هذا السرير؟ وكيف جاء؟ أرى أمامي واقعاً لا يقبله عقلي.. أساهم في الحوار الذي يدور, وفي عين الوقت يتجسد وجود السرير الآخر, وتزداد غرابته.. تضخم الأمر بشكل عجز ذهني عن استيعابه.. شعرتُ أنني أسأل بصوت مسموع: من أين جاء السرير الآخر؟.. لم يرد عليََّ أحد.. كررتُ السؤال!! فاستمر الثلاثة في حوارهم, ولم يلتفت إلىَّ أحد.. ظللتُ ألحَّ في السؤال.. إنتابني إحساس كأني قد فارقتهم مع شعوري اليقيني أنني معهم.. صرتُ أصيح وأصرخ.. أراهم ينظرون إلىَّ كأن الآمر لا يعنيهم.. حاولتُ أن أحرك جسمي, فلم استطع.. جرَّبتُ القيام فعجزت.. حاولتُ رفع يدي, فارتفعت قليلاً ثم هوت.. صرختُ قائلاً: هزوني.. حركوني.. شعرتُ إنهم انتبهوا لحالتي, فصمتوا, وكفوا عن حوارهم.. وشغلهم وضعي الذي صرتُ إليه.. أخذوا يناقشون حالتي, لكن لم يأت أحد منهم إليَّ ويأخذ بيدي.. ثم فجأة رأيتُهم يضحكون.. قال بعدها (أبو الدفاع) أتركوه, فلْنذهب.. أنا أعرفه أكثر منكم!! قالت هدى: كيف نتركه وهو في هذه الحالة.. صمت علي ولم يشاركهما الحوار.. ناديتُه.. لم يعرني انتباهاً.. وانشغل بحديث آخر لا علاقة له بالحالة التي كنت فيها.. ثم أخذ يضحك, ويتحدث في أمور أخرى عني يعرفها.. عجيب أمرهم, لم يلتفت أحد منهم إلى إستغاثتي!! وفجأة نهضتُ جالساً على السرير بكامل صحوتي, لأجد (كوخ العم طوم) خالياً منهم جميعاً ومن السرير الآخر.. ولا يوجد به غيري.. لفترة طويلة بقيتُ في جلستي أتأمل, كأني أرفض الحقيقة التي أمامي.. لم أكن نائماً, وإنما كنتُ في كامل وعيّ.. وجميعهم كانوا معي..
    انتابتني قبل هذا, كوابيس كثيرة, وبالذات في كوبر.. ولكن جميعها لم تكن كهذا الذي جعل الحلم حقيقة أمامي.. جاءني يقين ملح بالعبث, ثم إيمان غيبي ملأ عليَّ كياني.. كنتُ لفترة حين نهضتُ فجأة, جالساً على السرير, كأني بعثتُ من مرقدي.. أخذتُ وقتاً كي أعود لطبيعتي.. يا سبحان الله, هذه علامات وإشارات, ولكنا لا نلتفت إليها.. ولا نتأمل دلالاتها..
    بعد أن أكتمل صحوي, وعادت إليًَّ حالتي العادية, ترجلتُ من السرير, وتحركتُ متجولاً في الغرفة, ثم المساحة الزراعية التي أمامها.. وتابعتُ سيري إلى النيل, متأملاً مسيرته المتدفقة إلى الشمال.. رأيتُ أم درمان على الضفة الغربية منه, والناس على الشاطئ يتحركون جيئة وذهاباً.. وهنا على الشاطئ الشرقي تمتد المزارع على مد البصر. تأملتُ الناس هنا وهناك.. كل منهم بلا شك يحمل دنيا قائمة بذاتها.. أحزان طافحة مع فرح قليل.. ورغم قلته فهو الوحيد الذي يهزم تلك الأحزان.. تمنيتُ لبعض الوقت أن يدع الله فيَّ سره لأعرف سرائر هؤلاء البشر, لعلي أجد فيها معجزة تحل لغز حياتهم.. هؤلاء هم مقصدي.. هؤلاء هم الأمانة التي حملّني إياها صديقي في كراسته الحمراء..
    تذكرتُ (أبو الدفاع).. يا تُرى أين أنت الآن يا صديقي؟! عدتُ راجعاً إلى (كوخ العم طوم).. أخذتُ حماماً بارداً, وغيرتُ ملابسي واتجهتُ بعدها إلى البيت الكبير.. وجدتُه قد أصبح قبلة لأعداد كبيرة من الناس يدخلون ويخرجون.. دخلت, وعلى بضع خطوات رأيت خالي علي يحادث بعضهم.. توقفتُ عنده, وحين انتهى من حديثه, أخذتُه من يده وانفردتُ به, وهمستُ له بأنني أريد أن أذهب لمنزل الحِلة الجديدة لأقابل أقرباء (أبو الدفاع), لعلي أجد عندهم حقيقة أخباره.. أو بعضها على الأقل.. وافقني دون مجاهدة.. وقال إنه سئم هذا الطوفان من البشر.. ثم أردف ضاحكاً:
    - خالك لا يكف ولا يمل الحديث المكرور.. يعيد رواية الحكاية في ذيل حديثه الذي انتهى. يحكي أدق التفاصيل, وينهي الحكاية بعبارة (خلاص لم يعد لنا مكان في هذا البلد)..
    صمت قليلاً، ثم واصل مُتهكماً:
    - يا عم دعنا نذهب لنغير المنظر!!
    أخذنا سيارته الكورلا النصف عمر, واتجهنا جنوباً إلى الخرطوم نحو الحِلة الجديدة.. طوال الوقت كان يتحدث, ويضحك عالياً, وأنا إلى جانبه أجلس صامتاً إلا من بعض تعليقات قصيرة, وضحكات مبتورة, وابتسامات باهته في أغلب الأحيان.. لكني لا أنكر أنه كان يسليني بحديثه وتعليقاته الساخرة, وضحكاته العالية المنطلقة.. إنه شخص حلو الحديث, يجلب السرور لكل من يجالسه.. تفكيري في (أبو الدفاع) بعدما سمعتُ من خالي عبد الواحد, أنه قابله في كوبر, كان قد ملأ عليَّ كل تفكيري, وأفسد عليَّ مشاركة رفقة خالي علي الساحرة المازحة.. كان شكلي قد تغير مع اللحية الرمادية والجلابية والعمامة.. أصبحت لا اختلف عن السواد الأعظم الذي أشاهده على الطرقات.. أعتقد أن التعرف عليَّ أصبح شيئاً قريباً من المستحيل.. وهذا ربما خفف كثيراً من الوهم الذي عندي, كما يتهمني علي.. ففي نظره بأن إدعائي بأنني مطلوب, خرافة, ابتدعتها أنا, وهو توهم مَرَضي، ومُرضي..
    وصلنا منزل الحِلة الجديدة, فوجدنا الباب مفتوحاً, فدخلنا.. لم نجد من الأقرباء الثلاثة غير محمود.. بعد السلام, سألته من فوري عن عيسى وعمر, فعرفتُ منه, أنهما ذهبا لمقابلة مسؤول دلهما عليه بعض المعارف.. أخذ علي يتجول في المنزل, يدخل هنا ويخرج من هناك, ثم أشار إلى غرفتي ساخراً ضاحكاً وقال:
    - هنا سحلت الفضيلة!!
    عجيب أمرك يا علي لا تترك سانحة تمر بك دون تعليق ساخر.. ضحكنا من تعليقه.. ورغم الحالة التي كنتُ فيها, لكنه أعادني إلى زمن كان فيه هذا المنزل غنياً في كل شيء.. أما الآن، فقد أضحى خرابة روحية حتى النخاع..
    واصلتُ حديثي مع محمود فقلت:
    - ألم تعرفوا شيئاً عن (أبو الدفاع) حتى الآن؟!
    أجاب قائلاً:
    - لا.. كل ما عندنا الآن مجرد وعود!!
    قلت:
    - لي خال خرج من كوبر ألآن, وأفادني بأن (أبو الدفاع) محبوس في كوبر فقد رآه وتحدث إليه!!
    أعتدل محمود في جلسته, واهتمَّ بما سمع مني, فاعتلاه الوجوم.. صمتنا قليلاً, ثم سألني قائلاً:
    - يعني (أبو الدفاع) مسجون في كوبر؟
    قلت:
    - نعم على حسب رواية خالي.. وهي رواية أكيدة..
    تدخل علي قائلاً:
    - الحمد لله عرفتم أين هو الآن.. وهذا أفضل من حالة الضياع والبحث في المجهول!!
    بعدها صمتنا جميعاً لفترة.. ففي حالة الأحزان والنوائب، يضيع الحديث.. وتميل النفس إلى الصمت.. كان الصمت أبلغ من أي حديث وحوار.. آثرتُ الانصراف.. قلتُ كلاماً لا أذكره، ثم شرحتُ له مكان إقامتي.. وعلي باعتباره الوسيط بيننا, أخبره أين يجده حين يريدني.. استأذنا وطلبتُ منه أن نكون على صلة مع بعضنا عن طريق علي, عند أي مستجد..ووعدتُه بأنني سأعاود الزيارة مرة أخرى..
    ودعناه, وخرجنا راجعين إلى الحلفاية, وفي ذهني المأمور الذي أعرف في كوبر.. يا تُرى أي أصناف العذاب وجدتها يا (أبو الدفاع) هناك؟!
    وصلنا البيت الكبير في ساعة متأخرة من الليل, فوجدناه هادئاً ساكناً.. لقد انقطعت أرجل الزوار تماماً.. تنفس علي الصُّعَداء, وأخرج زفرة عميقة مليئة بالارتياح وقال بصوت مسموع (متى ينتهي هذا المولد؟!)..
    دخلنا فوجدنا خالي عبد الواحد ومعه صديق عمره بابكر أحمد السيد, يجلسا لوحدهما في الحوش الواسع, وحولهما عدد من الكراسي.. سلمنا على العم بابكر, ولكن يبدو أنه لم يعرفني.. وهذا واضح من سلامه الفاتر, رغم أني أقبلت عليه بحرارة.. شعر خالي عبد الواحد بذلك, فسأله مباشرة:
    - من هذا؟ ألا تعرفه؟!
    واضح ان العم بابكر شعر بالحرج, فقال بصوت خافت:
    - أبداً.. والله
    قال خالي عبد الواحد ضاحكاً:
    - هذا إبن أختي سكينة.. أستاذ التاريخ!!
    هبَّ العم بابكر واقفاً, وهو ينادي: الطاهر, وجذبني إليه في حضن طويل حار, سكب فيه كل ذكريات العمر الذي مضى.. كلماته لا تزال ترن في أذني.. فقد استعرض, وأنا في حضنه تفاصيل ذكريات متعددة, كأن وجودي المفاجئ له, قد فتح عنده خزان ذكرى محبوسة, فانهمرت أمواجها الهادرة..
    جلسنا, وأخذ يسألني عن أحوالي, وأين كنت كل هذه السنوات؟ وما هذه اللحية التي جعلتني أُماثل أهل الكهف؟ قال له علي ساخراً:
    - مناضل!! كان في كوبر!!
    اندهش الرجل, ربما توقع أي شيء إلا أن أكون في كوبر فسأل:
    - كيف كان ذلك؟! وما السبب؟!
    قلت ضاحكاً:
    - لا أعرف!! أخذوني من المدرسة إلى كوبر ثم أفرجوا عني بعد سنوات طويلة!!
    قال متوتراً:
    - عجيب هذا الأمر!!
    ثم التفت إلى خالي عبد الواحد وقال:
    - معقول؟! هذا جنون!! ألا ترى أن هذا الوضع يعزز هجرتنا؟!
    قلت وأنا مندهش:
    - أتهاجر أنت أيضاً يا عم بابكر؟!
    رد خالي عبد الواحد سريعاً:
    - نعم.. بل هو قرر الهجرة قبلي!! وهو الذي جذبني إليها!!
    كان هذا أمراً مفاجئاً لعلي.. فهو يسمعه لأول مرة, رغم أن لقاءاته مع عم بابكر لا تنقطع, ويعرف الكثير عن معاناته في تجارته, فقال:
    - أتريد الهجرة نتيجة الموضوع إياه؟!
    رد العم بابكر وقد تقطب وجهه:
    - وهل هناك اخطر من الموضوع إياه؟!
    كان (الموضوع إياه) بالنسبة لي أمراً مجهولاً بالطبع, أثار فضولي.. أخذ عم بابكر وقته معنا ثم ودعنا وخرج.. وظل الأمر يجوس في دواخلي.. كيف يطلب هذان الكهلان الهجرة في هذه السن المتأخرة من العمر؟! هذا وضع يستحق أن يقف المرء عنده طويلاً!!... متأملاً!!
    لم أترك علياً إلا بعد أن حكى قصة عم بابكر.. قصة غريبة, أكثر استفزازاً من القرصنة في عرض البحار..
    كان هذا الرجل قد استورد شحنة مواد بناء من الصين تقدر بمبلغ نصف مليون دولار.. واضح من المبلغ, أنها شحنة كبيرة لتغطية السوق فيما يحتاجه من هذه المواد المختلفة.. فقد تكونت الشحنة من كمية كبيرة من مغالق الأبواب والشبابيك حديثة ومتطورة, وترابيس متنوعة, ومسامير مختلفة الإحجام والأنواع, وأوراق الزينة والألوان الحائطية, وألواح من خشب (الإسليبرز) المشكلة الإحجام, وأبواب وشبابيك خشبية واستيل, ومواد البوية المختلفة السائلة والباودر, (درلات) وأدوات نجارة وغير ذلك..
    عندما جاءت هذه الشحنة إلى ميناء بورتسودان, وذهب العم بابكر لاستلامها فوجئ بمصادرتها من سلطات الجمارك.. سأل عن السبب, قيل له أنها جاءت من غير تراخيص.. ذهل الرجل من هذا الرد العجيب!! ونازع المسؤولين هناك.. وكان حاضراً لكل سؤال واستفسار.. فأي مستند يطلبونه يقدمه إليهم كاملاً سليماً غير منقوص.. أخرج لهم رخصة الاستيراد من وزارة التجارة, وتصديق بنك السودان على الاستيراد, وإذنه لبنك الخرطوم بفتح الاعتماد المستندي, وتغطية الرجل لقيمة الشحنة كاملة عند وصول المستندات إلى البنك, واستلامه لتلك المستندات للإفراج واستلام البضاعة.. كل الوثائق المطلوبة قدمها, بما يؤكد حقه في استلام الشحنة.. ولكن المثير, أن ذلك كله لم يشفع له لأخذ حقه فأقيمت في وجهه العراقيل, وحرم من شحنته.. عاد قافلاً من الميناء إلى الخرطوم, وهو لا يصدق ما حدث.. رجل انفق عمره الطويل في تجارة الاستيراد والتصدير, فلم يشاهد مثل هذا السطو الصُراح الصارخ..
    حكي أمره لطوب الأرض.. وكان حديث المجالس, وبالذات في المآتم.. وفي واحدة منها, تقدم إليه محام لا يعرفه, لعل القصة أثارته, فقال له أعطني الأوراق وسأرفع أولاً للنائب العام ثم القضاء من بعده ان لم تنصف.. أعطاه جميع الوثائق والمستندات, فرفع المحامي شكواه وفقاً لقانون الإجراءات المدنية إلى النائب العام مطالباً بحق موكله.. دُرست الأوراق في مكاتب النائب العام, ولكن دون رد بقبول الشكوى أو رفضها.. من متابعة المحامي لهذه الشكوى, علم أن الرأي الأول رُفع بحق موكله في الشحنة, ولكن الموضوع توقف عند سكرتارية النائب العام.. ونُصح المحامي بأن يعمل موكله على مقابلة النائب العام شخصياً..
    تمت مقابلة النائب العام بسهولة, فالتقى بعم بابكر في مكتبه.. وكان النائب العام في حقيقة الأمر لطيفاً وودوداً معه.. أشعره بطريقة غير مباشرة بان الحق معه, لكن مصادرة الشحنة تمت لأسباب تتعلق بتصرفات سياديّة..
    اندهش عم بابكر من هذا المنطق الذي لم يقبله عقل التاجر فيه, ما هي هذه السيادة التي تصادر حقوق الناس؟! وما هو هذا المصطلح الغريب الذي يسمعه لأول مرة؟! وما علاقة تجارته التي يباشرها في حدود سلطة القانون بهذه التصرفات التي تصادر حقاً شرعياً لمواطن؟! أسئلة كثيرة جالت بخاطره وذهنه البسيط الذي لا يعرف ولا يعي تلك الفذلكات القانونية التي حرمته من حقه, فطرحها على النائب العام.. ولمس ان السيد النائب العام لا يقدم إليه ردوداً مقنعة, ولكن يرد عليه بكلمات كأنما يواسيه بطريق غير مباشر, على حقه المسلوب.. وحين غلبته الحيلة في هذا الاستلاب, طلب من النائب العام ان يعطيه ورقة تفيد أن شحنته تمت مصادرتها لأسباب تتعلق بالتصرفات السياديّة..
    ضحك النائب العام طويلاً, فقال له:
    - يا عم بابكر أنت لا تريدني ان اجلس على هذا الكرسي؟! مش حرام عليك؟!
    أمرك عجيب يا بلد!! يضيع حق الرجل, ولا يحصل على وثيقة تدل على أسباب حرمانه من ذلك الحق!! فيصبح الحرمان من الكرسي هو الحرام!! أي قيمَّ فيك تسود؟! وأين الحرام هنا وأين الحلال؟! ومن الجاني في هذه الوقائع, ومن المجني عليه؟! أي ظلم يمكن أن يوصف بعد ذلك؟!
    وقفتُ مذهولاً عند هذه الحادثة.. إفقار الناس أصبح جهاراً نهاراً, وتحت عين الشمس!! تحول حيادي من سفر خالي عبد الواحد إلى موقف إيجابي, مؤيداً الرحيل.. إن الرحيل موقف احتجاجي وإن لم يسمع به أحد, أو لم يلفت نظر أي شخص فيك يا خرطوم!!
    بعد أسبوع من تلك الليلة التي قابلت فيها العم بابكر أحمد السيد, وسمعت قصته من علي, هاجر الإثنان, هو وخالي عبد الواحد مع زوجاتهما إلى القاهرة.. هجرة منسية, إلا عندنا نحن أهل البيت الكبير في حلفاية الملوك.. ذهب عم بابكر إلى القاهرة متوكلاً, بعد أن رفع يديه إلى السماء يبثها حزنه, والظلم الذي حاق به.. إنها دعوة كهل رفعها إلى القوي الديان.. فهو الملجأ, بعد ان يئس من عدالة الأرض.. فما سمعه من النائب العام يكفي, لأن يقف عنده, ويزهد في قضاء, لن يكون أحسن حالاً من جانبه الآخر الذي يصفوه بالقضاء الواقف.
    أما خالي عبد الواحد فقد نقل جُلَّ تجارته إلى القاهرة ولندن, وترك الجزء الباقي لابنه الأكبر عمار, يديره, ويجعل به البيت الكبير مفتوحاً, كما كان أيام والده..
    بقينا نحن الجزء الأكبر المتبقي من الأسرة, في حلفاية الملوك, نلتقي ونفترق حتى تحول الأمر عندنا إلى عادة مألوفة.. نعيش الحياة من خلالها، كأنما فقدنا إرادة الفعل والاختيار!!.
    كنتُ في (كوخ العم طوم) أعيش مع ذاتي أكثر الأوقات.. وأقرأ في صفحات كتاب هذه الأيام التي عشتُها, فألمس كثيراً من الوقائع التي تغاير ما أطالعه في كتب التاريخ وغيرها من المؤلفات..
    حزن هدى الذي أصبح دائماً تقريباً بعد سفر أبيها, يشقيني إلى أبعد الحدود.. وأحس أنني مسؤول عن الجزء الأكبر من هذه الأحزان الغائرة في جوف الأيام..
    الضحكة الوحيدة في هذا البيت الكبير, هي التي تأتي من علي.. وبدونه صارت الحياة عذابات متصلة لا تطاق.. فالأيام تمر مكرورة ملولة لا شيء يفرح فيها.. في أحايين كثيرة ينتابني شعور قاتم بأن الحياة خارج كوبر لا تختلف عنه داخله.. فهل أصبحنا جميعاً في سجن كبير؟!
    هذيانات (أنيس) قد اختفت, وحل محلها هم عقلي وقلبي حوَّل أيامي إلى ما يشبه الاكتئاب اليائس من كل شيء وكأن قطار عمري قد توقف.. لقد كانت تلك الهذيانات نعمة, ما عرفت قيمتها, إلا الآن, بعد أن فقدتها.. غريب أن أجد فيها بعض ذلك التوازن, الذي كنت أتوهمه..
    صرتُ أنظر إلى كتبي وأوراقي المكدسة, فأحس بها بعيدة عني, كأنما لم أعايشها يوماً, ولم أجدها قطعة مني.. ماذا حدث لي؟! أهو الإحساس بالذنب تجاه هدى؟! أهو العجز تجاه ما أوصاني به (أبو الدفاع)؟! إهو الشعور الذي ينمو ويكبر ككرة الثلج التي تتدحرج, بألاَّ رجاء؟! أهو الإحساس بالعبثية التي أخذت تحيط بي, كفريسة عنكبوت؟؟ الملل!! الصداع!! فقدان الشهية!! أين أذهب؟ أإلى النيل وبعدها ينتهي كل شيء؟!
    في هذه العُتمة النفسية الظلماء, أحسستُ بأرجل تقترب من الكوخ!! من يا تُرى؟ خرجتُ.. فإذا بي أبصر علياً وعمر قريب (أبو الدفاع) يقتربان مني..
    فوجئتُ بمجيء عمر.. كيف اهتدى إلى علي؟! كانت تعلو صفحة وجه كل منهما غلالة من الحزن التي ما غابت عني..
    هجمتُ عليهما من فوري بالسؤال:
    - ما بكما؟!
    احتضنني عمر باكياً, وهو يردد بصوت مخنوق:
    - مات!!
    ............................

                  

10-21-2010, 08:40 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الوداع الغائب






    مات (أبو الدفاع).. من يصدق؟!
    مع أن الموت هو الحقيقة اليقينية التي لا يرقى إليها شك, إلا أننا لا نكاد نصدق حينما تدركنا مصيبته.. فقد أودع الله فينا حب الحياة إلى الدرجة التي تجعل الموت حدثاً جديداً ومتجدداً, رغم تكراره الذي لا ينقطع..
    وعلى الرغم من طول الزمن الذي امتد على الفراق بيني وبين (أبو الدفاع) إلا أن إحساسي بحياته وبوجوده معي, كان يلازمني, ولا يكاد يغيب.. أما الآن فإن الزمن بيني وبينه قد إنقطع.. فوا لهفي عليه..
    وفي غمرة حزني, وجدتُني أردد بصوت مسموع مرثية صلاح أحمد إبراهيم لجزيف قرنق الذي قُتل فيك مشنوقاً يا كوبر... فالأسباب فيك متعددة، والنتيجة متماثلة، والموت واحد:
    فتى (الجور) سار إلى حتفه
    وفي شفتيه هتافُ النضالْ
    وعلى وجهه نبلُ أسلافه
    يموتون لكنْ بحُسّنِ الفِعال
    وفي كفّه
    مواثيقه لرفاقِ الشمال..
    وسار كما النيلُ عند الوفاءِ.. كما سار للنيل (بحر الغزال)
    ومن خلفه
    سار عبد اللطيف, وعبد الفضيل ومبيور والقرشى:
    لجنة الاحتفال
    يقولون: شرّفت أهلاً, بقينا في انتظارك جو..
    هلمَّ, ولكن لدينا سؤال:
    أهذا جزاؤك والغادر المرتشى
    يُعدُّ له الغار, غار التامَر, والإنخذال
    فلا لا.. ولا لا.. وهذا محال
    أجودّ لهم, والجحود لجو؟
    قتلوك خسة ونذالة.. قال عمر, عندما جاءنا في ذلك اليوم الذي لم تخرج من بعده شمس: إنه مات بالملاريا.. تركوها تنهش في جسمه النحيل, حتى تمكنت منه.. وحينما غاب عن الوعي, تركوه في هذيان الحُمى, إلى أن لفظ أنفاسه ذات ليل بهيم.. فاسودت الدنيا من بعده.. هذا ما قاله جاويش سجان من قريتهم.. جاء بالجثة, واخبرهم بالعذاب الذي لاقاه في بركة الماء الآسن, وجيوش البعوض التي كانت تنهش جسده العاري.. تجمع الأهالي ومعهم عيسى ومحمود وأخذوا الجثمان إلى قريته الصغيرة المنسية في النيل الأبيض, ليدفنوه هناك.. وبقيَ عمر لإنجاز بعض الأمور..
    إيه يا صديق عمري!! كيف أقول عنك وأتحدث؟! ماتت الكلمة التي كنت تظن أنني أحد فحولها.. من أين لي, وقد ماتت هي الأخرى في خِدرها قبل أن تستبين, ولكن الذين غيبوك, سينزلهم المولى من صياصيهم, ويأخذهم إلى حيث لا شفيع ولا نصير.. صرنا لا نملك إلا مثل هذا الكلام العاجز.. فهل هناك مأساة أبلغ من ما نقول؟!!
    قفز إلى الذاكرة المأمور, ومجموعة بعوضه, والحفرة الضخمة التي حفرناها ذات أيام نحسات من عمري.. ملأناها ماءً من النيل الأزرق, حملاً على الأكتاف, مع العرق النازل هتوناً من الأجساد المنهكة.. إنها الحفرة التي أضحت بعد ذلك بركة لتوالد البعوض.. ومستودعاً للتعذيب.. ما جال بخاطري يوماً, أن أقف عليها, سبباً في إصابة رفيق شبابي ورجولتي بالملاريا التي أودت بحياته!! من القسوة الشاقة على النفس, أن تعرف يوماً, أنك أُستخدمت لتكون دون قصد منك, سبباً في موت عزيز لديك, بعملك في تجهيز أداة التعذيب والموت, ولو كنت فيه مقهوراً!! مصيبتي أن إحساسي بفقد صديقي قد تعاظم واستفحل من تأنيب الضمير.. ماذا سيحدث لو كنتُ رجلاً, وقاومتُ جبروت المأمور, وفقدتُ حياتي في سبيل ذلك.. لعلني وقتئذٍ, نلتُ نعتاً رفيعاً بالشهادة.. أو على الأقل ما ساهمتُ في قتله..
    لم يتغير المأمور وزمرته.. فقد مات فيهم الضمير.. أخذوا صديقي كما أخذوا غيره من الذين وقفتُ على حتفهم, إلى تلك البركة الآسنة, حفاة عراة, إلا ما يستر العورة.. أدخلوهم فيها حتى منتصف القامة, وتبقى الجزء الأعلى منهم عارياً, لجيوش البعوض, تنهشهم بإبرها الحِداد, عند مغيب الشمس.. تلسع الأجساد العارية المهدودة, في كل بقعة فيها, دون أن يملك أحد قدرة على طردها, أو حك جلده.. فلسعات السياط الهاوية, أشد قسوة وألماً.. وبعد أيام قلائل ينهار الجسد ويتساقط, مرتعشاً من الملاريا.. فيتحول العذاب إلى نوع جديد.. تتولى أمره حُمى تأبى ان تبيت إلا في الحشايا.. وعندها, يقف المأمور الهمام منتشياً بفرجته, ولا يسمح وهو في غمرة سعادته, إلا بأمكانات طبيب كوبر المحدودة, بل المعدومة في احايين كثيرة.. لم يقله لي أحد, ولكني رأيتُ بأم عيني كيف يموت الرجال..
    أكاد أرى جبروت المأمور, وهو يأمر (أبو الدفاع) وحده, ليدخل تلك البركة الآسنة, فتفترسه جيوش البعوض.. لعل صديقي فقد صبره ذات يوم, كما كان حال الفتى مساعد, حين قذفه بإبن الزانية!! إتخيل استئساده على هؤلاء العُزلَّ, مع كرشه الذي يسبقه اهتزازاً ورقصاً معربداً..
    في ذلك اليوم غابت شمس الخرطوم, وجثمت فوقها ثلوج, لا عهد لنا بها!! وبكت سماؤها حين قُبض عليه في ذلك الاجتماع الأخير, قبل التمَّكن من الاختفاء, هو وزملاؤه.. ليت البشر يعاملون بنبل مقاصدهم, وصدق نواياهم..
    قالوا: لولا الوشايات والرُعب, ما نالهم أحد!! ولكنه الزمن الذي يتجلى فيه الصقيع والجليد والسكون والإنهزام.. موت متلاحق يقود من زاوية إلى أخرى!! وحزن أصبح أبدياً حينما غابت شمس الخرطوم, وراء تلك الحجب الصقيعية الداكنة..
    وحين افتقدنا هدى السماء,غابت الشمس التي كانت تبرهن وجودها فينا.. والدليل ما هو ظاهر من خلال سحناتنا.. فأخذت الملايين تنادي النجم من وراء المدى, وهو يسكب مناحته على أرض النيلين:
    ماتوا سمبلة
    ماتوا سمبلة
    فتناقلها المدى, وحفظها عالقة في الأفق, لتصبح شيئاً ما في وجدان الأطفال..
                  

10-21-2010, 08:54 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    انتهت واحدة من افضل روايات الاستاذ الحسن محمد سعيد الخمس الذى يعمل مستشار في بنك اليمن الدولي
    وقد قمت بنقلها الى هذا الفضاء الحر..عبر سلسلة(المكتبة السودانية) حتى يطلع عليها اهل الثقافة والابداع عبر العالم

    ثم يتسالؤون؟

    لماذا يغيب هذا النوع من الابداع السوداني الحر؟؟ اومن؟؟
    وماذا عن اهل الدراما؟
    هل ازمة الدراما السودانية
    1- ازمة نصوص
    2- ممثلين
    3- منتجين
    ام دولة واجهزتها المعنية بالثقافة والابداع وشعارها(واقسموا على ان لا يدخلها عليهم مسكين؟؟
    مثلث العمل الجيد
    هو النص الهادف..ثم المخرج الذكي ثم المنتج السخي
    اتمنى ان اسمع يوم هذا النص دراما اذاعية على الاقل...مع جيل الرواد هاشم صديق ومكي سنادة وحمدنالله عبدالقادر...الذين شاهدناهم في النيل الازرق بعد سبات شتوي طويل نعرف كلنا اسبابه
    على كل حال الحاضر يكلم الغائب
    توجد حالات ابداعية سودانية خمس نجوم داخل وخارج السودان..فقط كيف نكتشف الذهب؟؟
    ونشكر الاستاذ القانوني وصاحب الرؤية

    وللتواصل
    [email protected]
                  

10-21-2010, 09:03 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)


                  

11-04-2010, 07:43 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    المكتبة السودانية مشروع للتعريف بما كتبه السودانيين عبر العالم
                  

11-24-2010, 09:48 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    لقد مد الله في عمر البعض ليحكي قصته في اقبية النظام ويشهد على العصر وعلى دولة الاخوان المسلمين الفاشية في هذا البورد....متوكل بحر وعمار نجم الدين

    ولكن
    ماذا عن الذين ماتوا سمبلة....ولم يعرف احد قصتهم

    الادب السوداني ...ادب السجون...سيكون شاهد على العصر
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de